ثالثًا: النهضة الحضارية
بعدما يتم بناء التراث الذاتي وتحجيم تراث الغير تبدأ النهضة الحضارية بتفاعل الموقف التراثي مع التجارِب الوطنية التي تمر بها الشعوب. فالتراث هو ما يُمِد الشعوب بأبنيتها الفوقية، والتجارِب الوطنية تُمِدها بأبنيتها التحتية وبتفاعل البناءَين تبدأ مسيرتها في التاريخ.
(١) الثقافة الوطنية
وتُمثل الثقافة الوطنية نتيجة هذا التفاعل بين الموقف التراثي والتجارِب الوطنية أو أنها حلقة الاتصال بين الثقافة الذاتية والتجرِبة الوطنية، خاصة وأن كلَيهما يشترك في مواجهة هيمنة الغير الثقافية والسياسية.
(أ) حركات التحرر الوطني
- (١)
انتهاء عصر الهيمنة الأوروبية على الشعوب غير الأوروبية، وبداية تاريخ جديد للبشرية يبدأ بعصر التحرر الذي يُواكب أزمة القرن العشرين في الغرب، وبداية الانكماش الأوروبي داخل حدود الغرب الطبيعية، وانحسار ثقافته وآثاره على الغير.
- (٢)
ظهور ثقافات التحرُّر الوطني لدى الشعوب التي تخوض تَجارِبَ التحرر مواكبة لها أو سابقة عليها. فظهرت أيديولوجيات التحرر الوطني عند الأفغاني والكواكبي وعبد القادر المغربي وعبد الحميد بن باديس والسنوسي والمهدي وعرابي وعبد الناصر، تضع فيها الشعوب خلاصة تَجارِبها الوطنية وإبداعها وهي تتخلَّص من نِير الاستعمار.
- (٣)
تفجير القوى الوطنية الخلَّاقة بإسهامات في موضوع كتب فيه من الجميع في تجارِب التحرر وتباين المنطلقات الثورية نحو الأهداف الوطنية المشتركة وبداية أفكار الجبهة الوطنية والجبهة المتحدة، فالوطنُ للجميع تجاه عدو واحد مشترَك وهو الاستعمار.
- (٤)
ظهور الإبداع في الحياة القومية في صورة مشروعات قومية لمناهضة الاستعمار والعنصرية في الخارج والتسلط والتخلُّف في الداخل، وكأن النضال السياسي من أجل الاستقلال هو شرط الإبداع القومي.
(ب) ثقافات التحرر الوطني
- (١)
الثورة الثقافية في الصين وضرورة مواكبة الثقافة للثورة المستمرة بعد أن أدت «الكونفوشيوسية الثورية» دورها الشعبي في إيقاظ الوعي القومي وتجنيد الجماهير، والقيام بالمسيرة الطويلة ووضع قوانين للصراع ظنَّها الغربُ قوانينَ الجدل المستمَدَّة من الماركسية اللينينية، والاعتماد على الفلاحين كرصيدٍ شعبي للثورة في الدول الزراعية وعلى مفاهيم الدولة والزعيم وعلى الأخلاق السياسية المعروفة في التراث الصيني القديم.
- (٢)
المقاومة الفيتنامية لأكبر قوة عسكرية في التاريخ، والإبداع التكنولوجي المحلي (السراديب) في مواجهة آخر منتجات مصانع الأسلحة الأمريكية، وإقامة جبهة التحرر الوطني يكون للحزب الشيوعي فيها دور المحرك والعصَب، كما حدث في كوبا أيضًا، ومشاركة «البوذيين» في مقاومة الغزو الأجنبي، فالدين ليس فقط أفيونَ الشعوب، بل قد يكون أيضًا ثورةً في مواجهة الاحتلال وجعل الاستقلال الوطني أعزَّ ما تملكه الشعوب بالرغم من مساندة الأصدقاء وتأييد جيرانها الأقوياء.
