في المدينة
١
كانت القاهرة حُلمًا كبيرًا يصعب تصديقه، وعندما استقرَّ بنا المقام في حيِّ العجوزة، بدَت لي المنطقة مَزيجًا من رشيد والإسكندرية؛ فهي تُطل على النيل، وقرية العجوزة لا تزال على حالها ريفيَّة مُغرِقة في طابَعِها الريفي، فوَراء مدرسة الأورمان تقعُ الحقول الشاسعة، فإذا تجاوزتَ المتحف الزراعي رأيتَ القصب، وكان منظره مميزًا لاختلافه الشديد عن محاصيل رشيد (السمسم والذرة) وشاهدت الهضبة الغربية في الأفق، وأهرام الجيزة. أما إذا عبَرت النيل عند كوبري بديعة (كوبري الجلاء الآن) فستجد نفسَك وسط حدائقَ لا نهاية لها؛ إلى اليمين حدائق مترامية، وإلى اليسار أرض المتاحف بالجزيرة، وعندما تعبر الجزيرة تصل إلى كوبري قصر النيل حيث تِمثالا الأسدَين الرابضَين، فإذا عبرتَ الكوبري وصلتَ إلى ميدان التحرير، ومنه تتفرَّع أهمُّ شوارع القاهرة القديمة، قاهرة المعزِّ لدين الله الفاطمي في شرق النيل، حيث تِلالُ المقطم ومسجد محمد علي، أما وسط البلد فهو أوروبيٌّ في كل شيء؛ شوارع فسيحة مرصوفةٌ نظيفة، وعمارات ذاتُ مِعمار إيطالي، بشُرفات مُزيَّنة بتماثيل، ونحتٍ بارز، ودكاكين فاخرة، ودُور للسينما، وسيارات حديثة الطِّراز، لا تُصدِر ضجيجًا أو دُخانًا، وترام يعبر شارع فؤاد (٢٦ يوليو) ويدور حول حديقة الأزبكية (ثم تحوَّل إلى اختراقها)؛ ليصلَ إلى ميدان العتبة الخضراء، التي تعتبر قلبَ المدينة. فيها مَبانٍ مُقامة على أقواس (بواكي) ومسرح الأزبكية، وشارع الملك عبد العزيز آل سعود، ثم شارع محمد علي الذي يؤدي إلى باب الخلق حيث دارُ الكتب، ثم إلى قلعة صلاح الدين الأيوبي.
ما هذا الاتساع! حتى المدرسة كانت شاسعة، فيها ملاعبُ نظيفة وساحات، وفِناء ضخم، أحيانًا توضع فيه شبَكةٌ للعبِ الكرة الطائرة، ومكان مُغلق للجمباز وألعاب القُوى، وكانت الفصول تُطل على الفِناء، وبعضها يُطل على شارع مُرقص حنَّا، والبعض الآخر ومنها سنة خامسة أدبي حيث كان مكاني، يُطلُّ على الحقول وعلى بعض المساكن البعيدة. وكان «المستوى الاجتماعي» كما يقولون يتناقضُ تناقضًا شديدًا مع مستوى رشيد الثانوية؛ فكان لأحد الطلبة (ناجي عبد السلام) سيارة «ستروين» تقف خارج المدرسة، وكان آخَر (محسن مرسي) ابنًا لمدير جامعة القاهرة، وثالثٌ من أسرة عريضة الثراء، وسرعان ما أدركتُ أنني أواجهُ لونًا جديدًا من التحدي، ولكن الابتعاد عن رشيد كان موجعًا للقلب، ولم ألبث أن وجدتُ ما أكتب عنه، فوجدت بيتًا يرنُّ في أذني؛ أولًا في صورةِ شطر وحيد هو «تركتُ رشيدَ الحبِّ والصفوِ والصِّبا» ثم اكتمل في آخرِ اليوم الدراسي «وكيف يعيشُ المرء إنْ فاتَهُ الحُبُّ»، ومكثتُ في غرفتي ذلك اليومَ أُعالج القصيدةَ وأُنابذها.
وقررتُ أن تكون مقطوعةً كاملة، تبدأ بقافيةٍ مُوَحَّدة، وحبذا لو توافرَت براعة الاستهلال أيضًا، فكتبتُ:
كنتُ واثقًا أن هذه أبياتٌ صادقة، وأنني حافظتُ فيها على الوزن والقافية، وجئتُ بمعنًى لا شكَّ أنه «يُعتَد به»، حسَبما قال خالي، ولكنَّ شيئًا ما في أعماقي كان يقول لي إنَّ بها زيفًا ما، وعدتُ إلى براعة الاستهلال، تُرى لو أبدلتُ «وجب» ﺑ «وجف» أو «أرجف» أكون أصدق؟ ونظرتُ إلى «الخضراء» وقلتُ في نفسي إنه صدًى لقولِ الشاعر:
واتضَح لي ما فعلتُ على الفور! لقد استعَرتُ المعنى مع الوزنِ والقافية من ذلك الشاعر، بل إن الكلمة نفسَها تنتهي بألف التأنيث الممدودة في البيت الذي نسَجتُ على مِنواله، أما نَبْذ البيداء فهو قطعًا من باب الزِّينة فحَسْب، فأنا لا أسكنُ البيداء ولا أَهيم على وجهي فيها! وقرَّرتُ ألا أُطْلِع أحدًا على القصيدة، وكنتُ أعرف أنها مقطوعةٌ على أي حال؛ لأنها لا تَزيد على عشَرة أبيات، ولم يكن لديَّ الجَلَدُ على كتابة بيتَين آخرين.
وكَرَّت الأيامُ سريعة، كل يوم يحمل جديدًا، وكان أول ما أتَت به درس اللغة الإنجليزية، وكان المدرس هو جرجس الرشيدي (الدكتور فيما بعد)، المدرِّس الأول، وتَوثَّقَت الصداقةُ معه على الفور، ثم أتى درسُ العربية، وكان موضوعُ الإنشاء هو شوقي الشاعر! وكتبتُ موضوعَ إنشاء أكثرتُ فيه من المحسِّنات البديعية والزخرفة اللفظية والسَّجْع، والاستشهاد بالشعر طبعًا، وكان أنْ راق لمدرس اللغةِ العربية عبد الرءوف مخلوف (الدكتور فيما بعد)، وطلب مني إلقاءه في الفصل، ففعلت، وأبدى الطلبةُ إعجابَهم باستثناء طالبٍ قُدِّرَ لي وله أن نُصبح أصدقاءَ مدى الحياة، وهو أحمد السودة (المستشار ونائب رئيس هيئة النيابة الإدارية حاليًّا). وكان مصدرُ اعتراضه أنني أهتمُّ بالألفاظ والزركَشة البيانيَّة أكثرَ من اهتمامي بالموضوع؛ أي بالأفكار، وقال مُحِقًّا إن الموضوع لا يتضمَّن أيَّ معلومات عن شوقي يُمكن أن تُفيدَ القارئ، ولكنه لا يعدو أن يكون صياغةً مُنمَّقةً لأفكار يعرفُها الجميع! وردَّ عليه الأستاذ قائلًا إن هذا هو المحك؛ أي وضوح التعبير وجمالُه، وأوردَ قول أحد القدماء إن الشأن ليس في إيراد المعاني؛ فالمعاني يعرفها العربيُّ والعجمي، والبدَوي والحَضَري، وإنما هو في اختيار اللفظ الشريف … إلخ، وأردفَ قائلًا إنه يُعِدُّ رسالةَ الماجستير عن كتاب العُمدة لابن رَشيق القَيْرَواني، وفيه تجدُ هذه النظرات «الكلاسيكية» في النقد الأدبي العربي.
وبعد الدرس تعارَفْنا أنا وأحمد السودة، وبدأَت رحلةُ حبِّ اللغة والفكر التي استمرَّت طولَ العمر معنا، وقد بدا الاختلافُ بين مذهبَينا عندما طلب منا المدرسُ كتابة موضوع بعنوان «أزمة نفسيَّة مرَرْت بها ثم تغلَّبْت عليها»، فكتبتُ أنا عن تَجرِبة الرسوب في السنة المنصرِمة، وكتب هو عن فيلم «الطاحونة الحمراء» الذي شاهدَه وكيف ألقى الضوءَ على «أزمة» معيَّنة وساعده في التغلُّب عليها. كان أسلوبه سلسًا خاليًا من المحسنات، وكان أسلوبي مُثْقَلًا بالصور البلاغية والشعر، ومع ذلك كنتُ أجد في كتابته سحرًا لا أقدرُ على محاكاته. وكان (وما يزال) من عشاق عبَّاس محمود العقاد، فطفق يُحدثني عن مذهب العقَّاد في الكتابة، وعن مَغبَّة الميل إلى «الإنشاء» إذ يكتنف المعنى ضبابٌ من الألفاظ التي تفتقر إلى الدقَّة والوضوح وتُشتِّت ذهنَ القارئ. وقال إن سلامة موسى يدعو إلى الأسلوب «التلغرافي»؛ أي الذي يوصل المعنى بأقلِّ الكلمات! وسألتُه ما بال المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي؟ فقال «أنَّاشين» — أي من أرباب الإنشاء! وذكرتُ كتب الرافعي لدى والدي — «وحي القلم» و«السحاب الأحمر» و«رسائل الأحزان» وعجبتُ كيف لا يرضى العقادُ بهذا الإبداع؟
وفاتحتُ أستاذ اللغة الإنجليزية في الموضوع فقال لي إن الأمر يتوقَّف على مَن تُخاطب، وماذا تكتب، ولماذا تكتب! المسألة إذن معقَّدة وليست بالبساطة التي كنتُ أتصورها! وشارك بعضُ الحاضرين في غرفة الأساتذة في الحديث، فقال أحدُهم واسمه جلال جابر (الدكتور فيما بعد)، وكان أصغرَهم سنًّا، إنك إن كنتَ تُخاطب العامة فيجب أن تستعملَ لُغتهم؛ فلكلٍّ مقام مقال! فأضاف (الدكتور) جرجس: ولكن المسألة تتوقفُ على الهدف من الكتابة ونوعها؛ فالكتابة الناجحة هي التي تُحقق الهدف منها، سواءٌ كان توصيلَ المعاني؛ أي الأفكار، أو التعبيرَ عن المشاعر. وسألتُهما فلماذا تخلو الإنجليزية من البلاغة؟ وضحكا، وقال آخَر واسمه «سامي» (لا أذكر اسمه الآخر): بل إن اللغة الإنجليزية حافلةٌ بالبلاغة، وسوف تعرف ذلك حين تدرسُ الشعر الإنجليزي.
وعندما خرجتُ من غرفة الأساتذة، وعقلي يموجُ بهذه الأفكار، استوقفَتني أنغامٌ صادرة من غرفةٍ مجاورة، اتَّضَح أنها غرفةُ الموسيقى، فدخلتُها مستفسرًا فلم يعبأ بي أحد، وتأمَّلتُ الطلبة والآلات في أيديهم، والمدرس وهو يجلس إلى البيانو، ثم خرجتُ وظللتُ واقفًا أُنصت. كان رنينُ الأوتار ذا قوةٍ قاهرةٍ ساحرة.
ونظرتُ إلى عودٍ مهجور؛ إذ كان الجميع يعزفون آلاتٍ غربية، مثل الأكورديون (نصحي بقطر، والحاجري وخاطر)، والماندولين (عبد المتعال)، والبيانو طبعًا (طلعت بقطر) — ولكن العود مهجور! واقتربتُ من الأستاذ علي حنفي مدرِّس الموسيقى وسألتُه عن العود فقال ببساطة: «خذ .. اتمرن عليه!» ولكن كيف؟ قال لي «أهم حاجة ضبط الريشة!» وبيَّن لي مواضعَ السلَّم على الأوتار وأماكن «العَفَقَ» أي وضع الأصابع (أصابع اليد اليسرى طبعًا) وقال لي: تفضَّل! وفي شِبه ذهول جعلتُ أضرب على العود سلالمَ صاعدةً هابطة حتى مللتُ، فعُدت إليه فقال: «لن أُعلمك شيئًا حتى تُحْكِم ضبط الريشة!» وكانت «الريشة» قطعةً رقيقة من البلاستيك (الباغة)، وبعد أن «شبعتُ» من السلالم، وأضجَرَتني صعودًا ونزولًا قررتُ مُفاتحة الأستاذ في الموضوع، فأعطاني نوتةً مبسَّطة وتركني. وعكفتُ عليها حتى أتقنتُها وقلت له أريد المزيد! فاعترض وقال إنَّ عليَّ أن أَقنَع بتدريبٍ واحد مرةً كل يوم فقط، وألا أتخطَّاه إلى غيره إلا بعد أن أكون قد أحكمتُه إحكامًا!
وعندما اصطحبتُ العود الساذَج إلى المنزل ذاتَ يوم لأستكمل المِران هاج والدي وماج، واتهَمَني «بالمجون» وهي صفةٌ أبعدُ ما تكون عنِّي، ثم إنه هو الذي أورثَني حبَّ الموسيقى! ولم أجرُؤ أن آتيَ بالعود ثانيًا إلى المنزل، ومعنى ذلك أنه كان عليَّ قضاءُ وقتٍ أطول في المدرسة للتمرين، وكنتُ مُقبِلًا على العود إقبالَ مَن يرى فيه روحًا جديدة، ولكنني لم أكن أتحدث في موضوع الموسيقى كثيرًا بسبب الضغوط التي كنتُ أُحِسُّها مِن جميع من حولي. وكم حزَّ في نفسي ألا أستطيعَ شراءَ عود خاص بي؛ فالعود الفاخر يتكلَّف خمسة جنيهات، ولا يوجد عود يقلُّ ثمنه عن جنيهين، وكان ذلك قطعًا فوقَ طاقتي.
وكان يجلس إلى جواري في الفصل طالبٌ من إيران اسمه مهيار صادق نشأت، وكان حادَّ الذكاء، وقد انتقل إلى جواري ليحلَّ محلَّ يحيى يوسف، بعد أن لاحظَ أنني يمكن أن أرشدَه إلى بعض دقائق الفصحى التي كانت تدقُّ عليه، واغتنمتُ الفرصة لأعرف شيئًا عن اللغة الفارسية، ولم يكن ضَنينًا بعِلمه، والحقُّ إنه كان يُجيد العربية إجادةً تامة ويتحدثُ العامية القاهرية كأحدِ أبنائها، وتوثَّقَت صداقتنا فكان يصطحبُني إلى دار الإذاعة حيث يُقدم نشرة الأخبار الموجَّهةَ إلى إيران، وبرنامجًا آخرَ، ثم ساعد أخاه شهيار في وقتٍ لاحق في الحصول على عملٍ بالإذاعة أيضًا. واستمرَّت معرفتي به حتى تخرَّج في كلية الحقوق ثم التحقَ بعملٍ في الأمم المتحدة في جنيف.
وكان من أعلام «خامسة أدبي» آنذاك محمود دويدار (رحمه الله) الذي كان يعتزُّ بأصوله التركية، ويؤكِّد أن اسمه تركي، وهو في الحقيقة (كما علمتُ أخيرًا) مركَّبٌ من كلمة عربية هي الدَّواة وكلمة فارسية هي دار، أي دوادار بمعنى صاحبِ الدواة، أو الكاتب (بمعنى الوزير الحالي). وكانت له أختان هما زينب (واسم التدليل «زِتَّه»)، وأحلام التي سمعتُ أنها تُوفِّيَت منذ أعوام (ومصدر معلوماتي هو شوكت دويدار الذي كان معنا في المدرسة، وهو ابنُ عم محمود، وكان زميلًا لأخي الصغير). وكانت الأسرة تُقيم في فيلا من بقايا عصر العزِّ القديم في شارع عبد الرحيم صبري في العجوزة، وهي المكان الذي احتفلنا فيه في العام التالي بحفلِ رأس السنة. وكان يجلس إلى جانب دويدار طالبٌ مهذَّب اسمه كمال عبد الرحمن، كان يُقيم في شارعٍ ظليل متفرع من شارع الدكتور شاهين، وكنت كثيرًا ما أذهب إليه للاستذكار؛ فقد كان على مَبْعدةِ خطواتٍ من شارعنا، وفي منزله سمعتُ أغنية عبد الوهاب «أنا والعذاب وهواك» لأول مرة، وعندما حاولتُ عزفها على البيانو لديه فوجئتُ بأن اللحن بالغُ السهولة وبأنه لا يتضمَّن أية أرباع أنغام (أو ثلاثة أرباع على نحوِ ما يؤكد الدكتور زين نصار) مما يُميز الموسيقى الشرقية، ويحفل به العود، فدهشتُ دهشةً بالغة.
كانت دروس القسم الأدبي ممتِعة إلى أقصى حد، وكان أهم شيء في المدرسة هو «النشاط المدرسي» فكان لدينا أستاذٌ للتمثيل، هو الفنان عبد المنعم مدبولي، وكان هو الذي نصحَني بعد أن قرأ المسرحيتين اللتين كتبتُهما بألا أحترفَ التمثيل، وقال لي إن موهبتك موهبةُ مؤلف لا مُمثل، وإن عليَّ أن ألتحقَ بقسم اللغة الإنجليزية فأقرأ «شكسبير والكلام ده» ثم اكتبْ بعد التخرُّج. وسرعان ما لاحت فرصةٌ لإثبات قدرتي على الكتابة على مستوى المدرسة؛ إذ قرر السيد العجَّان، مدرس أول اللغة العربية، بالاتفاق مع الناظر خليل أبو طور، عقد مسابقة عامة في الشعر والقصة والخَطابة. وقررتُ الدخول في المسابقة بفروعها الثلاثة، ولكنني اكتشفتُ أن بعض مجالات المنافسة لها المبرَّزون فيها في المدرسة من قبل، ومنها الخَطابة (إذ كان طالب يُدعى بازرعة مشهودًا له بالامتياز) ومن ثَم اقتصرت على الشعر والقصة، وكان المشرفون قد حدَّدوا موضوعاتٍ معينةً لكلِّ فرعٍ، وكان موضوع الشعر هو السيلَ الذي اجتاح قنا في صعيد مصر، وكان موضوع القصة هو «من التاريخ». وقررت أن أكتب قصيدةً تُصَوِّرُ مأساة أم تحمل أطفالها بعد أن شَرَّدَهَا السيل، وكان مطلع القصيدة:
وأطلعتُ أحدَ أساتذة العربية عليها، واسمه عبد العظيم الدسوقي، فما أن قرأ البيت الثانيَ حتى صاح: هنا كسر! واعترضتُ قائلًا: أين؟ قال خُطُواتها! فقلتُ سكِّن الطاء، مثل خُطْوة، فصاح: لا يصح ولا يجوز! ثم همس قائلًا: هل تقدمتَ بهذه القصيدة إلى المسابقة؟ فأومأتُ بالإيجاب فلم يُعقب. والواقع أنه لو شاء أن يجد عيوبًا أخرى لفعل (مثل الإقواء في البيت الرابع)، ولكنه آثرَ الصمت. أما الذي فاز بالجائزة الأولى فهو شاعرٌ موهوب لو قُدِّر له أن يستمرَّ لأصبح له شأن وهو إبراهيم عارف كيرة؛ إذ كتب قصيدة مطلعها:
وكان يقصدُ الإشارةَ إلى ما تنبَّأ به أحدُ الفلَكيِّين من أن نهاية العالم ستقعُ بعد أيام، ولكن القصة التي كتبتُها فازت بالمركز الأول، وكانت تحكي كيف وعَدَت قريشٌ سُراقة بن مالك بمائةٍ من الإبل إن هو استطاع إدراكَ المهاجِرَيْن — الرسول ﷺ وأبي بكر الصديق — وكانت فرسه كلما اقتربَت منهما تَسُوخُ حوافرها في الرمال، ولم أعبأ هنا بآراء العقَّاد في الأسلوب ولا بنصائح أحمد السودة، فوضعتُ في القصة جرعةً كبيرة من المحسِّنات، فكان من الطبيعي أن تلقى القَبول.
كان إبراهيم كيرة غلامًا لطيفًا، وكان أسبَقَنا إلى الحديث عن آلام الحب، وسهر الليالي، وكان يتحدث بإسهابٍ عن فتاةٍ تعمل في مكتبة، وعندما رآها «وقع» في الحب من أول نظرة، ثم حدث أنْ زرناه أنا وأحمد السودة ذات يوم في منزله القديم في الدقي (إذ انتقل بعد ذلك إلى حدائق القبة) فقالت لنا والدتُه إنه نائم، وكانت الساعة قد قاربَت على السابعة مساءً، فقال لي أحمد السودة الآن أدركنا سرَّ السهر! إنه ينام بعد الظهر طويلًا، ولو لم ينم لما كان سهر الحب! وذاتَ يوم أطلَعَني على قصيدةٍ دخل بها مسابقة عُنوانها «الربيع» أذكر منها المطالع والخاتمة:
أما الختام فهو:
كنتُ عندما أقرأ مثلَ هذا الشعر يتنازعني الإعجابُ والحسد، وكثيرًا ما كنت أتساءل في نفسي كيف تتفاوتُ الموهبة من شخصٍ لآخر؟ وكيف تستمرُّ الموهبة وكيف تنمو؟ وظلَّت تلك جميعًا أسئلةً بلا إجابة، وإن كنتُ قد قرأت فيما بعدُ ما خفف من ظلمات جهلي بها.
٢
والحقُّ أن قضية «الإنشاء»، أو قضية اللفظ والمعنى، ظلَّت قائمةً دون حلٍّ بحيث بدَت كأنما تستعصي على الحل. وذاتَ يوم كنا في الفِناء في فترة الراحة الأولى (الفسحة الصغيرة) حين استمعتُ بالمصادفة إلى الأستاذ حسيب أستاذ اللغة العربية وهو يتكلَّم في هذا الموضوع الشائك، وكان ينصحُ أحدهم أن يُفكر أولًا ثم يكتب، أي أن يُحدد ما يريد أن يقوله ثم يقوله، وتدخَّلتُ قائلًا: ولكن التفكير يجري باللغة، ولا بد من اللغة لصياغةِ الأفكار، ومعنى صياغة الأفكار هو التفكير! فقال لي إن هذا منطقٌ مغلوط، فالفكر سابقٌ على اللغة، وهو الذي سيأتي بالألفاظ، فكِّر جيدًا تكتب جيدًا! وعُدتُ أقول ولكنك لن تستطيع التفكيرَ جيدًا إلا إذا توافرت لك أدواتُ التفكير الجيد … فقاطعَني قائلًا: كلُّنا لديه ألفاظ! ولكن المهم أن نُدرِّب أنفُسَنا على أن تكون للألفاظ دلالاتٌ محددة واضحة، وعندها سنعرفُ كيف نفكر ونعرف كيف نكتب!
وكانت هذه نظرةً جديدة لم آلَفْها بل لم أسمع بها من قبل! وعلى الفور بدأتُ أَنشُد أمثلةً تؤكد أو تنفي ما قاله الأستاذ حسيب، ووجدتُني أثناء حصة التاريخ أشرُدُ في مسألة الفكر واللغة، ولا أكاد أتصور فكرًا دون لغة إلا أن يكون صورًا متتابعةً في الذهن أو مشاعر مبهَمة لا يمكن تحديدها إلا إذا وُضعت في قالَب لُغوي. كيف يستطيع الفكر أن يسبق اللغة إذن؟ إننا حتى إذا افترضنا أن هذه الصورَ أو المشاعر التي لا تكتسي ثوبًا لفظيًّا هي المادة الخامُ للفكر، فكيف يمكن للذهن أن يجعلَ منها أفكارًا بغير اللغة؟ وفي المساء كنا نتنزَّه أنا وأحمد السودة فذكرت له ما قاله الأستاذ حسيب فأيَّده بشدةٍ وقال إن الأفكار، بغضِّ النظر عن صورتها اللفظية هي المهمة، وهذا الذي يجعلُنا نقرأ العقاد وسلامة موسى ولا نجد شيئًا نخرج به من كلام المنفلوطي والرافعي! وانتهى بنا الأمرُ في شارع عبد الرحيم صبري إلى منزل نبيل رضا أبو العلا وأخيه محمد، اللذين كانا معنا في الفصل. وعندما عرَضْنا المسألة على نبيلٍ قال لي: «لغة إيه؟ بابا لا يُفكر إلا باللون والشكل!» وكان والدُه رسَّامًا عظيمًا، وانضمَّ إليه محمد قائلًا: وكذلك نحن! كل شخص في حدود لغة الحِرفة!
كان جوهر الخلاف غيرَ قابل للحلِّ على ضوء التجارِب الشخصية، ولم نكن قد أوتينا من العلم والخبرة ما يمكننا من القطع برأيٍ مقبول فيه، ومِن ثَمَّ عُدنا إلى الفكرة الأساسية التي كنا تجاهَلْناها في حوارنا وهي الوضوح وتحديد معاني الألفاظ. إذ كنتُ في تلك السنِّ المبكرة مولعًا بما يمكن أن يوحي به اللفظُ من معانٍ قد يصعب تحديدها، وكان جرس اللفظ نفسه ذا جمالٍ وقدرة على الإيحاء، وكنت لا أتصوَّر أن يختصر الكاتبُ كلامَه ويُحدد معانيَه ويوضحها؛ لأن ذلك قد يُفقدها «سحرَها» وحلاوتَها! لم نكن نعرف أننا نتكلم عن لونين مختلفَين من الكتابة، بل عن تطورٍ بالغ الأهمية في أسلوب الكتابة الأدبية نفسِها، سواءٌ كان ذلك بالعربية أو بلغةٍ أخرى. ولكن هذه المناقشات ظلَّت حيةً وماثلة في ذهني حتى ذهبتُ إلى البعثة الدراسية إلى إنجلترا وبدأت أقرأ الفلاسفة المحْدَثين، وأحاول فهم ما يقولون.
كان عام ١٩٥٤م يطوي صفحتَه، حين قرر نبيل رضا أن يحتفل بليلة رأس السنة في منزل محمود دويدار، فاجتمع الأصدقاء، وقرَّروا المساهمة بقرشين ونصف قرش لكلٍّ منهم، وتبرع محمود بالطعام والموسيقى، وكان الجميع يُضمرون أملًا في رؤية أختَيه الجميلتين، وكان من أفراد الشلة عادل مجدي الذي كان يتمتَّع بموهبة كبيرة في فنِّ التمثيل، وأخوه التوءم نبيل الذي كان قد التحق بكلية التجارة، وكانا يسكنان في شارع سليمان جوهر بالدقي، ورأت أخو نبيل رضا الأصغر الذي كان في مدرسة إيطالية، وغيرهم. واشترى نبيل (باعتباره الخبير) زجاجةً أو زجاجتَين من البيرة المصرية، وكان سعر الزجاجة أحدَ عشرَ قرشًا، وتناولنا الطعام، وأقنعني نبيل بتذوق البيرة فوجدتُها مُرَّة فقال «حاول تاني .. إنها طعم الزيتون المخلل!» الغريب أن هذه المقاديرَ الضئيلة من البيرة أوجدَت أو أوحت بحالةٍ من السعادة الغامرة، وعندما حلَّ منتصف الليل، ووصل عام ١٩٥٥م، أطفأ محمود الأنوارَ ثم أضاءها، ثم انصرَفْنا، وقد نسينا الأملَ في رؤية الفتاتين الشقراوين البيضاوين ذواتَي الشعر المنسدِل الأصفر!
وسمعتُ الصوت الداخلي يهمس في ذهني وأنا عائدٌ بأبياتٍ من الشعر لم أنم حتى كتبتُها، وما زلتُ أذكر مطلعها:
كانت قصيدةً طويلة، وكنتُ قد تجرَّأت على البحور فقمتُ بتغيير البحر فيما بين الفقرات، وغيَّرتُ القافية أيضًا، وأحسستُ أنني كنت ثائرًا لا يعرف بعد أن قام بالثورة أين الطريق! وكنتُ أُفرِّجُ همِّي في تعلُّم العود، وعثرتُ على نوتة موسيقية لمقطوعة «حبي» لعبد الوهاب مكتوبة من سُلَّم «دو ماجير»، وفيها نغمة «فا دييز»، ولكن النوتة تنبه إلى تحويلها إلى «ناتوريل» (أي عادية) في كل مرة! وذهبتُ إلى كمال عبد الرحمن وعزفتُها على البيانو، فكانت رائعة، ولكنني عندما حاولتُها على العود لم أفلح، ولم أعرف إلا بعدَ سنوات طويلة أنَّ المقام ليس كما كُتب في النوتة، وأنَّ نغمة «مي» هي في الواقع نصفُ بيمول (أي تتضمن رُبع النغمة أو ثلاثة أرباع النغمة) مما يجعله مقامًا شرقيًّا!
