ثالثًا: مظاهر الأزمة
وتبدو الأزمة في تعاملنا مع التراث القديم في نقل علومه كلها دون
ما اختيار أو تطوير. فغالبًا ما ننقل الفلسفة والكلام والتصوف دون
أصول الفقه مع أنه، وكما نبَّه على ذلك روَّاد البحث الفلسفي في
عصرنا، أهم مواطن الإبداع في فكرنا الفلسفي المنطقي المنهجي. وما
زال قابعًا في كليات الشريعة في الجامعات الدينية مثل الجامعة
الأزهرية، والجامعات الإسلامية بأم درمان والقرويين والزيتونة أو
في كليات الحقوق في الجامعات الوطنية، مطويًّا في الشريعة
الإسلامية وكأنه أحد مقدماتها دون مقارنة بينه وبين العلم الموازي
له في التراث الغربي؛ أعني منطق القانون ومناهج تفسيره.
١ أسقطنا أصول من الفقه الحساب مع أنه منطق النص، وروح
الحضارة، ومنهج الفكر، وموطن الإبداع، وبالرغم من شِكايتنا
المستمرَّة من غياب الفكر المنهجي في فكرنا المعاصر، ودعوتنا إلى
أهمية المنهج في الفكر الغربي.
وفي تدريسنا للعلوم العقلية النقلية الأربعة وضعناها كلَّها على
مستوًى واحد دون أن نُفضِّل بعضها على بعض، فعلم الكلام كالفلسفة
وكالتصوُّف سواءٌ بسواء دون تمايز بينها من حيث الأهميةُ أو النفع
بالنسبة لعصرنا الحاضر بل ودون جدل بينها، هذا الجدل الذي أدرَكه
القدماء. فالفلسفة تطوير للعقائد في الصراع الدائر بين المتكلِّمين والفلاسفة.
٢ والتنزيل في صراعٍ مع التأويل وهو الصراع المشهور بين
الفقهاء والصوفية. والمتكلمون في صراع مع الصوفية، وهو الصراع بين
منطق العقل ومنطق الذَّوق، بين البرهان والكشف، ومحاولة الفلسفة
الإشراقية من ناحية وحكمة الإشراق من ناحية أخرى الجمعَ بينهما.
٣ وقد حاول المتأخِّرون كالمتقدمين «إحصاء العلوم» من
أجل تحديد علاقة العلوم كلها بعضها ببعض في نسق علمي واحد؛ طبقًا
لمقاييسَ في التصنيف تدلُّ على اتصال الإلهيات بالطبيعيات، وعلم
الكلام وعلوم الفقه بالعلم المدَني.
٤
وننقل مادة كل علم وعلى أقصى تقدير نصف نشأته وكأننا غرباءُ عنه،
متفرجون عليه أشبه بالمستشرقين من أصحاب البلاد سواء بسواء مع أننا
جزء منه، ومسئولون عنه. توقف العلم لأننا انفصلنا عنه، وتخلينا عن
مسئوليتنا تُجاهه كجزء من التخلي عن المسئوليات العامة لرجال العلم
ولعلماء الأمة وتركها في أيدي أولي الأمر. وكان من نتيجة ذلك أنْ
توقَّفت العلوم بعد نشأتها وتطورها واكتمالها.
وفي كل علم نَعرِض لأمَّهات المسائل والخلاف حولها وكأننا لسنا
طرَفًا فيها، وكأن الأمر لا يَعنينا في قضايا المصير. ففي الكلام
نَعرِض للخلاف بين المعتزلة والأشاعرة ولا نُفضِّل التنزيهَ على
التشبيه في التوحيد، ولا نُؤثِر العقل على النقل، ولا حرية الإرادة
على الجَبْر والكَسب في العدل. ولا نُعطي الأولوية للعمل على
الإيمان في الأسماء والأحكام ولا للاختيار على النص في الإمامة.
