ما هذا الشيء الغريب؟
كان القارب الشراعي ينساب على صفحة النيل الهادئة، بينما أضواء القاهرة تَلمع على ضفتي النهر … لقد كان الشياطين اﻟ «١٣» في رحلة نيلية إلى القناطر الخيرية … ففي المساء عندما فكَّر الشياطين في سهرة، اقترح «خالد» الذهاب إلى القناطر عن طريق النيل، وحبذ الباقون الفكرة … فلم تمضِ لحظات حتى كانوا قد غادروا مقرَّهم السري الفرعي في «الدقي»، واستقلوا قاربًا شراعيًّا، انطلق بهم إلى القناطر … لم يكن يشغلهم شيء؛ فهم في إجازة بلا عمل …
كانت «ريما» تتابع بعينيها ذلك الصبي الصغير الذي يقفز على حافة القارب رائحًا غاديًا لا يخشى شيئًا، وكأنه عصفور سعيد … كان الصبي أسمر اللون من أثر وقوفه الكثير في الشمس، وعمله في القارب … مرَّ الصبي بجوار «عثمان» فلفت نظر «ريما» أنه ينظر طويلًا إلى النهر، وكأنه يتحدَّث إليه، ابتسمت وهي تفكر: المؤكد أن «عثمان» يُفكِّر الآن في الخرطوم؛ فهي تقع على امتداد نفس النهر … وعندما جالت بعينيها بين بقية الشياطين رأت «أحمد» يتسمع من خلال جهاز صغير، فظلَّت تنظر إلى وجه «أحمد» الذي كانت تبدو عليه انفعالات تُنبئ أنه يتلقى رسالة من رقم «صفر» …
شرَد «أحمد» قليلًا … لم يكن أحد ينظر إليه سوى «ريما»؛ فقد كان الباقون مُستغرقين في أشياء أخرى … انتظرَت «ريما» أن يتحدَّث «أحمد» لكنه لم ينطق … كان الواضح أنها مكالمة عابرة، فلو كانت المسألة هامة، أو تحتاج إلى التحرك السريع، لكان «أحمد» قد تصرف بسرعة أو كان قد طلب إلغاء الرحلة، أو الاكتفاء بها عند هذا الحد … ويبدو أن «أحمد» قد شعر بنظرات «ريما» فالتفت إليها وهو يبتسم ابتسامة حاول أن يجعلها هادئة، ابتسمت «ريما» وتحركت في اتجاه «أحمد». كانت تجلس في نهاية القارب، بينما «أحمد» يجلس في مقدمته، غير أنه أشار إليها أن تبقى … تأكدت «ريما» أن «أحمد» قد تلقى رسالة ما، لكنه لا يريد أن يزعج الشياطين ويقطع عليهم استمتاعهم بالرحلة … بقيت «ريما» مكانها، وإن كانت قد ظلَّت تنظر إلى «أحمد» الذي حاول أن يتشاغل عنها، حتى لا يَلفت نظر بقية الشياطين …
قال البحار، صاحب القارب: هل نكمل طريقنا إلى القناطر؟
رد «أحمد» بسرعة: نعم، حتى القناطر الخيرية …
نظر الجميع لحظة يستمعون إلى الحوار القصير الذي دار، ثم استغرق كلٌّ منهم في أفكاره من جديد … غير أن الحوار لفت نظر «ريما» أكثر، فلماذا رد «أحمد» بسرعة، وطلب أن تظل الرحلة حتى القناطر؟ لا بد أن هناك شيئًا، لكنه مؤجَّل إلى نهاية الرحلة …
ظلت «ريما» تنظر إلى «أحمد» ولم تمضِ لحظة، حتى كان «أحمد» يتسمع للجهاز من جديد … كان يبدو عليه الاهتمام أكثر هذه المرة، وبدأت عيناه تجول بين الشياطين، كان من الواضح أنه يسمع أسماءً يُحدِّدها بعينَيه … توقفت عينا «أحمد» عند بحار القارب، فدُهشت «ريما» لذلك … وقفز إلى رأسها سؤال: هل هذا البحَّار يعني لهم شيئًا … هل هي مغامرة جديدة، تبدأ بالصدفة من هذا القارب، ومع هذا البحَّار بالذات؟ …
شرد «أحمد» ببصره بعد أن انتهى تسمُّعه للجهاز، ولمعت في الأفق من بعيد أضواء … وصاح على أثرها البحَّار: يجب أن نعود فورًا، هناك إشارة ضوئية تقول إن القناطر مفتوحة، وهناك تصعب السيطرة على القارب؛ فالدوامات شديدة بسبب اندفاع الماء داخل الأهوسة …