وفي عُطلة نصف العام ذهبتُ مع المدرسة في الرحلة السنوية التي كانت تُنظمها الوزارة إلى الأقصر وأسوان، وكانت حُلمًا آخرَ من أحلام تلك الأيام؛ إذ ركبنا القطار من «باب الحديد» في الساعة السابعة والنصف مساءً، وتحرك في الثامنة، ووصلنا إلى الأقصر في الخامسة من صباح اليوم التالي بعد أن قضينا ليلةً من التهريج والغناء والرقص لم أشهَدْ لها مثيلًا ولم أكن أتصوَّرُ أنها يمكن أن تحدث، فأخرج الطلبةُ ما في جَعبتِهم من البذاءات، وتبارَوْا في إلقاء النِّكات الفاحشة، وكان يغلبني النعاسُ أحيانًا فأجد مَن يوقظني بعنفٍ لكي أشترك في مسابقةٍ أو مباراة لفظية. وعندما وصلنا قال لنا المدرس إن بَرنامَج الصباح غيرُ محدد، فانطلقتُ وحدي بعد أن وضعت الحقيبةَ في مبنى المخيَّم، وذهبتُ إلى أحد المقاهي لأتناولَ طعام الإفطار، فجاءني بائعُ تحفٍ وتماثيل، وباعني تمثالًا زعم أنه فِرعوني بقرش ونصف، فاشتريتُه، وبعد الطعام اكتشفتُ سرقته!
وعندما عدتُ إلى المخيم، وهو مبنًى ضخم، وجدتُ نُصْحي بقطر يعزف موسيقى «موكب النور» لعبد الوهاب على الأكورديون! كان عزفه رائعًا والموسيقى شجية، وحديقة المخيم بديعة، وسرعان ما عاد الأولاد الذين لا يتعبون أبدًا إلى تقديم الاسكتشات الضاحكة بقيادة عادل مجدي، ثم لعب الكرة حتى الظهيرة، وبعد الغداء بدأ برنامجُ الرحلة.
ما كان أبعدَنا عن رشيد! وما كان أكثرَ اختلافَ ما كنا فيه عن أقاصيصِ سالمة وزبقَّة وسمونة! ولكنني كنتُ أتطلع إلى النيل وأسأل متى تصل مياهه إلى المصب؟ هذه هي جنادلُ أسوان التي يُسمونها الشلَّالات، وهذه هي صفحة النيل المنبسطة، وها هو الماء الذي يأتي على موعد، وعادت إلى وجداني أنغام السنباطي وقصيدة شوقي:
والآن وأنا أذكر اللحنَ بعد هذه الرحلة الطويلة مع الأغنية والقصيدة، أرى كيف لحَّن السنباطي البيتَ بحيث يُبرز عبقرية «التموُّج» في شِعر شوقي؛ فكلُّ تفعيلة (من بحر الكامل) تتماوجُ وحدها في الشطر الأول حتى تأتيَ إلى الكلمة الأساسية وهي «يجري» فتطول نغمةُ «على» ثم تهبط ثم تعلو في «الوفاء» وتعود إلى النَّغْمة الأولى! هل كان شوقي واعيًا بتقسيم التفعيلاتِ الداخلية هنا؟ هل كان واعيًا بحركة «الواوَين» في الشطر الأول في نصف التفعيلة اللتين تحوَّلَتا إلى «ألف» ممدودة في آخر التفعيلتين الرابعة والخامسة؟ لم أكن في ذلك الوقت قد درَستُ الشعر ولا الموسيقى بالقَدْرِ الذي يُتيح لي أن أعرفَ أو أن أحْدِس، لكنني كنتُ أستغرق وحسْبُ فيما حولي، فيتمثَّلني المنظر مثلما أتمثله! ولم أُدرك ما كان يحدث حقًّا حتى قرأتُ شعر وردزورث في إنجلترا، وسمعته يقول كيف كان يُطيل النظرَ أحيانًا في صفحة البحيرة والسحب الساكنة في السماء من فوقها، فلا يدري إن كان المشهد خارج كِيانِه أم داخليًّا في نفسه! كانت تلك تمامًا مشاعري وأنا أرقُب صفحة النيل التي تُشبه البحر الساكن؛ هل هذه هي «الأفكار» التي تسبق اللغة؟
وعندما عدنا إلى القاهرة ظلَّت صور أسوان ماثلةً في مكانٍ ما في نفسي، وكرَّت أيامُ الدراسة سريعًا وأنا «ألهو» بالعود أو أكتب القصص وأتحدث في إذاعة طابور الصباح في المدرسة بالفصحى، وكتبتُ مرة قصة قرأتها على الطلبة في الصباح اسمها «القُلَّة» (لم أكن أعرف أنها فصحى حتى قرأت صحيحَ البخاري)، ولم يكن بها إلا عنصرُ التشويق؛ إذ بدأتها هكذا «رأيتها في غرفة الأساتذة، تقف عند الشباك، ولم يكن يتطلَّعُ إليها أحد، وخالَستُها النظر دون أن يرقُبَني أحد، وكان بي شوقٌ جارف إلى أن أرويَ عطشي منها …» وتعمَّدتُ ألا أُفصح عما يعود إليه الضمير «هي» إلا في نهاية القصة! وضحك الأساتذة، وكان الأستاذ صبري مدرسُ الرسم سعيدًا بطاقتي اللُّغوية، وكان رِضاه عنها يفوق رضاه عن طاقتي في الرسم، وقد كرَّر على مسامعي ما سبق أن قاله مفيد تاوضروس في رشيد من أنني لا أعرفُ كيف أتوقَّف — أي لا أعرف أن اللوحة انتهَت ولم تَعُد تقبل المزيد!
وذات يوم سألني (الدكتور) جرجس الرشيدي عمَّا أنتوي دراستَه بعد التخرج فقلتُ له: الأدب العربي، وقال بأسلوبه الهادئ الواثق: ليه؟ ولم أستطع أن أجيبه. واستمر قائلًا: «هل تريد أن تصبح كاتبًا؟ الواضح مما قرأتُ لك أن لديك موهبةً (وكان قد قرأ مسرحيتين كتبتهما بالإنجليزية وقصة أيضًا بالإنجليزية) ولكنك لن تستطيع أن تُجيد أيًّا من الألوان الأدبية الحديثة إلا إذا قرأتَ الآداب العالمية، وخيرُ وسيلة لك هي إجادة اللغة الإنجليزية. وعليك إذن أن تلتحق بقسم اللغة الإنجليزية!» وعندما ذكرتُ له ما كنت أسمعه عن وجود أجانبَ أو أنصافِ أجانب أو خريجي مدارس أجنبية في القسم لا بد أن يحتلُّوا المراكزَ الأولى قال بالثقة نفسِها: «في الأول بس!» وعلى أي حال سوف تتميزُ عنهم باللغة العربية! وذكرتُ أن الإذاعة حُلم من أحلامي، فقال لي إن حسني الحديدي خريج من قسم الإنجليزي، ومن قبله علي الراعي ومحمد فتحي! وصادف ذلك في نفسي هوًى (خصوصًا أن جمال السنهوري كان قد التحق آنذاك بالإذاعة)، فناقشتُ الأمر مع آخَرين فتضاربَت الآراء، وإن كنتُ في أعماقي أتمنَّى دخول معهد الموسيقى أو كلية الفنون الجميلة، وكثيرًا ما كنت أسير في تلك الأيام في شارع محمد علي، وأتطلَّع إلى الآلات الموسيقية المعروضة، وتحديدًا في محلِّ جميل جورجي، وكان الرجلُ طاعنًا في السنِّ طيبَ القلب، فكان يسمح لي بالجلوس والعبَث بالأوتار، مدركًا رحمه الله أنني لن أشتريَ شيئًا، ومُقدِّرًا مدى شغفي بالموسيقى.
وكان من سِمات «الكبار» في المدرسة «التزويغ»، وهذا لا يعني عدمَ الحضور ولكنه يعني الحضورَ ثم الفرار، إما بالقفز من السور، وإما بالتحايل على الفرَّاش الموكول بالباب (البواب) لقاءَ مبلغ زهيد، وأحسستُ أنني لا بد لي أن «أُزوِّغ» ولو مرةً واحدة تدعيمًا لمكانتي بينهم، ولم يكن «التزويغ» مقبولًا في النصف الأول من العام، ولكن الأساتذة كانوا يتغاضَون عنه في النصف الثاني، وكانت الخطة هي أن يحضر الطالب الحصتين الأُوليَين، فيُثبت أنه حضر في كشوف الغياب ثم يتسلَّل أثناء الفسحة الصغيرة مع مَن يريد من السور الخلفي (أو الباب الأمامي باتفاقٍ سابق مع الفراش)؛ ومِن ثَم قرَّرنا أنا وزميلٌ اسمه محمود القُللي أن «نُزوِّغ» ونذهب إلى السينما، ثم نعود إلى المنزل في موعد الخروج من المدرسة. وقال لي إنه سيتكفَّل بالحديث مع الفرَّاش، وما عليَّ إلا أن أكونَ موجودًا بالقرب من الباب في أول الفسحة، حيث يكون جميع المدرسين قد عادوا إلى غُرَف الأساتذة، وسأجد البابَ مواربًا والفرَّاش متظاهرًا بتناوُل طعام الإفطار فأنسَلُّ خارجًا، وأختفي في أحد الشوارع الجانبية بانتظاره. ونفَّذنا الخُطة بدقةٍ عسكرية ووجدنا أنفُسَنا في طرقٍ خالية، فعبَرْنا شارع نوال، ومنه إلى كوبري الجلاء وأرض المعارض ثم شارع سليمان باشا (طلعت حرب حاليًّا)، ثم شاهدنا فيلمًا ما (لا أذكر عنه أيَّ شيء) وقفلنا في طريق العودة عن طريق العتبة، إذ كان أمامنا ساعتان. ووجدتُ سور حديقة الأزبكية غاصًّا ببائعي الصحف والكتب القديمة والمجلات المصوَّرة بكل اللغات، فوقفتُ أتأمَّلها، بينما كان هو يُلِحُّ عليَّ أن نستأنفَ السير. وأخيرًا يئس مني فتركَني ومضى، واستغرقَتْني الكتب، وكانت أثمانُها تتراوح بين قرشٍ وخمسة قروش، فقضيتُ وقتًا لا أدريه، حتى وجدتُ يدًا تربت كتفي في رفق، فتلفَّتُّ فإذا هو الأستاذ محمد الشيخ، صديق الأسرة، الذي تعرَّفَت عليه والدتي أثناء الحج عام ١٩٥٠م.
ولم يقُل شيئًا ومضى ببسمتِه الهادئة، ولكنني أدركتُ أنه لا بد مُخبرٌ الأسرةَ بما يفعله التلميذ «المجتهد»، وقرَّرتُ أن ألتزم الصمت، وألا أخوضَ في الموضوع أو أتعرضَ له، لا صدقًا ولا كذبًا، وعندما رن التليفون ذلك المساء، وسرَتْ في المنزل الهمهمةُ المتوقَّعة تربصتُ أنظر ما أفعل، ولكن العاصفة مرَّت بسلام، وكان الصمت الذي عُوملتُ به أبلغَ من كل صراخٍ أو غضب.
وعندما عقَدَت وزارةُ التعليم، التي كان على رأسها كمال الدين حسين، مسابقةً بين تلاميذ المدراس على مستوى الجمهورية في كتاب «فلسفة الثورة» من تأليف جمال عبد الناصر، كان النظام هو أن يُعقَد امتحانٌ على مستوى المدرسة لاختيار الثلاثة الأوائل لدخول مسابقة المنطقة، ثم التصفية النهائية. وكان ترتيبي الأول في المدرسة، ولكن امتحان المنطقة كان مُخيِّبًا للآمال؛ إذ كان المُصحِّحون من خارج الوزارة، وكان «مجلس قيادة الثورة» هو الذي أعدَّ نماذجَ الإجابات، وقد أخطأتُ دون أن أدريَ خطأً فاحشًا حين ذكرتُ أفضال محمد علي باشا على مصر الحديثة، وكان ذلك كفيلًا باستبعاد ورقتي من الامتحان؛ إذ كان الممتحنون يعتبرونه خطأً قاتلًا. ولكن أحد أبناء المدرسة فاز بمركزٍ متقدم وهو أحمد علي حسن، وفاز بالمركز الرابع على مستوى الجمهورية، ففاز بمبلغ خمسةَ عشر جنيهًا ونُزهة نيليَّة للأوائل مع الوزير نفسِه.
انتهى العام الدراسي، وتقدَّمْنا إلى مكتب التنسيق الذي كان قد أُنشئ في العام السابق، رغم إصرار والدي أن أدخل كليةَ الشرطة، وبرغم «الواسطة» العُليا التي استعنَّا بها، لم أُقبَل بعد أن اجتزتُ جميع الاختبارات، فيما كان يُسمى بكشف «الهيئة». وما زلتُ أذكر رئيس اللجنة وهو يقول لي: إن درجاتك في العربية والإنجليزية أعلى من المعتاد .. هل أنت واثقٌ أنك تريد أن تصبح ضابطَ شرطة؟ وأجبتُ بالإيجاب، فأردف قائلًا: ولكنني سمعتُ أن والدك يريد إجبارَك على ذلك؟ ويبدو أنني تلعثمتُ فقال لي: «شكرًا .. اتفضل.» ولم أخبر والدي أبدًا بما حدث؛ إذ يبدو أن «الواسطة» قد «ذكرَت» الحقيقة لرئيس اللجنة، فكان ما كان!
في أعماقي كنتُ سعيدًا، بل كنت بالِغَ السعادة. وكان أحدُ مصادر السحر يكمن في الزِّي الرسميِّ للشرطة، وكان سحرُ زِي طلبة «كلية البوليس» كما كانت تُسمى، يتمثل في إقبال الفتيات على لابِسيه، مما أحزنَني بعضَ الشيء، ولكنني عندما التحقتُ بكلية الآداب، وشاهدتُ الجميلات وحادَثتُهن، نسيت كلَّ سحر للزِّي الرسمي، وبدأتُ مرحلةً جديدة حافلة عاصفة في حياتي الأدبية.
٣
كانت أول ريح هبَّت لتُثيرَ الموج في أعماقي هي قصائد «شلي»! كان الكتاب «المقرر» هو «الكَنز الذهبي» الذي جمع فيه بولجريف قصائدَ تُمثل أذواقَ العصر الفكتوري، وهي قصائدُ في جوهرها رومانسية، ونصيب الكلاسيكيِّين فيه محدود. وكان لدينا أستاذٌ اسمه الدكتور شوقي السكري، كان قد عاد لتوِّه من بريطانيا حيث حصل على الدكتوراه في شعر وليم موريس، الشاعر الفكتوري، الذي اشتهر بأفكاره الاجتماعية أكثرَ من براعته الفنية. وكان د. شوقي لا يقول كلامًا كثيرًا عن الشعر نفسِه، بل كان يُلقيه إلقاءً جميلًا فيَسحَرُنا به، وجعل يُلقي القصيدةَ من بعد القصيدة ونحن لا نفهمُ إلا قليلًا. ومِن ثَمَّ عكفتُ على قراءة القصائد بنفسي، وكنت أستيقظ في الفجر كما كنا نفعل في رشيد، لكنني لم يكن عليَّ أن أذهبَ كل يوم في نفس الموعد إلى الجامعة؛ ولذلك اعتدتُ (ولازمَتْني هذه العادةُ حتى اليوم) أن أقرأَ ما أريد تفهُّمَه بعد صلاة الفجر، ويومًا بعد يوم وجدتُني أرى في «شلي» الشاعرَ المثالي، بل وجدتُني أقول ذات يوم لأحد الأصدقاء: «هذا هو الشعر!»
وسرعان ما أفسد علينا المدرسُ متعةَ القراءة والتذوُّق بأن «قرَّر» علينا كتابًا يَصدر في ملازمَ عن الشعر الإنجليزي، يتضمَّن البحورَ، والأشكالَ البلاغية، وتاريخًا موجزًا للشعر الإنجليزي، ثم فقراتٍ محددةً من كتاب «موجز تاريخ الأدب الإنجليزي» من تأليف أيفور-إيفانز (وهو من ويلز). وكان عددُ أشكال المجاز ستًّا وثلاثين، مع شروحٍ لها وأمثلةٍ عليها، حفظتُها كلَّها، ثم نسيتها، وعدت إلى الشعر! مِفتاح الشعر هو الإنسان والطبيعة إذن! وفي نوفمبر كتبتُ أبياتًا أُحاكي فيها فنَّ شلي:
ونظرتُ إلى الأبيات في دهشة، وربما لم أدرك كلَّ الإدراك أنني أخرج بهذا اللون من التأليف، غير المنتظم في عدد التفعيلات، عن عمود الشعر العربي، ولكنها كانت أبياتًا ذاتَ وَقْعٍ يُرضي أذني، ثم نظرتُ فيها ثانيًا فلم أجد الصدقَ الذي أوصاني أستاذُ اللغة العربية به، ولم أجد نظامًا مُحكَمًا للقافية، فتوقَّفت. وعندما عرَضتُ الأبياتَ على صديقي أحمد السودة لقيتُ منه كثيرًا من التشجيع. كان قد التحق بكلية الحقوق ولكننا ازدَدْنا قُربًا، وتوثَّقَت علاقتنا، وكنا (وما زلنا) نتزاورُ ونتبادل الكتب، وإذ ذاك ألمحَ لي أنني أفعلُ في شعري ما افتقدَه العقاد في شعر شوقي — وكان يعني الصدقَ طبعًا! هل أنا صادقٌ إذن؟
كان الدكتور عبد العزيز الأهواني (رحمه الله) هو الذي يُدرس لنا مادة اللغة العربية، وكان الموضوع هو «الشعر المعاصر»، وقد بهرَتْني قدرتُه على الحديث في موضوعه مباشرةً ودون «إنشاء» ساعةً متواصلة، هي طولُ المحاضرة، بالفُصحى التامةِ السليمة، وبهرني وضوحُه ودقةُ تعبيره. لم يكن يحمل كتبًا، بل كان يضع يدَيه أمامه على منضدة الأستاذ ويتكلَّم! وتمنَّيتُ في أعماقي أن أستطيع ذلك يومًا ما، وقد حقَّقتُ مَأرَبي إلى حدٍّ ما عندما عُدتُ من البعثة عام ١٩٧٥م وبدأت أُدرِّس مادة الشعر الإنجليزي، فلم أكن أحملُ كتبًا، وعندما طلبَت مني الدكتورة فاطمة موسى، رئيس القسم آنذاك، أن أُلقي محاضرة عن قصيدة المقدمة للشاعر وردزورث، وأعتقد أن ذلك كان عام ١٩٧٧م، جلستُ نفس جلستِه، وتحدثتُ بالإنجليزية حديثًا متواصلًا مستفيضًا ساعةً كاملة، فأوفيتُ الموضوعَ حقَّه بوضوحٍ ودقة ما زال البعضُ يذكرونني بها، دون أن أدريَ أنني كنتُ أحاكي الدكتور الأهواني!
وذكر لنا الدكتور الأهواني كتابًا للعقاد عُنوانه «شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي» باعتباره من المراجع المهمَّة، وسرعان ما اشتريتُه وقرأته، ولكنني أحسستُ أن العقاد يتَجنَّى على شوقي. كيف يقطع الإنسان بأن شاعرًا ما كاذبٌ أو صادق في شعره؟ هل فنون الصنعة تنفي الصدق؟ وهل كان المتنبي أكبرَ الكذَّابين؟ ما المعيار؟
ودرسنا الروايةَ الطويلة المكتوبة نثرًا، ودرَسْنا مسرحيتَين لشكسبير، وكثيرًا ما كنتُ أتألم من صعوبة اللغة القديمة، فكانت عمليةُ القراءة ذاتُها مرهِقةً مُضنية، وسمعتُ أن جامعة عين شمس (الجديدة) تتبع منهجًا مختلفًا؛ إذ يدرس الطلبة اللغة المعاصرة أولًا فإذا أَحكَموا معرفتها تحوَّلوا إلى اللغة القديمة، وأحسستُ بحسدٍ دفين، لكن ما السبيلُ إلى الاعتراض؟ وكان امتحان الفصل الدراسي الأول في مواد التخصُّص الرئيسية وهي الرواية والدراما والشعر، واللغة العربية. وعندما جاء موعدُ الفصل الدراسي الثاني كنتُ أحس أنني لا أريد الاستمرار! ولكن الدكتور رشاد رشدي كان قد عاد من أمريكا بعد منحةٍ دراسية لمدة عام؛ للاطِّلاع على مذاهب النقد الحديث، وبدأ يُعلمنا هذه المذاهبَ بأسلوبٍ مبسَّط ساحر، فأنساني همومَ الفصل الأول، وهموم اللغة القديمة، ومع أنه لم يكن وسيمًا بالمعنى المفهوم فقد كانت لديه قوةُ اجتذاب الجنس الآخر، ربما بسبب سَلاسة منطقه وطاقته على الإقناع، وكان صَبورًا هادئ الأعصاب وذا حنكة في التعامل مع الناس لا يُجاريه فيها أحد!
وكان ذلك دافعًا لي على الاستمرار، خصوصًا أننا أصبحنا شبهَ متفرِّغين لمادة النقد الأدبي، فالموادُّ الأخرى جميعًا يسيرة (اللغة الفرنسية، واللغة اللاتينية، والمقال والنحو، وأعمال السنة). وكان في السنة الرابعة آنذاك تلميذٌ نابه هو أحمد مختار الجمَّال (دمياطي)، وقرَّر أن يُصدر مجلة حائط لقسم اللغة الإنجليزية أسماها «أضواء» (وكنتُ أعاونه في كتابتها ونشر كاريكاتير من رسمي أنا في كلِّ عدد)، بإشراف الدكتور شوقي السكَّري وكانت الرحلات شبهَ أسبوعية؛ إما إلى الأهرام أو القناطر الخيرية أو إلى الإسماعيلية — بقيادة شوقي السكَّري أيضًا، وكان نادي الخريجين المصري (الذي أنشأه خرِّيجو قسم اللغة الإنجليزية الأوائل) يُمارس أنشطةً علمية وثقافية — برئاسة شوقي السكَّري كذلك، واتضح لي فيما بعدُ أن شوقي السكَّري كان قد عاد من البعثة في الوقت الذي سافر فيه رشاد رشدي إلى أمريكا الذي كان رئيسًا للقسم (أو قائمًا بأعمال رئيس القسم؛ لأنه كان أستاذًا مساعدًا)، فانتهز شوقي الفرصة، وعمل على اجتذاب أكبرِ عددٍ من الطلبة إليه، والقيام بأكبر قدرٍ من «النشاط» تمهيدًا لمنافسة رشاد رشدي وربما — إذا ترقى هو الآخر — لرئاسة القسم بدلًا منه!
وكنا نسمع عن ذلك ولا نراه، ثم أعلن فريقُ التمثيل بالكلية عن اختيار بعض العناصر القادرةِ للعمل في حفلٍ مسرحي كبير، وعقَد أقطاب الفريق القديم امتحانًا للجدد، وكان الأقطاب هم أحمد زكي (المخرج) الذي كان في السنة الرابعة بقسم الاجتماع، ومصطفى أبو حطب (رحمه الله)، وكان في الرابعة بالقسم الإنجليزي، وكلاهما على وشك التخرج من معهد الفنون المسرحية، ونبيلة سيد أحمد (٣ إنجليزي) ونبيلة أندراوس (٢ إنجليزي) ونوال راتب (٢ إنجليزي). وتقدم للامتحان كثيرون رسَبوا جميعًا ومن بينهم حسين الشربيني (اجتماع) والضيف أحمد الضيف (رحمه الله) (تاريخ) وأنا! وكان المرحوم المأمون أبو شوشة طالبًا منتسبًا في قسم الإنجليزي، وكان يُشاع أنه لا يزال طالبًا في كلية العلوم، وأنه يرفض التخرج؛ خشية توقُّفِ دَخْلٍ كان يأتيه طالما كان طالبًا فإذا تخرَّج انقطع. وفي أول اجتماع للفريق، كان يجلس إلى جانبي شابٌّ نحيل عَرَّفني بنفسه وحذَّرَني من الاقتراب منه كي لا تُصيبني «العدوى»، وسألته عن مرضه فقال إنه مرض القراءة! وكان اسمه يحيى عبد الله — رئيس قسم الدراسات اليونانية واللاتينية حاليًّا. وارتفعت صيحاتُ الاحتجاج من الراسبين في امتحان التمثيل، فوعدَنا أحمد زكي بأن «يشوف لنا أدوار»، ثم دخل رشاد رشدي وتحدث عن خُطة الفرقة فقال إنه ترجمَ مسرحية «الزواج» من تأليف جوجول، وأعَدَّها للتمثيل بالعامية المصرية، كما ترجمَ مسرحية «هرناني» لفيكتور هوجو، و«المفتش العام» لجوجول أيضًا، وقال: اختاروا ما تريدون، وخرج.
واستقر الرأي على المسرحيتين الأولى والثانية، وبدأنا التدريبات، كانت الأولى بالعامية، والثانية بالفصحى، وكان المخرجُ هو كامل يوسف، من خرِّيجي قسمنا، ويعمل مخرجًا بالإذاعة. وكان يعاونه مخرجٌ مساعد شاب اسمه يوسف مرزوق. وكان الموعد هو الثانيةَ ظهرًا كلَّ يوم، للقراءة، ثم بعد أسبوعين تبدأ «الحركة»، ثم ننتقل إلى المسرح! وقضينا ثلاثةَ أسابيع في القراءة دون الاتفاق على منهج محدَّد في الأداء، فكان كامل يوسف يقول شيئًا، فإذا غاب قال مساعده شيئًا مختلفًا، فإذا كنا دون مخرج قال أحمد زكي شيئًا آخرَ تمامًا! وقال لنا أبو شوشة إن هذا أكثرُ مما يُحتمل، والأفضل أن نتظاهر بالطاعة، ثم نفعلَ ما نريدُ على خشبة المسرح، ومِن ثَمَّ دعا الفريق إلى السينما في صباح اليوم التالي، وكان الفيلم هو «ذهب مع الريح»، وكان طويلًا، فلما عُدنا كان كامل يوسف يُرْغي ويُزبِد، وهدَّد بالتوقف عن العمل! ووجَّه إليه أبو شوشة تهديدًا مستترًا ردًّا على ذلك، قائلًا: قطعًا لا تريدني أن أحُلَّ محلَّك الآن! وفهم كامل يوسف مَرْماه وعُدنا للتجارِب المسرحية.
وكانت تجرِبةُ وقوفي على المسرح (بعد تحذير عبد المنعم مدبولي) مخاطرةً كبيرة. كما أنني لم أكُن واثقًا من منهج الأداء، وقبل الدخول إلى المسرح بُحْتُ لأبو شوشة بما كان يُقلقني، وكان يلعب هو دورَ البطولة، فقال لي لا تقلق! جرِّبْ حركةً جديدة وانتظر ردَّ فعل الصالة، فإذا نجحت وسمعتَ الضحكَ أو التصفيق، (وكان الأول يُسمى إفِّيه بتشديد الفاء والألف الممالة، والثاني يُسمى سُوكْسِيه) فالتزم بها طول العرض!
ولأول مرة في حياتي كنتُ أمارس الخروج على النص! لم أقُل كلامًا من عندي، ولكنني فعلتُ شيئًا من عندي — شممتُ وردةً وضَعها أحدُ الخُطَّاب في عروة السُّترة في مشهدٍ يضمُّ جميع الخُطَّاب في منزل العروس! لم أكن أتصوَّر أن هذا مضحكٌ إلى هذا الحد، ولكني كنتُ أقاطع أحاديث الجميع وحركتهم بشمِّ الوردة، وكانت النتيجةُ هي أنني كنتُ بمجرد دخولي إلى المسرح يصمتُ الجميع ترقبًا لما سأفعل، وكنتُ في كل مرة أفعل شيئًا مختلفًا فتتصاعدُ ضحكاتهم ثم يُصفقون! وعندما انتهى العرض ودخلتُ إلى المسرح لتحيةِ الجمهور تأكد لي أن الجمهورَ كان سعيدًا!
وفي نهاية الحفلة عُدنا إلى غرفة الملابس، فاكتشفتُ «سرقة» ورقةٍ مالية بعشرة قروش من جيبي، وأحسستُ بحزن شديد، لا لأنني لن أستطيعَ العودة في الأتوبيس إذ كان عندي اشتراكٌ شهري، بل لأنني كنتُ وعدت أحدَ الأصدقاء بأن أدعُوَه إلى «تحية ما» بعد العرض! وذكرتُ ذلك لأبو شوشة فأعطاني ورقةً مالية بخمسة قروش وفَّت بالغرَض وانتهت الليلة. لم أنسَ شهامته أبدًا، ولا أنسى رفْضَه أداء الدَّين، وقد زاد اقترابُنا من بعضنا البعض، وكثرَت لقاءاتنا حتى بعد أن عمل في الإذاعة في تقديم برنامج اسمه «صواريخ» حتى توفاه الله.