- (٣)
الثورة الكوبية وكيف أنها أيضًا بدأت كحركة تحرر وطني ضد الاستعمار، ثم تحولت تدريجيًّا حتى أصبحت ثورة اشتراكية تزيد من رصيد الثورات الاشتراكية في العالم وقضائها على الأمية في أقلَّ من عام، وتجنيد الفلاحين بعد الغزو الأجنبي على السواحل، وإدراج آلاف «البغايا» من مخلَّفات النظام الرأسمالي قبل الثورة في أعمال منتجة، ووقوفها كنموذج ثوري لوحدة الثورة في أمريكا اللاتينية.
- (٤)
ثورات الفلاحين في أمريكا اللاتينية ودخول آباء الكنيسة الشبان في مَعارك النضال المسلَّح مع الفلاحين ضد مُلَّاك الأرض والعسكريين والشركات الاحتكارية الكبرى، وبداية حرب العصابات في المدن، وإقامة أول تَجرِبة اشتراكية ديموقراطية في شيلي.
- (٥)
الثورة الأفريقية وقيام حركات التحرر فيها على التراث المحلي للشعوب في مواجهة حضارة الرجل الأبيض وغزوه، مثل حركة «ماو ماو» وأنبياء «البانتو» وغيرها من الحركات الثورية المحلية، ووضعها أسس الاشتراكية الأفريقية التي تقوم على المِلْكية المشتركة للأرض كجزء من التراث الأفريقي وتراث الأسود، والثقافة السوداء، والفن الأسود، وتحويل بعض الثقافات إلى أيديولوجيات متكاملة مثل «الوجدانية» أو «الأفريقانية».
- (٦)
الثورة الإيرانية العظمى بقيادة الأئمة وبأيديولوجية الإسلام وتجنيد الجماهير في الشوارع لعدة أشهر في مواجهة أعتى قوى الطغيان في الداخل وأقوى الدول الاستعمارية في الخارج بعد محاولات «التغريب» والقضاء على الهُوية، وإدخال إيران في أقوى الأحلاف العسكرية، وجعل جيشها أقوى ثالث جيش في العالم.
لقد أعطت ثقافات التحرر الوطني نماذجَ فريدةً لثورة الفلاحين في مقابل ثورة العمال، وفي الجبهة الوطنية المتحدة في مقابل الحزب البروليتاري، وفي الاستقلال الوطني في مقابل الأحلاف المناصرة للثورة، وفي دور الدين في إطلاق طاقات الجماهير الثورية، وفي صياغة أيديولوجيات مستقبلة للتحرر الوطني، وما زال رصيدها يزخر بالإبداعات السياسية.
(ﺟ) إبداع الثقافة الوطنية
- (١)
دور الجيوش الوطنية في قيادة الثورة في مقابل النظريات القديمة التي تجعل الجيشَ أداة قمع في يد الدولة، أو تُخرِجه عن القضية الوطنية بدعوى عدم تدخُّله في السياسة، أو أن دوره في الدفاع عن العدو الخارجي ولا شأن له بالعدو «الداخلي» (أنور عبد الملك)، وإذكاء الوعي القومي عند الجماهير.
- (٢)
دور الدولة في التنمية؛ إذ تَقْبع الدولة في مصر والعراق منذ آلاف السنين وهو ما يُميز حضارة النهر (جمال حمدان) نظرًا لتنظيم المياه، ودورات الري وجباية الضرائب والتسويق. ومن ثَم قامت الدولة بمهام التأميم والتصنيع والإصلاح الزراعي، وأقامت القطاع العامَّ وقررَت مجانية التعليم باسم الدولة الممثِّلة لمجموع الشعب والمجسدة لحركة التاريخ.
- (٣)
تحالف قوى الشعب العامل كصياغةٍ لإقامة تنظيم سياسي، وتعبير ذلك عن التراث الذاتي خاصة بوحدة الأمة والعُرْوة الوثقى، وبتعبير شعبي «اللحمة» و«المصطبة» و«المولد».