لفت نداء البحَّار أنظار الشياطين، فتحرَّكوا في أماكنهم غير أن البحَّار قال بابتسامة: نستطيع أن نأتي إلى القناطر غدًا … يبدو أن هناك مراكب للنقل تعبر القناطر، ولأن قاربنا صغير، فإننا لا نستطيع أن نُقاوم التيار …
بدأ البحار يعكس اتجاه القارب للعودة إلى القاهرة من جديد، لم يكن أحد من الشياطين قد نطق كلمة … استمع الجميع إلى كلمات البحَّارِ وهم في أماكنهم، لكن «أحمد» قفز إلى البحَّار يسأله: في كم من الوقت نصل إلى روض الفرج؟
قال البحَّار: خلال ساعة؛ فالرياح معنا …
قفزت «ريما» بسرعة لتقف بجوار «أحمد»، ابتسمت له وقالت: هناك رسالة وصلت إليك؟ … ابتسم «أحمد» وهو يقول: كيف عرفت؟ … ضحكت «ريما» ضحكتها الرقيقة، وهي تقول: لقد لاحظت ذلك، وأنت تتسمَّع للجهاز مرتين، وتعبيرات وجهك تنطق بذلك … أستطيع أيضًا أن أقول إن الرسالة حددت عددًا من الأسماء …
ضحك «أحمد» وهو يضغط على كتف «ريما» قائلًا: من الضروري أن يكون الشياطين بهذا الذكاء … نعم، كل ما قلته صحيح …
كان الشياطين يُراقبون الحوار بين «ريما» و«أحمد» دون أن يسمعوا شيئًا منه … لقد كانت العودة السريعة للقارب تأخذهم، والأضواء التي تقترب بسرعة تلفت نظرهم … لقد بدأت ملامح الزمالك تظهر، وتناهت إلى أسماعهم موسيقى الجاز الآتية من كازينو «السولت»، الذي يقع على شاطئ النيل، وفي أقل من ساعة كان القارب يرسو عند المرسى …
نزل الشياطين بسرعة، واستقلوا سياراتهم، وقال «خالد»: هل انتهت السهرة؟ … رد «أحمد» الذي كان في سيارة واحدة مع «خالد»: نعم … هناك رسالة هامة وصلت من رقم «صفر» وهي تنتظرنا في المقر السري الصغير!
صمت الباقون في السيارة التي كان يركبها «أحمد» و«خالد» و«قيس» و«بو عمير» و«فهد»، وإن كانوا جميعًا يتمنَّون في تلك اللحظة أن تصل السيارة في سرعة البرق إلى المقر، لمعرفة الرسالة …
وبرغم سرعة السيارة، إلا أن المرور كان مُزدحمًا عند الكباري … فتعطلت بعض الوقت، ثم انطلقت فوق كوبري «أبو العلا» قاطعة حي «الزمالك» الهادئ في تلك الساعة إلى كوبري «الزمالك»، ثم شارع النيل بطوله، إلى «الدقي»، حيث المقر السري القريب من فندق «الشيراتون» …
وفي دقائق، كان الجميع حول الجهاز السري يقرءون الرسالة التي أرسلها رقم «صفر»، كانت الرسالة الأولى تقول: من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س» انتظروا رسالة أخرى … كونوا مُستعدين … ثم قرأ «أحمد» الرسالة الثانية، كانت تقول: من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س» ١ و٢ و٧ و٩ و١٠ و١١ يتوجَّهون إلى المقر السري … الباقون ينتظرون في القاهرة … الاجتماع ٨ص …
نظر الشياطين إلى بعضهم لحظة، ثم اتجهت أنظارهم إلى الضوء الأصفر في الجهاز السري، كان يُطفئ ويُضيء … عرفوا أن هناك رسالة جديدة، بدأ «أحمد» يضع على عينيه المنظار السري الذي يقرأ به رسائل رقم «صفر»؛ فهي مكتوبة بطريقة لا تُرى إلا بهذا المنظار … أخذ يقرأ بينما الرسالة تكتب: من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س» تأجَّل الاجتماع … انتظروا رسالة أخرى …
لم يكن هناك ما يُقال … تحركت «زبيدة» و«إلهام» و«ريما» لتجهيز طعام العشاء، بينما انشغل الباقون في إبدال ملابسهم، وعندما جلسوا حول مائدة الطعام، قالت «ريما»: هذه أول مرة يتأجل فيها الاجتماع برقم «صفر».