٤
عندما كنا في الأورمان في العام السابق، كانت تقع أمامَ الفِناء الخلفي للمدرسة عمارةٌ من أربعة طوابق، وكان في الطابق الرابع فتاةٌ من المُحال رؤيةُ ملامحها بوضوح؛ لبُعد المسافة، وكانت تقف كثيرًا في الشُّرفة أو النافذة وعيونُ الجميع معلَّقةٌ بها، وكلهم يتصورُ أنها تعرفه وتَعنيه بحركاتها، واقفة أو جالسة، فإذا لوَّحَت بيدها، فكلٌّ منهم عاشقٌ ولهانُ تلقَّى إشارةَ القَبول. وقد نسج الطلبةُ حولها الأساطير، وعندما فاتحتُ نبيل رضا في الموضوع قال لي إنه هو المقصود بالإشارة، وأمَّن على كلامه ابنُ خالته علاء (الذي هاجر إلى ألمانيا)، ولكنَّ أخاه الأكبر محمد اعترض، ومِن ثَمَّ ترَكْنا الموضوع دون حسم. وذات يوم كنتُ أزور يحيى يوسف (المستشار بمجلس الدولة حاليًّا) وانتهى موعد الزيارة لوصول أستاذ اللغة الفرنسية «يوحنا ويصا فلسطين» الذي كان مدرسًا أولَ بالمدرسة، فخرجتُ بعد الغروب بقليل، وبدلًا من أن أعود إلى المنزل سلكتُ شارع المدرسة، فلاحظتُ أن بعض راكبي الدراجات يَحُومون حول ذلك المنزل، وتصوَّرتُ أنهم يتسابقون، ولكنني تعرفتُ على أحدهم، وهو زميلٌ لنا اسمه وجيه صلاح الدين (أصبح لواءً في الشرطة فيما بعد). ورغم عجبي ودهشتي تركتُ المكان لأتمتَّع برؤية الغروب في الحقول.
كان الموقف يُذكرني بالمعلمات في مدرسة رشيد المقابِلة لمنزلنا. ولكن عام خامسة أدبي لم يدَعْ لي مجالًا للتفكير في أيٍّ منهنَّ، وكأنما غرَبَت صُورُهن مع صور التلال والنخيل، وعندما التحقتُ بكلية الآداب ووجدتُ الزميلات يُحادثنني دون خشيةٍ أو تردُّد، زالت مخاوفي من هذا الشيء الغامض، هذا الذي يتحدث عنه الشعراءُ وأُحاكيهم فيه، وذلك السرُّ الغريب الذي يقضُّ مضجعَ إبراهيم كيرة! كنتُ دائمًا أرى نفسي مختلفًا، ولم أشأ أن أكون مثلَ الجميع في هذا فأفكِّر في عينَي فُلانة وكلامِ عِلَّانة! ولكنني ذاتَ صباح من أيام نوفمبر ١٩٥٥م، أثناء درس من دروس الرواية، أحسستُ أن عينًا ما تُراقبني، فتلفَّتُّ فإذا وجهٌ صَبوح، وإذا ببسمةٍ صافية تُنير الصباح! وابتسمتُ ردًّا على البسمة، كأنما أقرُّ بأنني مثلُ الآخَرين، وبأنني «يا هندُ من لحم ودم»!
لم يحدث شيءٌ يدعو للابتسام. لم يكن في الدرس قطعًا ما يدعو للفرح؛ فالدكتورة أنجيل بطرس سمعان تُعدد أنواعَ الروايات وتُحدد خصائص كلِّ نوع، والدقة لازمةٌ في رصدِ هذه الخصائص! فما الذي دعا الفتاةَ للابتسام؟ وما اسمُها؟ وما هذا الزلزال الذي يهزُّ كِياني هزًّا فيمنعني من التفكير ومِن الكتابة ومن الحركة! تجمَّدتُ دون أن أجرؤَ على النظر ثانيًا خشيةَ أن أراها مُقطِّبة. وقلتُ في نفسي لعلها أخطأتْ وكانت تبتسمُ لغيري، أو لعل بسمتها حركةٌ لا إرادية لا معنى لها، أو لعلها لم تبتسم أصلًا وكان ما رأيتُ وهمًا! وتظاهرتُ بالكتابة، واستغثتُ بالشعر فأبى واستعصم، وشعرتُ كأنَّ سحابةً هبطَت على الكون من مكانٍ لا أعرفه فاكتنفتني، ووددتُ لو أن لي أصدقاءَ أشكو إليهم حالي، وظللت في مكاني حتى انتهى الدرس وانصرف الجميعُ وأنا جامدٌ ساكن.
وأُهرِعْتُ إلى زميلي جلال نصيف الذي كان يعمل ليلًا في شركة مقَّار، ويأتي في الصباح إلى الجامعة، وكان وسيمًا وله شاربٌ ويهوى الموسيقى مثلي، فقال لي «قاعد والَّا ماشي؟» وفي شِبه ذهول قلت له أُفكر في عبد الوهاب — وقال «بالمناسبة جبت لك نوتة «المماليك» — سيكا تركَزْ على سي بيمول …» ثم أخرجَ من حقيبته ورقةً تتضمن نوتة موسيقية وأعطاها لي، وعرض عليَّ الذَّهابَ إلى البوفيه، ووجدتُني أسيرُ ذاهلًا، وعندما جلسنا قلتُ له إنني أفكر في أغنية «مقادير»، فنظر إليَّ غيرَ فاهم فقلتُ له المطلع:
فضحك وقال: وهل هذه صعبة؟ وخفَّتْ حدةُ ذهولي وبعد قليل شكرته وانصرفت.
لم أكن في ذلك اليوم قادرًا على الحديثِ مع أحد، كنتُ أسيرًا لتلك البسمة، أحيانًا أحس بتحليقٍ لم أعهده في أجواء غريبة، وأحيانًا تغمرُني الفرحة، ثم أعود أناقش الموضوع، وذكرتُ ما قاله الأستاذ كمال نايل مدرس الفلسفة في المدرسة عن عذاب المحبِّ الذي لا يستطيع أن يتذكرَ وجه المحبوب، وكان قد أعدَّ رسالته للماجستير في علم النفس (بإشراف الدكتور يوسف مراد) بعنوان «الغرضية في السلوك الإنساني»، ولكنني كنتُ قادرًا على استدعاء بَسمتها في كل لحظة، بل كانت البسمة ثابتةً لا تُبارح خيالي. وتنبَّهت إلى أنني أُناقش الأمر باعتباره لونًا من الحب الذي يتحدثُ عنه الشعراء، وأن البيت الذي أتى بقصيدة شوقي هو «وما هو إلا العين بالعين تلتقي!» — وانثالت أبيات شوقي في ذهني:
وعدتُ إلى الشوقيات أرى فيها ما قاله العبقريُّ الذي لم يُعجب العقاد، دون أن يفتحَ عليَّ الله ببيتٍ واحد يُناسب المقام!
أما ما حدَث بعد ذلك فمألوفٌ في هذه الحالات؛ إذ شاعت البسمات في قسمنا، وشاع تبادلُ الحديث، وبعد أن تعرَّفنا وتوثَّقَت علاقاتُ الزمالة زال السحرُ الذي أتى بمشاعر، أو أحيا مشاعر، لم تكن في الحُسبان! كان الحال يختلف عن رشيد، فنحن نتحادث كلَّ يوم، ونجلس في البوفيه لتناوُل الشاي والتعليق على الدروس، وإن كانت لحظةُ البسمة قد رسخَت في نفسي إلى الأبد (على حد تعبير جيمس جويس).
وعندما عُدنا إلى رشيد في الصيف، أحسستُ بأنني كَبرْتُ عشرين عامًا! لم أكن قد تجاوزتُ السادسةَ عشْرةَ إلا بشهور، ولكنني كنتُ أشعر أنني قد تجاوزت سنَّ الرشد، وبلغتُ مبلغ الرجال وتجاوزتُه! وكان الزملاء يسألونني عن القاهرة فلا أقول الكثير، بل كنتُ أفضِّل الاستماع. وذات يومٍ قص عليَّ أحدُ «الإخوان» السابقين قصةَ إدراكه معنى الحب، فقال إنه كان يسكن في الطابق الأرضيِّ بإحدى العمارات بالإسكندرية، وكان يتبادلُ النظرات مع فتاةٍ في الطابق الأعلى (الأخير) وكانا كثيرًا ما يتبادلان التحية دون أمَل في اللقاء، أو أمَل في علاقة؛ فهو تلميذ ريفي فقير في كلية الزراعة، ومصيره إلى الحقل مع والده وإخوته، وهي ابنة صاحب العمارة، حديثة الملبس والكلام (ألافرانكه)، وذات يوم دعَتْه إلى الصعود إليها في المساء، فقلت له مُداعبًا: «سعيتُ إليها بعدما نام أهلها» ولم يفطن إلى مصدر بيت الشعر فردَّ بحماس: «لأ .. كانوا صاحيين!» — «أكمل»! فقال إنه عندما وصل إلى الطابق السادس شعَر بخفَقانٍ شديد في قلبه، وبحرارةٍ ورجفة، فقال: «هذا هو الحب!» وكان من العبَث إقناعه بأن هذه المظاهرَ لها أسبابٌ أخرى غير الحب، ولكنه أكَّد لي أنه الحب، وأنه استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ونزل مسرعًا خوفًا من الحب!
كان معظم زملائي في المدرسة الرشيدية قد سبقوني بعامٍ إلى الجامعة، وكانوا جميعًا في الإسكندرية، فجعل كلٌّ منهم يحكي عن أحوال الدراسة والحياة بعيدًا عن رشيد، وكان معظمهم من الأوائل، خصوصًا أحمد قادوم الذي كان يحصل على تقدير ممتاز في جميع المواد في زراعة الإسكندرية، وكنا نضحك من عدم اهتمامه بالمعلومات العامة، وكان يُسِرُّ إليَّ أنه ما زال على عهده لا يقرأ الصحفَ ولا يستمع إلى الراديو ولا يخرج، وأن هؤلاء ضالُّون إذ يُضيعون أوقاتهم فيما لا يُسمن ولا يُغني من جوع. وسألتُ عن بعض الزملاء الذين لم يُوفَّقوا في دراستهم فعلمتُ أنهم تركوا رشيد إلى العمل في الإسكندرية، وعلم معظمُهم في شركة مياه الإسكندرية؛ لأن رئيس مجلس الإدارة كان من أسرة مرزوق في رشيد، وكان يعطف على أبناء البلد.
وفي الصيف شَهدتُ أول حادثة قتل في حياتي. كان أحدُ القفَّاصين واسمه «ريشة» موتورًا من بائع كتاكيت (فراريج) اسمه «الزَّرْبون»، وكان «الزربون» يطوف راكبًا حِمارَه، وعلى الجنبين قفصان فيهما الكتاكيت، وينادي «المِلَاح ياللي تربِّي المِلَاح!» في طولِ رشيد وعَرضِها، ويبدو أن خلافًا ما وقع بين بائع أقفاص (هو أبو ريشة) وبين الزربون فقرَّر ابنُه «ريشة» الانتقام. وذات يوم أثناء دخول سينما رشيد في الدرجة الثالثة، وأثناء الزحام قام ريشة بطعن الزربون بمُدْيةٍ أو بسكِّين، وكنا أنا والأصدقاءُ نرقب المشهد، وعلى الفور أسرع الجميعُ بالمصاب إلى المستشفى، وبالمعتدي إلى سجن المركز. كانت الطعنة نافذة، وكان الصراخ شديدًا، وجاء الفلاحون من وراء الكثبان الرملية لِيَشهدوا ما حدث، ولإبلاغ الأسرتين.
وفي الصَّباح ذهبنا إلى المركز فسمعنا عجبًا! لقد جاء والدُ المعتدي بُعيدَ القبض عليه ومعه «عزوة» (أبناء وعددٌ من القفاصين) ودخلوا ساحة المركز، وأتى والدٌ بابنه ولامه لومًا شديدًا على رُعونته، وعلى ما أبْداه من طيش، وصرَخ في الشاويش النبطشي (النوبتجي) قائلًا: «ده ابني! وأنا اللي أربيِّه! إذا كان غلط يبقى أنا اللي أعلِّمه الأدب! يالله ع الدار يا ولد! وَقْعتك سودة!» وجرَّ ابنه بين ذهول الحاضرين (كان الضابطُ غائبًا ليلةَ الخميس) وانطلق الجميعُ بالولد خارج السجن!
ولكن أين ريشة؟ وجاءت الإجابة: أبوه يرفض تسليمه، وقال أحدُ الموجودين «أصل الزربون فيه نَفَس، وعملوا له عملية، والشاويش خايف يروح للبيه الضابط البيت يصحِّيه!» وانصرفنا بين مُصدِّق ومكذِّب، وعلمنا بعد الظهر أنه كان في الإسكندرية كعادته في «الويك إند» (!) إذ نادرًا ما يحدث ما يستدعي بقاءه في رشيد، وعندما جاء يومُ السبت ألقى الضابطُ بنفسه القبضَ على ريشة (وكان الزربون قد تُوفِّي) وقام بترحيله بنفسه إلى الإسكندرية!
كان صيف ١٩٥٦م ساخنًا، بعد تأميم شركة قناة السويس، ولكن الناس في رشيد وكنا في سبتمبر، كانوا ما يزالون يعيشون في حياتهم بعيدًا عن الأحداث العامة. وأذكر أننا كنا وزملائي نتنزَّه في الطريق الزراعي بين كثبان الرمال فشهدتُ كوكب المريخ بلونه الأحمر القاني يميل للغروب، وكنت أحبُّ الفلَك حبًّا جمًّا، فقلتُ لهم إن هناك أسطورةً تقول إنه كلما اقترب كوكب المريخ في فلَكِه البيضاوي من الأرض تقوم الحروب؛ ولذلك أسماه اليونان مارس إله الحرب! وأن ذلك يحدث كل ١١ سنة، وأنه الآن في أقرب نقطة إلى الأرض، ووقفنا نتأمَّل الكوكب الأحمر، فالجوُّ الصافي في رشيد يساعد على رؤية الكواكب والنجوم بوضوح، وضحك أحدُنا قائلًا: معنى هذا أن تحدث حرب عام ١٩٥٦م .. وعام ١٩٦٧؟ ولم أقُل شيئًا، وانصرفنا، ثم عُدتُ إلى القاهرة.
٥
تخرج أحمد مختار الجمَّال، وعمل بالخارجية، وأورثني مجلة الحائط «أضواء». كانت تتكوَّن من ثلاث صفحات فولسكاب متوازية، وينشر فيها كلَّ ما يُهم طلبةَ القسم ولكن باللغة العربية، وكانت تصدر أي تُعلَّق صباحَ الإثنين، وكانت تنشر أيضًا بعضَ الإنتاج الأدبي من شعرٍ وقصص، إلى جانب الكاريكاتير الذي كنتُ أحتكر رسمه. ومن خلالها عرَفتُ طلبة القسم في السنوات السابقة واللاحقة، وكنتُ أنشر صورَهم وأخبارهم (مَن سافر ومَن تزوَّجَت!) ثم كوَّن زميلٌ عزيز لي اسمه ناجي رياض أول أسرة من نوعها، وأسماها «سراباند»، وكان رائدها هو الدكتور سعد جمال الدين، وكانت الأسرة تقوم برحلات وتُقيم حفلات، كانوا يُسمونها حفلات السمَر آنَذاك، ولكننا لم نكد نبدأ حتى وقَع العدوان الثلاثي على مصر. والغريب أن الدراسة لم تتعطل إلا فترةً محدودة، بينما اندفع كثيرٌ منا إلى التطوُّع، وكان مركز التجنيد في المدينة الجامعية، وكان التصنيف يستندُ إلى المعرفة السابقة بحمل السلاح، ولما كنتُ ممن سبق لهم التدريبُ في رشيد وفي الأورمان، فقد أتممتُ الإجراءات بسرعة، وتلقيت بندقية «لي أنفيلد» عتيقةَ الطراز، وبعد يومين فهمتُ أن الهدف هو الدفاع المدني لا الحرب، وفي اليوم الثالث، سرَّحوا الجميع!
وانطلقت أهيمُ على وجهي كلَّ يوم في شوارع القاهرة، ملتهبَ الحماس متَّقدَ المشاعر، ولكن الناس كانت هادئةً تعيش حياتها اليومية، دون تغيير يذكر باستثناء صوت جلال معوض وهو يذيع البيانات العسكرية، وأم كلثوم وهي تقول «والله زمان يا سلاحي» ونشيد «الله أكبر»! وكان من أبناء خُئولة نبيل رضا شابٌّ رقيق اسمه عز الدين فهمي عبد الخالق، وكثيرًا ما كنتُ أزوره في المنزل أو أتجهُ معه إلى معهد الموسيقى العربية، وقلتُ له إنني أريد أن أشتريَ عودًا، فقد برَّح بي الشوقُ إلى الموسيقى. فقال إنه يعرف صديقًا اسمه مدحت الرشيدي، وإن أباه يملك دكانًا لبيع الآلات الموسيقية، ولعله يُساعدنا. لم يكن معي سوى جنيهٍ ونصفِ جنيه اقتصدتُها من مصروفي. فذهبنا إلى شارع محمد علي حيث الدكان، ولكن مدحت قال إن أرخص عود بثلاثة جنيهات، وكذلك قال جميل جورجي، ومِن ثَمَّ اتجهنا إلى محلٍّ لا نعرفُ له وصفًا بسبب ما ترك الدهرُ عليه من آثار البِلَى ولم نكن على ثقةٍ إن كان مفتوحًا أم مغلقًا. وطرَقْنا الباب، وانتظرنا، وطرَقْنا ثانيًا، وأخيرًا فتحه رجلٌ هَرم، لا شك أنه كان مريضًا، فرحَّب بنا، وذكرنا له حاجتنا فرحب وقال اختاروا ما شئتم. وتناولتُ عودًا عاطلًا من الزخرفة والزينة فضبطتُ الأوتار وهو يَرمقُني، ثم بدأتُ أعزف التقاسيم التي أستعين بها في ضبط الأوتار، وهي مقدمة فريد الأطرش (القديمة) لأغنية «أول همسة»، وكانت ويا للعجب من مقام الكُرد مع أن الأغنية نهاوند! وسألنا محمود علي (وكان هذا هو الاسمَ الموجود على لافتة المحل) عن ثَمنه فقال ثلاثة جنيهات. واحتجَّ عز بأن العود عاطلٌ فقير، فقال: لن تجدا ما هو أرخصُ من ذلك. وغلَبني الحزن ولكنني مضيتُ في العزف، فغيرت المقام إلى الحجاز فاحتجَّ قائلًا «خليك في الكرد!» وعدتُ إلى الكرد وظللتُ أعزف وعز يسمع ويرقب وجه الرجل الذي كان خاليًا من أي تعبير، ثم نهض عز، وأومأ إليَّ أنْ هيا بنا، وعندها قال الرجل: عشان خاطركم باتنين جنيه. وقلت له يا عم محمود! أنا قبلت، ولكن كل ما في جيبي هو جنيه ونصف، وأعدُك أن آتيَك بالنصف الباقي حالما يتيسَّر لي! وغَمغمَ الرجل، لكنه لم يتكلم، ومدَّ يده فوضعتُ فيها النقود، وخرجنا ونحن نعجبُ منه. وعندما دارت الأيامُ وذهبت أُسدِّد الباقيَ كان المحل مغلقًا فسألتُ أهل الحي فقالوا لي «تعيش انت!» فقصصتُ عليهم القصة، فقالوا أعطِ النقود لأرملة المرحوم «حسن أتله» الممثِّل البدين، وهي تتولَّى توصيل المبلغ إلى مستحِقِّيه، وفعلتُ ذلك.
وكان «حضور» العود إلى المنزل حدَثًا ذا مذاقٍ فريد؛ فقد أحيا في نفسي احتضانَ عبد الوهاب للعود في فيلم «يوم سعيد»، وبُكاءه عليه في «يحيا الحب»، وكان ما ارتبط بالعود في خيالي من ألحان الشعراء وعالمها السحري، فكان مَلاذي وجَنَّتي، وبدأتُ أتردَّد على عز في منزله القريب من منزلي ليُساعدني في فكِّ طلاسم الموسيقى الشرقية، وكان يدرس آلة الكمان، فكنَّا أحيانًا نعزف معًا أو نناقش إمكانية «تصوير» بعض الألحان؛ أي عزفها من مكان آخر لتناسب صوتَ المُغنِّي، والصعوباتِ الناشئةَ عن التصوير، خصوصًا مقام «البيات»، أما عندما كنتُ أذهب إلى المعهد، فكنت مثل الذي دخَل بنفسه إلى عالم خيالي لا يدري إن كان يستطيع تصديقَه أم تكذيبه.
رأيت «أنور منسي» عازف الكمان الأشهر، الذي يعزف مقدمةَ أغنية «الفن» والذي ظهر في فيلم «غزل البنات» وهو يعزف «الصولو» في أغنية «ماليش أمل». وذات يوم ونحن جالسان في «البوفيه» دخلَت أم كلثوم! كنتُ كمن شاهد آيةً من عندِ الله سبحانه وتعالى! تلفَّتَتْ ثم حادثَت أحدَهم وخرجَت، وتهامسَ الموجودون: البروفة! وجَمُدتُ في مكاني حتى أومأ إليَّ عز أن «قُمْ!» فنهضنا واسترقنا السمعَ إلى بروفة الأغنية الجديدة، وكان في الفرقة سبعةَ عشَر عازفًا للكمان، وصوت أم كلثوم يَطْغى عليهم جميعًا!
كان الليل لا يكفي للشعر والموسيقى، والنهار يَضيق بدروس اللغة الإنجليزية! كان للمجلس البريطانيِّ مَقرٌّ في شارع عدلي، وكنتُ أتردد على المكتبة فأنقل آراء النقَّاد الإنجليز في الروايات التي أدرسها في كشاكيل ضخمة. وأظل في المكتبة حتى موعدِ الإغلاق ثم أذهب إلى المعهد، ثم أعود في ساعةٍ متأخرة فأصحُو في الفجر! وبدأَت اللغة الإنجليزية تكشف أسرارَها لي، فلم أعُد أُعاني من الصعوبة القديمة في الكتابة، ثم دخل إلينا الفصلَ ذات يوم أستاذٌ عاد لتوه من إنجلترا هو المرحوم الدكتور محمود ماهر الذي انتهى نهايةً فاجعة لا بد لي من روايتها!
كان الدكتور ماهر يُدرِّس لنا مادة الدراما، وكنتُ مبهورًا بهذه المادة؛ إذ كنا تَخطَّينا «المقدمات» وبدأنا الغوصَ في دراما القرنَين السادسَ عشر والسابع عشر، وكان يُقدِّس «ألاردايس نيكول» الباحث البريطاني في الدراما، ويبدو في سلوكه وكلامه غائبًا عن العالم المعاصر، مستغرقًا فيما يقرأ وفي أفكاره، وكانت له أحيانًا ملاحظاتٌ تَفيض بالمرارة ويصعب تفسيرها. سأله أحدُنا ذاتَ يوم عن «هامليت» وكيف يمكن أن يكون والدُ «هامليت» عالمًا بخيانة زوجته له مع «كلوديوس» (عم هامليت)، وكيف يقول إنها ضالعةٌ مع عشيقها في قتل زوجها؟ وأردف السائل: الأرجح أنه كان يجهل ذلك، إذا كان حدث، وإلا لكان قد وضع حدًّا لتلك العلاقة الآثمة! وضحك الدكتور ماهر ضحكةً فيها ألم، وقال بإنجليزيةٍ رفيعة: «وكم من زوج يعرفُ ويسكت! ماذا عساه فاعل؟ خصوصًا إذا كان يحبُّ زوجته ويكرهُ فِراقَها!» وعندما حاول السائلُ الاعتراض هَبَّ فيه الأستاذ صائحًا: وماذا تعرف أنت عن ذلك؟ انتظِر حتى تتزوجَ امرأة جميلةً تُحبها، وسوف تصبر في ألم!
وعلمنا بعد ذلك أن الأستاذ يسكن في فيلا خاصةٍ في مصر الجديدة، مع زوجة إنجليزية شغفَتْه حبًّا، وأنه يَغار عليها ويحمل مسدَّسًا يُهدد به مَن يقترب من الفيلا. وتحقَّقنا من موضوع المسدس حينَ اقتحم الأستاذ غرفةَ الدكتور محمد يس العيوطي رحمه الله، وكان أستاذًا مساعدًا آنذاك، وقال له: أنا متخصِّص في دراما القرنَين السادس عشر والسابع عشر، وإن لم تترك أنت تلك المادة حتى أدرِّس أنا ما تخصصتُ فيه، فسوف أعرف كيف أنتقم منك! وحينما أجابه الدكتور العيوطي بأنه (أي ماهر) ما زال مدرسًا وتكفيه مناهجُ السنة الأولى والثانية، أخرج د. ماهر المسدَّس وقال له: «إذن نتخلص منك!» وذُهِل العيوطي وانعقد لسانه خوفًا ودهشة، وقال له: «دَرِّس ما شئت!»
وعندما علم العميد الدكتور عز الدين فريد بالقصة استدعى الدكتور رشاد رشدي رئيس القسم، وتباحَثا فيما يمكن اتخاذه من إجراءات لتفادي أخطار المسدس، ولكن الأيام التالية أتت بأخبارٍ جديدة، أَرويها طبقًا لما نُشِر في صحيفة الأهرام على لسان العميد. يبدو أن بستانيًّا — يعمل في حديقة الدكتور ماهر — كان من عادته إطالةُ الوقوف عند حوضِ زهورٍ معيَّن بالقرب من شباك الزوجة الإنجليزية، وسواءٌ كانت إطالة المكث بسبب الطبيعة الخاصة للزهور أم لأسبابٍ أخرى، فقد أثار ذلك غضبَ د. ماهر ودفَعه إلى تَقْريع البستاني. وكان للبستانيِّ أخٌ يصغره بعدة أعوام يساعده في المهام الصغيرة، فعندما سمع الصغيرُ الإهاناتِ الموجَّهةَ إلى أخيه أُهرِع قادمًا ليسأل ففاجأه د. ماهر بسباب أهدرَ كرامتَه، وهو قبطيٌّ من صعيد مصر يأبى الضَّيم، فهجَم عليه فأخرج ماهر المسدس وأطلقه عليه فأرداه قتيلًا! وعندها فَرَّ الأخُ الأكبر وماهر خلفه يُطلق الرصاص حتى نَفِد رصاص المسدس، فتحوَّل من المطاردة إلى الفرار، ولكن البستاني أدركه وثأر لمقتلِ أخيه فورًا. رحم الله د. ماهر.
ومع بداية الفصل الدراسي الثاني، وكانت القوَّات المعتدية قد رحلَت، وانجلَت الغمة، تبارى الشعراءُ في وصف الانتصار الذي أحرزه الشعب المصري بقيادة الجيش المصري الذي انسحَب انسحابًا تكتيكيًّا من سيناء، وغنَّت أم كلثوم «صوت السلام»، وبرزت لأول مرة روحُ القومية العربية التي ألهبها الزعيم الخالد، وتضامن سوريا مع مصر الذي تَمثَّل في قيام عبد الحميد السَّرَّاج بتفجير محطة تصدير البترول إلى الغرب، وتردَّد الحديث عن تحول بريطانيا وفرنسا إلى دولٍ من الدرجة الثانية، وسطوع نجم الاتحاد السوفيتي وأمريكا، ودورهما الحاسم في وَقْف العُدوان الثلاثي، وغضب أيزنهاور الرئيس الأمريكي، وإنذار بولجانين الرئيس السوفيتي بضرب بريطانيا وفرنسا بالصواريخ. كان العالم — أو صورةُ العالم بعد الحرب العالمية الثانية — في تغيُّرٍ مستمر، وكان تركيزُ الأنظار على مصر يَزيد من تعميق الوعي بالانتماء الوطنيِّ والقومي، واشترك الفنانون في عدة أغانٍ لحَّنها عبد الوهاب وشارك في الغناء فيها، وبدا أنَّ عصرًا جديدًا قد بدأ يغرب، وأن أضواءَ عصر جديد تلوح في الأفق.
وسرعان ما استؤنفَت العلاقات مع بريطانيا، ورحل عددٌ من الأساتذة إلى إنجلترا؛ للحصول على الدكتوراه، فاضطُرَّ رئيس القسم إلى انتداب عددٍ كبير من خارج الكلية للتدريس فيها، ولم يكن قد بقي من الأجانب في القسم إلا مستر كروفورد الأيرلندي أستاذ اللغة اللاتينية، ومستر فيرهايدن الهولندي أستاذ مادة الحضارة، وكان الباقون إمَّا من الكبار (رشاد رشدي، ومحمد يس العيوطي، وأمين روفائيل، وشوقي السكري) أو من مُدرِّسي اللغة الإنجليزية الذين كانوا يُنتدَبون من المدارس الثانوية للمشاركة في التدريس. ولكن الكلية كانت قد قرَّرَت إقامة حفل ضخم في ختام العام الدراسي تُقدم فيه مسرحيةً من تأليف ستانلي هوتون وعُنوانها «الراحل العزيز»، وعهد جمال حمدي — الطالب بقسم الصحافة — إلى قسم اللغة الإنجليزية بإعدادها، وكان من نصيبي أن أتولى الترجمة والإعداد، وبدلًا من أن أُترجمها إلى الفصحى ترجمتُها إلى العامية مباشرةً حتى يسهل إعدادُها، ولكنني ما إنْ عرَضتُ الترجمة على المخرج «عثمان بدران» حتى اعتبرها إعدادًا؛ ومن ثم بدأت التدريبات المسرحية!
