ذو اللحية الصفراء!
عندما هبطَت الطائرة الجامبو العملاقة في مطار «تايوان». تلك الجزيرة الغارقة في الأضواء … كانت ساعات المطار الحائطية تُعلن الثانية من صباح اليوم التالي حسب توقيت «تايوان». كان الجو باردًا هذه الليلة رغم أن الصيف لم ينقضِ بعدُ، وكانت السماء تُنبئ بهطول المطر بكثرة بسبب السحاب الداكن الذي انتشر على صفحتها فلم يترك سوى بعض النجوم التي كانت تتلألأ من بعيد.
هبط الشياطين السبعة، وكان «أحمد» أول مَن هبط من الطائرة وتبعَته «إلهام» ثم «بو عمير»، وتوالَى هبوطُ الشياطين من الطائرة … تلفَّتَت «إلهام» يمينًا ويسارًا، وهمسَت في أُذُن «أحمد» قائلةً: أين رجلنا المقصود؟ لا أرى أحدًا.
ولم تكَد تنتهي «إلهام» من جملتها حتى صاح «مصباح» بالإنجليزية: «جود لك». عرف «أحمد» على الفور ماذا يقصد «مصباح» بكلمة حظ سعيد. وسرعان ما أشار «مصباح» بإيماءة من رأسه إلى رجل طويل أسمر يرتدي حلةً بيضاء اللون، وقد كان حليقَ الرأس تمامًا … اقتربَت «إلهام» منه ثم همسَت «هالو»، فابتسم الرجل قائلًا: «إلهام» سار الرجل أمام الشياطين، وساروا هم خلفه حتى خرجوا من المطار.
كانت هناك سيارة «لاند روفر» بانتظارهم، وكان محركُها دائرًا، وسرعان ما صَعِد الشياطين إلى السيارة التي انطلقَت بسرعة، وقال «فيليب»: «تاييه»!
وعلى الفور أطاع السائق أوامر «فيليب» الذي انهمك في حوار ضاحك مع الشياطين، فأضاع منهم الإحساس بالتعب والإرهاق … كانت شوارع «تايوان» نظيفة وحركة المرور هادئة في الليل المتأخر.
ساعتان قضَتهما السيارة بسرعتها القصوى حتى شارفَت مدينة «تاييه» وأمام أحد الفنادق الفخمة توقَّفت السيارة «اللاند روفر»، وهبط منها الشياطين تباعًا.
لم تستغرق إجراءات الإقامة وقتًا طويلًا … كان «فيليب» قد أعدَّ كلَّ شيء قبل وصول الشياطين إلى غُرَفهم بالدور الثالث حسب الأرقام الزوجية الغرفة رقم ٢٠٢ ﻟ «أحمد» و«بو عمير»، والغرفة ٢٠٤ ﻟ «مصباح» و«خالد» و«فهد»، وأخيرًا الغرفة رقم ٢٠٦ ﻟ «إلهام» و«هدى» … قال بعدها «فيليب» بلكنة إنجليزية وهو يهمُّ بالانصراف: وقت طيب وإلى اللقاء غدًا في العاشرة صباحًا.
لمعَت بعدها أسنانُه البيضاء بابتسامةٍ عريضة، واستدار لينصرف وقد شيَّعه «أحمد» بنظراتِ الإعجاب … لقد كان «فيليب» طويلَ القامة عريض الكتفين، وقد دلَّ جسدُه الممشوق القوي على أنه كان رياضيًّا من الطراز الأول … وقد داعب «بو عمير» «أحمد» عندما رآه شديدَ الإعجاب ﺑ «فيليب» قائلًا: هل يمكنك الدخول معه في مباراة ملاكمة؟!
فضحك «أحمد» وهو يقول: أوزاننا تختلف! وابتسمَا.
كان الفندق شديدَ النظافة والنظام. غُرَفُه واسعة، وجدرانُه البيضاء شديدةُ اللمعان وأثاثُه فاخرٌ بدرجة أثارَت إعجابَ الشياطين رغم أنهم قد رأوا فنادقَ كثيرة قبله في شتى بلدان العالم. كانت «إلهام» و«هدى» قد راحتَا في نوم عميق وكذلك فعل «مصباح» و«خالد» و«فهد»، بينما ظل «أحمد» و«بو عمير» ساهرَين في شرفتهما المطلَّة على مياه المحيط الهادي … وقد ارتدَى كلٌّ منهم جاكيت من الجلد ليحميَهم من برودة الجو.
كان «أحمد» جالسًا على أحد المقاعد في الشرفة وقد أسند ظهرَه إلى الوراء، وراح يرقب حركة الكون المترامي وهدير أمواج المحيط تُداعبه، بينما كان «بو عمير» واقفًا يراقب حركةَ السحاب في إعجاب واضح.
كان «أحمد» مستغرقًا في التفكير والتأمل لدرجة أنه لم يشعر ﺑ «بو عمير» وهو يغادر الشرفة … لكن بعد لحظات عاد ومعه كوبان من الشاي الساخن. صاح وهو يقدِّم أحدهما ﻟ «أحمد» … قائلًا: إلى أين وصلت الآن؟
ابتسم «أحمد» وهو يردِّد: إن ما أراه الآن رائعٌ حقًّا، وكم تمنيتُ أن تكون هذه الرحلة بدون «مهمات».