فلا تزال الإمامة في قريش، أي في فئة لا تخرج منها. وهي اختيارات
قديمة فرَضَتها ضرورات العصور القديمة إبان النزاع على السلطة منذ
أيام الفتنة الأولى والتي حفظتها الكتب المدونة ويُكرِّرها
الأساتذة في الجامعات الدينية والوطنية بالرغم من تغير الظروف
والتي تُحتِّم اختياراتٍ بديلةً؛ طبقًا لحاجات عصرنا. ما زلنا
نُؤرِّخ للفَرْق بين الفِرَق دون محاولة للجمع بين الفِرَق ونحن
ندعو إلى الوحدة الوطنية ونُريد تأسيس الجبهات الوطنية بعيدًا عن
أحادية الطرَف في الحكم وكوسيلة للخلاص.
وفي الفلسفة نُكرر القسمة الثلاثية القديمة: المنطق والغيبيَّات
والإلهيات دون أية محاولةٍ لإعادة بناء المنطق الصوري القديم،
وتحويله إلى منطق شعوري أو جدَلي أو اجتماعي. ونُكرر الطبيعيات
القديمة ودرجاتها وترتيبها الصاعد من العناصر الأربعة إلى المعادن
إلى النبات إلى الحيوان إلى النفس، والطبيعةُ ساقطة من وعينا
القومي. ونُكرر الإلهيات القديمة بإشراقياتها وفيضها وإعطائها
الأولوية لله على العالم دون ما محاولةٍ لإعادة بنائها لردِّ
الاعتبار إلى العالم؛ من أجل القضاء على اغترابنا فيه والعودة
إليه. ونُثبت الضرورة الكونية في العالم التي تُحتمها أحكام النجوم
ودوائر الأفلاك، ونرى الطوالع لمعرفة مصائر البشر. ونرى المدينة
الفاضلة متمثلة في الدولة الهرمية التي تأخذ القمةُ فيها كل شيء
ويُسلَب عن القاعدة كل شيء. نُعيد البناءَ القديم والإنسانُ
والتاريخ فيه غائبان، وهما مِحوَرا التقدم في كل حضارة ولدى كل الشعوب.
٥
ونُعيد التصوف القديم ونُكرِّره كعلم دون أن نُحدد نشأته
التاريخية الذاتية، وليس مصادرَه ومؤثراتِه الخارجيةَ كما يفعل
المستشرقون طبقًا لمنهج الأثر والتأثر، فقد كان التصوف مجردَ ردِّ
فعل تاريخي على تيار البذخ والترف ونتيجة للتكالب على العالم،
والامتثال بين الفِرَق السياسية، كلٌّ منها تدعي أنها أولى بالحكم
الشرعي، وتُكفر الأخرى. كان التصوف حركةَ مقاومة سلبية بعد أن
استحالت المقاومة الفعلية وبعد أن استُشهِد العديد من الأئمة من آل
البيت في خروجهم على السلطان. لم تبقَ إلا محاولة الخلاص الفردي
بعد أن استحال الخلاص الجماعي، وترك الدنيا بمن فيها على من فيها،
بعد أن تكالبَ الناس عليها، والهروب إلى الله بعد أن استعصى العالم
واستحالت السيطرة عليه. ولا نطرح سؤال: هل الموقف الآن هو كذلك؟ هل
المقاومة ميئوس منها؟ هل ما زال الهروب إلى الله مطروحًا؟ هل إنقاذ
الجماعة قد انتهى إلى طريق مسدود؟ هل استُشهِد منا قادة المعارضة
مثلَما استُشهِد من آل البيت؟ ما زلنا نَدرس التصوف، ونُدرِّسه
كحركة خروج من العالم بينما العالم ينزلق من بين أيدينا، ويفر من
بين أصابعنا، ويهرب فاقدين السيطرة عليه، ثم يأتي الغير كبديل عنا
ليحلَّ محلنا بحجة المساعدة والعون والتعاون المشترك والتنسيق
المتبادل والمناورات المشتركة.