وعهدت إليَّ الكلية بتولي أمر الفرقة الموسيقية، فأهرعت إلى عز، فصاح دون تردد: «رفعت!» ثم أوضح لي أن عددًا من طلبة المعهد قد كَوَّنوا فرقةً فيها مجموعةٌ لا بأس بها؛ مثل هيكل عازف الكمان الموهوب (عميد المعهد بأكاديمية الفنون حاليًّا)، وبسيوني عازف القانون، واثنان من عازفي العود هما ممدوح الذي يُشبه فريد الأطرش (في صوته وعزفه وشكله، بل وفي قِصَره)، وحلمي بكر المطرب الذي يُماثل عبد الحليم حافظ (الذي أصبح ملحنًا شهيرًا)، وكمال عازف العود الماهر، وعددٍ كبير من عازفي الكمان؛ على رأسهم «رفعت» نفسُه وعز الدين فهمي! وفرحتُ بهذا الترتيب، وقلت له إن الكلية قد رصَدَت مبلغ خمسة عشر جنيهًا أجرًا للفرقة، فانهمك في توزيع الأجور بين الطبَّال والزمَّار والمغنِّي، ثم تواعدنا على اللقاء في المعهد.
وفي المعهد دار النقاش حول موضوع الهواية والاحتراف؛ لأن بزوغ نجم عبد الحليم حافظ وكثرة عدد مَن يُقلدونه، أو من يُقلدون مُعاصريه من الناشئين مثل عبد اللطيف التلباني ومحرَّم فؤاد وماهر العطار، على تميُّز كلٍّ منهم وتفرُّده، جعل الساحة تموج بل تغصُّ بالمحترفين؛ فبعد أن كان محمد الموجي وكمال الطويل يحتكران التلحينَ لعبد الحليم، ظهر لهما منافسٌ قوي هو بليغ حمدي الذي بدأ بمحاكاة عبد الوهاب خصوصًا في استخدام الألحان المبسَّطة، ثم استقلَّ عنه، وبدأ يهجر الغناءَ ويُركز في التلحين، مما دفَع إلى الظل بعباقرة الموسيقى الشرقية القدماء محمد القصَبْجي وزكريا أحمد وتلاميذهما النجباء مثل محمود الشريف وأحمد صدقي، وامتدَّ النقاش، وتردَّد اسم فايزة أحمد، المطربة السورية التي لمعَت فور اشتغالها بالغناء، ووردة الجزائرية التي تنبأ لها البعضُ بمنافسة أم كلثوم، وباختصار كان الموقف، على حدِّ تعبير رفعت «يتطلَّب الاحتراف»! وكانت النتيجة رفْضَ التعامل مع الكلية إلا إذا رفعَت الأجر إلى مستوى الاحتراف، وهو أربعون جنيهًا بالتمام والكمال!
وأبلغتُ العميد الدكتور عز الدين فريد فوافَق! وعُقدت الحفلة في مسرح كلية التجارة، وكان من المشاركين مطربٌ ناشئ اسمه أحمد سامي (لم يُكتب له أن يُحقق الشهرة) وآخَرُ اسمه محمد عليش، لم يكن حظُّه أفضل، ولكن الحفل كان فرصةً للتعرف على «شباب» الوسَط الموسيقي، واكتساب معرفة أوسعَ نطاقًا بالأصوات المتاحة، وكانت لدينا في أحد أقسام الكلية طالبةٌ ذات عيون خضراء وصوت رخيم اسمها «فتحية» تُفكر في ممارسة الغناء، وكان وجهها صَبوحًا وأداؤها عميقًا مؤثرًا، ولكنها رأت إصرارَ الجميع على أن السبيل الأوحدَ هو الاحتراف، فتردَّدَت ثم سألتني، فكان لا بد أن أعلن تأييدي لرأي الأغلبية، وكان مما قالته إنهم يريدون أن يُغيروا اسمَها! وهذا أمرٌ لا يمكن أن يقبله أهلُها المتحفِّظون أو المحافظون، وكان ذلك هو ما حسم الأمر وأقنعها بالعدول عن احتراف الغناء.
وكانت نتائجُ هذا العام الدراسي أفضلَ كثيرًا من نتائج العام السابق، فاطمأنَّت الأسرة، وتركَتني وذهبتُ إلى رشيد، ومكثت مع والدي وحدنا في القاهرة، وكنتُ أقضي وقتًا طويلًا مع أحمد السودة الذي كان دائمًا ما يدعوني إلى مشاهدة الأفلام التاريخية والأدبية ودور السينما الصيفية، ويتولَّى هو دائمًا دفع كلِّ شيء؛ من ثمن التذاكر إلى الساندوتشات والكوكاكولا، كما كان يفعل في المدرسة، معي ومع غيري من الطلبة، فقد كان (وما يزال) يتميز بالسخاء الفياض، وكانت تلك خصيصة أثَّرَت فيَّ أكبرِ تأثير؛ إذ أدركَت أن كرم النفس وراء كرم اليد، وأصبحت أقيس كرمَ النفس بمدى الاستعداد للعطاء واحتقار حُطام الدنيا، ولم يكن أحمد السودة أغنى طالبٍ في الفصل؛ فقد كان هناك قطعًا من هُم من أسرات مماثلة في الغنى والعراقة، ولكنه كان يتميز بما يسميه الإنجليز بالروح العالية، وهو شيء أنظر حولي هذه الأيامَ فلا أجده عند الكثيرين، ولا أنسى موقفه ذات يوم عندما اشتريتُ حلوى من بائع في شارع سليمان بوسط البلد، وظننتُ أن البائع أخطأ في الحساب فأعطاني نصف قرش فوق الحساب فصاح أحمد: «ده راجل غلبان .. رجعه له.» وفعلت، مما ذكرني بمواقف والدتي في طفولتي.
٦
ومع بداية العام الدراسي ١٩٥٧-١٩٥٨م اختلفَت صورة الكلية؛ إذ عاد اثنان من الأساتذة بالدكتوراه من إنجلترا؛ هما مجدي وهبة وفاطمة موسى. وكان مجدي وهبة يُدرِّس لنا عدةَ موادَّ منها الشعر، ولكنه كان ذا رؤيةٍ ثقافية جديدة تدفعه إلى إقامة الجسور مع الأدب العربي واللغة القومية، فكان يحترمُ الترجمة ويؤمن بأنها من الجسور التي لا بد من إقامتها بين الأدبَين العربي والإنجليزي، وكان يتحدَّث بلغةٍ إنجليزية رفيعة وبلهجةٍ راقية يسمُّونها لهجة جامعة أكسفورد، ومع ذلك فقد كان لا يجد عيبًا في كتابة كلمة بالعربية على السبورة إذا لزم الأمر، أو النطقِ بعبارة بالعربية في الفصل، وكان ذلك من المحرَّمات في العامَين السابقين. وسرعان ما أعلن عن مسابقة بين طلبة السنة الثالثة لترجمة مقطوعةٍ من قصيدة طويلة للشاعر الإنجليزي الكلاسيكي «ألكسندر بوب».
وتبارى هُواة الترجمة في الصياغة العربية، وكان مطلع المقطوعة هو:
وقلتُ في ترجمتي: «لا تقنَعْ من العلم بنَزْر يسير؛ فهذا جِدُّ خطير، فإما أن تجرع كئوسه المُتْرَعة أو لا تقرب النبعَ المقدس. فقطراته اليسيرة تذهب بصوابنا، وجرعاته الحافلة تُعيد لنا رُشدنا!» وذهبتُ إليه فأبدى إعجابَه وقال: ربما فزتَ بالمركز الأول! وفي الأسبوع التالي أعلن النتيجة وكان الفائز هو شوقي جمعة (المخرج في التليفزيون حاليًّا)، الذي أصاب قدرًا أكبرَ من التوفيق في ترجمة مطلع البيت الثاني فأخرجَه على هذا النحو: «عُبَّ منه عبًّا!» وكان يساعد الدكتور مجدي في الحكم أستاذٌ في كلية دار العلوم اسمه كامل المهندس، ويبدو أنه هو الذي رجَّح كفة ترجمة شوقي جمعة. وفي المسابقات التالية تعلَّمتُ ألا أغفَل عن أدقِّ إيحاءات الكلمات، فكنتُ أفوز بالمركز الأول دون منازِع، وكانت الهدايا مغرية؛ إذ كانت كتبًا مهمَّة في الأدب الإنجليزي، ما زلتُ أحتفظ ببعضها، وذات مرة شاركتني سعاد عبد الرسول في المركز الأول فلم أحزن ولم أغضب؛ فمتعةُ الترجمة أتاحت لي أن أجمعَ ترجماتٍ عديدةً لقصائدَ من الشعر الرومانسي، كنتُ أعرضها على أستاذٍ فيُبدي لي ما يعنُّ له من الملاحظات، حتى اكتملَت عندي كرَّاستان حافلتان.
وذات يوم دعاني الدكتور مجدي وقال لي إنه ينصحني أن أنشر هذه المجموعة (٢٤ قصيدةً) بالاشتراك مع شابٍّ من جامعة الإسكندرية. وكان الدكتور محمد مصطفى بدوي، نظيره في جامعة الإسكندرية، قد ذكَر له أن نابهًا اسمه عبد الوهاب المسيري (الدكتور الآن) قد ترجَم عددًا من القصائد يمكن ضمُّه إلى المجموعة. ورفضتُ قائلًا إن الترجمة مثلُ التأليف لا تحتمل المشاركة، فقال لي بل أنت تريد الاستئثارَ بالمجد! وكانت كلمة «المجد» جديدةً على مسمعي وذاتَ وقْعٍ غريب، فأنكرتُ وقلت مخلصًا: إنني أريد وحَسْب أن يُعرف صاحبُ الأسلوب من ترجمته. فنصَحني قائلًا إن كنت أودُّ ذلك حقًّا فعَليَّ أن أتصل بالدكتور لويس عوض الذي كان يعمل بالصحافة، ويعتبر أقدرَ مَن ترجم الشعر الرومانسي. واتصلتُ بالدكتور لويس فضرَب لي موعدًا في مساء الأحد التالي، وعندما زرتُه أحسست بأن مسار حياتي الأدبية قد تحوَّل إلى الأبد!
كانت غرفةُ مكتبه، في شقته بشارع القصر العيني، تمتلئ بالكتب إلى السقف، وكان يجلس إلى مكتبٍ في ركن الغرفة وبجواره شبَّاكان يُطلُّ كلٌّ منهما على حديقةٍ مُشمِسة، وبعد أن فتح الباب لي سمعتُ صوتًا نسائيًّا يسأله بالفرنسية: «مَن القادم؟» فأجاب بالفرنسية: «إنه رجل». وعلى الفور بدأنا نقرأ ترجمةَ «الملاح الهَرِم»، وكان يُمسك بالنصِّ الإنجليزي وأنا أقرأ النصَّ العربي، وكان أحيانًا يستوقفُني ليسألني إذا ما كانت إحدى الكلمات التي استخدمتُها عربيةً حقًّا، مثل كلمة السارية أو الصاري، فأؤكِّد له أنها فُصحى، وفي ذهني يتردَّد صدى معركةِ ذات السواري أو الصواري، وهكذا حتى ننتهي. وأحيانًا ما كان يزورُه بعضُ الضيوف أثناء هذه الجلسات فيطلب منهم أن يلزَموا أماكنهم ريثَما نصل إلى نقطةٍ نستطيع التوقُّف عندها.
وفي منزل الدكتور لويس تعرفتُ على بعض الشخصيات الأدبية وشهدتُ حواره معها، وبعض الشخصيات السياسية أيضًا، وكان صريحًا حادًّا في تعليقاته وملاحظاته وفي نقدِه الأدبي. فكان يقول إنه لا يؤمن بالقومية العربية؛ لأن تاريخ مصر يعزلها عزلًا حضاريًّا عن سائر الشعوب العربية باستثناء الشام، ويقصد به بُلدان «بَر الشام» كلها إلا سوريا فقط؛ فالاتصال الحضاري بينهما قائمٌ على مرِّ التاريخ القديم والقريب، أما ثقافة الصحراء فهي غريبة على مصر، ولا تكفي اللغةُ الواحدة لتكوين الأمة. وعندما قرأ له أحمد عبد المعطي حجازي قصيدةً يقول مطلعها:
قال لويس: «أيوه كويس .. بس عاملة زي: كل الأحبَّة اتنين اتنين، وانت يا قلبي حبيبك فين!» فضحك الموجودون وأذكرُ منهم «هدى» حبيشة (الدكتورة)، ومديحة كمال (زوجة علي حمدي الجمَّال)، وديزي روفائيل (زوجة أحمد بهاء الدين) وحلمي شعراوي (الذي تخصَّص في إفريقيا فيما بعد). وفي تلك الجلسة نوقش الشعر العامي، ونوقش صلاح جاهين، وكان لويس مغرمًا مثل الناقد الإنجليزي ف. ر. ليفيز بالأحكام، وتحديد «طبقات الشعراء» ومراكزهم، فلم يوافق الدكتور لويس على ما ذكرَتْه هدى حبيشة من أن جاهين «أعظم» شعراء العامية، وإن كان «أفضل الموجودين». كانت رنَّة الثقة في حديث لويس تُوحي بالثقة والاطمئنان، وإن كنتُ أستمتع بقراءاته للشعر الإنجليزي أكثرَ من استمتاعي بهذه المناقشات.
واستمر بنا المجلس ذاتَ مساء حتى الحادية عشرة ونحن نقرأ شلي، حين جاء زائل لم أرَه من قبل، وهو نظمي خليل الذي كان يعمل مفتِّشًا للغة الإنجليزية آنذاك في وزارة التربية، وعندما تحول النقاشُ إلى فلسفة الثورة وأزمة الديمقراطية وضرورة الاشتراكية، استأذنت وغادرت المجلس. وسرتُ وحدي ذلك المساءَ وقد بدأَتْ في ذهني مُساجلات بين الدعاوي السياسية التي لا شأن لي بها، والطموحات الأدبية التي تتملَّكُني. كانت أحلام الأدب أكبرَ من خيالي المحدود؛ إذ كان الفن الأدبيُّ الشائع في تلك الأثناء هو فنَّ القصة القصيرة وكان «الكتاب الذهبي» الذي تُصدره دار روز اليوسف قد بدأ يُقدِّم عددًا من الكُتَّاب الذين سرعان ما احتلُّوا مراكزَ مرموقة في الحياة الأدبية؛ مثل يوسف إدريس، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ويوسف السباعي، وأمين يوسف غراب، وإحسان عبد القدوس، وعبد الحميد جودة السحَّار، وغيرهم ممَّن خرج من «معطف» محمود تيمور. ولم يكن من السهل عليَّ أن أحاكيَ أيًّا منهم، وكانت مكتبة الأنجلو المصرية تُصدر سلاسلَ أدبية إنجليزية ندرسها في الجامعة، بعد أن توقَّفَ استيرادُ الكتب في أعقاب العدوان الثلاثي من إنجلترا، وكان الذي يتولى اختيار القصص والمسرحيات د. رشاد رشدي ود. لويس مرقص، الذي أصبح رئيسًا للقسم الإنجليزي في كلية الآداب الجديدة بجامعة عين شمس التي أنشأها المرحوم د. مهدي علَّام (وكانت كلية تربية حتى عام ١٩٥٣م). وكنتُ أقرأ هذه القصص وتلك المسرحيات فيزداد يأسي من القدرة على محاكاتها.
وفي الفصل الدراسي الثاني بدأَت ملامحُ أحلامي تتَّضح. كان الذي يُعلمنا مادة الترجمة شابًّا من قسم اللغة العربية اسمه الدكتور شكري عيَّاد، وكان يكتب قصصًا ينشرها في مجلة «صباح الخير» ويسمح لنفسه باستخدام بعض الألفاظ العامية فيها، وكان في أوائل الثلاثينيَّات من عمره أو في منتصفها، وكان، على تخصُّصِه في اللغة العربية وحبِّه الشديد لها، يكره ميلي إلى التأنُّق في الأسلوب، ودائمًا ما يُنبهني إلى أن الغاية هي الوضوح وقوة التعبير و«صلابته» على حدِّ قوله، وكان يعني بذلك دقةَ الألفاظ وإفصاحَها عن المعنى مباشرةً. ولذلك فإن دروس الترجمة معه كانت في الواقع دروسًا في علم دلالة الألفاظ، وعلى يديه أحببتُ الغوص في المعاجم بحثًا عن الدقة، وهربًا من الغموض والالتواء.
وفي ربيع عام ١٩٥٨م، وكنا في رمضان، أحسستُ بما للجوع من أثرٍ على صفاء الذهن ورِقَّة المشاعر! أو هذا هو ما قلتُه بعد أعوام معدودة للدكتور شفيق مجلي عندما عاد بالدكتوراه من إنجلترا وبدأ يدعو للإقلال من الطعام! كان إقبالي على الطعام يُشبه إقبالي على اللغة وعلى الأدب، ولكن دروس الترجمة التي كانت دائمًا بعد الظهر أو العصر كانت تُنسيني حاجتي إلى الطعام، وكنا نجدُ في تَفتُّح الزهور ولون الخُضرة الذي عاد يكسو الأشجارَ مصدرَ بهجة غامرة، سرعان ما تحوَّلَت إلى مشاعرِ حب دفَّاقة بين الصغار (كنا جميعًا دون العشرين)، فتَصوَّر كلٌّ منا أنه عاشق وَالِه، وكانت النظرات مُثقلة بمشاعرَ لا يدري أحدٌ كُنهَها، وقد علمتُ فيما بعد أن هذه المشاعر التي يمكن إرجاعها إلى أسبابٍ مادية، في طبيعة البشر وطبيعة الكون، تُميز الإنسانَ عن الحيوان؛ لأنها وليدةُ عقل الإنسان، ووثيقةُ الصلة بذهنه، وباللغة التي تُميزه عن الكائنات الأخرى!
وكان شكري عياد صبورًا. يقرأ شعري وينقده دون برم. ويُناقشني في شعر «شلي» مناقشاتٍ تُشبه مناقشاتِ لويس عوض، وكنا نخرج معًا من الجامعة فنسير الهُوَينَى حتى محطة الأتوبيس، فنستَقِلُّه حتى المنزل، وكان يقيم في العجوزة (في «المحطة» التالية) وأحيانًا كنتُ أغادر المركبة معه ثم أقفلُ عائدًا، وأحيانًا كان يُغادرها معي ثم نسير «المحطة» الباقيةَ إلى منزله. وأذكر مرةً طال بنا النقاش فظللنا نتردَّد بين المحطتين حتى حان موعدُ الإفطار فافترقنا.
وفي ذلك العام الدراسي كان رشاد رشدي قد انقضَّ على شوقي السُّكَّري فأغلق مجلة الحائط، وبدأ يُناوئه في ألوان النشاط الأخرى فبدأ رشدي نشاطًا مقابلًا يتمثل في ندوات أسبوعية للقصة القصيرة والشعر بين الطلبة، كما كثَّف من خروجه إلى الحياة العامة بعد نجاح مجموعة قصصية كتبَها قبل ثلاثة أعوام عُنوانها «عربة الحريم»، فكتب مسرحية اسمها «الفراشة» قدمتها له فرقة المسرح الحر، وكان يُعِد العُدَّة لتقديم مسرحية أخرى هي «لعبة الحب»، كما بدأ يُلقي الأحاديث في الإذاعة عن النقد الحديث ويُهاجم دُعاة تسخير الأدب والفنِّ لأغراض الدعاية السياسية باسم الأيديولوجيا، وكان تحليل أحدِ النقاد للمناخ الأدبيِّ حينَذاك هو أن دفاع الاتحاد السوفيتي عن مِصر ووقوفه بجانبها منذ صفقة الأسلحة «التشيكية» قبل ثلاثة أعوام، يعتبر بدايةً لصداقة مع الدول العُظمى تمتاز بعدم الانحياز إلى أيٍّ من الجانبَين، كما أعلن ذلك أقطابُ الحركة التي اجتمع قادتها في باندونج بإندونيسيا، وعلى رأسهم جواهر لال نهرو الرئيس الهندي وجوزيف بروز تيتو الرئيس اليوغوسلافي، وسوكارنو الرئيس الإندونيسي وجمال عبد الناصر الزعيم العربي، باعتباره رئيسَ الجمهورية العربية المتحدة التي تضمُّ سوريا ومصر. ومِن ثَمَّ فلم يَعُد من المقبول أن يظلَّ الشرق الأوسط كما كان منطقةَ نفوذٍ للغرب، بل كان لا بد أن ينحسر هذا النفوذ، بل وأن يتلاشى، وأن يسودَ مبدأ الاستقلال الفكري في الكتابة والأدب؛ تبعًا لسيادته في السياسة والاقتصاد.
ولكن مبدأ الاستقلال كان يعني وضْعَ موازَنات دقيقةٍ بين الكتلتين، وإذا كان ذلك ممكنًا في السياسة، فهو عسيرٌ في الأدب، فكانت القيادة السياسية تشجع فريق مناصرة الشرق (الشيوعي)، وفريق مناصرة الغرب (الرأسمالي) في الوقت نفسِه، وتفرض عليهم القيودَ في الوقت نفسِه، وتضرب بعضَهم بالبعض في الوقت نفسه! ومِن ثَمَّ نشأ حالٌ من الاستقطاب الزائف؛ إذ إن الدولة ذاتُ رقابة صارمة، لا تسمحُ بالشيوعية (طبعًا) ولا تسمح بالرأسمالية؛ لارتباطها بما ثارَت عليه حركةُ الضباط الأحرار في مصر الملَكية، ولا تسمح بالحركات الدينيَّة طبعًا بعد أن اتضح أن الإخوان كانوا يُعدُّون العدَّة للاستيلاء على السُّلطة! وكانت «معسكرات» الكُتَّاب تعكس، أي تُجسِّد، هذا الاستقطابَ الزائف، وهو زائف (والتعبير هو تعبيرُ لويس عوض) لأن دُعاة كلِّ مذهب كانوا في الواقع يؤمنون بما يؤمنُ به الفريقُ الآخر في أعماقهم، ولكنهم يتَحزَّبون ويتخذون اتجاهاتهم «المتغيرة» من باب ردِّ الفعل الوقتي، باستثناء عددٍ من الشيوخ الذين لم يُناقشوا هذه المذاهبَ أصلًا، بل وجَدوا أنفسهم في خِضَمِّها يُصارعون الموج، وعددٌ من الشبان الذين آمنوا بها (ومعظمهم من اليسار) وأخلَصوا لها حتى بلَغَت مبلغ العقيدة!
وكان لويس عوض من أوائل ضحايا هذا الموجِ العاتي؛ إذ بلَغَني أنه اعتُقل، وكانت زوجته هي التي أجابتْني تليفونيًّا حين سألتُ عنه، ولم تزد في ردِّها باللغة الفرنسية عن إبلاغ هذا الخبر الصاعق! وكان معنى ذلك أيضًا غروبَ شمس حلمي الأول، وهو نشر ترجماتي الشعرية، باختفاء كرَّاساتي مع لويس عوض! وبينما أنا حزينٌ لا أدري ما أصنع إذ قابلتُ وحيد النقاش وكان من زملاء فريق التمثيل، طالبًا مُجدًّا في قسم اللغة الفرنسية، ضئيلَ الجسم جميلَ الوجه ذا عينين خضراوين وبشَرةٍ سمراء ونظرات حالمة وصوت خفيض، وكان يُحب الجلوس في بوفيه كلية الآداب تحيط به الحِسان، فدعاني لمشاركته المجلس، وقدَّم لي صديقًا له في السنة الأولى بقسم اللغة الإنجليزية اسمه سمير سرحان! وطالت الجلسة، وتناقشنا في كل شيء، فعرَفتُ منهما أسماء روَّاد قهوة عبد الله في الجيزة، وسمعت عن أنور المعدَّاوي وعبد القادر القط وسعد الدين وهبة وغيرِهم. وانتهى عام ١٩٥٧-١٩٥٨م بندوةٍ أقامها رشاد رشدي للقصة القصيرة، ألقَيتُ فيها أو قرأتُ قصةً عُنوانها «زوجات الآخرين»، وكان التصفيق شديدًا والإعجابُ مبالَغًا فيه، حين انبرى رشدي وبيَّن أن القصة ذاتُ بناءٍ «آلي»، ولا تتميَّز بالبناء «العضوي»، وفوجئتُ بأن المأمون أبو شوشة قد تحمَّس للقصة وقام يُدافع عنها للأسباب التي دعَت رشدي إلى الهجوم! وقد أعَدتُ قراءةَ هذه القصة بعد تلك السنوات الطويلة فوجدتُ أن منهج كلٍّ منهما فيه نظر، كما يقولون؛ ولذلك سوف أُلخِّص «الموقف» الأساسيَّ للقصة، وأترك الحكم على موقف الاثنَين للقارئ.
القصة مكتوبة من وجهة نظر المتكلم، وهو رجل «مريض» بحبِّ الامتلاك، وكان بسبب نشأته يَذُود عن حِمى كل «حريم» ويتصور أنه لا بد أن يستحوذ على نساء الأرض كلِّهن! فإذا رأى فتاة «لا رجل لها» جهدَ جهْدَه حتى يُبعد عنها الرجال، فإذا كانت متزوجةً «تصور» أن رجلًا آخرَ قد اعتدى على حَرمه، وتدريجيًّا بدأ يَشغَل باله إلى حدِّ الولَهِ الأخرق بزوجات الآخرين، وكان أنْ جعل حياةَ زوجته جحيمًا، وأحال حياته الخاصة إلى حلبةٍ لخيالاتٍ وأوهام، وكان يَنشُد السَّلوى في حديث صديق له يتردَّد عليه وجعله موضعَ ثقته، لكنه لم يكن في أعماقه يَطمئِنُّ إلى أحدٍ كائنًا مَن كان، حتى كان اليوم الذي وجد زوجتَه في أحضان هذا الصديق!
وكان رأي رشدي أن النهاية لا تنبعُ من الموقف، فالمؤلف لم يُقدِّم العوامل التي أدَّت إلى الخيانة، و«حدثُ» الخيانة لا يمكن أن يعتبر نتيجةً لحالة البطل، فنحن لم نعرف الصديقَ ولا الزوجة، وهكذا فإن النهاية تُشبه العقاب الذي يُنزِله القدَرُ بالبطل، مثل النهاية المفتعَلة في نهاية المسرحية الكلاسيكية اليونانية حين يهبط «إله من آلة» [ديوس إكس ماكينا] ليحلَّ عُقدة الحدث! وكان رأي أبو شوشة هو أن هذه النهاية «خبطة» فنية تعيد للبطل صوابه وتعتبر درسًا لمن يَشغل نفسَه بزوجات الآخرين! أما ما أظنُّه الآن فهو أن النهاية، بغضِّ النظر عن «آليتها» أي طابعها الآلي، ليسَت العنصُرَ الرئيسيَّ في القصة، بل هي إضافةٌ ربما كان من المستحسَن أن تُحذف! أما جوهر القصة فيَكمُن في تصوير حالةِ البطل، أي في بناءِ الشخصية الرئيسية التي تقوم بالحدث! فمنهج رشدي مستمَدٌّ من قواعدِ النقد الأرسطي الذي يُلزم كلَّ قاصٍ أن يبنيَ القصة وفقًا لقواعد المسرح القديم أو القائم على «التمثيل» أو المحاكاة، ولكن القصة القصيرة الحديثة قد تعدَّدَت أشكالها وصورها وفنونها، وأصبح بعضُ أنواعها يقترب من الشعر، و«زوجات الآخرين» تُشبه «المونولوج الدرامي» الذي أشاعه الشاعرُ الفكتوري روبرت براوننج، بل إنَّ كثيرًا من القصَّاصين المحْدَثين منذ القرن التاسعَ عشر قد تخلَّوا عن ضرورة الارتباط «العُضوي»، الذي يعتبر في نظر الكلاسيكيين من النقاد أساسَ «الحتمية الفنية»، وكنتُ مَدينًا بهذا التعبير للدكتور فخري قسطندي الأستاذ بالقسم، وأعني به الارتباط بين البداية والوسط والنهاية، ولكن النقد الكلاسيكي للقصة القصيرة الذي وصل إلى ذروته في كتاب ﻫ. أ. بيتس عن القصة القصيرة كان مسيطرًا آنَذاك على تفكير رشاد رشدي.
وليس معنى هذا أنني أعتبر قصة «زوجات الآخرين» عمَلًا فنيًّا كاملًا، ولا أقول عظيمًا، ولكن معنى ما أقول هو أن التطرُّف في تطبيق النظريات «العضوية» قد يصلُ بالناقد إلى درجة «الآلية» في النقد؛ ولهذا أحسستُ آنَذاك بخيبةِ أمل أحبَطَت محاولاتي التالية لكتابة القصة القصيرة. ولكن التجرِبة كانت مفيدة، وأبرزُ فوائدها مناقشة فنِّ القصة القصيرة باللغة العربية في قسم اللغة الإنجليزية! كانت الندوات فرصةً سانحة لمن يريد التجرِبة واكتسابَ الخبرة، والاحتكاكَ بالنظريات الأدبية الجديدة ودراسة مدى جَدْواها عند تطبيقها عمليًّا.
