ثانيًا: أزمة «الفلسفة والتراث»
تتمثل أزمة «الفلسفة والتراث» في وجود «ثنائية المصدر» في فكرنا
الفلسفي المعاصر: الفلسفة، والتي تعني في الغالب الفلسفة الغربية
الحديثة والمعاصرة، والتراث، ويعني في الغالب التراث الفلسفي
القديم. فالفلسفة تأتي من الغرب الحديث، والتراث يأتي من تاريخنا
القديم. ويعني ذلك أن «الآخر» هو الحديث المعاصر وأن «الأنا» هو
التاريخ القديم. وبالتالي يُصبح التمايز بين «الأنا» و«الآخَر»
تمايزًا في الزمان، بين القديم والجديد، بين التراث والفلسفة إلى
آخرِ ما يُقال من مصطلحات عصرنا ومطلبه الرئيسي في الأصالة
والمعاصرة. أما البُعد الثالث وهو الذي يُمثله حرف العطف «الواو»
أي الفكر المستقل اعتمادًا على العقل الخالص والذي يُمكن أن يكون
موطن التفاعل بين القديم والحديث فلا وجود له. وهو العقل الذي
نِيطَت به عدةُ علوم فلسفية خالصة وفي مقدمتها الميتافيزيقا، وإن
كان قد غلبت على هذا العلم أيضًا مادة المعاصرين مثل كانط وهيدجر
وكارناب. كما أن المدخل إلى الفلسفة قد غلب عليه أيضًا الطابَعُ
الذري في قسمة الفلسفة إلى نظريَّات ثلاث مشهورة: المعرفة والوجود
والقيم دون الإشارة إلى ما يُعادلها في تراثنا القديم في علم أصول
الدين: نظرية العلم، ونظرية الوجود، والإلهيات التي تضم نظريَّتَي
التوحيد والعدل أي مجموع القيم وفي مقدمتها استقلال العقل، وحرية
الإرادة، والأمل في المستقبل.
١ والحقيقة أن هذه النظريات الثلاث في الفلسفة الغربية
الحديثة إنما أتت في بداية العصور الحديثة كغطاء نظري جديد بديلًا
عن الغطاء النظري القديم الذي ورد من العصر الوسيط والذي تم إسقاطه
في عصر النهضة في حين أن هذه النظريات الثلاث ما زالت مطوية داخل
علم العقائد في تراثنا القديم. وإن «أسس الفلسفة» بالنسبة لجيلنا
هي الجبهات الفلسفية الثلاث التي يُحتِّمها موقفنا الحضاري الحالي:
الموقف من التراث القديم، والموقف من التراث الغربي، والموقف من الواقع.
٢
والضحية الرئيسية لهذه الأزمة هي ظروف العصر التي تم إسقاطها
كليةً من الحساب؛ مما ينتج عنه حيرةُ طلاب الفلاسفة بين التراث
القديم والفلسفة المعاصرة. ومع ذلك نشكو من عدم ارتباط مقرَّراتنا
الفلسفية بروح العصر وعدم تعرُّضها لمشاكله، ونُثير الموضوع على
صفحات الجرائد وفي أجهزة الإعلام كنوع من تبرئة الذمَّة أمام
النفس، وكأننا على وعي بالأزمة ونُحاول جاهدين إيجادَ حل لها.
والسبب واضح وهو حصارُ طالب الفلسفة بين هذه الجبهات الثلاث:
تراثنا القديم، والتراث الغربي المعاصر، وواقع عصرنا وهمومه، دون
ما رابطٍ عضوي أو تفاعلٍ بينها. والحل واضح وهو تحديد الموقف بدقةٍ
من هذه الجبهات الثلاث وإيجاد عناصر التفاعل بينها؛ حتى لا يميل
وعينا القومي تجاه أحدٍ منها متناسيًا الآخرَ تمامًا ومتجاهلًا
إياه فيُهزَم فيه؛ إذ تخرج «السلفية» من الجبهة الأولى، كما تخرج
«العلمانية» من الجبهة الثانية، وتُحاول «الإصلاحية» الخروج من
الجبهة الثالثة. وكل فريق يتجاهل الجبهتَين الأخريَين أو يكتفي
بمعاداتهما وتكفيرهما، لا فرق بين هذا الفريق أو ذاك.
وقد يكون أحد أسباب هذه الأزمة هو أن الجبهتَين الأولى والثانية،
أعني التراث القديم والفلسفة الغربية المعاصر؛ هو عدم تساويهما من
حيث العمقُ التاريخي. فالتراث أعمق من الفلسفة في وعينا التاريخي.
إذ يمتد التراث في وعينا القومي أكثرَ من أربعة عشر قرنًا، في حين
أن الفلسفة الغربية وليدةٌ فيه منذ قرنَين من الزمان. فهي لم
تُكوِّن تراثًا قديمًا بعد، والأجيال التي عملت فيه لا تتجاوز
الجيلَين أو الثلاثة، بل إن التراث الغربي عند أصحابه ما زال
معاصرًا بالنسبة إلى تراثه القديم في العصر الوسيط أو في العصر
اليوناني. وهو أيضًا كذلك حتى عند الاتجاهات المحافظة في الفلسفة
المعاصرة مثل التوماوية الجديدة التي تعتبره مجردَ قوسَين، تأويلًا
جديدًا لموضوعات أساسية في العصر الوسيط، وإذا كان التراث أكثرَ
رسوخًا في وعينا التاريخي من الفلسفة فإن التعبير «التراث
والفلسفة» يكون أصدقَ من «الفلسفة والتراث». فالأولوية للتراث على
الفلسفة لأنه أعمقُ تاريخيًّا وأرسخُ وجدانيًّا في وعينا
القومي.
وقد يكون أحدُ أسباب عدم التوازن في وعينا القومي بين التراث
والفلسفة هو أن التراث معلومُ الهُوية؛ إذ يعني تراثنا القديم أنه
يُعبِّر عن هوية الأنا، في حين أن الفلسفة والتي قد تعني الفلسفة
الغربية المعاصرة، أقلُّ وضوحًا في التعبير عن الهوية، وهُوية مَن؟
هُوية الأنا أم هُوية الآخر؟ وإذا كانت هوية الأنا فهل هي هوية
الأنا القديم أم هوية الأنا المعاصر؟ وبالتالي ينشأ في الأنا ولاءٌ
مزدوَج لهُويتَين غير متكافئتَين؛ هوية القديم برسوخه وعمقه
التاريخي، وهوية المعاصر بحداثته وغُربته. وتشتد الأزمة بحيث
يستحيل الجمعُ بين التراث والفلسفة بحرف العطف لأن العلاقة بينهما
علاقةُ صراع وتضادٍّ منذ نهضتنا الحاليَّة. فإذا كان التراث يُعبر
عن «الأنا» والفلسفة تُعبر عن «الآخر»، فإن علاقة التراث بالفلسفة
تُحدِّدها علاقة الصراع بين الأنا والآخَر، بين التحرُّر
والاستعمار، بين الشرعية واللاشرعية، بين الجماهير والصفوة، بين
المحكومين والحكام. وهل يُمكِن حلُّ هذا الصراع بين الأنا والآخر،
بين الجبهتَين الأولى والثانية إلا في الواقع المباشر، أي الجبهة
الثالثة، حيث يدور القتال؟
٣