وفي كليات الشريعة في الجامعات الدينية وكليات الحقوق في
الجامعات الوطنية نُكرر النسق القديم في علم أصول الفقه ونُبرز
المدارس الأربعة وكأنها مختلفة متباينة دون أن نراها من منظور واحد
وكمنهج واحد مع تأكيد كل مدرسة على أحد جوانبه. فالمالكية تُعطي
الأولوية للواقع على النص، والحنفية تُعطي الأولوية للنص على
الواقع، والشافعية تجمع بين الاثنَين طبقًا للضرورة والمصلحة وتغير
الزمان والمكان، والحنبلية دعوة إلى العودة إلى الأصول بعد أن
تشعَّب الفكر، وتضاربت مناهج
الاستدلال، وتداخلت الأهواء والمصالح، وتشابكت العلل. كما نُكرِّر
النسق القديم في ترتيب الأصول الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع
والقياس. وهو ترتيبٌ كان يتفق مع روح العصر القديم؛ نظرًا لقربه من
الوحي وأولويته على الواقع. في حين أن روح العصر الحاليِّ،
واستنادًا أيضًا إلى روح الوحي الممثَّلةِ في أسباب النزول
و«الناسخ والمنسوخ» تُعطي الأولوية للواقع على الفكر. بالقَبول من
دليل المتكلمين وبالتالي يكون ترتيب الأصول الأربعة الذي يفرضه روح
العصر: القياس، والإجماع، والسنة، والكتاب. وهو الترتيب الصاعد في
مقابل الترتيب النازل القديم. الاستقراء في مقابل الاستنباط،
القاعدة في مواجهة القمة. وإلا ففيمَ الشكاية من غلق باب الاجتهاد،
وقلة الاعتماد على العقل، وغياب المنطق، وضياع إعمال النظَر؟
القياس هو تَجرِبة الفرد الخاصة وجهده العقلي الخالص. وهو قادرٌ
على الاستدلال إذا استكمل شروط الاجتهاد: العلم بمنطق اللغة
والدِّراية بأسباب النزول الأولى والوعي بمصالح المسلمين
الحاليَّة، وهي أسباب النزول الثانية، أي ظروف قراءة النص حاليًّا.
والإجماع تجرِبة إنسانية مشترَكة بين علماء الأمة، نوع من الحوار
الحُر بين المفكرين والمنظِّرين وقادة الرأي دون ما خوفٍ أو قهر أو
استبداد بالرأي الواحد، أو إلهامٍ يأتي، حتى ولو كان رأيَ الخليفة
أو الإمامِ أو قاضي القُضاة أو ساري العسكر. والسُّنة هي التجرِبة
الفريدة لنموذج التحقق الأول في حياة مُبلِّغ الوحي للاسترشاد بها
كما هو الحال في المسيحية البدائية واليهودية الأولى، والمراحل
الأولى في كل المذاهب الفكرية قبل أن تنالها عواملُ التاريخ
وصراعات القوى بالانحراف والتغيير أو الضياع. والكتاب هو تَجارِب
الأمم والشعوب على مدى التاريخ، التراكم المعرفي الإنساني الشامل
المتحقق مع مراجعة العقل والفطرة وكما تبدو في الحِكَم والأمثال
والمأثورات والآداب الشعبية.
٦
وأسقطنا العلوم النقلية الخالصة من الحساب، فتلقَّفَتها الجامعات
الدينية وبعض أقسام اللغة العربية في الجامعات الوطنية تُعيد في
الأغلب اجترارَ علوم القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه كما
ترَكها القدماء بلا تطوير وبلا نقل لها من مرحلة العلوم النقلية
إلى مرحلة العلوم النقلية العقلية. وتلك مهمة المعاصرين حتى تأتيَ
أجيالٌ لاحقة فتُحوِّلها إلى علوم عقلية خالصة. وهي أكثر العلوم
حضورًا في وعينا القومي؛ فقد استقرت في الأذهان، وترسبت في الوعي،
وامتلأت بها المكتبات العامة والخاصة في المساجد والقصور، وقامت
عليها المعاهد والمدارس الدينية، وشاعت وراجت طباعة، وتوزيعًا،
وكسب الناشرون من ورائها الملايين. يستشهد بها الأئمة والخُطَباء،
ويستعملها العامة والخاصة كحُجج سلطةٍ للإثبات أو النفي، وهي
العلوم التي نشأت نقلية خالصة وتوقَّف تطورها، ولم تتحول بعدُ إلى
علوم نقلية عقلية، كباقي العلوم الأربعة الأخرى التي تَغلِب على
أقسام الفلسفة. ولما ظلت بعيدة عن أعمال العقل وممارسة النقد
امتلأت بالأساطير وسادتها الخرافات، وغاب عنها النقد الداخلي،
واكتفينا بالنقد الخارجي كما وضعه القدماء.