أحمد: هذه مسألة طبيعية … ربما كانت هناك معلومات جديدة يريد رقم «صفر» إبلاغها إلينا، وقد تُغيِّر من خطته في دعوتنا …
صمت الشياطين اﻟ «١٣»، ولم يكن يُسمع سوى صوت ارتطام ملعقة بأحد الأطباق، تلفت نظر الباقين … وكان الشياطين في حالة ترقب لوصول الرسالة الجديدة، التي يتحدَّد على ضوئها حركة الشياطين …
سأل «فهد»: لقد أخبرنا «أحمد» ونحن في الطريق، أن هناك رسالتين من رقم «صفر» كيف عرفت؟
ابتسم «أحمد» وقال: نسيتُ أن أخبركم، لقد شغلتني الرسالة حتى تصوَّرتُ أنكم تعرفون … لقد جاءتني رسالة من خلال الجهاز السرِّي الذي أحمله ونحن في القارب … كانت الرسالة تقول: انتظروا! … نظر «أحمد» إلى «ريما» وأكمل: لقد كانت «ريما» تتابعني حتى إنها عرفت بالتقريب ماذا تقول الرسالتان … انتظرَ لحظة … ثم قال: انتظرتُ الرسالة الثانية، حتى جاءت ونحن في القارب أيضًا، كانت تقول: من مَنكم سيتحرَّكون إلى المقر السري؟ سأخبركم من هم … في مقرِّكم الصغير، سوف تجدون الأرقام … صمتَ دقيقة … وهو ينظر إلى الشياطين ثم أكمل: هذا ما جعلني أسرع إلى المقر …
قال «بوعمير»: لكنك لم تخبرنا ونحن في القارب!
أحمد: لأن الرسالة لم تكن عاجلة، فلم تكن أشياء محدَّدة، فقد رأيت أن أترككم تستمتعون بالرحلة، خاصةً وأن «خالد» كان يتمنَّى رؤية القناطر …
ما كاد «أحمد» ينتهي من كلامه، حتى أضاءت اللمبة الصفراء فتركوا طعامهم، والتفوا حول الجهاز السري … لبس «أحمد» المنظار، وبدأ يقرأ لهم كلمة كلمة … كانت الرسالة تقول: من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س» ١ و٩ و١٠ الاجتماع الليلة الساعة ٢٤، ٢ يتجه إلى ن، ١١ يتجه إلى س … الباقون في المكان … أسرعوا …
خلع «أحمد» المنظار، ونظر إليهم لحظة، ثم نظر إلى ساعته وقال: أمامنا أربع ساعات نستطيع أن نصل مُبكرًا …
قال «عثمان»: سأنصرف فورًا إلى مكتب شركة الطيران، فلا يزال الوقت مبكرًا …
قال «قيس»: سأنزل معك، يجب أن أجد طائرة إلى السعودية فورًا …
قام الشياطين بتجهيز أشيائهم، الحقيبة الصغيرة ذات الجيوب السرية، المجهَّزة بالأسلحة الصغيرة الحديثة … وعندما نظر «أحمد» حوله لم يجد «عثمان» ولا «قيس» …
ودَّع الشياطين بعضهم، ثم انطلق «أحمد» و«ريما» و«خالد» إلى سيارتهم …
في نفس الوقت جلس باقي الشياطين يرقبون الجهاز السري، كانوا يتمنون أن تأتي رسالة أخرى تطلُب منهم أن يتحركوا …
سألت «زبيدة»: هل سيصلُون في الوقت المحدد؟
أجاب «باسم»: نعم يستطيعون …
وفي الطريق إلى المقر السري، كانت السيارة تنطلق بالشياطين الثلاثة بسرعة رهيبة، كان الطريق طويلًا لكن السيارة التي يركبها الشياطين لا تعرف مكانًا بعيدًا، إنها تأكل الطريق ببساطة لا يتصوَّرها العقل … لم يكن الشياطين الثلاثة يتحدَّثون، كان كلٌّ منهم يفكر في شكل المغامرة الجديدة، ومضى الوقت بطيئًا بالنسبة لهم؛ فقد كانوا يتمنون الوصول بسرعة … وفجأة أضيء الجهاز السري في السيارة، وسمعُوا صوت رقم «صفر» يقول: أهلًا بكم … إني في انتظاركم، لعل الرحلة لم تكن متعبة … صمت الجهاز، فنظر الشياطين الثلاثة إلى بعضهم، وابتسموا …
ظهرت علامات الطريق التي لا يراها إلا الشياطين، وكان هذا يعني أنهم قد اقتربوا تمامًا … قال «خالد»: رحلة طيبة ومغامرة طيبة إن شاء الله … ابتسم «أحمد» و«ريما» واستمرت السيارة في انطلاقها …