فضحك «بو عمير» … ثم قال: أعتقد أنك تمزح؛ فأنت أول مَن يفكر بالمهمة القادمة.
ثم عرض «بو عمير» على «أحمد» التجول بعضَ الوقت في شوارع «تاييه» النظيفة الهادئة قبل النوم. فوافق «أحمد» على الفور وهو يقول: لقد سبقتني. كنت سأعرض عليك نفس العرض. وما إن فرغَا من تناول الشاي، حتى انطلقَا خارج الغرفة … وكانت مفاجأة أن يجدَا مَن هو ساهرٌ أيضًا غيرهما في هذا الوقت المتأخر.
فعبرَ الدهليز الطويل لفت نظرَ «أحمد» و«بو عمير» وجودُ رجلَين يتحركان ويضحكان قبل أن يقفَا أمام غرفتهما، وكانت تحمل رقم «٢٠٨»، واستدار أحدهما ناحية «أحمد» و«بو عمير». كان طويلَ القامة، نحيفَ الجسد، ذا لحية صفراء طويلة، وتلاقَت عيناه بعين «أحمد» برهة قبل أن يخطوَ بداخل غرفته.
أغلق «بو عمير» الغرفةَ بالمفتاح وسار مع «أحمد» حتى نهاية الدهليز، وهبطَا درجات السلم بدلًا من استعمال المصعد … كان «أحمد» شاردَ الذهن؛ فلم يستمع إلى ما يقوله «بو عمير» إلى أن صاح فجأةً طالبًا من «بو عمير» العودة لفتح باب الغرفة، ووقف «بو عمير» لحظات لا يعرف ماذا يقصد «أحمد». وفي الحال سارع إلى الغرفة، وقام بفتح الباب، وعاد مسرعًا إلى «أحمد» وهو يردد: ماذا تقصد الضبط؟
فابتسم «أحمد»، وقال: ستعرف عندما نصبح بمفردنا.
تجوَّل «أحمد» و«بو عمير» بعض الوقت في حديقة الفندق الواسعة. كان السكون يخيِّم على المكان في لحظات ما قبل شروق الشمس، ولم يَعُد أحد ساهرًا سوى الحارس المكلف بحراسة الفندق. جذب معه «أحمد» أطراف الحديث بالإنجليزية، وشاركه «بو عمير». كان الحارس من أبناء «تايوان»، ويُدعى «شنج ياي» مثقفًا إلى درجة أذهلَت «أحمد»، فأخذ يتحدث عن أصل «تايوان»، وكيف أصبحَت بلدًا جميلًا، ثم عن سعادته بعمله كحارس ليلي يُتيح له التأمل والتفكير في سكون الليل.
كان الوقت يمضي بسرعة حاملًا معه تباشيرَ الصباح وضجيج السيارات التي أذنت للحياة أن تدبَّ في أوصال مدينة «تاييه» الساكنة طوال الليل.
استأذن «أحمد» و«بو عمير» من الحارس الذي ودَّعهما بابتسامة وسعادة وهو ينحني لهما تحيةً واحترامًا كعادة أهل «تايوان» و«اليابان» بل أبناء شرق «آسيا» كلهم.
كان النوم قد أطبق على جفنَي «بو عمير»، فأخذ يتثاءب باستمرار وفجأة يقظ ذهنه من جديد وفرك عينَيه جيدًا، ثم سأل «أحمد»: إنك حتى الآن لم تَقُل لي لماذا أردت أن نترك باب غرفتنا مفتوحًا؟!
فأجاب «أحمد»: ستعرف حالًا إذا صح توقعي فقط عليك بالصبر والانتظار إلى أن نصعد لغرفتنا.
ولم تمضِ دقائق حتى حملهما المصعد السريع إلى غرفتهما، وما إن خطَا «أحمد» بداخلها وتَبِعه «بو عمير» حتى همس «أحمد» في أُذُن «بو عمير»: يا صديقي العزيز، عليك بمساعدتي في تفتيش الغرفة.
فنظر له «بو عمير» وقد فارق النومُ عينَيه وتساءل في دهشة: لماذا؟
فأشار «أحمد» أن يبدأ دون أن يتحدث، ولم يمضِ الوقت بهما طويلًا … إذ أشار «أحمد» ﻟ «بو عمير» الذي توجَّه إليه مسرعًا … قبل أن ينطق بكلمة … أشار «أحمد» بأن يلزم الصمت على أن يحكيَ له عمَّا حدث غدًا مع بقية الشياطين.
كان جهاز التصنت الذي اكتشفه «أحمد» قد ثبت بعناية بواسطة شريط لاصق بأسفل قاعدة الدولاب الخشبي … وهكذا أشار «أحمد» إلى «بو عمير» وأخذَا يتحدثان وكأنهما لم يكتشفَا شيئًا … وكان آخر ما قاله «أحمد» ﻟ «بو عمير»: إلى اللقاء غدًا يا صديقي!