وبعد الندوة — التي كان رشدي قد انتصر فيها بوضوحٍ على كل مَن خالفه وخرج سعيدًا ضاحكًا — ذهبتُ إليه أحاول «تبرير» ما فعلتُه في القصة، فنحَّى كلامي جانبًا وقال لي مباشرةً: «أنت بتجيب تقدير إيه؟» قلت له: «جيد جدًّا» .. فقال لي: «حافظ على التقدير في سنة رابعة وانا آخدك.» وخرجتُ من غرفته مسرعًا حتى لا نخوضَ في التفاصيل، وحتى أحتفظَ بالوعد صافيًا دون شروط، وغدوتُ من فوري إلى المنزل فقابلتُ «علي أبو العيد» عند المدخل، وهو زميلٌ في كلية الزراعة يقيم في المنزل نفسِه بالطابَقِ الأرضي، فوجدَني مُهتاجًا فدعاني للدخول، وبمجرد أن أغلق الباب أفضيتُ إليه بالسر! أحسستُ أنني أكادُ أرقص طربًا وقد تراءت لي صورُ المستقبل؛ إذ ربما سافرتُ في بعثة إلى الخارج للتخصُّص في اللغة الإنجليزية، وربما كُتِب لي أن أكتب عمَّا كتَب عنه توفيق الحكيم وهيكل وطه حسين ثم لويس عوض! ولم يُناقشني «علي» في التفاصيل، ولكننا استمعنا إلى أسطوانة جديدة تَمكَّن من الحصول عليها، وكانت لأغنيةٍ قديمة لعبد الوهاب هي «كلنا نحب القمر!»
وعندما عُدتُ إلى رشيد في صيف ذلك العام كان كلُّ شيء يبدو مختلفًا.
٧
كانت الهُوَّة بيني وبين أيام الطفولة تبدو شاسعة؛ فالمنزل القديم امتدَّت إليه يدُ الهدم، ولم أجد لديَّ الجُرأة لزيارته، ولا للمرور في الشارع الذي يقع فيه، وكنا استأجرنا شقةً في منزل حديث ضخم يملكه الحاج خميس يونس بالقرب من مدرستي القديمة في «بحري»، وكنتُ أحيانًا أجد من زملاء الطفولة مَن أتنزَّه معه، وأحيانًا (وهو الغالب) ما كنتُ أسير في الحقول وحدي أو على شاطئ النيل حتى آخر «العَمَار» — أي حتى يبدأ الطريق المقفِرُ المؤدي إلى «البوغاز»؛ أي إلى الفنار القديم حيث مصبُّ النيل. وأذكر أنني كنت ذاتَ يوم وسط الحقول قُبيل الغروب، أسير فوق «الراتب»، وهو قناة ضيقة لا يَزيد عرضها عن نصف متر، مبنيَّة من الطوب، وكل جانب مرتفعٌ نحوَ ثلاثين سنتيمترًا، ومكسوَّة بطبقة من الأسمنت تمنع تسرُّب الماء، وتحمل المياه من «الساقية» (الناعورة) إلى شتى حقول الذرة والسمسم، وهي أهمُّ المحاصيل التي يَجنيها الفلَّاحون في أوائل الخريف، كنتُ أسير وحدي أفكر فيما عسايَ أن أفعلَ في العام الدراسي المقبل، حين تردَّدَت في خاطري أبياتٌ من قصيدة «المقدمة» للشاعر وردزورث، التي يقصُّ فيها قصة حياته منذ الطفولة، وكانت الأبيات تذكر كيف قرَّر أن يُصبح شاعرًا، عندما شهد مطلعَ الشمس وهو بعدُ طالبٌ في جامعة كيمبريدج — وتوقفتُ عند الأبيات التالية:
وعجبتُ كيف رفَع هذا الشاعرُ منزلةَ الشعر إلى منزلة القداسة، فكان يُشير إلى ذلك بتعبير «حياة القداسة في الموسيقى والشعر»، وكيف وجد في الطبيعة آيات الخلق وروحَ الكون الحي، واكتفى بذلك كلِّه عن الغزَل والتشبيب وسائر أغراض الشعر، فمطلع «المقدمة» يُحدد «المقام الموسيقي» لها؛ إذ يقول في الديباجة:
ذلك هو الهناء الذي كنتُ أحسُّه، وما النبوءة التي يحكي الشاعرُ عنها في الديباجة إلا «النَّذْر»، وكان يعني به أنه «نذَر» نفسه لحياة الشعر، وكأنما كان يقطع على نفسِه عهدًا بأن يهبَ حياتَه كلَّها لذلك الفنِّ الرفيع، ومِن ثَمَّ قرَّرتُ الاستزادةَ من قراءة شعر ذلك الشاعر، وألَّا أتوقفَ عند القصائد التي ترجمتُها له، وأهمُّها قصيدة «خاطرات الخلود من ذكريات الطفولة الأولى» وكان مطلعها:
كان ذلك هو الحُلمَ إذن! وألحَّ على خاطري بيتٌ آخر من «المقدمة» «كانوا الحُلْمَ وكنتُ الحالم!» وعندما تذكَّرت تلك اللحظاتِ وأنا أقرأ شِعر الشاعر كلَّه فيما بعد، أدركتُ مدى صدقِ نظرته ومدى قدرتِه على التعبير عما يدفُّ بين جوانح كلِّ طامح في حياة الشعر والشعراء!
وعندما عُدنا إلى القاهرة برَزَت هُوَّة جديدة بيني وبين أقراني؛ إذ كنت لا أنظر باحترام كبير للعاطلين من الموهبة الذين يدرُسون الأدب، وكنتُ أو بدأت أتصوَّر أن تقتصرَ دراسة الأدب على أصحابِ المواهب اللُّغوية أو الفنية مهما يكن حظُّهم ضئيلًا من الموهبة، ولم أكُن أُدرك ذلك إدراكًا كاملًا حتى نبَّهني إليه صديقي رضا فرحات (السفير حاليًّا) حين أشرتُ إلى أحدِ الزملاء قائلًا إنه «غلبان»، وكان ذلك الزميلُ قد أخطأ في حقِّنا وتقوَّلَ علينا بغيرِ الصدق، ومع ذلك وجدتُ نفسي أغفر له صادقًا، وإن كان «رضا» يريد المواجهةَ والشِّجار والانتقام! ولما سمع مني كلمة «غلبان» قال لي ماذا تقصد؟ إنه شريرٌ سيئ القصد فاسدُ الطَّوية، ولكن هيهات! لم يكن ما فعل أو ما يُمكن أن يفعَله جديرًا بالتصدِّي له؛ لأنه كان بلا مواهب، ولم يكن في نظري بالجدير بالمواجهة! وقال «رضا»: «أنت عايز كل الناس يبقوا شعراء؟» وضحكتُ وأنكرت وأنهيتُ الموضوع وأنا أذكر قول شوقي:
وفي أول درس من دروس الترجمة، وجدتُ اسم المدرس الدكتور «يوسف خليف»، وعلى الفور قررتُ أن أقدم له تحيةً قبل دخوله القاعةَ فكتبتُ على السبورة:
وهي من مطلع القصيدة التي كتبها يوسف خليف قبل سنواتٍ عديدة، وفازت بالمركزِ الأول في المسابقة التي نظَّمها صاحبُ مجلة «الكتاب» (عادل الغضبان) وكان من بين المُحكِّمين عباس محمود العقاد! وسُرَّ يوسف خليف لوجود مَن يحفظ شِعره العربي في قسم اللغة الإنجليزية، ولكنه صحَّح البيت الأول فقال «إنني لم أقل «يهيم» بل قلتُ «يموج»!» ولما أبديتُ إصرارًا على الخطأ قال لي رحمه الله والبسمةُ لا تُفارق شفتَيه: وهذا أكبر دليل على خيانة الذاكرة! بل وأكبر دليل على ضرورة توخِّي الحذر في نقل روايات الرواة! فالشعر العربي في القرنَين الأول والثاني للهجرة كان يعتمد على الرواة (موضوع رسالته للدكتوراه) والشعراء الصعاليك، الذين تخصَّص في شعرهم، لم يكونوا يكتبون ما يؤلِّفون، وكان العبءُ كبيرًا على كاهل الرواة! وبدأ العام الدراسي بدايةً ساخنة!
وعندما بدأت دروس اللغة العربية، رأيت الدكتور عبد الحميد يونس لأول مرة، وكان كفيفًا يسير مع سكرتيره، وبدأ بذِكْر الروايات المقرَّرة لهيكل وطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم — ثم أردف قائلًا: ومَن شئتم أن تقرَءوا لهم! وكان ذلك بمثابة كسرٍ للنمط الذي اعتاده الطلبة، فسأله أحدهم: «من خارج المقرر؟» فقال بثقة: «لا يوجد ما هو داخل المقرر وخارجه؛ الرواية الحديثة هي موضوع الدرس.» ومِن ثَمَّ بدأ يتكلم عن السيرة الذاتية، وما زلتُ أذكر أُولى عباراته: «شُغل الإنسان بامتدادِه في الزمان والمكان …» وكأنما كان يتكلم عن وردزورث لا عن طه حسين، ثم انطلق يتحدث عن الإحساس بالعالم لدى المكفوف، وعن استحالة الصمت المطلَق، فجيَشانُ الدم له صوتٌ يأنسه الصامتُ في صمت الدنيا، مثلما يرى في مخيلته ما لا يتصوَّره المبصر! وسألته عن «الصوت الداخلي» فأجاب إن كنتَ تقصد صوتَك الذي يُحادثك فلا استغراب ولا دهشة، أما إذا كنت تقصد صوتًا آخر يُحادثك ولا تعرفه فذلك صوت المراهقة الذي يُعلن الوجود والتفرُّد ويؤكِّده، وهو صوتٌ يزول عندما يتكيَّف الإنسان آخر الأمر مع المجتمع ويقبلُ حياته المكبَّلةَ بالقيود، ويُطوِّع نفسه (وكان رحمه الله مُغرَمًا بكلمة «تطويع») أي يُغيِّر من أفكاره وسلوكه ومشاعره حتى يتَوافق مع مَن حوله! وسألتُه: «وعندها يتوقَّف الصوت؟» وضحكَ وأطرق ثم قال: «وهل أنت واثقٌ أنه الصوت الآخر؟»
كان أسلوبُ تفكيره جديدًا يُنْبِئ عن حِدَّة ذهنٍ ثاقبة، ولن أنسى تحليلَه لرواية زينب لهيكل؛ إذ إنه لم يُركز (مثلما فعل الآخرون) على السِّمات الفنية للقصة ومدى حفولها بمشاهد الوصف للرِّيف والطبيعة، ولم ينتقد حبْكتَها من حيث إنها «رواية» بالمعنى الغربي الحديث، بل بدأ من حيث أراد هيكل للقارئ أن يبدأ — من تعريف الكاتب بأنه «مصريٌّ فلاح» (لا فلاحٌ مصري) — وبأن الرواية هي «أخلاق ومناظرُ ريفية»! من الخطأ إذن، ولا أقول من الظلم، أن تُعامَل الرواية باعتبارها قصةً طويلة تتوافر فيها أركانُ القصة التي وضعَها الغرب، أو أن تُقاس بمقاييس الكتَّاب الغربيِّين! وقال دون اكتراث: «أليس هذا ما يقوله ت. س. إليوت؟ وأعني به محاسبة الفنان على ما يقصد إليه لا على ما نتوقَّعه منه؟» ودُهِشَ الطلبة ودُهشتُ لمدى إحاطته بالمذاهب النقدية المعاصرة، وعلمتُ فيما بعد أنه كتب كتابًا بعنوان «الأسس الفنية للنقد الأدبي»، نال عنه فيما بعد جائزة الدولة التشجيعية (في عام ١٩٦١م) وكنتُ أتمنى أن يُطبق بعض المذاهب الأدبية الحديثة في دراساته للسِّيَر الشعبية (التي تخصَّص فيها)، ولكنَّ تلاميذه فعَلوا ذلك وأبدَعوا؛ ابتداءً من الدكتور أحمد مرسي، وانتهاءً بالدكتور خطري.
وكان منهج الشعر الإنجليزي ينقسم إلى قسمين؛ قسم يُدرِّسه رشاد رشدي (المتخصص في الرواية أو في أدب الرحلات) وكان ينحصر في شعر ت. س. إليوت، والقسم الآخر يُدرِّسه مرسي سعد الدين، وكان ينحصر أو يكاد في شعر وليم بطلر ييتس! أما رشدي فقد أحالنا إلى المراجع ننهلُ منها كيف شئنا، ولم يزِدْ في محاضراته عمَّا ذكرَته «إليزابيث درو» في كتابها عن إليوت، واقتصر في محاضراته على قراءة قصيدة الأرض الخراب والتعليق عليها، مُركِّزًا على فنون الصنعة فيها من حيث بِناؤها السيمفوني وتعدُّدُ أصواتها، وكان يقول دائمًا: مهمتي ليست تقديمَ المعلومات التي تستطيعون الحصولَ عليها في المكتبة، بل قراءةُ النص معكم وتدريبُكم على القراءة! وأشهد أن إلقاءه الشعرَ كان جميلًا، وكانت إيقاعاته ونبراته البريطانية ذاتَ أصالةٍ وعراقة، وكثيرًا ما كنتُ أنسى المعنى في ثنايا الإيقاع وتضاعيف النَّظم! وفي اليوم التالي ذهبتُ إلى المكتبة واستعرتُ كتابًا عن إليوت أظنُّه من تأليف «ماكسويل» يُحلل فيه القصائدَ كلًّا على حدة، فبُهِرتُ بعبقرية قراءة النص التي ذكَّرَتني بعبد القاهر الجُرجاني، وبعد أن انتهيتُ منه في جلسة واحدة، طفقتُ أنسخ في كشكولٍ خاص أهمَّ ما جاء به من فِقرات، ثم أعدتُه إلى المكتبة، واستعرتُ كتابًا آخر، وعدتُ إلى المنزل لكنني لم أفتحه، بل ظلِلتُ أقرأ الشعرَ المرةَ بعد المرة، وكان المطلع يُذكِّرني بآيةٍ كريمة: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ! ما معنى الخشوع؟ أليس ذلك أبلغَ من وصف الأرض بالموت؟ وذكرتُ الآية الأخرى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ هامدة؟ واستبدَّ بي ذلك الخاطر: ألا يحتمل أن تكون الأرض الخرابُ هي أرضَ الموات؟ وذكرتُ الآية الأخرى لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى! وهل الثرى هو التراب؟ إذا كان كذلك [ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا …] وهل الثرى حقًّا هو التراب الرَّطْب؟ إذا صحَّ المعنى الأخير فلا بد أن يكون ما تحت الثرى هو الجذورَ والدرنات والديدانَ التي يتحدَّث عنها إليوت! لا يدور الحديث عن «موت» بالمعنى المفهوم بل عن حالة حياة كامنة فيما يبدو ميتًا! وذلك هو معنى إليوت البعيد، الذي يشير به إلى خُلود الروح، وهو يُقدم في القصيدة صورًا للمَوات النفسيِّ في مظاهر الحياة العصرية حتى يؤكِّد التناقض بين الحياة في الموت، وهو المعنى الدينيُّ العميق، وبين الموت في الحياة عند من لا يعرفون حياة الروح!
وحاولتُ أن أُترجم المطلعَ نظمًا كعادتي في ترجمة الشعر، فكتبت:
ولكن مَن الذي يتحدث؟ هل هو الشاعر أم إحدى «الشخصيات»؟ اختلف المفسرون؛ فقال ماتيسون في كتابه «ما أنجزه ت. س. إليوت» إن «ماري» تبدأ حديثها في السطر الثامن، وقالت «هيلين جاردنر» في كتابها «فن ت. س. إليوت» إن ماري هي المتحدِّثة منذ البداية، فإذا صحَّ قول الأول فإن الترجمة يتَّفق أسلوبها أو مستواها اللُّغوي مع لغة الشاعر، وإذا كانت ماري هي المتحدِّثةَ، كان لا بد من حذف الكلمات التي وضعتها بين أقواس مربعة، فحذفها لن يُؤثر في الوزن، وهي «عضادات» للقافية فحَسْب! أما الأولى فقد أوحَتْ بها الآية الكريمة، وأما الثانية فلا بد أنها وردَت إلى ذهني مِن تذكُّر بيت إبراهيم كيرة «ثم هبَّت من رُبا الموت حياةٌ حافلة» وأما الثالثة فقد أوحى بها بيتُ تشوسر في مستهلِّ «حكايات كنتربري»:
وهكذا وجدت أن المشاكل تُحيط بالمطلع فأقلعتُ عن الترجمة، وعدتُ إلى القصيدة حتى خِلتُ أنني هضَمتُها هضمًا! ومِن ثَم فرَغتُ لكتابة شعري الخاص، وبدأتُ أواجه مشكلات لم أكن عملتُ لها حسابًا! كنتُ أحب بحر الرجَز (فهو حِمار الشعر) ويسهلُ ركوبه، ولكنني كنتُ ما أزال أحنُّ شوقًا إلى بحور العربية المركَّبة، والحقُّ أنها أيسرُ في ضبطها من الرجَز الذي يُفْضي إلى الكامل ويختلط به، كما حدث لي في ترجمة الأبيات الأولى من إليوت، فإذا دخل الكامل استعصى عليَّ استغلالُ زحافاتِ الرجَز وعِلله الكثيرة! كما أنه أحيانًا يُفضي إلى «السريع»، وأحيانًا أثناء الترجمة يسمح بتفعيلاتٍ من الهزَج، وفي هذا ما فيه مِن عنَت! وكان أقرب مثال على ذلك ما حدث عندما ترجمتُ «الملَّاح الهَرِم» (وقد ترجمها بعضُهم باسم الملَّاح القديم)؛ إذ جاء فيها بيتٌ يقول حرفيًّا إن أفضل المصلِّين هم أفضل المحبِّين؛ أي إنَّ أصدق صور الصلاة هي الحب الصادق، وتَرجمْتُها هكذا «ومَن يحبُّ مخلصًا فإنه يُصلي مخلصًا.» وأحسستُ بتفعيلة الهزَج في الجزء الأخير من البيت، فاضطُرِرت إلى تعديلِه إلى «فمَن يصلي مخلصًا فقد أحبَّ مخلصًا» مما غيَّر المعنى الذي قصَد إليه كولريدج! وعندها غيرتُ بحر القصيدة كلها إلى المتدارَك (أو المحْدَث) قبل أن يَشيع اسمُ الخَبَب! فخرَجَت لي مشكلة جديدة وهي ورودُ تفعيلة هذا البحر على صورة «فاعل» إلى جانب الصورتين المزاحفتَين المعهودتين، إذا افترضنا أن أصلَ البحر هو فاعلن أربع مرات:
والتفعيلات الخارجة هي ما جاء تحتَها خطٌّ هنا. لم أكن أدري أن ذلك مباحٌ أو ممكن (أو أنه من التجديدات التي شاعت)، ولكنني كنتُ كتبت قصيدةً طويلة اسمها «عروس النيل» زاخرةً بألوان هذا الخروج، حتى في المطلع:
وكانت «فاعل» هي أولَ ألوان الخروج، ثم تلاها ما هو أدْهى وأمَرُّ:
فإلى جانب «فاعلُ» توجد «فَعِلُكَ» في السطر الرابع [كابن السلطان ويتبختَرْ] وهذا ما جعَلَني أضيق ذَرْعًا بهذا البحر الذي يخون راكبَه ويُضني طالبَه! ومِن ثَم كتبتُ قصيدةً فكاهية في «هجاء» هذا البحر تبدأ هكذا:
وعندما قرأها الدكتور يوسف خليف، وكنتُ أُطْلِعه قبل الجميع على ما أكتبُ ضحك، وقال «موش عارف ليه بتطلع معايَ فاعلُ ساعات!» وكان يجلس قريبًا أحدُ الخريجين، وكان اسمه النعمان القاضي (الدكتور) فيما بعد — رحمه الله — وكان يدرس لدرجة الماجستير في اللغة العربية، فلم يلبَثْ أن قال «بس ده غلط! قطَّع البيت!» وقال له يوسف خليف «لكن الوِدْن قابلاها!» وقلتُ في نفسي «الحمد لله أن القضية خلافية!» وعندما عدتُ إلى كتابة قصيدةٍ من البحر نفسِه تركتُ أذني تفعل ما تشاء، فكتبتُ:
وكانت القصيدة طويلةً بل أطولَ من «عروس النيل»، وأسميتُها «عروس الليل» وفيها أصوِّر حالَ شابٍّ محبَطٍ في حياته العاطفية، يخرج إلى طريق الجامعة ليلًا، فيرى ظلًّا يُحيله في خياله إلى عَروس يحلم معها بالصعود إلى شطِّ الجنة:
وتأتي اللحظة الحاسمة حين يرى الظل:
ومِن ثَم تبدأ الأحلام:
وتصل القصيدة إلى ذروتها حين يتلاشى الحلم، ويُفيق الحالم إلى واقع حياته، ويعود وحيدًا مهمومًا، فكأنما كان يُشبه «عُرَيبةَ القصَب» وهو ينشد:
وعندما قرأ الدكتور شكري عياد هذه الأبيات ركَّز على التجديد في تغيير القافية والبحر، ولامَني على ما شعَر بأنه الميلُ إلى التعبير المباشر أحيانًا، ولكنه شجعني وقال أنا أحيِّي جُرأتَك! ومِن ثَمَّ اطمأنَّ قلبي إلى أن التحويرات في بحر المتدارَك لم تكن موقعَ تقريعه، وقمتُ بإلقاء القصيدة في إحدى ندوات الشعر، فحظيت بترحيبِ «الجمهور»، ولكن رشاد رشدي كان مُقطَّبَ الوجه، فسألتُه ما الخبر؟ فقال: لا .. «الأوَّلَانية أحسن ..» فسألتُ في ذعرٍ: «وِدِي؟» فقال: «دي غراميات رخيصة!» فأُصِبتُ بخيبة أمل كبيرة وحفظتُها مع أخواتها في درج المكتب!
وفي اليوم التالي جاءني وحيد النقاش (رحمه الله) وقال لي أن أصحبَه إلى البوفيه حيث يجلس مع أصدقائه، ولبَّيتُ على الفور إذ ذكرتُ عددًا من زهور الكلية اللائي كنَّ يجتمعنَ في ذلك المجلس، وعندما ذهبنا وجدنا سمير سرحان منهمكًا في قراءة شيءٍ ما، ومعه فتاةٌ تلبس نظَّارة طبية، سمراء وجعداء الشعر، وأخرى ذاتُ عينين خضراوين، وثالثةٌ بيضاء فارعةٌ ذات شعر ذهبي، وقدَّمَني «وحيد»، وسرعان ما انهمَكْنا في أحاديث الأدب و«الجو الأدبي»، وذُهِلت لمدى إحاطة سمير سرحان بما يدور في هذا «الجو» الذي كانت العواصف تهبُّ عليه من الشرق والغرب، كان يعرف كلَّ ما يجري وكل ما يُكتب وكل ما كُتب، وإن كان ما يزال في السنة الثانية! وكانت الفتاة السمراء تنظر إليه بلونٍ من التأليهِ والتقديس، فحسَدتُه في أعماقي، لا لأنه يحظى بإعجابها بل لأنه يستطيع أن يجمع هذه الزهورَ حوله، على تنوُّعها وتفاوُتِها، وفي آخِر الجلسة قال لي وحيد: لا بد أن نجتمع الليلة عندي لمناقشة القصيدة، وضُرِبَ الموعد وعندما ذهَبنا إلى منزل آل النقاش كان في الغرفة أخوه الأكبرُ رجاء، والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي. فانضمَّ ثلاثتُنا إليهم. فقرأتُ القصيدة، فأثارت الخلافَ وإن كان المعترض، وهو الشاعر حجازي، لم يذكر أيَّ عيوب عَروضية؛ إما بسبب إلقائي الذي أخفى العيوب، أو لأنه حقًّا لم يجد فيها عيوبًا عَروضية!
وعندما امتدَّ بنا الليل قرأتُ على الحاضرين أبياتًا أخرى من شعري، ثم بعض ترجمات لوليم بليك ووردزورث، فأحسستُ بأن ثمةَ إجماعًا على أن موهبتي ما زالت في حاجةٍ إلى صَقْل وتنمية، وهذا ما كنتُ أحسه أنا أيضًا، وإن كان وحيد النقاش لا يتحفَّظ في إعجابه، ويُساندني دائمًا.
كان منزل آل النقاش يقع في وسط الحقول، وراء «نادي الصيد المصري» (الذي كان اسمه نادي الصيد الملَكي قبل ذلك)، وقد مرَرْنا عندما خرجنا بمزارعَ شاسعةٍ تمتدُّ حتى الهضبة الغربية، وسار سمير سرحان معي حتى أول «العمران» فودَّعَني وعاد إلى الجيزة، وعُدتُ أنا إلى المنزل وأنا أقلِّب الأمرَ على وجوهه، حائرًا هل أركز على الدراسة وأهجر الشعر، أم أُوازن بينهما حتى يقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا؟
٨
قصَصتُ ما حدث لعمرو برادة، صديقي الذي كان يشاركني «المذاكرة»، وكان والده الدكتور حسن برادة يعمل مديرًا لمستشفى العجوزة (مستشفى الجمعيَّة الخيرية الإسلامية بالعجوزة)، وكنا قد قسَمنا موادَّ السنة الرابعة بيننا، فاختَصَّ هو بالدراما والرواية، وكان الشعرُ والنقد من نصيبي. وبعد مناقشةٍ لموضوع الأدب وكتابتي الشعر، قرَّرنا التفرُّغَ للسنة الرابعة؛ فعليها يتوقف مستقبلنا. وعندما تُوفِّي والده، انتقلت الأسرة إلى شقة كبيرة فاخرة في الزمالك في شارع شجرة الدر، تُواجه «برج الزمالك»، وهو عمارة شاهقة تُطِلُّ على شارع ٢٦ يوليو (شارع فؤاد سابقًا). وكنتُ أعرف إخوتَه وأخَواته، وأستمع لما يكتبُه أخوه إسماعيل، الذي كان يدرس الطِّب، من شعرٍ ونثر بالإنجليزية، وأشارك حسين أخاه الأكبر في نظامٍ غذائي لتخفيض الوزن؛ فقد كان رحمه الله مُفرِط السِّمْنة، وكنتُ أحيانًا أقضي اليوم بطوله أستمع إلى شرحه للمادتَين، أو أشرح له المادتين اللتين تكفَّلتُ بهما.
وذات يوم سمعتُ بمشكلة حازم بركات. كان حازم من أسرة بالغة الثراء، وكان يتيمًا تولَّت والدتُه تربيتَه، وكان لا يكاد يعرف العربية، وعندما كان يزورنا أثناء «المذاكرة» كان يبدو مشتَّتَ الذهن زائغَ العينين، ثم لا يلبث أن يمضيَ مسرعًا كأنَّ لديه مهمة عاجلة يريد قضاءها. وقال لي عمرو إن حازمًا كانت لديه مشكلة فريدة، وهي حبُّ والدته إلى درجة التقديس، مما جعله يفشل في إقامة أي علاقة عادية مع أيِّ فتاة صغيرة، وكان قد عرَض على عمرو فكرة التآخي في الدم؛ أي أن يقطعَ شريانًا في ساعده وشريانًا في ساعد عمرو، ثم يمزجَ دِماهما حتى يرتبطا إلى الأبد، ولكن عمرو كان يرفض. أما مشكلته فهي مُيوله الانتحارية؛ إذ حاول الانتحارَ عدة مرات، وكان عمرو يخشى أن يُوفَّق في إحدى هذه المحاولات آخِرَ الأمر. وبعد سنوات قليلة نجح فعلًا، رحم الله حازمًا.
لا أدري إلى أيِّ حد كان عمرو مُصيبًا في تشخيص مشكلةِ حازم، والأرجح أنه كان متأثرًا برواية «أبناء وعشاق» للكاتب الإنجليزي د. ﻫ. لورانس، وكنا نقضي ساعاتٍ طويلةً في تحليل بعض فِقراتها، بينما فعَلنا ما لم يفعله غيرُنا من الطلبة آنَذاك وهو أنْ قرأنا رواية «صورة الفنان شابًّا» للكاتب جيمس جويس بصوتٍ عالٍ! كان عمرو يقرأ فصلًا وأنا أتابع، ثم أقرأ أنا فصلًا آخر وهو يتابع، ونُعلِّق أثناء القراءة على النص، ولكنَّ كلًّا منا قرأ رواية «لورد جيم» وحده، وانتهزتُ أنا فرصة مرض الإنفلونزا الذي ألزمَني المنزل ثلاثةَ أيام للانتهاء من رواية «السفراء» للكاتب الأمريكي «هنري جيمس». وكنا نتواعد تليفونيًّا على اللقاء كُلما قطعنا شوطًا في الاستذكار.
وكان مذهبنا في دراسة شيكسبير يعتمد على قراءة النص بصوتٍ عالٍ وبلهجة تمثيلية، وكنا نحفظ منه فقراتٍ مطوَّلةً هي «المونولوجات» التي يُلقيها أحد الشخصيات كالملك لير مثلًا، ولن أنسى ذلك اليوم الذي «سمَّعنا» فيه أهم المونولوجات ونحن جالسان في أتوبيس رقم ٦ الذي يمرُّ بالجامعة، وبالعجوزة وبالزمالك، ثم ينتهي إلى العتبة، في ميدان الخازندار.