- (٤)
صياغة «الاشتراكية العربية» التي تقوم بتحقيق مطالب الأمة في العدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص، وتذويب الفوارق بين الطبقات بالحلول السلمية وفي إطار الوحدة الوطنية عن طريق سيطرة الشعب على وسائل الإنتاج، والتخطيط لصالح الأغلبية وسياسة الأجور، وحقوق العمال، والقوانين الزراعية لحماية الفلاح … إلخ.
- (٥)
بروز القومية العربية كحركة تحرر وطني في الخارج في مواجهة الاستعمار والصِّهيَونية، وفي الداخل في مواجهة الرجعية والتخلف، وتوحيد المنطقة والدفاع عن إرادتها الوطنية المستقلة، وظهور القومية في مضمونها الثوري على خلاف المذاهب الثورية السياسية التي تجعل وحدة المذهب السياسي تَجُبُّ القوميات وخصوصيات الشعوب.
- (٦)
تكوين حركة عدم الانحياز منذ مؤتمر باندونج وبالاشتراك فيها مع الهند ويوغسلافيا، وتكوين منظَّمة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا، ومؤتمر القارات الثلاث، والدفاع عن دول العالم الثالث وحقِّها في السيطرة على ثرواتها.
(٢) اتجاهات النخبة
(أ) الإصلاح الديني أو الإسلام السياسي
- (١)
الثورة ضد الاستعمار، وقد مثَّل ذلك الأفغانيُّ في «العروة الوثقى» والسنوسي والمهدي وعبد القادر المغربي.
- (٢)
الدفاع عن الحرية والديمقراطية، والدعوة إلى النظم البرلمانية، وإلى إقامة الدستور وتغيير سُلطة الحُكام.
- (٣)
الدعوة إلى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وأخذ حقوق الفقراء في أموال الأغنياء وامتلاك الفلاحين للأرض، وثورة المحرومين العاطلين كما هو الحال عند الأفغاني.
- (٤)
الإسهام في حركة التقدم، وذلك بالدعوة إلى العلم والقوة والصناعات الحربية من أجل إنشاء الدولة الحديثة.
- (٥)
الدعوة إلى وحدة الأمة الإسلامية أو الجامعة الشرقية في مواجهة الاستعمار الغربي.
- (١)
احتياجه إلى صياغات فكرية وبرامج وطنية أكثر إحكامًا وتفصيلًا، فالوجدان الثوري في حاجةٍ إلى برنامج الثوري؛ حتى لا تستمر اليقظة الثورية إلى ما لا نهاية كما هو حادثٌ في إيران.
- (٢)
عدم رفض الفكر الطبيعي المادي باعتباره فكرًا يُنكر الروح واستقلال المبادئ، وقد كان الفكر الطبيعي جزءًا من التراث الذاتي عند أصحاب الطبائع من المعتزلة.
- (٣)
نقص التمييز بين الإصلاح والنهضة والثورة وعدم استمرار الحركة الأولى وتطورها في الحركات التالية.
- (٤)
انتهت حركة الإصلاح إلى سلفية؛ نظرًا لأنها لم تَحكُم ولم تقم بجبهة وطنية ولم تُجنَّد الجماهير وراءها إلا في إيران.
(ب) العلمية أو الماركسية
- (١)
الثورة على الواقع ومناهضة الاستعمار، وتغيير البناء الاجتماعي، وإحراز مظاهر التقدم والبدء في التنمية.
- (٢)
الحماس والنشاط والفاعلية والحيوية والصفوة المختارة والنخبة الثورية وهي عصب الحكم وقِوام الدولة.
- (١)
عدم التخلص من تراث الغير، وسيادة الماركسية «الغريبة» دون انبثاق الأيديولوجية الثورية من التراث الذاتي والتجربة الوطنية.
- (٢)
الدجماطيقية، وتطبيق النظريات الجاهزة على واقعٍ قد يتحملها ولكن يظل ساكنًا بالنسبة لها، وقد لا يتحملها فيثور عليها إذا ما تهيَّأَت ظروف الثورة.