لم تتطور علوم القرآن منذ السيوطي والزمخشري، ولم تَزِد أبوابها
عن الأبواب القديمة التي تبلغ المائة بما في ذلك الحرف والشكل
والصوت ودون التمييز بين ما هو دالٌّ وبين ما لا دلالة له. ظللنا
نُردد مادة كانت لها دلالتها عند القدماء لقُرب عهدهم بالوحي مثل:
هل الفاتحة جزءٌ من القرآن؟ هل البسملة جزء من السورة؟ وهي مسائلُ
لم تعد ذاتَ دلالة عندنا لأنها استقرت ولم تَعُد موطنًا للنقاش،
وإثارتها مع غيرها مثل ضرورة حذف «قل»، «قال» أو تغيير التاريخ
الهجري إلى تاريخ مولد الرسول يجلب الضرر أكثر مما يجلب النفع،
ويُفرق أكثر مما يجمع. في حينِ فرَض عصرنا أن تكون الأولوية لأبواب
أخرى ذكرها القدماء دون التركيز على دلالتها مثل «أسباب النزول» أي
أولوية الواقع على الفكر، «الناسخ والمنسوخ» أي تطور التشريع في
الزمان وقياسه على القدرة والأهلية، المكي والمدني، أي التصور
والنظام، والعقيدة والشريعة، النظر والعمل … إلخ.
وظلت علوم التفسير القديمة ضحيةَ التفسير الطويل الزماني
المتقطع، سورة بعد سورة، آية بعد آية؛ حيث يتوزع الموضوع الواحد في
عديدٍ من الأمكنة فتضيع وحدته، ويفقد الناس رؤيته، ويتفتَّت بناؤه،
وبالتالي لا يُغير من الواقع شيئًا ولا يُقدم له نظرية. في حين أن
التفسير الموضوعي للقرآن قد يكون أقربَ إلى روح العصر لمعرفة موقف
الوحي من الأرض والمِلكية والعمل والطبقات الاجتماعية والفقر
والغنى وعوائد النفط والتبعية للأجنبي والحرية والقهر.
٧ كما كانت علوم التفسير القديمة ضحيةَ النزعة
التاريخية، أي البحث عن الوقائع المادية التي يُشير إليها النص، في
حين أن النص مجردُ باعث على الفعل والسلوك، وصدقُه النظري في
تطابقه مع التجرِبة البشرية وليس مع الوقائع التاريخية.
٨
أما علوم السيرة فقد تكون هي المسئولةَ عن التشخيص في حياتنا
العملية وعبادة الأشخاص عندما تتحول الأفكار والمذاهب والمبادئ
ونظُم الدول بل وعصور التاريخ إلى أشخاص. الوحي مبادئُ لا
مُشخَّصة، ونظريات لا شخصية، تصوُّرات مبدئية، وشرائع عامة،
والرسول مجرد مبلغ للوحي، وأول مُبين لعمومه، ومُطبقٍ لشريعته. ليس
الرسول وحيًا بشخصه وإلا وقَعنا في التصور المسيحي للوحي، وهو
المسيح بشخصه أو الكنيسة بمؤسساتها. علوم السيرة نشأَت في المسيحية
نظرًا لتحول العقيدة من الكلمة عند المسيح إلى الشخص عند
الحَواريين خاصة بولس، ولتقديس الحواريين من بعده وتعظيم الرهبان
ودفنهم في الكنائس وإقامة المعابد فوق المقابر. ولكنها قد لا تنشأ
في الإسلام لأن الرسول مجردُ مبلغٍ للوحي، كان يأكل الطعام ويمشي
في الأسواق، ابن امرأة كانت تأكل القديد، رسولٌ قد خلَت من قبله
الرسُل، لا يقوم بالمعجزات في حياته أو بعد مماته، ولادته ومماته
مثل سائر البشر؛ لذلك كان تشخيص الرسالة في علوم السيرة هو الراسبَ
التاريخي المكون لعبادة الأشخاص في حياتنا القومية المعاصرة. ثم
قويت نظريات الشفاعة والولاية والتوسط والمحبة والتي شملت آل البيت
أيضًا. هذا التشخيص من خلال الطرق الصوفية يُعتبَر الرافدَ الأول
للدين الشعبي الذي يُمارسه الناس في حياتهم اليومية.