وقد ترك لي عمرو مهمة إعداد مذكِّرات كاملة له في اللغة العربية يحفظها عن ظهر قلب، ففعلَت ذلك، وكانت نتيجة امتحان الفصل الدراسي الأول أجملَ مما أتوقَّع؛ إذ كنت أعلى الطلبة درجات في كل شيء، والأول بلا مُنازع. ولم يكن ذلك يعني إلا أن جهودَنا آتَت أُكلها، وأن علينا مواصلةَ الجهد حتى نقهَر الآخرين في الصراع على القمة. وعندما زرتُ أخي حسن في الإسكندرية، حيث كنت استُدعيت للتجنيد، أخبرتُه بالنتيجة، وكان يقيم بالمدينة الجامعية في سموحة، ويدرس في كلية العلوم، وجعلنا نُقارن بين ما أدرسه أنا وما يدرسُه هو، وكنتُ مُغرَمًا بالعلوم، فتحدثَ وأفاض، وتعرَّفت عن طريقه على عددٍ من زملائه النوابغ الذين يتمتَّعون بجذورٍ ريفية، ولم يستطيعوا التخلُّص من عاداتهم القروية في المدينة، فكان أحدهم يقضي حاجتَه في الخلاء (في الغائط)؛ لأنه لم يستطع التكيُّف مع النظم الأوروبية، وكان كثيرًا ما يصطدم مع سُلطات المدينة الجامعية لهذا السبب، ولكنه كان، فيما يبدو، لا يملك تغيير العادة التي اكتسَبها طفلًا ودرَجَ عليها، وعندما قابلتُه في لندن بعد سنوات، وكان يدرس للدكتوراه في ليفربول، ذكَّرتُه بأحوال الإسكندرية فضحك وقال إنه يُخادع الإنجليز ويفعل ما يحلو له بطريقة مبتكَرة!
في بداية الفصل الدراسي الثاني، أي في أوائل عام ١٩٥٩م، دعانا الدكتور رشاد رشدي لمشاهدة مسرحيته الثانية «لعبة الحب» في دار الأوبرا القديمة، التي احترقَت بعد ذلك بعشر سنوات، وكان الحشد كبيرًا والعرض شائقًا، فالتقينا في الاستراحة (سمير سرحان ووحيد النقاش وأنا)، وتناقشنا في إبداع عبد الحفيظ التطاوي وزيزي مصطفى وليلى نصر (التي كانت تقوم بدور خادمة بلهاء) وميمي جمال وغيرهم، ولكنني أحسستُ أن عاصفةً ما توشك أن تهب، فمع أن المسرحية كانت في صُلبها «أخلاقية» تدعو إلى الإخلاص في العلاقات الزوجية، و«التفرد» في الحب، فقد كان تصوير العلاقات الجنسية على المسرح، وهو الذي عمد إليه الكاتب حتى يُدينه، جذابًا بطبيعته مُثيرًا للتفكير، مما كان يُنذر بإساءةِ فَهمه وتفسيره. وكانت فرقة «المسرح الحر» التي قدَّمَت الرواية تريد ولا شكَّ اجتذابَ الجمهور، وكان المخرج «كمال يس» يقسم اهتمامه بالتساوي بين الإخلاص للنص والإخلاص للجمهور!
وهبَّت العاصفة المتوقَّعة، وكان رشدي غاضبًا من إساءة فهم رمز «الذُّرة»؛ إذ كان يُصور الفتاة في صورة دجاجة حبيسة في قفص، يحاول الرجل إغراءها بالخروج منه عن طريق التلويح بحبَّات الذُّرة، وكان النَّصُّ يصف حبات الذرة بأنها طريَّة ولذيذة، ولكن المخرج وضع في يد الممثل «كوز ذرة» مما جعل الرمز يقبل تفسيرًا مختلفًا! وتوالَت المقالاتُ التي تسبُّ المسرحية، مما زاد من إقبال الجمهور، ولاحت الفرصةُ لأصحاب الاستقطاب والتصنيف لأن يضَعوا رشاد رشدي في «خانة» اليمين الذي يكتب الفنَّ من أجل الفن، وتوجيه التهمة الصريحة إليه بأنه يعزل نفسَه عن قضايا المجتمع، وخرجَت إحدى المقالات تقول: لقد تجاهل أزمة المواصلات ومشاكل الكادحين، وجعل يتحدث بدلًا من ذلك عن ضرورة الإخلاص والوفاء! وليته (يقول المقال) عالجَ الإخلاص للوطن، ولكنه عالج الإخلاص للمرأة! وهل المرأة (يقول المقال) من القضايا الملحَّة للمجتمع؟
وبانتهاء العام الدراسي، والاطمئنان إلى حدٍّ ما إلى ما ستكون النتيجة عليه، عُدتُ إلى مكتبي. كان والدي قد أعطاني مكتبَه الضخم الذي نقله من «رشيد»، وكانت أمتع أوقاتي هي التي أقضيها جالسًا أقرأ في الكرسيِّ الضخم، أو أكتب أو أُترجم. كنتُ قد اكتشفت موردًا لا ينضبُ للمال عن طريق الترجمة لدار الشَّعب؛ إذ كنتُ بدأت في الصيف ترجمة كتاب «فنون الجنس البشري» من تأليف هندريك ويليم فان لون (وهو هولندي)، وكنت كلما سلَّمتُ فصلًا مترجَمًا إلى الأستاذ إسماعيل شوقي، رئيس تحرير المطبوعات، نفحَني خمسة جنيهات، فكان ذلك دخلًا هائلًا يُتيح لي أن أذهب إلى السينما وأن أتناولَ الطعام في المطاعم الفاخرة، وعدم اللجوء إلى خالي عبد الحليم كلما احتجتُ إلى المال. ولكن الكتاب طويل، وكنتُ أعاني في ترجمته معاناةً شديدة.
وسرعان ما تعرَّفتُ بالقدماء في غرفة الأخبار العربية، مثل سعيد عثمان الذي انتقل إلى صحيفة المساء فيما بعد، وميلاد بسادة، وسَنيَّة ماهر، وحسين الحوت، وحنَّا إلياس. أما «ميلاد» فكان أصلًا من قسم الأخبار الأجنبية ولكنَّ نقْص الموظفين استدعى استعارته، وكانت له بعضُ «اللوازم» التي أصبحَت عَلمًا عليه. وكان يُقدم في البرنامج الأوروبي برنامجًا من الأغاني الأجنبية اسمه «جامبوري» ويشكو لي أنه على شهرته لا يُحس بآثار هذه الشُّهرة، فلا يعرف أحدٌ شكلَه ولا يحظى بإعجاب الفتيات كما ينبغي! وقد هاجر من مِصر فيما بعدُ وأصبح مخرجًا سينمائيًّا عالميًّا. أما حسين الحوت فكان الكهلُ المخضرم، وكان مسئولًا عن مراجعة جميع الترجمات، وكان سعيد عثمان يتمتع بثقةٍ كبيرة في نفسه، لطيفَ المعشر، وهمس لي أحدُهم أنه زوجُ آمال مكاوي أخت سعد لبيب — وهو مَن هو! أما حنَّا إلياس فكان دائمَ التفاخر بأنه يُترجم كتاب «المأساة الشيكسبيرية» من تأليف أ. س. برادلي، وأن الذي يتولى المراجعة أعظمُ أستاذ متخصص — الدكتورة سهير القَلَماوي! ولم تكن سَنية ماهر تتكلم كثيرًا ولكنها كانت دائمًا تُشير إلى الرقابة على المصنَّفات الفنية، وهمس لي الهامس بأنها زوجةُ مصطفى درويش رجل الرقابة المرموق، وإن كانت اعتدال ممتاز هي الرقيبة التي يظهر اسمها في السينما؛ لأنها — همَس الهامس — زوجة «أحمد» رشدي صالح!
وفي الأيام التالية أُعلِنَت نتيجة المسابقة، وكان من بين الناجحين سمير صبري، خريج الإسكندرية، وعبد الفتاح العدوي، خريج القاهرة، الذي كان يُقيم في شارعنا ويتفاخر محقًّا بتمكُّنِه من اللغة العربية. ولكن رئيس قسم الأخبار الأجنبية محمد إسماعيل محمد، المتخصص في اللغة الإيطالية والذي كان يُعاني من حدبٍ في ظهره أصرَّ على استدعائي من القسم العربي، إلى جانب سمير صبري؛ فالقسم في حاجةٍ ماسة «إليهما»! وانتقلتُ في أوائل يوليو إلى القسم الأجنبي، فتعرَّفتُ على أليك (أي إسكندر) مجلِّي صاحب برنامج ما يطلبه المستمعون من الأغاني الغربية، وسليم رزق الله، المترجم الخاص لرئاسة الجمهورية، وقريصاتي، المترجم إلى اللغة الفرنسية، وزميله ماريو الذي تخصَّص في النشرات الإيطالية، وأميمة عبد الفتاح (الفرنسية). وتوثقَت صداقتي مع شخص يُدعى نابليون طنُّوس جاء باختراعٍ عجيب إلى دار الإذاعة، وهو راديو «محمول» يُسمَّى ترانزستور! وكان نابليون يُترجم العمود اليوميَّ من الأهرام (وكان اسمه رأي للأهرام، ثم أصبح رأي الأهرام)؛ مما كان يقتضي منه أن يحضر في الفجر كي يَنسخَه على الآلة الكاتبة ويوزِّعَه على أقسام اللغات الأجنبية الأخرى، وكان يتقاضى عن كل «عمود» جنيهَين اثنين، لكنه كان قد ملَّ العمل المبكر، وأصبح يعمل في وكالات الأنباء الأجنبية بأجرٍ أكبر (أضعاف أضعاف هذا المبلغ)؛ ومِن ثمَّ درَّبَني على ترجمة «العمود»، وزكَّاني لدى محمد إسماعيل محمد، فإذا به ينفجرُ قائلًا: «انتو بتشتغلوا من ورايا؟ اسمع يا عناني! أنا موش ملتزم بأي شيء لك! وأنت كنت عايز تعمل العمود حتاخد تِلْت الأجر؛ لأنك موظف هنا! عايز تاخد الفية كلها استقيل!»
ويبدو أنه أدرك، رحمه الله، أنه أخطأ في حقِّي، أو ربما أراد التحقُّق وحسْبُ من موقفي القانوني، فأرسَل إلى قسم العقود بالشئون القانونية يستَفْتيهم، فإذا بهم يقولون إنهم لا يعرفون شيئًا عني! ولذلك وجدتُه في اليوم التالي يسألني إن كنتُ قد استكملتُ مُسوِّغات التعيين! فلما أنكرتُ صاح قائلًا: «أُمَّال بتشتغل بصفة إيه؟ روح كمِّل مسوغاتك وتعال!» لم تكن نتيجة الليسانس قد أُعلِنَت، فعُدتُ حزينًا كاسفَ البال إلى الجامعة وأنا أَعجبُ كيف ضاعت هذه الفرصةُ الثمينة، وطفقتُ أسأل عن موعدِ النتيجة، فأخبروني أنها على وشك الظهور، فذهبتُ إلى مبنى الكلية الرئيسي أتشمَّم الأخبار، فقابلتُ الدكتور شكري عياد على السُّلم، ودعاني إلى غرفة أساتذة قسم اللغة العربية وقال لي دون مقدمات: اتصل بالدكتور عبد الحميد يونس لأنه يريد مَن يساعده في ترجمةِ شيء ما، واتصِل بسامي داود في صحيفة الجمهورية. فلك لديه عمل. ولاح الأملُ من جديد!
اتصلت بالدكتور يونس فقال لي إنه مُكلَّف من قِبَل جامعة الدول العربية، بترجمة مسرحية «طرويلوس وكريسيدا» لشيكسبير بعد أن رفَضَت لجنةُ المراجعة ترجمةً أخرى كان طه حسين قد كلَّفَ بها عراقيًّا لا يلمُّ الإلمام الكافيَ باللغة الإنجليزية. وقال إنه لن يُعطيني راتبًا بل ١٠ في المائة من «الأرباح»، ولما كانت «الأرباح» (أي أجر الترجمة) في حدود مائتي جنيه، رأيتُ أن النسبة معقولة، وبدأنا العمل. وعندما ذهبتُ إلى سامي داود سألَني عن تخصصي فقلتُ له الأدب، فأحالني إلى رشدي صالح الذي كان يُحرر بابًا أسبوعيًّا عن أخبار الأدب. وكلَّفَني رشدي صالح بجمع «الأخبار» الأدبية، ولكنني عندما جمعتُ الأخبار وجدتُ صحفيَّةً أخرى اسمها زينب حسين، ذاتَ ملامح آسيوية، تُسيطر تمامًا على ذلك الباب، وتأتي بكلِّ ما يُثير شهيَّة القارئ؛ إذ أجْرَت تحقيقًا صحفيًّا مع الشاعر السوري عمر أبو ريشة، هاجمَ فيه المدرسة الجديدة هجومًا شديدًا، وكان أحقَّ بالنشر من أي أخبار!
لم أذهب إلى الإذاعة يومَين متتاليين، لا لأنني كنت غاضبًا بل لأنني كنت حزينًا، وفي مساء اليوم الثاني من انقطاعي وجدتُ رسالةً تليفونية من نابليون طَنُّوس يستنجدُ فيها بي، وترك رقم تليفونه فاتصلتُ به وقال لي إن إسحاق حنَّا ينتظرك غدًا في العاشرة صباحًا؛ لأن جمال عبد الناصر في سوريا وهو لا يتوقف عن إلقاء الخُطَب بمناسبة عيد ثورة يوليو، ولا يوجد العددُ الكافي من المترجمين «إلى الإنجليزية» لديه. وذهبتُ إلى إسحاق في اليوم الثالث، ولاقاني بنِكاته وقفَشاته، بالإنجليزية والعربية مثل «يومين في السكة؟ انت جاي من «رشيد» مشي؟» دون أن يفتح موضوع «الزعل»! وكان معه زميلُه في رئاسة التحرير إبراهيم وهبى، فتولَّى الأخير مُفاتحتي في أن أعمل معهم في القسم العربي حتى يتم التعيين، وقال إنه سوف يكون بتاريخٍ سابق، يحفظ لي أقدَميَّتي. ولم أُعقِّب. وقد لاحظتُ ذلك دائمًا في سلوكي عند الأزمات. إذ إن الصمت أبلغُ من الحديث. وبدأت العمل فورًا، وانتهيتُ في نحو الثالثة بعد الظهر من الخِطاب الذي كان عبد الناصر قد ألقاه في الصباح، وكان ميلاد بسادة يراجع النصَّ الإنجليزي صفحةً صفحة، ويُعطيه لعم محمد «الساعي»، الذي يحمل الصفحات ويختفي.
لم يَقُل أحدٌ شيئًا. وكنت أعمل «وردية» المساء في اليوم التالي، وكان البرنامج اليومي لعملي مع الدكتور يونس هو أن أقوم في الصباح «بتحضير» النصِّ الذي سيُترجمه هو بعد الظهر (معاني الكلمات «الصعبة» وشرح العبارات الشيكسبيرية الغامضة ومقارنة الطبعات المختلفة؛ لعقد المقارنات بين آراء النقَّاد وتفسيراتهم) ثم أذهب في الثالثة إلى فيلا يونس حيث نعمل حتى السادسة أو السابعة، ومنه إلى الإذاعة. وعندما وصلتُ إلى الإذاعة في مساء ذلك اليوم وجدتُ في انتظاري يحيى أبو بكر. كان يعمل مديرًا لمكتب القائمقام عبد القادر حاتم الذي ترقَّى من مدير مصلحة الاستعلامات إلى مدير مكتب قائد الجناح علي صبري وزير شئون رئاسة الجمهورية. وقال لي يحيى أبو بكر إنه سمع كلامًا طيِّبًا عني، ويريدني أن أقرِّر إذا ما كنت سوف أستمرُّ في الإذاعة أم أفكر في تغيير «المستقبل العمَلي» — أي الوظيفة! ودُهِشت. وتساءلتُ هل ساءه ما قرأ من ترجماتي فقال فورًا: «بالعكس! لكنني أريدك معي!» ورد إسحاق حنا على الفور ضاحكًا: «فوق!» وقال يحيى أبو بكر: «يعني في الدور الخامس!» وقلت له: إنني أريد العمل مُعيدًا في قسم اللغة الإنجليزية إذا سنَحَت الفرصة، وإن كنتُ لن أتوقف عن الترجمة والكتابة؛ فأنا أحب الأدب حبًّا جمًّا! وقال لي دون انفعال: «فكِّر وقل لإسحاق!»
وعندما عدت إلى المنزل كلَّمني عمرو برادة في التليفون، وحكى لي أنه قابل رشاد رشدي في «وسط البلد» وتناول معه الشاي، ووعده بأنه يُعيِّنه في القسم، دون أن يذكر أحدًا من الآخرين الحاصلين على جيد جدًّا، وكنا سبعة: سلمى محمد غانم (التي هاجرَت إلى كندا)، وعفاف مصطفى المنوفي (الأستاذة حاليًّا في القسم)، وأحمد الطيب كردفاني (سوداني) (السفير حاليًّا بالخارجية السودانية)، وعبد المجيد بيومي حسن (رئيس قسم الترجمة بالأمم المتحدة)، وعمرو برادة (الذي هاجر إلى الولايات المتحدة)، وعايدة فرَّاج طايع (التي هاجرَت إلى الخارج)، وأنا. لم أكن الأخيرَ طبعًا، ولكن احتمالات التعيين كانت تضَعُني قطعًا في آخِر القائمة! وقال لي عمرو إنه ذكَرني بالخير لرشاد رشدي، وأن الأستاذ لم يردَّ عليه ردًّا شافيًا.
ولا أذكر ظروف امتحان مدرِّسي اللغة الإنجليزية بوزارة التربية، وكيف وجدتُ نفسي أمام اللجنة، وكيف أنني تلقيتُ خطابًا بالتعيين في مدرسة الظاهر التجارية الثانوية للبنين، وكيف تلقَّى زميلي رضا فرحات خطابًا بالتعيين في مدرسةٍ ثانوية بالإسكندرية، في محرَّم بك بالقرب من مسكنِنا القديم، ولكنني أذكر تمامًا أنني ذهبتُ معه للتنازل عن مكاني في القاهرة؛ إذ كنتُ الوحيدَ الذي جاءه التعيينُ فيها، وفي أوائل سبتمبر كنتُ داخلًا دارَ الإذاعة حين قابلَتني «دورا حليم» المترجِمة الفذَّة (رحمها الله)، زوجة الدكتور ناصح أمين، وصاحت في وجهي «مبروك! المدير مضى ورقك!»
وذهبتُ من فَوري إلى إسحاق حنا لأستوثقَ فقال لي: مبروك عليك «سُمْعَة» (يقصد محمد إسماعيل محمد) فدُهِشت! ما علاقة التعيين بقسم الأخبار الأجنبية؟ وقال إسحاق موضحًا: ممكن تشتغل بروحين! (وضحك ضحكةً مُجلجلة) وعلمتُ فيما بعدُ أنه هو الذي أخذ «أوراقي» إلى محمد أمين حمَّاد، رئيس الإذاعة، وحصل على توقيعه بنفسِه. وأحسستُ بالامتنان لهذا الرجل الذي لم يتوقَّف يومًا عن العمل الجاد، وكان المشهورُ عنه أنه يكتب أفضلَ التعليقات، وأن إذاعة إسرائيل تردُّ عليها دون سِواها. وما إن دخلتُ رسميًّا غرفة الأخبار الأجنبية حتى وجدتُ اختلاف «الروح» واضحًا! كان الجميع يُرحبون بي، وعلى رأسهم «سُمْعَة»! ومع نهاية أكتوبر بدأتُ أحس بأن عملي في الإذاعة لن يستمر، صحيحٌ أنني استلمتُ شيكًا بستةٍ وتسعين جنيهًا (مائة بعد خَصم الضرائب) نظيرَ العمل خمسة شهور، حسَبَ ما وعدني إسحاق حنا، وكنتُ أسعدَ خلق الله طُرًّا، إلا أنني شعرتُ بأن الجامعة تُناديني، خصوصًا بعد أن انتهيت من العمل في المهمة الأولى مع الدكتور يونس، وحصلتُ على مقدَّم الأتعاب (عشَرة جنيهات) وبعد أن تركتُ صحيفة الجمهورية!
وكان يُقيم في حي العجوزة معنا بعضُ طلبة قسم اللغة الإنجليزية، وكان من الطبيعيِّ أن نتحادَث ونتشاور، وكان من أقربهم إلى قلبي شابٌّ خَجول اسمه ماهر حسن البطوطي، لم يكن يتحدثُ كثيرًا، وكان أخوه الأكبر عصام قد تخرَّج في كلية البوليس وحصَل على أعلى التقديرات في ليسانس الحقوق الذي يدرسه الطلبة في نفس الوقت، وكان المأمولُ أن يحصل ماهر أيضًا على جيد جدًّا في السنة الرابعة (التالية)، وكنت أتردَّد عليه، وذات يوم شاهدتُ عبد اللطيف الجمَّال، الذي كان مُعيدًا في القسم، في المنزل المقابل! وخرجتُ لمقابلته، وكنتُ أتردَّد عليه أيامَ مقامه في المدينة الجامعية، وكان قد انتهى تقريبًا من رسالته للماجستير في النقد الأدبي بإشراف رشاد رشدي، وسألني عن الأخبار، فقلت له إن الأمر مَيئوسٌ منه؛ لأن رشدي قد انتدب عمرو برادة وسلمى غانم وعفاف المنوفي فقط للعمل، وإنني قد استقرَّ بي الأمر في الإذاعة، وتحادَثْنا حول الاحتمالات، فقال لي: «اقطع الشكَّ باليقين .. قابِلْ رشدي واسأَلْه!» مع أن الدراسة قد بدأتْ بالفعل! ثم أردف قائلًا: «كَلِّمه بالتليفون وخُذ منه موعدًا.» وأخذتُ منه الرقم، وحادثتُه بالتليفون فدعاني إلى الحضور إلى منزله في صباح اليوم التالي.
وعندما ذهبتُ إليه تحادثنا في كل شيء إلا في التعيين، وحاولتُ أن أُذكِّره بوعده ولكن الفرصة لم تسنح، وسألني عن رأيي في أساتذة القسم، فقلتُ له «لستُ في موقع يسمح لي بالحُكم .. ولكنني أحببتُ مرسي سعد الدين وأحَبَّه الطلبة.» وكان مرسي منتدَبًا من الخارج للتدريس لدينا، ولم أكن أدري أن تلك الملاحظةَ كانت وراء إلغاء انتدابه، فكانت تلك السنةُ آخِرَ سنة يقوم بالتدريس فيها لدينا! ثم قال كأنما ليُنهِيَ المقابلة، وقال بنبراتٍ عارضة وهو يسير معي إلى الباب: «تعالَ غدًا إلى القسم حتى نرى ما يُمكنك أن تُدرِّسه.» وخرجت. ولم أنتظر المصعد. كنتُ أقفز درجات السلم قفزًا، وذهبتُ إلى عبد اللطيف الجمَّال فأيقظتُه من النوم وصنعتُ له الشاي، فأخبرته فقال بنبراتٍ حزينة: مستقبلٌ مُدْلَهِمٌّ!
٩
وقبل أن تبدأ الدروس، دخلتُ مدرج ١٣، وهو أكبر مدرج في مبنى القسم، وكان خاليًا ونظيفًا، ووقفتُ وحدي أتأمَّل المستقبل؛ فلربما كُتب لي أن أقفَ فيه موقف الأستاذ بعد أن جلستُ فيه تلميذًا، ولكن كلمة المستقبل «المُدْلَهِمِّ» التي نطقَها عبد اللطيف الجمَّال كانت تُسيطر على خيالي؛ فكم قضى من ليالٍ يقرأ وينقل مذكراتٍ عن آراء إليوت النقدية، وآراء أرنولد، ويربط أرنولد بحركة رومانسية غاربة، على ما في نقده من بذور الحَداثة؛ ابتغاءَ إقامة تضادٍّ بين المدرسة الفكتورية ومدرسة النقد الحديث! وكم من ليالٍ أصابه اليأسُ فيها! وكم عانى من الوحشة وهو يرصد فكرةً جديدة تُزيل الحاجز الموهوم بين وظيفة اللغة التوصيلية؛ أي باعتبارها وسيلةً لنقل المعاني، وبين الوظيفة الإبداعية؛ أي باعتبارها كِيانًا مستقلًّا (خصوصًا في الشعر) له قوانينُه وعالمه الخاصُّ به! وتذكَّرتُ أنه كان يتقاضى خمسة عشَر جنيهًا لا تكاد تكفي نفقاتِ الحياة المفرَدة، فما بالك بالزواج! وتصوَّرت أن الأمل الذي لاحَ خادع، فجعلتُ أذرع الغرفةَ مِن أقصاها إلى أقصاها وأنا أعجبُ لمشاعر الحزن التي لا مُبرر لها، وذكرتُ قول وردزورث «قد تحمل الأفراحُ للشعراء أتراحًا مقيمة!» وفي الوقت نفسِه ذكَرتُ عكس ذلك المعنى في قول حِفْني ناصف يمتدحُ حرارة الجو في «قنا» عندما نُقِل إليها:
ووجدتُ نفسي حائرًا، لا أستطيع سوى ركوبِ البحر نفسِه، فبدأتُ أنشد ما بدا لي وحي تلك اللحظة:
ولم أكتب من هذه الأبيات شيئًا حتى عدتُ إلى المنزل فسجَّلتُها، وحاولتُ الزيادة فلم أستطع؛ فكأنما مرَّت اللحظة بكلِّ ما فيها، ولم أتنبه إلى أنني لم أضَع قافيةً للشطر الأول إلا عندما قابلتُ صديقي صلاح عيد (الدكتور الآن) الذي كان في قسم اللغة العربية، فأشار إلى ضرورة إبدال الزَّهْر بالورد، وحذفِ البيت الذي يتضمَّن خطر «الضب»، أو تغييرِ الضبِّ إلى «الناب» (أي ناب الثعبان) وقال إن اللام الملحَقة بآخرِ فعلٍ في القصيدة لا معنى لها (لتُنذر)، وربما كانت الفاءُ أقوى تعبيرًا! ولكنني كنت قد قررتُ أن أُلقِيَ بالأبيات في غَياهب النسيان؛ إذ كنت كلما نظرت فيها وجدتُ تناقضاتٍ في الصور تمنع من إبراز صورةٍ موحَّدة؛ فالبيت الأول يوحي بالغيث، ولا شك أن صورة «جادك الغيث إذا الغيثُ همَى» تكمن وراءه، وبعد ذلك تُصبح صورةُ الزمان صورةَ وحش كاسر، ومن خلفها ما أبدعه المتنبي: «إذا رأيتَ نيوبَ الليل بارزةً»، وإن كانت «الثَّنايا» مستوحاةً من أحمد شوقي: «واستخبِروا الراحَ هل مَسَّتْ ثَناياها»، ثم يتحوَّل الجوُّ إلى صَحْو! والصور التالية تَزيد الطينَ بلة! ومِن ثَمَّ قرَّرتُ أن تكون تلك الأبياتُ هي آخِرَ عهدي بالشعر العمودي! باستثناء «الإخوانيات»، وما جرى مجراها من هذا النظم، ودفعَني الغرورُ أو رفضُ التسليم بالعجز إلى تصوُّرِ أن الشكل نفسَه هو سببُ التمزق، لا أي ضعفٍ في إحكام الصَّنْعة، وقرأتُ مقدمة ديوان «نداء القمم» للدكتور يوسف خليف فعرَفتُ أن بيني وبين إحكام الصنعة المنشودِ أميالًا طويلة، وسألتُ الدكتور حسين نصَّار عن مشكلة القافية الموحَّدة، فقال لي إنني لا يجب أن أقلق لأن هذه مشكلةٌ يواجهها الجميع، والشاعر المتميز هو مَن تزيد ذخيرتُه اللفظية عن حاجات القافية، فيستطيع «الاختيار» دون أن تفرضَ القافيةُ الواحدة عليه كلماتٍ بعينها، وذلك ما لم أكن أستطيع أن أزعمَه لنفسي أبدًا!