- (٣)
الصعوبة الفكرية وغرابة القوالب الذهنية، وعدم فَهم قوانين الجدل أو تحول الكم إلى كيف، أو نفي النفي لدى شعوب أمية تستشهد بآيات الله وأقوال الرسول وبالأمثال العامية والحِكَم والأمثال والشواهد الشعرية.
- (٤)
الانعزال عن الواقع الإحصائي المحلي، وعدمُ إعطاء الأولوية للواقع على النظرية، وبالتالي تقع النظرة العلمية في تصور لا علمي بإنكارها مادة العلم.
- (٥)
عدم قيام وحدة وطنية بين التيارات السياسية المختلفة، والاستئثار بالسلطة، ثم تفكُّك التيار السياسي الواحد إلى مجموعات وفئات وطوائفَ وأجنحة، كلٌّ منها يبغي تصفية الآخر، فتفرض عشائريةُ التخلف ذاتَها على شمولية المذهب السياسي.
- (٦)
الولاء للآخَر الممثَّل في الثورة الاشتراكية الكبرى، وتجسيدها في إحدى الدول العظمى، وبالتالي فقدان الإرادة الوطنية المستقلة.
- (٧)
إعطاء الأولوية للمذهب على الوطن، وللشمول على الخصوصية، فيظل الحاكم هائمًا في الهواء لا مستقرَّ له يخشى الانقلاب أو ينعم بالسكينة في بحرٍ من اللامبالاة.
(ﺟ) الليبرالية أو الرأسمالية
- (١)
بناء الدولة الحديثة، دولة محمد علي، وتكوين أول محاولة في المنطقة للنهضة الحضارية، وما زالت آثارها في الترع والسدود ووسائل النقل والموانئ ودُور الثقافة والطباعة.
- (٢)
نشأة الفكر الليبرالي وما يحمله من مفاهيم الحرية والدستور والعدالة. وقد كان مشبَعًا بفكر الثورة الفرنسية، وبمفاهيم العدالة والمساواة، وارتباطه بالتاريخ وبمفاهيم التقدم والثورة.
- (٣)
اتحاده بالحركة الوطنية وتفجير الثورات الوطنية مثل ثورة عرابي وثورة ١٩١٩م، وبالأحزاب الوطنية حتى تحول إلى حركة مُناهضة للاستعمار على يد الجماهير قُبَيل الثورات العربية الأخيرة.
- (٤)
ارتباطه بالاتجاه الإسلامي سواءٌ من حيث تأصيلُ الليبرالية في التراث الذاتي أو من حيث إعادةُ فهم التنوير على أساس إسلامي وبناء الدولة الإسلامية الشرعية، وتُمثله أيضًا القِيَم التي نادى بها دعاة العلمية والعلمانية.
- (١)
نشأة الرأسمالية كنتيجة طبيعية لليبرالية السياسية، خاصة وأنها في بلاد محدودة الدخل تُصبح أقربَ إلى الإقطاع.
- (٢)
سيادة النظم الملَكية الوراثية وهي نظم تتعارض مع الليبرالية السياسية، ويفرضها التخلُّف المتوارث.
- (٣)
التلاعب بالحرية والدستور، والدخول في لعبة الأحزاب البرلمانية والأغلبية والأقلية وتغيير الوزارات.
- (٤)
الفساد العام وسيادة الرِّشوة، والتهرب من الضرائب، وذلك في نطاق الأقلية الحاكمة في مقابل الأغلبية التي يسودها الثالوث الشهير: الفقر والجهل والمرض.
(٣) الزمان والتاريخ
ويبدو أن نهضتنا الحضارية قد تعثرت في هذا القرن بالرغم من بداياتها الطيبة في القرن الماضي؛ نظرًا لعدم وجود تصور جدلي للعلاقة بين الزمان والتاريخ، بين مرحلة التجرِبة الوطنية ومراحل التاريخ.