أما علوم الحديث فإنها استطاعت بحقٍّ أن تضبط صحة أقوال الرسول
بعد أن تشعَّبَت وزادت ونقصَت، واختلط الصحيح منها بالموضوع، وبعد
أن رفض الأوائل تدوين مصدر ثانٍ للتشريع مع اكتفاء بالمصدر الأول.
كانت ظروف العصر الأول تُحتِّم النقد الخارجيَّ والاعتماد على صحة
السند؛ استدلالًا منه على صحة المتن. ونشأ علم الجَرْح والتعديل
وعلم ميزان الرجال؛ لقُرب العهد برُواة الحديث. ولكن الظرف الآن قد
تغير، وبَعُد عهدنا عن عهد الرواة، وأصبح عصرنا أكثرَ قدرة على
النقد الداخلي، أي إعطاء الأولوية للمتن على السند، والاستدلال على
صحة الحديث من صحة المتن، واتفاقه مع العقل والحسِّ، مع البداهة
والواقع، مع التجرِبة البشرية ومصلحة الجمهور. وهي بعض مقاييس صحة
سند المتواتر مثل: استقلال الرواة أي عدم خضوع الراوي لأية ضغوط
لتغيير الذمة، واستحالة التواطؤ والاتفاق على تغيير الرواية بوجود
العدد الكافي من الرواة حتى يُصبِح الاطِّرادُ في القول أساسَ
الصحة مثل اطِّراد التجرِبة البشرية، التجانس في الزمان أي تجانس
انتشار الرواية عبر العصور، لا خَفاء فجأة أو شهرة فجأة؛ حتى
يُمكِن معرفة مواطن الوضع وجماعات المصلحة التي تُريد إخفاء النص
أو نشره.
أما الفقه فإنه كان أيضًا وثيقَ الصلة بالعصر القديم، فغلبَت فيه
العبادات على المعاملات؛ نظرًا لقربه من عصر الوحي، ولِحَداثة
العبادات ونجاحِ المعاملات، وتبويب الفقه بأيدي فِرَق السلطان حتى
يُقنِّن للناس شريعةً تغلب عليها الشعائرُ والطقوس، ولا تتعرض إلى
الحياة العامة إلا في الفروع، وكما هو الحال في الإمامة في علوم
أصول الدين عندما وُضِعَت كآخرِ مسألة في نسق العقائد، كفرعٍ لا
أصل، على هامش العقيدة وليس في صُلبِها؛ اتِّباعًا للعُرف وليس
طبقًا لضرورة العقل ومقتضيات العقيدة. في حين أن أزمة عصرنا في هذه
الغلَبة بالذات وتَواري المعاملات عن العبادات، وامتلاء حياتنا
العامة بالعبادات، وانفلات المعاملات طبقًا للمنافع الشخصية
وأساليب الاستغلال، وتهريب رءوس الأموال مع غِطاء فقهي صوري من
المصارف الإسلامية وشركات توظيف الأموال. لقد كان همُّ الفقه
القديم معرفةَ الأحكام الشرعية، الحلال والحرام؛ نظرًا لقربه من
عصر النبوة وحاجة الناس إلى هذه المعرفة. واقتفينا الأثر،
وزايَدْنا في الإيمان، فركزنا على الحلال والحرام، تاركين المندوبَ
والمكروه أو مُحيلين إياهما إلى الحلال والحرام كما فعلَت
الصُّوفية من قبل، ونسينا المباح. طرحنا سؤال التحليل والتحريم في
كل شيء حتى أصبحَت حياة البعض منا هاجسًا وسواسًا يرى الحرام في كل
شيء، مع أن الحلال أو المباح أحد أحكام الشرع الخمسة. وكل ما سكت
عنه الشرع تحليلًا أو تحريمًا فهو مباح. ولا حلال إلا ما حلَّله
الشرع ولا حرام إلا ما حرمه الشرع. أحالت فِرَقُنا الإسلامية
المعاصرة — مثل الصوفية قديمًا — المكروهَ إلى الحرام، والمندوبَ
إلى الواجب، وتحولَت حياة المسلم إلى ثنائية الحلال والحرام، وضاعت
حياة التوحيد، وانزوَت أمام المانَويَّة الأولى وثُنائيات الخير
والشر وتعارض النور والظلمة، وضاعت من النفس الطُّمَأنينة
والسكينةُ وحياة السلام، وتحولت إلى حياة الحرب والتضادِّ والصراع
في معركة وهمية غيرِ متكافئة بين قُوى الفرد وقوى الإحباط وصنوف
القهر، أو ما يُسمَّى بقوى الخير وقوى الشر، بين الفضيلة والرذيلة.