وعندما قرأتُ كتاب «لانجبوم» واسمه «شعر التجرِبة»، بعد ذلك بعدة سنوات في إنجلترا، أدركتُ حقيقة عدم رضائي عن الأبيات! إنها جميعًا مستقاةٌ من مصادر أدبية قديمة، ومن لغة القدماء، وصورُها لا علاقة لها بالتجرِبة الخاصة التي كنتُ أواجهها، على عكس «عروس الليل» أو المقطوعات القصيرة التي كنتُ أكتبها من حينٍ لآخَر، ولا يجمع بينها مشهدُ تجرِبة واحد، فوَحدةُ المشهد تُملي وحدة الصور، وليس معنى الوحدة هو أن تكون الصورُ متماثلة، بل أن تكون متَّسقةً ومتجانسة! وناقشتُ موضوع التجانُس مع هدى حبيشة (الدكتورة فيما بعد)، فدلَّتني على كتاب عن الأنماط الفطرية، (أو النماذج القديمة، النماذج العليا) في الشعر، من تأليف أستاذة اسمها «مود بودكين»، فقرأتُه (بعد ذلك بنحوِ عام أثناء دراستي للماجستير)، واكتشفتُ أن نظرية عالم النفس الأشهر «كارل جوستاف يونج» من وراء هذا الكتاب، وموجزها أن الإنسان يولد بوعي إنساني مشترك بأشياءَ معيَّنة وبمعاني تلك الأشياء، ومنها النار والماء والهواء والدمُ وصور الثعبان والصحراء والبحر والدائرة والمثلث وما إلى ذلك؛ فهي فطرية، وهي قديمة، وهي نماذجُ أو صورٌ أو رموز، يتفق عليها البشر مهما اختلفَت لُغاتهم وثقافاتهم. وقد طبَّقَت الدراسةُ هذه النظريةَ على الشعر؛ تأكيدًا لما زعمه يونج من وجود «وعي جماعي» بشري، ومستوًى باطني لا يَعيه الإنسانُ كلَّ الوعي، يتضمَّن هذه النماذجَ الفطرية، يمكن وصفه «باللاوعي الجماعي»، وتخرجُ الباحثة من تطبيقاتها على الشعر بأن الشاعر الناجح هو الذي يستطيع إجراء المقابلات الناجحة بين هذه النَّماذج الفطرية وبين أحداثِ حياة الإنسان بدلالاتها «العارضة» المتغيِّرة غير ذات المعاني الفطرية!
ولذلك فما إن عُدتُ إلى القصيدة حتى أدركتُ سببًا آخر لفشلها! إن بها الكثيرَ من هذه النماذج الفطرية، ولكنها لا تُقابل أبدًا أيَّ عناصر واقعية ملموسة من عالم الخبرة أو التجرِبة «العارضة»؛ ولذلك فهي تنتمي إلى المستوى الجَمْعي فقط، ولا تتوافر لها العناصرُ الفردية التي تُبلور خصوصيةَ التجرِبة ودلالاتها الخاصة! ونظرتُ إلى الصور المقابلة في شعر الفحول، فتأكَّدَ لي ضعفُ آلتي! هذا المتنبي يتحدث عن الزمان فيُطوِّر الفكرةَ من الداخل في أبياته المشهورة «صَحِب الناسُ قبْلَنا ذا الزمانَا»، فعينُه دائمًا على الفكرة الأساسية التي تتحول لديه إلى إحساس؛ ومِن ثَمَّ تتفق صورة الزمان باعتباره رحلة (نموذج فطري)، وصورة مرارة العيش التي يُحسُّها هو (الصور العارضة) والمقابلة بين صور الرحلة باعتبارها القوةَ المحرِّكة تتضمَّن صورة الراحل باعتبارها مُشاركًا في صُنع هذه القوة، ولا عجب في أن تنتهيَ القصيدة ببيتٍ يُقابل بين لحظتين في الزمان؛ «ما لم يكن» و«إذا هو كان».
فاللحظة الأولى هي لحظة الترقُّب (الصعب) واللحظة الثانية هي لحظة التحقُّق (السهل)! ولا يتحوَّل الصعبُ إلى سهل إلا عندما تتحول الرحلةُ (القوة المحرِّكة) إلى نموذج فِطري للحركة، يبتلعُ «عوارض» الزمن — والزمان!
كنتُ وما زلت أحفظ تلك «القطعة» (عشَرة أبيات) من بحر الخفيف، وأتأمَّلُها في دراستي لشعر الأجانب، فيتأكَّد لي ضَعفُ حيلتي وقُصور موهبتي، ويتأكد لي أيضًا ما في تراثنا ولغتنا من دُرٍّ وجوهر! إن «وحدة البيت» لم تمنع المتنبي من إخراج وحدةٍ تامة للقطعة، وما قاله مدرس اللغة العربية (محمود الميقاتي رحمه الله) من أن معنى البيت الأخير مأخوذٌ (أي مسروق) من قول البُحْتُري:
لا يصمد للتحليل وَفْق المناهج الحديثة؛ فالمتنبي ينتهي إلى الخاتمة في إطار صورةِ الزمان نفسِها بعد أن يُقابل بين النموذج الفطري والصُّور العارضة، وهذا ما لم يفعله البُحْتري الذي يقدم المعنى في عبارتين تقريريَّتَين مترادفتَين؛ كالحِكَم العامةِ غيرِ المطوَّرة من الداخل!
ولم يكن هَجْري للشعر العمودي قرارًا سهلًا، أو حتى قرارًا إراديًّا؛ فما كنتُ قادرًا على محاكاة الفحول، وما كنتُ قادرًا على التجديد، ومِن ثَمَّ قرَّرتُ التفرغ للتخصص ودراسة الماجستير في الأدب الإنجليزي.
وكانت السنة التمهيدية للماجستير، السابقةُ للتسجيل للدرجة، تقتضي دراسةَ ثلاث موادَّ؛ هي: الشعر، والنقد، ومناهج البحث، وكان يُدرِّسها أمين روفائيل، ورشاد رشدي، ومجدي وهبة على الترتيب. فأما الشعر فكان «الشعر الرومانسي» وكان علينا أن نُجيب أولًا على السؤال التالي: لماذا كتب وردزورث وكولريدج ديوان «المواويل الغنائية» أو «البالادات» الغنائية، و«البالاد» هو الموَّال الغربي — وقد فصَّلتُ القول فيه في كتاب أصدرته بعد رُبع قرن؛ أي عام ١٩٨٤م بعنوان «الأدب وفنونه» (الثقافة الجماهيرية، مكتبة الشاب)، ولماذا هي «بالادات»؟ ولماذا هي غنائية؟ ولما كانت الطبعة الأولى من هذا الديوان (١٧٨٩م) غير متوافرة، فقد اعتمدتُ على الطبعتين الثانية (١٨٠٠م) والثالثة (١٨٠٢م) وما بهما من زياداتٍ ومقدِّمات، وأعددتُ دراسةً رضي عنها الدكتور روفائيل ثم كلَّفني ببحثٍ رئيسي في وردزورث. وقد قُدِّر لي أن أنشر هذه الطبعة النادرة (١٧٨٩م) في القاهرة عام ١٩٨٦م مع مقدمةٍ ضافية بالإنجليزية.
وأما النقد فكان علينا أن نَدرُس «النقد الجديد» والنقَّاد «الجدُد» في أمريكا وبريطانيا، ثم نكتب بحثًا مُطولًا عن منهج أحدهم. ولما كنتُ بطبعي لا أحب التعميم والتجريد، فقد اخترتُ ناقدًا يُطبق هذه النظريات «الجديدة» (وما هي بجديدةٍ في الواقع) على الشعر والدراما والرواية، وهو «كلينث بروكس»، في خمسة كتب، هي: «الإناء المحكَمُ الصُّنع» و«الشعر الحديث والتقاليد»، و«تفَهُّم الشعرِ» (الطبعة الثالثة)، و«تفهم الدراما»، و«تفهم الرواية». وكان أهم ما أتى به «بروكس» مما يمكن أن يُعتبر جديدًا هو أن لغة الشعر تعتمدُ على «المفارقة»، وتتوسَّل «بالتورية الساخرة» (وهي ما ترجمها بعضهم بالسخرية)، وأن ذلك عامٌّ وشائعٌ في شتى المذاهب الأدبية، وإن كانت صورته في الشعر الرومانسي تختلف عن صورِه في الشعر الكلاسيكي؛ لأن الإحساس ﺑ «الدهشة» الشعرية هو أساسُ مفارقات الشعور في الأول، والإحساس ﺑ «المفارقة الذهنية» هو أساسُ توريات السخرية في الثاني. وكان «بروكس» يعمد في تطبيقاته النقدية إلى إعلاء قيمةِ ظلال المعاني في إيجاد أو توليدِ هذه المفارقات، مُستندًا إلى ما ذكَره «وليم إمبسون» عن «الغموض» الذي يعتبر سمةً مميزة للغة الشعر عن لغة النثر، وإلى ممارَسات الفرنسيِّين في إطار منهج «شرح النصوص».
وعندما طلبتُ أحد كتب «بروكس» من المكتبة، قِيل لي إن معيدةُ اسمها «نلِّي عزيز» قد استعارته، فذهبتُ إليها فوعدَتني خيرًا وعرَضَت عليَّ أن أقرأ البحث الذي كتَبَتْه هي في الموضوع نفسِه. كانت نلِّي فتاةً رائعةَ الجمال، فارعةَ الطول، يتدلَّى شعرها الأصفر حتى وسطِها تقريبًا، خضراء العينَين، وذات أنف روماني رأيتُ فيه مخايلَ السلطة القاهرة! وكانت خفيضةَ الصوت، مُهذَّبةَ القول، فقرأتُ البحث على عجَل واختلقتُ بعض نقاط الخلاف حتى أسألَها فيها، وأُطيلَ المكوث معها، أنظرها وأستمعُ إليها (كم جئتُ ليلى بأسبابٍ ملفَّقةٍ). وكانت أختُها «فيوليت» تعمل أمينةً للمكتبة الخاصة بقسم اللغة الإنجليزية، وكان الدكتور مجدي وهبة هو الذي أنشأ تلك المكتبةَ على حسابه الخاص، وكان هو الذي يدفع مرتبَ أمينة المكتبة. وقد وقعَت مأساةٌ أتصور أن أقصَّها هنا بإيجاز، استباقًا لموقعها الزمني؛ إذ حدث في عام ١٩٦١م أن أُعلِنَت نتيجة البعثات الدراسية، وكان من نصيب نلِّي بعثةٌ منها، ويبدو أن الخلاف قد دبَّ بينها وبين ضابطٍ يُدعى «عادل» كان مُتيَّمًا بحبها ويريد الاقترانَ بها قبل رحيلها فرفضَت، وعندما احتدَّ الخلافُ في منزلها، استلَّ مسدسَه «الميري» مهددًا إيَّاها به، ولكنها سخِرَت منه فاشتدَّت ثورتُه، وازدادت سخريتها، ففقَد التحكُّمَ في أعصابه وأعدَّ السلاح للإطلاق فذُعِرَت فيوليت وتدخَّلَت بينهما فأصابتها رصاصةٌ أوْدَت بحياتها، ثم أطلق عادل طلقة أخرى أصابت نلِّي فوقعَت، ورأى عادل المشهد فأطلق الرصاصَ على نفسه فمات في الحال. ومن ثَم نُقلت نلِّي إلى المستشفى حيث عُولِجَت وبَرِئَت من إصابتها، وسافرَتْ إلى إنجلترا لاستكمال دراستها، حيث كانت تنتابُها نوباتُ اكتئاب دفعَتْها إلى محاولة الانتحار عدةَ مرات، كان آخرها عام ١٩٧٥م حيث ألقت بنفسها من سُلَّم المستشفى، فقضَت نَحْبها، رحم الله نِلِّي.
وكان الدكتور مجدي يُركز في دروس مناهج البحث على أصول البحث وطرق العثور على المراجع، وكان يُساعدنا بكل ما أُوتي من صبر وحكمة، لا يَضيق صدره بسؤال، ويبدو دائمًا على استعدادٍ للتعلم، وهو أعلمُ العالِمين، فكان الجميع يُحبه ويُقدره ويسعى للاستماع إليه، وأذكر أنني عرَضتُ عليه الصورةَ الأولى من بحث الشعر فقضى من وقته الثمين شطرًا في التوجيه والإرشاد، حتى أصبحتُ لا أتصور حياةَ الجامعة دون وجود أستاذٍ من هذا اللون، وكنتُ في أعماقي أجعله مثلًا أعلى يُحتذى في كل شيء، وما زال (رحمه الله) حيًّا في قلبي وعقلي، أتوجه بالخطاب إليه، وأسعى للظفَر برضائه.
كانت الإذاعة لا تَشغَل أيَّ جانب من تفكيري، فكنتُ أترجم ما يطلب مني بصورة آلية، وأقضي باقيَ «الوردية» في القراءة حين أنتهي من الترجمة، حتى رأيتُ إعلانًا عن تعيين مدرِّسي لغة إنجليزية بالقسم، في صحف يوم ٣١ ديسمبر ١٩٥٩م فقدَّمتُ استقالتي إلى مدير الإذاعة رغم احتجاجاتِ إسحاق حنا، وغضبِ إبراهيم وهبى، وذكرتُ للأستاذ شفيق رئيس التحرير العربي في قسم الأخبار الأجنبية أنني سوف أُرسل له بديلًا أفضلَ مني؛ هو الأستاذ عبد الفتاح العدوي، فاطمأنَّ قلبه.
وعندما تم توقيع الاستقالة أصبحتُ غيرَ موظف، ولم أقلق على التعيين في الجامعة؛ إذ كنتُ قد بدأتُ احترافَ الترجمة، ومُزاولة عملٍ آخر أحببتُه حبًّا جمًّا وهو كتابة التمثيليات الإذاعية. كنتُ أسير ساعاتٍ طويلةً أفكر في «الموقف» ثم أعود إلى المنزل لأكتب النصَّ في ليلة، وأذهب للتسجيل وأتقاضى ثمانيةَ جنيهات كاملة.
١٠
قال ذلك بالحرف الواحد، وشعرتُ بأن تلك الكلمات قد انطبعَت في ذهني إلى الأبد! وعندما أصابَني الله بالمرض اللعين عام ١٩٩٢م وأُجرِيَت لي عملية، بل سلسلةٌ من العمليات الجراحية، حُرِمتُ فيها الكلامَ شهرًا كاملًا، وكنتُ أتفاهم مع مَن حولي في المستشفى كتابةً (بالفرنسية) ثم عُدتُ إلى الكلام غيرِ الواضح تدريجيًّا، كنتُ دائمًا أردِّد قول الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}، وأقولُ في نفسي: حقًّا لقد جعل الله لي عينَين! وإن يكن لساني قد أصابه ما أصابه، وفي هذا بلاءٌ أيُّ بلاء! فما زالت لديَّ العينان، وما زلتُ أعرف كيف أنتفع بهما!
وبعد «رحلة في عالم النور» كلَّفَني الدكتور يونس بمساعدته في ترجمة «الأفكار الحية لتوماس جيفرسون» من تحرير الفيلسوف الشهير جون ديوي، وكان هذا العمل بمثابة الدرس الذي أفادني في فنون الترجمة؛ فترجمةُ النصِّ الكامل، والاستماعُ إلى تصويبات الأستاذ، والاستفادةُ من خبرته المتخصصة في اللغة العربية، كانت جميعًا مما لا يُتاح للكثيرين من المحترفين، ولم أكن أتردَّد في السؤال، وكنتُ من الوجوه المألوفة في قسم اللغة العربية، حتى سمعتُ أحدَهم يصِفُني ضاحكًا ذاتَ يوم بأنني من «المؤلَّفة قلوبهم»! وذات يوم خطر لي أن ألتحقَ بقسم اللغة العربية ولكن لوائح الجامعة لم تسمح؛ إذ لا يجوز التحاقُ طالب بقسم على مستوى «الليسانس» (الدرجة الجامعية الأولى) وبقسمٍ آخر على مستوى الماجستير (الدراسات العليا)؛ ولذلك عملتُ بنصيحة الدكتور شوقي ضيف، وسجَّلتُ للماجستير (في مارس ١٩٦١م)، في موضوع «تطور الصور الفنية عند وردزورث»، بإشراف الدكتور رشاد رشدي. وأذكر أنني عندما بدأتُ العمل، أخذت أجمع كلَّ ما أستطيع العثور عليه من لغة المجاز؛ أي من تشبيهات واستعارات وكنايات وإشارات رمزية وأسطورية؛ استنادًا إلى تعريف «الصورة الشعرية» لدى سيسيل داي لويس (في الكتاب الذي يحمل ذلك العنوان)، وتعريف باحثٍ آخر اسمه ريتشارد هارتل فوجل في كتابٍ عُنوانه «الصور الشعرية عند كيتس وشلي: دراسة مقارنة». وملأتُ نحو تِسعِمائة بطاقة بالصور وتواريخ كتابتها ومصادرها، ولكنَّ الديوان كان كبيرًا (ثلاثة مجلدات) والطريق شاقًّا.
كانت أحلى ساعات العمل هي التي أقضيها في المكتبة أثناء النهار؛ أرصُدُ فيها الصور في الديوان وأنقلُها على البطاقات. ونشأتْ أزمةٌ تمثَّلَت في قرب نَفاد البطاقات، وكنتُ قد دبَّرت الحصولَ عليها «عمولةً»؛ بحيث أعددتُ ثلاثة آلاف بطاقةٍ بعشَرة جنيهات. ولم أجد لديَّ عشَرة جنيهات أخرى لإعدادِ العدد اللازم، فذهبتُ إلى شارع الفجَّالة أحاول البحث عن مَخْرج، فقابلتُ محمود جعفر، وهو زميلٌ في الإذاعة لم يكن قد علم باستقالتي، فوقف يُحادِثُني عن مشاكله مع «شفيق»، وأهمها أنه منَعه من النوم في غرفة الأخبار! كان جعفر يُقيم في بنها التي تبعد نحو ٤٠ كيلومترًا عن القاهرة، وكان مُكَلَّفًا بوردية الصباح التي يُسمونها وردية الفجر؛ إذ تبدأ في الرابعة صباحًا وتنتهي في العاشرة، وإن كان المعمول به أن ينصرف بمجرد إعداده نشَراتِ الصباح العربية للإذاعات الموجهة، حتى لو كان ذلك في السابعة مثلًا، مما كان يُتيح له أن يعود إلى بنها للعمل في المدرسة؛ إذ كان مُعَلِّمًا للغة العربية. وكان جعفر مشغولًا بوضع شرحٍ مبسَّط للنحو العربي عُنوانه «ألفيَّة ابن مالك تحت المجهر، شرح وتحقيق محمود جعفر»، فكان يأتي في المساء ويعمل في الكتاب حتى يخلوَ المكان، فيُطفئ الأنوار وينام حتى الرابعة ثم يتوَلَّى إعدادَ النشرات ويرحل.
ولا أدري كيف «ضبَطه» شفيق متلبسًا بالنوم، ولكنه استصدَر أمرًا من محمد إسماعيل محمد بمنعه من النوم في المكتب، وكان معنى ذلك أن يقضيَ الليل في أحد الفنادق، ولا يوجد فندق محترم بأقلَّ من خمسين قرشًا، وهو بالتأكيد لا يُحب (هكذا قال) أن يذهبَ إلى شارع كلوت بك، حيث الفنادقُ الرخيصة (من عشرة قروش إلى ٢٥ قرشًا) حتى لا يتعرضَ للغواية؛ فنساء المنطقة «لا يتركن أحدًا في حاله!» وعندما سألتُه عن «الحل» قال إنه يرشو الفرَّاشَ الساهر حتى يوقِظَه إذا شعَر باقتراب «جواسيس» شفيق. وعندما اقترحتُ عليه أن ينام في المنزل أجابني أغربَ إجابة سمعتُها وهي «لا يوجد نومٌ أحلى من نوم المكتب!» وعندما ضحكتُ ضحكةً مكتومة قال لي: «وأحد مزاياها أنك تحتفظُ بوضوء العشاء لصلاة الصبح .. وتُصليه حاضرًا أيضًا!» وعندما علم بمشكلتي اصطحبَني إلى مكتبةٍ يملكها أحدُ معارفه، وتستطيع توفيرَ البطاقات الألف بجنيهٍ واحد! ثم همس لي: «لماذا لا تحفظ الشعر عن ظهر قلب فتوفر الورق؟» وعندما ذكرتُ له ضرورةَ البطاقات للمساعدة في التصنيف والتبويب، قال لي: «وفِّرْ نقودك واحفظ المادة في رأسك وصنِّفْها في رأسك.» ووعدتُه بأن أحاول وافترقنا. ولم أرَه أو أسمع عنه شيئًا بعد ذلك.
ولْنَعُد إلى عام ١٩٦٠م؛ ففي يناير ١٩٦٠م عقَدَت الكليةُ الامتحان المعلَن عنه لمدرِّسي اللغة الإنجليزية، وهي درجةٌ تُماثل درجةَ مُعيد وإن كانت لا تقتضي الحصول على درجات عِلمية؛ لأن المُعيَّنين عليها يُعتبرون من خارج هيئةِ التدريس. وكان الامتحان يتكوَّن من جزأَين؛ قطعة للترجمة إلى الإنجليزية، وموضوع إنشاء. وسرعان ما استُدعِيَ الناجحون لأداء الامتحان الشفوي. وكان الممتحِنون هم د. رشاد رشدي ود. مجدي وهبة ود. محمد يس العيوطي. وكان الطالب يقرأ قطعةً من نصٍّ كتبَه الدكتور صمويل جونسون، وكانت الفقرة التي قرأتُها عن حياة جوناثان سويف، الشاعر ومؤلف رحلات جاليفر، وكان ذلك الكتاب من بين الكتب التي فُزتُ بها في مسابقة الترجمة قبل عامين، وقرأتُه؛ ولذلك مرَّ الشفوي بسلام! وصدَر القرارُ بتعيين اثنين فقط؛ هما: عمرو برادة وأنا، رغم أن المطلوب هو سبعة! وأُعيد نشرُ الإعلان، وكان عدد مدرِّسي اللغة يزداد؛ فقد عُيِّن من الدفعة السابقة لي كرم محسن وفريد صالح، ومن الدفعة السابقة عليهما ليلى مرسي، ابنة مدير جامعة القاهرة — عالم الرياضيات محمد مرسي أحمد.
وظهرَت مشكلةٌ لم أكن عملتُ حسابها في التعيين؛ فأوراقي في الإذاعة كانت تتضمَّن ورقةً من منطقة تجنيد الإسكندرية تقول إنني لم أبلغ بعدُ سنَّ التجنيد، ويمكنني أن أستعملها في التعيين في الحكومة. أما الآن فقد بلغتُ الحادية والعشرين، ولا بد من التجنيد. وذهبتُ إلى الإسكندرية، وقضيتُ أول ليلةٍ في المعسكر؛ معسكر مصطفى باشا المواجه لمحطة سيدي جابر على البحر، لن أنساها مدى العمر. كان معي من رشيد أحدُ مواليد نفس العام، وهو منير أبو الفضل (الدكتور الآن — أعتقد أنه أستاذٌ للتاريخ في جامعة طنطا)، وقد نصحَني قبل الذَّهاب إلى الكشف الطبي بشراء نظارة بقرشين، توحي بأنها نظارةٌ طبية وإن كانت غيرَ ذلك، فرفضت. وقلتُ له إن الأطباء يفحصون قاعَ العين. وكان دخولنا يوم الخميس. ووقَفْنا صفًّا واحدًا، فخرَج علينا طبيب وقال: كل من يلبس نظارة يأتي إلى المكتب كي أُعطيَه شهادة عدم اللياقة الطبية! وكان عددُ هؤلاء أربعة، حصَلوا على الشهادة وخرَجوا، بينما أُمِرْنا بقضاء الليلتَين التاليتين في المعسكر حتى يُعقَد الكشف الطبي يوم السبت.
كُنَّا في رمضان، والجميع صائمون، فأمَر الضابط بأن يتقاضى كلٌّ منا مبلغ سبعة قروش للإفطار والسحور من مَقْصِفِ المعسكر. وذهبنا بعد الإفطار إلى القُشلاق للمَبيت، فوزَّعوا علينا بطانيات، وبينما أنا أستعدُّ للنوم أحسستُ كأن لوحًا من الخشب قد صكَّني في ظهري، فصرختُ ألمًا وانتبهتُ، فإذا بغلام من بلدنا قد ضربَني بيده على ظهري ترحيبًا! موش فاكرني يا ابن عناني؟ أنا ألبير بتاع الفسيخ! ولم أضحك ولم أُرحب؛ فقد كان ألمُ الضرب مُبرِّحًا، ثم عدتُ للنوم حتى استيقظنا في السحور، وقضيتُ يوم الجمعة وحدي وأنا أفكر فيما عساي أن أفعل، وبعد ساعاتٍ شغَلَتني الحديقةُ ونسائم البحر الدافئةُ في ذلك الربيع الصافي، وجلستُ وحدي على شاطئ البحر حيث أتى الشِّعرُ دون دعوة! كنت أعتمدُ على ذاكرتي وحدها؛ فلم تكن هناك أقلامٌ أو كَرَّاسات، وفي صَبيحة السبت، وبعد الكشف الطبِّي، حصَل كلٌّ منا على شهادة تأجيل حتى أكتوبر، ومِن ثَم عدتُ إلى القاهرة — بقصيدتين!
ولم يشعر أهل القاهرة بغيابي، وكانت لدينا في السنة الثانية فتاةٌ ضئيلة الحجم، ذاتُ ألوان متعدِّدة في عينَيها وشعرها، وكانت تسير كأنها تطير، وكنتُ أرقبها، كما كان يرقُبها غيري، ولكنني كنتُ وحدي الآن بعد أن تخرَّج الأصدقاء وانطلَقوا، ولم يكن لديَّ من الأصدقاء غيرُ ماهر البطوطي من أبناء القسم، وأحمد السودة من خارج القسم! فكتبتُ القصيدة الأولى وعرَضتُها عليهما، فكان ردُّ فعل الأول هو «هل عرَضتَها عليها؟ وماذا سيكون ردُّ فعلها؟» أما الثاني فكان يرى أنها شعرٌ فحسب، فلم يُعلق!
وهذه هي القصيدة:
•••
•••
وكنتُ كتبت القصيدةَ في القطار وأنا عائدٌ إلى القاهرة، هي والقصيدة الأخرى المصاحبة لها، التي تعتبر أقربَ إلى روح الفكاهة من روح الشعر الجاد، وهي التي لم أخجل من إطلاع الآخَرين عليها، وكان مِن عواقبها اتهامي بأنني باردُ المشاعر؛ لأنني أحسُّ بعقلي لا بقلبي، وهو اتهامٌ كنتُ أضحك منه، وربما كان وراء ذلك ضيقي بالخروج مع الفتَيات؛ إذ كان حديثي في اللغة والأدب لا يروق لهنَّ، ولم يكن لديَّ من الأحاديث ما يكفي لقطعِ الساعات الطويلة تحت ظِلال الأشجار أو على شطِّ النيل، وقد أكَّدَت ذلك حادثةٌ فريدة؛ إذ لاحظَت إحدى زميلاتي في فريق التمثيل واسمها فاطمة عمارة أنني لا صاحبةَ لي، على عكس جميع مَن يُشاركونني جلسات بوفيه كلية الآداب (سمير سرحان + نبيلة عقل، ووحيد النقاش + ليليان حنا … إلخ)، فطلبَت مني الخروجَ مع فتاة من كلية التجارة رأت أنها تُحقق مطالبي في «الفتاة المثالية» من طولٍ وشقرة وخُضرةِ عيون! وبعد أن تعارَفنا وخرَجنا معًا مرةً أو مرتين، بدأَت الجميلة تتحدثُ عن المستقبل! أما أنا فكنتُ مشغولًا بكتابٍ أتولَّى ترجمته بنفسي هو «الرجل الأبيض في مفترق الطرق»، وأريد مَن أُملي عليه الترجمة، وعرَضَت الجميلة أن أُملي عليها ما أريد، ففعلتُ وفرحت، وفي آخر أول جلسة قالت: «تستطيع أن تعتمد عليَّ في عملك.» وانطلقَت ترسم صورةً وردية للعُش الذي سوف تُساعدني فيه! وكان ذكر «العُش» كفيلًا بوضع حدٍّ للعلاقة، وعدتُ للكتابة بنفسي، وأمري إلى الله.
أما الأبيات الأخرى فهي:
ولا أدري مَن الذي أشاع هذه الأبياتَ بين الأصدقاء، ثم بين الطلبة، فإذا بالآنسة الصغيرة تأتي إليَّ ذاتَ يوم لتسأل عن القصيدة وما وراءها، واعتذرتُ لها عن استخدام الاسمِ مؤكدًا لها أن الاسمَ يمكن أن يكون اسمًا لأيِّ أحد، وكان صوتها فيه بحَّة معيَّنة، وهو قطعًا من طبقة موسيقية منخفِضة، ولا شكَّ أنه كان ممتعًا لمن يَنشُد الاختلاف، لكنني قلتُ لها محقًّا إن القصيدة لا تعني أكثرَ من كونها كلامًا؛ فالقول هو القول، وينبغي ألَّا يقرأ فيه أحدٌ معانيَ غيرَ مقصودة، لكنها لم تقتنع وضحكَت ومضت.