(أ) الرجوع إلى الماضي واستباق المستقبل
لما تطور الإصلاح الديني وتحول إلى السلفية على يد رشيد رضا ثم الاخوان المسلمين فقدت مفهوم التقدم والتاريخ، وعادت إلى الوراء إلى أيام الإسلام الأول. فالسلفية إذن نقلٌ للحظة الحاضرة إلى الماضي لنقصٍ في القدرة على تحليل الواقع وعلى حصر عوامله واستقصاء محركاته. وما أسهل الرجوع إلى الماضي وعيشَ الواقع بالخيال، وتمني التحقيق بالأحلام، فذاك يُعطي عزاءً وحميَّة، وصدقًا في القول، فلا أحدَ يقدر على أن يُعارض المبدأ. فيتقدمون إلى الوراء مع تشنُّج وتعصب أو تكوين جماعات مغلَقة منفصلة عن المجتمع فوق الأرض أو في الصحراء أو تحت الأرض. وسرعان ما يتم اصطدامها مع سلطة الدولة.
وفي الماركسية يتم تجاوز الحاضر أيضًا إلى المستقبل، فالسلفية والماركسية بالرغم مما يبدو بينهما من تعارض ظاهري إلا أنهما في حقيقة الأمر يُشاركان في خطأ واحد وهو التنكُّر للَّحظة الحاضرة، والمرحلة التاريخية المحددة التي تمرُّ بها الشعوب. فلا يُمكن الانتقال من الإقطاع إلى الشيوعية دون المرور بمراحلَ متوسطةٍ من الليبرالية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية الدينية أو الخلقية ثم الاشتراكية العلمية. ولا يمكن الانتقال من الخُرافة إلى العلم دون المرور بالمراحل المتوسطة من عقلانيةٍ وتنوير. إن معرفة دور الأجيال وتقسيم المراحل بينها يمنع من أن يقوم جيلٌ بدور أجيال قادمة وينسى دوره الخاص. ودور جيلنا هو الانتقال من الإصلاح إلى النهضة، وقد تأتي أجيال قادمة للانتقال من النهضة إلى الثورة. ومن ثَم كانت النهضة الحلقة المتوسطة بين الإصلاح والثورة. فاستباق المستقبل يُنسي ثقل الماضي وما فيه من عقبات للتقدم لم يتمَّ التغلب عليها ودفعات عليه لم يتم استخدامها. كما أنه يُنسي اللحظة التاريخية الحاضرة التي قد ترفض أية مزايَدات تاريخية عليها. وغالبًا ما يكون مصير هذه الحركات أيضًا تكوينَ جماعات منعزلة فوف الأرض للثقافة والفن، أو تحت الأرض سرعان ما تصطدم بالسلطة وتقضي بقية نشاطها السياسي في السجون.
(ب) اللحظة التاريخية الحاضرة
إن شرط النهضة الحضارية الأولَ هو التعرف على اللحظة التاريخية الراهنة التي تعيشها المجتمعات الناهضة، وابتداءً من هذه اللحظة تُحدد مسارها وخططها ومراحل تحولها وأهدافها القريبة والبعيدة. ومن هنا أتت ضرورة وضع الأمة في منظور تاريخي يُعطيها إياه إحساسُها بالتاريخ وبقانون حركته.
- (١)
أزمة الغرب، أزمته المعنوية في المذاهب السياسية والأيديولوجيات والقيم، وأزمته المادية الاقتصادية، أزمة الطاقة، والإنتاج، والتسويق، والتضخم، وسباق التسلح والخطر النووي. ويُعبِّر مفكرو الغرب عن هذه الأزمة بعبارات: انهيار الغرب، سقوط الغرب، انتحار الغرب، نهاية الغرب … إلخ. وكأن الغرب قد قام بدورته منذ الإصلاح الديني إلى النهضة إلى العقلانية إلى التنوير إلى الثورة، ثم إلى الأزمة في النهاية (شبنجلر، هوسرل، برجسون، نيتشه).