مع أن روح العصر تتطلَّب تحرير الناس من عبودية الحكَّام وأَسْر
التقاليد وقهر القوانين ودعوتهم إلى الطبيعة أساس الوحي، وبدئهم
بالمباح أو الحلال أساس الشريعة، براءة الذمة أو البراءة الأصلية؛
رحمةً بالناس.
كما درَسنا العلوم العقلية والطبيعية الخالصة في مادة «تاريخ
العلوم عند العرب» سواءٌ العلوم الرياضية أو الطبيعية، مكرِّرين
نظريات القدماء أو مقارنين بينها وبين العلوم الغربية المعاصرة،
حاكمين بأنه كان لنا قصَب السبق على غيرنا؛ حتى نُرضي أنفسَنا تجاه
الإحساس بالنقص، وتعويضًا للتوقف الحاليِّ ما دمنا في الماضي قد
سبقنا غيرَنا، فإن ذلك قد يشفع لنا تأخرنا الحاليَّ أو قد يُعطينا
وهمًا باللَّحاق، وقد تكون أقرب إلى تاريخ العلوم الصِّرف في
المراحل السابقة لتطور العلم الغربي الحديث، وبالأخص نقل علوم
اليونان وترجمتها إلى العلم الغربي قبيل عصر النهضة، وهي صورة
تاريخ العلم العام من وجهة النظر الأوروبية حث يصبُّ كل شيء في
الغرب الحديث منذ البدايات الأولى للعلم في الصين والهند وفارس
ومصر وعند العرب المسلمين. وما العلم العرَبي والإسلامي إلا حلْقةَ
اتصال بين العلم اليوناني والعلم الغربي، لنا شرف النقل وجُهد
الحامل، وإن استعصى الأمر أحيانًا على فَهم المسلمين، فأساءوا
التأويل وخلطوا بين العلم والدين، بين أرسطو وأفلاطون. ولم نُدرك
أنه حتى التسمية «تاريخ العلوم عند العرب» خاطئة؛ لأن الموضوع هو
نشأة العلم عند المسلمين؛ لأن حمَلة العلم كانوا مسلمين كما أن
العلم نشأ بفضل الإسلام الذي يجبُّ الجِنسية والقومية. وإن القول
بأن أكثرَ حمَلةِ العلم كانوا من العجم هو ردٌّ على خطأ بخطأ آخر،
عجم في مقابل العرب، ومجموع الخطأَين لا يُكوِّن صوابًا. حتى وإن
كانت العروبة تعني اللسان فإن بعض المؤلفات العلمية مكتوب باللغات
الفارسية والتركية والهندية. كما أن التعريب قد تم بفضل الإسلام.
