أولًا: مقدمة
ليست الفلسفة مجرد فكر بلا زمان ولا مكان، بلا مجتمع وبلا حضارة.
إنما هي نظام فكري ينشأ في عصر، ويقوم به جيل، ويخدم مجتمعًا،
ويُعبِّر عن حضارة. هذا ما حاول أصحاب المنهج الاجتماعي في دراسة
الأفكار إثباته، مع أنه قضية بديهية ليست في حاجة إلى إثبات. وهذا
ما وُضِعت لأجله علوم إنسانية بأكملها مثل علم اجتماع المعرفة أو
الأنثروبولوجيا الحضارية، وما حاولته عدة نماذج من التاريخ: تاريخ
الفلسفة، وتاريخ الأفكار، وتاريخ المذاهب … إلخ.
قد تكون أزمة الفلسفة في جامعاتنا ومعاهدنا اليوم هي عدم الوعي
بهذه البديهية وعيًا علميًّا كافيًا، وإن كانت تُردِّدها، فيما
يبدو، أول كل محاضرة، وفي نهاية كل درس دون تنفيذها وتطبيقها
وإيجاد البراهين والاستدلال منها على نتائج معينة لجيلنا. وغالبًا
ما تكون الفلسفة تبنيًا لمذهب اجتماعي؛ تقليدًا لما هو موجود في
بعض المراجع الأجنبية التي ينقل عنها، أو عن اقتناع مذهبي يظهر في
السياسة أكثر مما يظهر في العلم، أو ردًّا على سؤال محرج لطالب
ملتزم متحمس لقضايا المجتمع بناءً على مذهب سياسي أو بدونه؛ تهربًا
من الإجابة. فما أسهل اللجوء إلى ظروف العصر أو ادعاء التقدمية
الاجتماعية، وما أسهل ترديدَ الشعارات والتشدق بالمناهج
الاجتماعية!
هذا الوضع هو الذي دعانا، في حقيقة الأمر، إلى التفكير في علاقة
الفلسفة بالموقف الحضاري لجيل محدد هو جيلنا. فنحن لا نتحدث عن
أزمة كل العصور، فهذه لا وجود لها، أو عن الفلسفة العامة، فهذه
أيضًا لا وجود لها. هناك أبنية
ذهنية ونفسية واجتماعية تظهر في كل عصر ولا يمكن تعميمها إلا بقدر
عموم النفس الإنسانية وإطلاق العقل البشري. وهو في الحقيقة عمومٌ
لا يأتي إلا بعد خصوص، وعالم أذهان لا وجود له في الأعيان.
مما لا شك فيه أن الفلسفة في جامعاتنا وفي حياتنا العامة في
أزمة. وجوهر هذه الأزمة أننا بعد أن أنشأنا جامعاتنا الحديثة منذ
أكثر من نصف قرن — وجامعاتنا القديمة موجودة منذ أكثر من ألف عام —
فإننا لا نستطيع القول بأن لدينا فلاسفةً أو أننا أخرجنا فلسفة.
وفي الحياة العامة بدأنا حركة الترجمة منذ أكثرَ من قرن ونصف منذ
رجوع الطهطاوي، وتأسيس ديوان الحكمة الثاني؛ أعني مدرسة الألسُن،
ونحن حتى الآن ما زلنا نُترجم، ونشكو من قلة الترجمات، بل إن
مشروعنا القومي المتمثل حتى الآن في خطط دور النشر وبرامج وزارات
الثقافة يتلخص في معظمه في مزيد من الترجمات. وحتى الآن لم تفعل
هذه الترجمات فعلَها، ولم تنتج عنها إبداعات، وكأن الترجمة غاية لا
وسيلة، وكأن التحصيل هدف في ذاته. إننا نُنتج، على أحسن تقدير،
مؤلَّفاتٍ تعرض لمذاهب الآخرين اعتمادًا على نصوص أصلية أو على
دراسات ثانوية، فأصبحت الفلسفة لدينا تجميعًا لأقوال، وعرضًا
لمذاهب، وشروحًا على نصوص كما نفعل مع المتون القديمة، وكأننا
استبدلنا متنًا بمتن، والمُحدَثين بالقدماء، فإذا ما تحمَّس الكاتب
والتزم فإنه يُدافع عن المذهب المعروض ويُهاجم خصومه في معركة ليس
طرَفًا فيها، كاشفًا بذلك عن موقفنا الحضاري الحاليِّ الذي يتلخص
في الخطابة والجدل، وليس في القياس والبرهان، في منطق الظن وليس في
منطق اليقين. لقد تحول المفكرون لدينا إلى وكلاء حضاريين مُمثِّلين
لمذاهب غريبة في معظمها عن بيئتنا؛ نظرًا لريادة الغرب وغزوه
الثقافي وانتشاره خارج حدوده، على عكس الشرق الذي لم نجد له بيننا
مُمثِّلين لفلسفاته في الهند أو الصين كما كان الحال عند مفكرينا
الأوائل مثل البيروني وغيره. وهذا واضح من وضع الفلسفة الشرقية في
جامعاتنا وكيف أنها لا تُعطَى إلا في أضيق الحدود، واعتمادًا على
مؤلَّف شهير كُتِب استكمالًا لتاريخ الفلسفة في الغرب.
١
وقد يبدو ما في هذا البحث مكررًا لما هو موجود سلفًا سواء في كتب
أو بحوث، ولكن الإصرار على ضرورة المشروع الحضاري القومي هو رسالة
لا بد من تبليغها في كل لقاء مع مفكرين يُهمُّهم الأمر.
٢