- (٢) اكتشاف الشرق والبُعد الآسيوي للحضارة البشرية بعد أن حاك الغرب حوله مؤامرةَ الصمت (جارودي، نيدهام)، وأن آسيا تُمثل الرصيد البشري والمعنوي للشعوب المتحررة حديثًا. وبداية الانفتاح على الشرق ليس فقط من حيث تأييدُ الثورة الاشتراكية للثورة العربية كما حدث في العَقدَين الماضيَين، ولكنَّ الانفتاح الثقافي واكتشاف الهند والصين وإيران وآسيا الوسطى وجنوب شرقي آسيا، وأول ما انتشر العرب ذهبوا إلى الشرق وأول ما انتشر الإسلام انتشر شرقًا.٣
- (٣)
اكتشاف القدرات الذاتية للأمة العربية والإسلامية بعد ثوراتها الأخيرة فيما تُمثِّله من إبداع في مشروعها القومي، وتكوين تجمُّعات جديدة: باندونج، دول عدم الانحياز، شعوب آسيا وأفريقيا، القارات الثلاث، العالم الثالث، واكتشاف إمكانياتها المعنوية والمادية؛ فهي الشعوب التاريخية التي وضعت البشريةَ في بداياتها على طريق النهضة والتقدم في الماضي، وهي الشعوب التي استطاعت إبداع ثقافات التحرر الوطني في الحاضر، وهي الشعوب التي تُمثِّل على المسرح الدولي النظامَ العالمي الجديد، بالإضافة إلى إمكانياتها البشرية والمادية وما لديها من موادَّ أولية وأسواق وأيدٍ عاملة ورءوسِ أموال وقدرات هائلة على الإبداع لما وصل إليه مثقفوها وعلماؤها من درجة قصوى في الإتقان والأداء.
(ﺟ) حصار الإبداع وإجهاض العقول
- (١)
احتكار النظُم السياسية للعمل الوطني وعزل المثقفين الوطنيين عنه؛ خشيةً من تعدد الآراء، وإيثارًا للرأي الواحد ليس فقط في الأهداف الوطنية، بل أيضًا في الوسائل لتحقيق هذه الأهداف.
- (٢)
عدم تجنيد طاقات الشعب كلِّها لخدمة القضية الوطنية، وبالتالي انعدم من المواطنين الولاءُ القومي، باستثناء اللحظات الحاسمة في تاريخ البلاد مثل ٩–١٠ يونيو ١٩٦٧م، وحرب أكتوبر ١٩٧٣م، ويومَي ١٨، ١٩ يناير ١٩٧٧م.
- (٣)
العُزلة عن الواقع وعدم وجود خبرات محلية تبدأ منها التجرِبة الوطنية حتى يحدث الإبداع، وكأن الناس تعيش في أوطانها بأجسادها دون أرواحها؛ لأنها أسيرةُ الضنك أو الاحتكار.
- (٤)
الهجرة إلى الخارج أو ما سُمِّي «استنزاف العقول» ثم امتصاص الخبرات الوطنية في الثقافات الغربية وترك البلاد بلا «كادر» قادرٍ على التنمية.
- (٥)
الهجرة إلى الداخل والانزواء والتقوقُع على الذات، والحزنُ والبكاء على ما فات، والحسرة والندم، وحالات الاكتئاب النفسي، وتحويل الوطنيين إلى مرضى نفسيِّين.
- (٦)
التخصُّص العلمي الدقيق دون وعي سياسي يُمكنه توظيف هذا العلم؛ نظرًا لما ينشأ عن العلم من نجاح مهني وما ينشأ عن السياسة من مخاطرَ وأضرار للمهنة وللُقمة العيش.
- (٧)
التعايُشيَّة والارتزاق والرغبة في إيثار السلامة، وتوظيف العلم لمن يدفع أكثر داخلَ البلاد أو خارجها، فالعلم لا وطن له إلا الدخلُ الفردي!
- (٨) محاصرة المبدِعين وإجهاض العقول حتى يحدث الإحباط العام ليس فقط في الخارج ولكن أيضًا في الروح؛ حتى يتم القضاء على آخر حصون المقاومة ويُعلن الجيل الفشل التام، وأنه «الإفلاس التاريخي» فتندثر حضارة الأمة وتتحول إلى متاحف التاريخ.٥