إن المهم لدينا ليس هو تاريخَ العلوم الذي وصل الغربُ إلى نهايته
وجعل كل مساهمات الشعوب اللاغربية أذيالًا له، وفصَلَ عن قصدٍ بين
العلم وتاريخ العلم، بين البيئة والتطور، بين النهاية والبداية،
بين الغرب ومصادره في الشرق. إن ما يُهِمنا في العلوم العقليةِ
الخالصة هو كيفية خروج هذه العلوم من التوحيد؟ ما الصلة بين وظيفة
العقل وتصور الطبيعة من ناحية، وبين التوحيد من ناحية أخرى؟ هل
استطاع التوحيد توجيهَ العقل نحو الفكر الخالص بفعل التنزيه،
وتوجيهَه نحو الطبيعة بفعل الإرادة والخلق؟ هل استطاعت هذه العلومُ
الكشفَ عن الهوية التامة بين الوحي والعقل والطبيعة؟ هل استطاعت أن
تضع هوية العقل والطبيعة على أنها هوية الوحي ودون الإحالة إليه؟
كيف استطاع العلم الإسلاميُّ الخروج من التوحيد أو كيف تحوَّل
التوحيد إلى علم عقلي طبيعي خالص؟ كيف طبَع التوحيد العقليةَ
الإسلامية موجهًا إياها نحو الرياضيات الخالصة والعلم التجريبي
الخالص؟ هل هناك صلةٌ بين أوصاف الذات: القديم أي ما لا أول له،
والباقي أي ما لا نهاية له بحساب اللامتناهي في الرياضيات؟ هل هناك
صلة، بين الواحد وحساب التفاضل والتكامل؟ ما الصلة بين التنزيه
والفن الإسلامي، أي توالي الأشكال الهندسية إلى ما لا نهاية من كل
الجهات؟ ما الصلة بين الابتعاد عن التجسيم والتشبيه في الصفات وبين
الابتعاد عن التصوير والنحت في الفن؟ هل هذه الدوافع ما زالت باقية
بعد أن استقر التوحيد وجمد في الأذهان، أم أنها مستمرة لا تخضع
لروح العصر بل تنبع من البنية الداخلية للفن ولتكوين العمل الفني
مثل أولوية الفنون السمعية على الفنون البصرية، بصرف النظر عن
الوحي كلمة أو ألواحًا؟ هل يُمكن أن تنشأ فنون الرسم والنحت
والتصوير لدينا بدوافعَ إسلامية دون تقليدٍ للغرب؟ إن العلم
الحاليَّ لدينا إما نقلٌ عن العلم الغربي دون تعرف على فلسفته
وأسسه النظرية، نهايةٌ بلا بداية، تطبيقٌ بلا نظرية، وإما انغلاق
على الذات ورفض له باعتباره قائمًا على تصورات ودوافعَ لا إسلامية،
ثم تتحول هذه التصورات والدوافع إلى عقائد وأشياء لا تُوجِّه
الشعور، ولا تُؤثِّر في الذهن، ولا تطبع العقلية بشيء، لا تُثير
فيها إبداعًا، لا تُثير العقل الخالص ولا تُوجهه نحو الطبيعة.
٩
أما العلوم «الإنسانية»: اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ،
فإنها لا تكاد تُذكَر في أقسام الفلسفة، وتحولت علوم اللغة والأدب
إلى أقسام اللغة العربية وآدابها، أما الجغرافيا والتاريخ فلا
يكادان يُذكَران لا في أقسام الفلسفة ولا في الأقسام المختصة بهما
كالجغرافيا والتاريخ. فالجغرافيا علمٌ غربي معاصر بكل أنواعها،
والتاريخ مجرد مراجعَ عامة ومصادر ترَكها القدماء تحتوي على أخبار
بصرف النظر عن دلالاتها. إنما تركناهما كهواية للأساتذة أو
المثقفين يكتبون عن الجغرافيين العرب والمؤرخين العرب، وكيف أنهم
قد حازوا قصَب السبق، كانوا رحالة يجوبون الأرض، ويضعون الخرائط،
ويصفون البقاع، وكانوا مرشدين في عصور «الكشوف الجغرافية» الغربية
دون بحثٍ عن دلالات ذلك كلِّه في توجيه الوحي العقلي نحو الطبيعة
والدعوة إلى التفكر في الجبال والأنهار والوديان، وأسباب نزول
الأمطار واندلاع البرق وإطلاق أصوات الرعد، وعِلَل الزمهرير والثلج
والصقيع والضباب، وأسباب الحرارة والبرودة، وفي توجيه الوحي
العلماء إلى السياحة في الأرض، والانتشار في العالم، والتعرف على
عادات الشعوب والقبائل، واكتشاف سنن الله في الخلق.
١٠