وذهبت أستَفْتي الدكتور رشاد رشدي، فضحكَ ضحكًا شديدًا وقال: هذا هو ما أعنيه بأن الفنَّان يتمتع بحُرية القول غيرِ الملزِم بالعمل! وطَفِق يُحدثني عن النساء اللائي عرَفَهن، وعن رمز المرأة التي صوَّرَها في مسرحية الفراشة والتي يمكن أن تُطفئ وَقْدة الفن لدى الفنان باهتماماتها العمَلية والاقتصادية، وأثناء الحديث دخل الدكتور شفيق مجلِّي الذي كان قد عاد لتوِّه من إنجلترا بعد حصولِه على الدكتوراه، فانضمَّ إلينا وأضاف باقتضاب: «لا تذكُرِ اسمَ أحد .. فليس وراءهن سوى المشاكل!» وتكاثَر الناس في الغرفة، فخرجتُ وقرَّرت أن أعيَ الدرس جيدًا، وعقَدتُ العزم على ذلك، وفي المساء خرجتُ وحدي، وكان المساء رائعًا، فانطلقتُ أسير بحذاء النيل حتى وصلتُ إلى كوبري الجامعة الجديد، وقد انتظمَت في رأسي قصيدةٌ أخرى:
•••
•••
•••
•••
ولم أكن أعرف كيف أضعُ لها عُنوانًا. هل أسميها «عبثًا تُسائلني منى ماذا أنا؟» ولكنني أدركتُ أن ذكر الاسم سوف يتسبَّب في المزيد من المشاكل فكتبتُها في دفتر خاص، وألقيتُ بها في الدرج، وقررتُ ألا أُطلع عليها إلا أقربَ الأصدقاء، وكان أخشى ما أخشاه أن يَصدُقَ ما حذَّرني منه الدكتور شكري عياد وهو الصِّراع بين النقد وبين الإبداع، وكان دائمًا يقول لي: «انظر كيف يُضيِّع يوسف الشاروني موهبتَه في كتابةِ النقد! حَذارِ من التردُّد بين هذا وذاك! انتهِ أولًا من الدراسة ثم اكتب الشعر!» ولكنني كنتُ أدرس الشعر! وكلما تعمَّقتُ في التحليل النصيِّ ازداد إيماني بضرورة الاستزادة من القراءة؛ تحقيقًا للهدف الأسمى، وهو الإبداع! وكنتُ أذكر حوارًا دار بيني وبين الدكتور عبد الرءوف مخلوف قبل عدة أعوام عندما قلتُ له: لماذا يُضيِّع الأستاذ جرجس الرشيدي وقتَه في دراسة برنارد شو للدكتوراه؟ لماذا لا يُصبح هو برنارد شو؟ وكان ردُّه هو: هذا طريقٌ وذاك طريق آخر! وإن كانا يسيران متوازيَين، وربما جنَح السائرُ في أحدهما إلى أن يسلك الآخر — فاسلُك ما شئتَ وانظر أنَّى يمضي بك!
كنا نقفُ ذلك اليومَ في شارع نوَّال، الذي جرَت العادة على نطقه دون شدَّةٍ على الواو، وكان ذلك الحديثُ قد مضى عليه ما يَزيد على خمسة أعوام، ولكنه كان لا يُنسى! وتطوَّرَت المذاهب النقدية في السبعينيَّات في أوروبا وأمريكا، وكان من أهمِّ ما انتهت إليه إزالةُ الحاجز بين النقد والإبداع، فالإبداع جهدٌ نفسي وذهني معًا، بغضِّ النظر عن مجاله؛ أي إنه ليس مقصورًا على اللغة والأدب، فالمخترعُ مبدع، والمفكِّر مبدع، وقد تجد مبدعين في كلِّ لون من ألوان النشاط الإنساني؛ ولذلك فالناقد العظيم مبدعٌ ولا شك، وإن كان لا يكتب أيَّ صورة من صور «الأدب الخيالي» (أيْ أيَّ نوعٍ أدبي مثل الشعر أو القصة أو المسرح)، ويتجلَّى إبداعُه في التجاوب الصادق مع النص، وفهمِه الخاص له وتفسيره وتحليله إياه، ويكفي أن تقرأ شرحَ ديوان المتنبي لأبي العلاء المعَرِّي؛ لتعرفَ كيف يكون الناقد مبدعًا، أو أي كتاب «تحليلي» كتبه دافيد ديتشيز للرواية الإنجليزية حتى تَقْنَع بصدق هذه المقولة! وإذا كنا نميل، ابتغاءَ التبسيط، إلى وصف «الإبداع» بالابتكار التشكيلي والتركيبي، ووصف «النقد» بالابتكار التحليلي، فما ذلك إلا تيسيرًا على الطالب ومعاونةً له في فَهْم الفرق بين هذين اللونين من ألوان النشاط الإنساني، ولكنَّ كلًّا منهما إبداعٌ لا شك فيه!
لم أكن حينَذاك أعرف تلك الخبايا، بل ولم تتَّضح صورتها إلا بعد أكثرَ من ربع قرن عندما شاركتُ في مؤتمر كيمبريدج للأدب الحديث، وطُرِحَت القضية وأثارت من الأفكار ما أثارت (عام ١٩٨٧م)، أما في عام ١٩٦٠م فكان كلُّ همِّي هو أن أفرَّ من الشعر فرارًا؛ إبقاءً على جهدي في الدَّرس والاطلاع. وذاتَ يوم ذكرتُ المشكلة للدكتور مجدي وهبة فضحك وقال: «لا تُقاوم الشعر حين يأتي! ومن يَدْري فربما استطعت الجمع بين الشعر والنقد، فأفضلُ الشعراء هم أفضل النقَّاد!» وعندما أَبديتُ دهشتي قال لي: «بالمناسبة .. لديَّ مشروعٌ لترجمة أهمِّ نصوص النقد الإنجليزي .. هل تودُّ المشاركة فيه؟» ورحَّبتُ طبعًا بالفرصة السانحة وقلتُ له: أيُّ نص تريد أن نبدأ به؟ فقال: «درايدن!» (مقالٌ في الشعر المسرحي!) ثم أردفَ على الفور قائلًا: «وسوف أدفع لك السعرَ الرسمي للترجمة .. احسب الأجر وقُل لي!» وأحصَيتُ الكلمات بالتقريب، وحسبتُ التكلفة على أساس مِلِّيمَين للكلمة (السعر في الدولة حاليًّا ستة ملِّيمات بناءً على القرار الجمهوري عام ١٩٧٨م، وستة قروش في المجلس الأعلى للثقافة، و٣٨ قرشًا بالأمم المتحدة!) وكان الأجر الكليُّ ٤٢ جنيهًا، دفع لي الدكتور مجدي عشرة جنيهًا منها بصفةِ مقدَّم، على أن أبدأ الترجمةَ على الفور.
١١
كان ربيع عام ١٩٦٠م ربيعًا فذًّا؛ فلأول مرةٍ كنتُ ممتحِنًا وممتحَنًا معًا، وكانت أبحاثي قد اكتملَت وسمعتُ ما اطمأنَّ قلبي له من الدكتور روفائيل والدكتور رشدي — ومجدي، بطبيعة الحال. وقررتُ البقاء في القاهرة ذلك الصيفَ وعدمَ الذَّهاب إلى رشيد؛ فلديَّ ما أفعله، فعكفتُ على الانتهاء من ترجمة «الرجل الأبيض»، وذهبتُ إلى المُراجع الأستاذ عثمان نويَّة (وتنطق بتشديد الياء — تصغير نواة) في مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة، وسلَّمتُه المخطوط، وخرجتُ سعيدًا على وعدٍ بلقاء آخر، وفي يونيو — أثناء امتحانات الفصل الدراسي الثاني — اكتشفتُ مقهًى جميلًا على شاطئ النيل اسمُه كازينور (أي كازينو نور، زال من الوجود الآن) بجوار كازينو الحمام، ولم يكن يُغالي في الأسعار؛ فالشاي بقرش صاغ واحد، والقهوة بقرش ونصف، ولا يُطالب الروَّاد بأكثرَ من طلب واحد! كان يطلُّ على النيل مباشرةً، وعندما يأتي موسمُ الفيضان تأتي المياه الحمراء وتعلو حتى تصلَ إلى مسافة قريبة من الجالسين، ويبدو النيل منبسطًا شاسعًا، وعلى الضفة الأخرى مَباني وأشجارُ حيِّ الروضة، وعلى صفحة الماء تنسابُ السفن المتجهةُ شمالًا لتمرَّ تحت كوبري عباس، بينما تُحلِّق الطيور التي تنقضُّ كالسهم المارق لتلتقط الأسماك، فكان المشهد يُذكرني برشيد وموسم صيد السَّرْدين في سبتمبر وأكتوبر من كلِّ عام.
كانت العادة أيامَ الخريف في رشيد أن تخرج سُفن الصيد مُبْحِرةً مع التيار إلى مصبِّ النيل حيث تتجمَّع ملايينُ أسماك السردين بنوعَيها — المفطرَّة والمبرومة — أما الأولى فهي في الحقيقة صغارُ سمك الماكريل والبيلشارد، وأما الثانية فهي السردين الحقيقي الذي وصل إلى النُّضج، وأصبح لحمُه سمينًا بل وتمتلئ بطنُه بالدُّهن الذي عرَفتُ فيما بعدُ أنه مضادٌّ للكولسترول. وكانت السفن (التي تُسمَّى بَلَنْصَات — جمع بالانص) تعود في المساء إلى شاطئ رشيد لتُفرغ حمولتها في بتِّيَّات (جمع بتِّية — وهي كلمة فُصحى، صِحتُها بَتِيَّة بفتح الباء وكسر التاء وتشديد الياء، وتعني البرميل الضخم من الخشب، ويقول السيد آدي شير في «الألفاظ الفارسية المعرَّبة» إنها تعريبُ كلمة «بتو» الفارسية بمعنى القِرْبة والقمْع)؛ ومن ثَم يوضع بعضُه في ثلاجات ويُرسَل إلى الإسكندرية والقاهرة فورًا، والبعض الآخر يوضع عليه المِلْح ويُحفَظ للأكل فيما بعد. ولكنَّ مقدارًا كبيرًا من المصيد كان يُستهلك مَحليًّا، فيُشْوَى ويأكله الناسُ مع الأرز أو مع الخبز، وكان سعر الطورة (أي الأربعة، وهي وحدة القياس التِّجاري) يتراوح بين قرش صاغ وقرشين؛ تبعًا للنوع.
أما سرُّ صيده في ذلك الموسم بالذات فهو أنَّ مياه الفيضان تأتي معَها بملايينِ الكائنات الحيَّة الدقيقة (البلانكتونات) التي يتغذَّى عليها السردين، فيتجمَّع من أنحاء البحر المتوسط للتغذِّي عليها، فيفيض النيلُ العظيم ويفيض البحرُ بالخير على أهل البلد. وكان من الطبيعي أن تزدهرَ صناعةُ بناء السفن بأنواعها على طول شاطئِ رشيد، وما تتطلَّبُه من حِرَفٍ مساعِدة مثل صناعة الحبال، والشِّباك، والنسيج (للقلوع) والبكرات الخشبية، والبراميل، والثلج، والملح، وما يتطلَّبه ذلك كلُّه من آلاتٍ حديدية وخشبية، فكان يوجد في حي «قبلي» سوقُ النجَّارين وسوق الحدَّادين وسوق النحَّاسين والألفطية (الألفاط أو القلفاط هو الذي يسدُّ الشقوقَ الخشبية في السفن بالليف المستخرَج من النخيل) وحِرَف الدَّهانين والنقاشين وما إلى ذلك. وكان يمتدُّ على الشاطئ نفسِه صفٌّ طويل من محلات الوزَّانين والكيَّالين، وكان الوزَّان يُسمى القبَّاني لأنه يَستخدم الميزان الذي يحمل ذلك الاسم، والكيَّال يُسمى الكيلاني، وكان من مهامِّهم وزنُ ما تأتي به الفلاحاتُ عبر النيل من السمن واللبن والجبن بأنواعها؛ بُغيةَ تحديد أسعاره. وكانت القوارب تنقلهنَّ من «البر الثاني» وهو الجزيرة الخضراء، أو من الشطِّ البعيد الذي كان يتبعُ محافظة الغربية (كفر الشيخ الآن). وكان أهل الجزيرة الخضراء يُعرَفون بأنهم ينطقون القاف قافًا لا همزة، ومن ثَم يسخر منهم أهلُ رشيد بتكوين جملٍ تتضمَّن قافاتٍ متعددةً (عبد القوي وقع في القنا قام قرموط قلع عينه!) وكانت الفلاحاتُ يتحدَّثن لغةً جميلة تُذكرك بلُغةِ «العرب»، والمقصود بهم بعض القبائل البدوية التي تسكن الصحراء جنوبَ رشيد، وتعيش حياةً بدوية خالصة، تعتمدُ على الرعي ومنتجات النخيل، وكانوا أحيانًا يُسمَّون «الغجر»، وإن كان المشهورُ عنهم هو التَّرحال والتنقُّل وعدم الثبات في مخيَّم واحد.
كان منظر النيل في الفيضان أو بعده ساحرًا، وكان هو الرابطةَ التي تشدُّني دائمًا إلى بلدي، وإذا كان الناس قد اختلفوا واختلفَت أنماط الحياة في القاهرة عنها في رشيد، فالماء ما يزال يتدفَّق، وكنتُ أراه مُنطلقًا نحو البحر فأعجبُ له وأكاد أسأله كيف يحملني معه! وسرعان ما أصبح كازينور مكاني الذي أعمل فيه قارئًا ومترجمًا، ومن ثَم أصبحَت حقيبتي الجلدية الصغيرة لا تُفارقني في حلِّي وتَرْحالي، واكتشفَ بعضُ الأصدقاء ذلك المكانَ فغدَوْا يزورونني فيه دون أن يُقاطعوني في القراءة أو الترجمة، وأذكر ليلةً من ليالي الصيف، كنتُ عرَضتُ فيها بعضَ أشعاري على ماهر البطوطي، وجلسنا نُناقشها حين دخل علينا سمير سرحان ووحيد النقاش! واستمع الجميعُ إلى الشعر، ثم ذكر وحيد شاعرَين جديدَين يفعلان ما أفعل؛ هما صلاح عبد الصبور وحجازي! وقلت له إنني أعرف الأخير، فأضاف إن الأول أعظمُ وأعمق، وأسمعَنا بعضًا من شعره فقلتُ في نفسي: هذا والله هو الشعر، وذلك هو الذي يُبرر الخروجَ عن الشعر العمودي! كان شعر صلاح يقول لي: ما أصغرَ حظَّك من الموهبة! أنت صغير وأنا كبير! وقلتُ لسمير سرحان إنني أحسُّ أنني صغير! فقال وحيد: وهما كانا صغارًا! فقلت: لا .. الشاعر يولَد كبيرًا! وقررتُ أن أبقى على ما أكتبه، فلا أُمزِّقه، ولا أنشره، ولا أعلنه!
وفي طريق العودة، قال لي سمير سرحان: اسمع! أنا عايز أجيب جيد جدًّا .. إيه رأيك؟ ورحَّبت طبعًا بهذه الروح وكنتُ أظنه غيرَ آبهٍ بالحياة الجامعية بسبب انشغاله بالنشاط الأدبي؛ إذ كان قد أصدرَ كتابًا مترجَمًا، وبدأ يُمارس الكتابة الصحفية وكتابة المسرح، من خلال الإذاعة. وتناقَشْنا في وسائل تحقيقِ هذا الحلم، خصوصًا إزاء ضرورة التسلُّح بالمادة العِلمية المستقاة من المراجع، وظَلِلنا نتهادى في سَيرنا حتى وصَلْنا إلى كوبري الجلاء، فافترقنا؛ أنا وماهر إلى العجوزة، ووحيد إلى الدقي، وسمير إلى الجيزة.
وتركتُ ماهر أمام منزله وواصلتُ المسير في شارع المراغي، ثم في شارع نوَّال حتى شارع النيل، ثم سرتُ في الضوء الخافتِ تحت أشجار الكافور الباسقة على شاطئ النيل حتى وصلتُ إلى كوبري الزمالك الصغير، فتجاوزتُه، وواصلت المسير شمالًا إلى إمبابة، ولا بد أن الساعة كانت تقترب من الثالثة صباحًا؛ فالبدر قد مال إلى الغروب على يساري فوق حدائق ما كان يُسمى بأرض الترسانة المقابلة لنادي الزمالك، ونسائم السحَر الباردة تهبُّ على وجهي من الأمام، وأنا أسير بنشاطٍ لا أدري له دافعًا، وأحسستُ أنني أنهب الأرضَ نهبًا، غيرَ عابئ بالسيارات التي كانت تُبطئ من سرعتها عندما تصلُ إلى حيث أسير؛ كأنما ليتحقَّق راكِبوها من شخصية السائر، وتخطَّيت منطقة «الكيت كات» وتوغَّلتُ في إمبابة، وكانت آنَذاك حدائقَ على النيل وعوَّامات راسيةً فيه (تُسمَّى ذهبيات)، وتُقيم فيها بعضُ الأسرات، وكلُّها ساكنةٌ ساكتة، حتى وصلتُ إلى كوبري إمبابة ثم استدرتُ راجعًا بنفس النشاط وعند كوبري الزمالك سمعتُ أول أغنية لطيور الصباح، وكان صوتُ الكروان الذي أعرفه جيدًا في رشيد، فأدركتُ أن الفجر وشيك، وسرعان ما تردَّدَت شقشقةُ العصافير، ونداءاتُ أبو قردان، وصوتٌ غريب عرَفتُ فيما بعد أنه صوتُ مالك الحزين، وكان قد بَنَى عُشًّا على شجرةٍ ضخمة من الصَّفْصاف تتدلَّى غصونها في النيل، فوقفتُ أستمع إليه، فصمَتَ فعاودتُ المسير، وأمام مستشفى العجوزة لمحتُ تباشير الصباح في الأُفق الشرقي — فوق الزمالك.
وتذكَّرتُ أنشودةً كنتُ كتبتها في العام السابق صبيحةَ العيد الصغير، عيد الفطر، حين انتهيتُ من الصلاة وسِرت في حي الحسين أرقبُ يقظة القاهرة، وكان مطلعُها يقول:
فإذا بي أُعيد صياغتها لتصبح:
كانت الأبيات تتدافعُ إلى ذهني في عجَلة، ولم أتريَّث كي أضبطَ نسْجَها، ولكنني ألقيتُ بها كأنما أُلقي بنفثاتٍ غاضبة بلا سببٍ أو معنى، وتساءلت في نفسي إن كان يأسي من الشعر هو السبب، أو يَقيني أن أحلام الشعر مَقْضيٌّ عليها بالانقشاع والزوال، ألم يكن وردزورث يَدْري أن هناك مَن هم «أشعر» منه حين قرَّر أن يكون شاعرًا؟ ألم يفُتَّ ذلك في عضده؟ وعندما وصلتُ إلى المنزل كانت أضواء الصبح تغمر الطريق، فتسلَّلت إلى غرفتي ونِمت.
كانت الأسرة قد رحلَت إلى رشيد، وكنت أستطيع أن أقضيَ ما أريد من وقتٍ في عزف العود دون اعتراض، وفي عصر اليوم التالي حدَث شيءٌ ساعدَني على نسيان اهتمامي بالشعر؛ إذ زارتنا إحدى نساءِ رشيد ممن نُطلق عليهم «ألاضيش» الأسرة (والألدوش تعريبُ التركية يولداش، أي الرفيق في الطريق؛ ومِن ثم فهي تعني الزميلَ والصاحب)، ولما كنتُ وحدي فقد قصَّت عليَّ قصةَ عودتِها إلى زوجها بعد «غضبها» منه ولجوئها إلينا في رشيد بعضَ الوقت، وكانت القصة الرسمية «المُعْلَنة» في الأسرة هي خلافهما حول كعك العيد. أما القصة الحقيقية فهي أن زوجها كان يَكبرُها بأعوام كثيرة، وكان قد تزوجها بعد وفاة زوجته الأولى وبعد أن كبر أولادُه منها، ويبدو أنه قد اكتسَب في تلك السنِّ المتقدمة لونًا من الشذوذ يدفع به دفعًا إلى الصغار، وإن لم يكونوا صِغارًا بالمعنى المفهوم، فبعضُهم قد بلغ الحُلُمَ وبعضهم قد تخطى سنَّ الرشد، وقد اختلفَت معه عدةَ مرات بسبب هذا الشذوذ، ولكنه كان يعِدُ ويتعهَّد، ثم ينكُث، وكثيرًا ما بكى بين أيديها تائبًا، وكثيرًا ما كان يقول لها إن الله يقبل التوبةَ من عباده، ويقول لها إن الله يقول في شأنِ أمثاله: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا. ثم انتهَت إلى أن قالت إنها ترجوني أن أُحادثه وأُنذره بأنه لو عاد هذه المرةَ فلن تعود هي إليه!
كان الموقف مألوفًا. وكنت أسمعُ عن أمثال هؤلاء، وأراهم، وكان صديقي أحمد قادوم يقصُّ عليَّ طرَفًا من قصصهم، ولكنني كنت دائمًا بمَنْأًى عنهم، أي إنني كنتُ أحس أنهم ينتمون إلى عالم آخر لن يكتبَ لي أن أشهدَه عن كثبٍ ولكن السيدة كانت تطلب مني التدخُّل هذه المرة! وبعد لحظات من التردُّد اتفقنا على انتظارِ عودته؛ إذ كان قد أتى معها وخرج في بعض شأنه، ومُفاتحتِه في الموضوع. وفعلًا، عاد ورأى في وجهي بعضَ التغيُّر والتجهُّم، فأدرك أنها اشتكته، وانخرط في بكاءٍ مَرير!
وبعد العتاب والتصافي دعاني إلى أن «أراقب» بنفسي توبتَه، وألا أبخلَ عليهم بالزيارة؛ فهم يسكنون في حي «بين السرايات» المُتاخِم للجامعة، وأضاف في رقَّة: «أنا عجوز .. ولا أفعل ذلك عامدًا .. والله سبحانه يقول: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا .. صدق الله العظيم». وكانت كلماته تَنضَحُ بروح الصدق، وتنمُّ عن ندمٍ عميق، ودفعَني حبُّ الاستطلاع إلى معرفة المزيد فزرتُ الأسرة، وتكررَت زياراتي حتى اطمأنَّ قلبي. ولكن شهر أكتوبر أتى بما لم أكُن أتوقع.
كان موعد دخولي الجيش قد حان، فذهبتُ إلى منطقة تجنيد الإسكندرية، واصطفَّ مواليد عام ١٩٣٩م صفًّا، وخرج علينا ضابطٌ يقول: «كل مَن لا يحمل مؤهلًا غيرُ مطلوبٍ للتجنيد، أما حمَلة المؤهلات (التوجيهيَّة على الأقل) فسوف يحصلون على تأجيل آخر». واندفع الجميع إلى غرفة الحصول على الإعفاء، أما أنا فكنتُ رابعَ أربعة من حمَلة المؤهلات، لم يعرفوا كيف يحصلون على شهادةِ التأجيل. وظَلِلنا في موقفنا إلى أن جاء قائدُ المنطقة الشمالية، البمباشي أو البكباشي (المقدم) محمد علي رشيد، وصاح بلهجةٍ عسكرية: مَن أنتم؟ وذكر كلُّ واحد منا اسمَه. وعندما سمع اسمي أمرَني بالتوجُّه إلى المكتب، فتوجَّهتُ مذعورًا مع أحد الجنود، حيث انتظرتُ واقفًا إلى أن عاد، ثم أمرَني بالدخول إلى غرفته وسألني: هل أنت قريبٌ لمحمد إبراهيم عناني؟ فقلت له: إنه ابن عمي! وعلى الفور، انفرَجَت أساريره وقال: «إذن نحن أقرباء!» كان اسمه الأصلي محمد علي تيرانا، وكان من أسرة ذات أصول ألبانيَّة (كما هو واضحٌ من اسمه)، وكانت للأسرة فيلا تُجاور فيلا عجمية (زوج خالتي) على الطريق الزراعي، ولكنه مثلَ كثيرين من أبناء رشيد الذين ترَكوا البلد، قد غيَّر اسمَه إلى رشيد، وبعضهم غيَّر اسمه إلى الرشيدي — مثل أفراد أسرة «الخياط» و«الفسَّاسي» وهم من كبار التُّجار. ولكننا لم نكن أقرباء، بل كانت زوجتُه من أسرة «عجوة» ذات الثراء العريض، أختًا لزوجة ابن عمي الذي كان قد عُيِّن بعد تخرُّجه من كلية العلوم في شركة الحرير الصناعي بكفر الدوار.
أدَّى هذا الاكتشاف، على أي حال، إلى سرعة حصولي على شهادة التأجيل، وكان تأجيلًا مفتوحًا، وينصُّ على أنني أستطيع استخدامَه في التوظُّف؛ مما يسَّر لي استخدامَه في التعيين بالجامعة، ولكنني لم أذهب إلى القاهرة مباشرةً بل عرَّجتُ على رشيد، وكان القصد أن أتزوَّد بالفاكهة التي تتميَّز بها رشيد في ذلك الوقتِ من العام، وكان أخي الأصغر في الإسكندرية، وأصغر أخوتي مصطفى مع الأسرة في القاهرة، ومن ثَم رأيتُها فرصةً سانحة لتأمُّلِ المستقبل. وفي اليوم التالي لوصولي بدأ توافدُ الزوار، ومنهم علمتُ أن السيدة صاحبةَ المشكلة المذكورة قد «غضبت» من زوجها مرةً أخرى بسبب «كعك العيد»! وقرَّرتُ أن أسافر في اليوم التالي هرَبًا من مشكلةٍ لم يعد لها في نظري حل! ولكن السيدة كانت أولَ الطارقين في صباح اليوم التالي، وكان «كعك العيد» هذه المرةَ هو أنَّ زوجها يأتي بضيوف من رؤسائه في العمل، ويتركُهم في المنزل مع زوجته التي لم تعتَدْ ذلك (وتخاف على نفسها)، بل إنه ذات يوم ترك «ناظر المحطة» السويسي (وكان هو يعمل في وظيفة عطَشْجي بالقطارات)؛ ليبيتَ الليلة في المنزل، بحُجة عدم وجود فنادقَ رخيصة! وبعد المناقشات المُطوَّلة التي أدركتُ منها أن ذلك الرجل ميئوس منه، وَعَدتُها أن أذهبَ إليه وأُحذره للمرة الأخيرة! ولكنني علمتُ بعد يومين من وصولي أنه تُوفِّي فجأة، وكان قد تجاوز الحاديةَ والسبعين، ومن ثَم كان لزامًا عليَّ حضورُ العزاء.
كان المتحدث الرئيسي في العزاء هو «أحمد» زوج ابنته، الذي قصَّ على الحاضرين قصةً تُبين أن الآجال بيدِ الله، وأنَّ أحدًا لا يستطيع أبدًا معرفةَ سبب الموت، وكان ما يزال مُلازمًا أول، على سنِّه الكبيرة؛ إذ كان ترقى في الجيش «من تحت السلاح» أي دون تخرُّج في الكلية الحربية، ومن ثَمَّ قال بصوتٍ رزين ونبرات هادئة إنه سوف يحكي لنا ما حدَث لرئيسه في الوحدة. قال إن رئيسه أُصيبَ بورمٍ خبيثٍ في مخِّه، وبعد الفحوصات المضْنِية في المستشفى، قرَّر الأطباء أن حالته ميئوسٌ منها، وأنَّ عليه ألا يُغادر سريره حتى يأتيَ أمر الله. وقال «أحمد»: «أمرني أن أُحضر مسدسه الميري فرفضتُ، ولكنه قال إن ذلك أمرٌ ولا بد لي أن أُطيعه، ومن ثَم أعطيته المسدس باكيًا، وقبَّلتُه قبلةَ الوداع وخرَجت. ولكنني لم أنم تلك الليلةَ حزنًا على فراق رئيسي، وفي الصباح اتصلتُ بأفراد الأسرة أطلب منهم التواجد في المستشفى لأمرٍ هام. وعندما فتحتُ عليه الباب في الساعة الثامنة، وجدته جالسًا في السرير يتناول طعام الإفطار — من الفول والبيض! وقد رُبِطَت ضمادات كثيرة حول رأسه حتى أخفَتْ نصفها! وقلنا في صوتٍ واحد: الله أكبر! وشعَرَت بنا الممرضةُ فنادت الطبيب الذي شرح لنا أن الضابط قد تهوَّر، وكان معه مسدسُه الميري، في مخالفةٍ صريحة للتعليمات، فأطلق رصاصةً على رأسه بقصد الانتحار!» وتوقَّف أحمد ثم قال في نبراتٍ لا أستطيع أن أُقْصِيَها عن ذاكرتي: «يشاءُ السميع العليم أن تأخذ الرصاصةُ الورمَ وتخرج به من الناحية الأخرى!» ثم أردف قائلًا: «وعندما دخَل به الأطباء غرفةَ العمليات وجدوا أن الدماغ سليمة فخيَّطوا الجُرح وكُتِبت له الحياة!»
وبذَلتُ جُهدًا مضنيًا لأكتمَ ضحكي، والجميع من حولي يُهللون ويُكبِّرون! كان الموقف يتطلب ضبْطَ النفس، وأسرعتُ بعدها بالخروج من المأتم، وقد رأيتُ أن الحياة قد أبعدَتني عن الشِّعر لتُدْنِيَني من الدراما! هذا هو المسرح الحي حقًّا، وهذا هو ما سوف أتجه إليه!