خامسًا: نشأة الفلسفة: قراءة الآخرين من خلال الذات
إذا كان المقصود بالفلسفة والتراث هو علاقة الفلسفة الحاليَّة بالتراث الفلسفي القديم، فإن وصف نشأة هذا التراث الفلسفي قد تُساعد على فَهم وظيفة الفلسفة التي أدتها في التراث، وإلى معرفة إلى أي حدٍّ استمرت هذه الوظيفة أم انقطعت. وما صلة النشأة الأولى بالنشأة الثانية؟ وهل يُمكن بعث الفلسفة من جديد بنشأة ثانية تُماثل النشأة الأولى ولكن مع تراث مختلف، الغربي الحديث بدلًا من اليوناني القديم؟
-
(١)
كانت الفلسفة في التراث آخرَ العلوم العقلية النقلية ظهورًا؛ إذ إنَّها نشأت متأخرة بعد عصر الترجمة، في حين نشأت العلوم الأخرى، أصول الدين وأصول الفقه وجماعات الزُّهاد والعُباد والبكَّائين وهم بدايات التصوف، منذ أواخر القرن الأول، فالفلسفة لا تنشأ إلا بالتعامل مع الآخر، وبعد لقاء مع تراث آخر بعد ترجمته والتعرف عليه. لذلك كان القرن الثاني هو عصرَ الترجمة والذي استمر حتى الثالث والرابع، ثم تحول بعضُ المترجمين أنفسهم إلى شُرَّاح وفلاسفة كما كان بعض الفلاسفة الأوائل مترجمين.١
-
(٢)
نشأت الفلسفة إذن كقراءة لنصوص لتعرُّف الأنا على الآخر. لم تنعزل الحضارة الجديدة عن حضارات الغير ولا حاولت القضاء عليها كما فعلت الحضارة الأوروبية إبَّان الأوج الاستعماري مع حضارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بل تم التعرف عليها باحترام شديد، بل والدفاع عنها وتأصيلها وإكمالها وتبنِّيها، ثم صبها في حضارة الذات. وما تم في الفكر ثانيًا قد تم في الواقع أولًا عن طريق التزاوج والتصاهر بين الفاتحين الجدد والمفتوحين القدامى، بين حاملي الدين الجديد وبين المتحولين إليه من أنصار الديانات القديمة.٢
-
(٣)
وكانت الترجمة ذاتها قراءة. فلم يكن الهدف النصَّ المترجم بل كان الهدف هو الترجمةَ ذاتها. لم يكن يُهِم التطابق الحرفي بين القراءة والمقروء بل التطابق المعنوي لدرجة تغيير النفل حتى يتفق مع المعنى المفهوم والذي أمكن فهمه بفضل تصور الأنا المتكامل للعالم النابع من الموروث القديم، حتى ولو لم يكن الناقل مسلمًا دينًا فإنه كان مسلمًا ثقافة. لذلك يُخطئ الناشرون المحدَثون للترجمات العربية القديمة عندما يُصححونها بِناءً على النصوص اليونانية القديمة أو على ترجماتها إلى اللغات الأوروبية الحديثة. فموقف الناقل القديم لم يكن موقفًا استشراقيًّا حديثًا يُهِمه ضبط النص بموضوعيةٍ تاريخية فقهية لُغوية نصية، بل كان موقفًا حضاريًّا ينقل النص بعد قراءته وفهمه، ثم وضعِه في صياغة عربية مفهومة كمرحلة أولى، تتبعها مراحلُ ثانية مثل الشرح والتلخيص، ثم مرحلة ثالثة هي التأليف الإبداعي الخالص سواءٌ في الوافد وحده، أي حضارة الآخر لإعطاء تصورٍ شامل لها، أو باجتماع الوافد والموروث، ثقافة الآخر مع ثقافة الأنا في إبداع ثالث جديد.
-
(٤)
وقد تمت الترجمة على مرحلتَين: الأولى حرفية؛ حرصًا على «حدود» النص المقروء، وحمايةً له من سوء التأويل، وأمانة علمية بلغة عصرنا، إلى أقصى حد؛ حرصًا على دقة الفَهم، والثانية معنوية حرصًا على المعنى وهو المقصود من اللفظ. فإذا كانت الترجمة الأولى محاولةً للتعرف على الآخر فإن الثانية هي قراءة له، أي تجاوز ألفاظه وتعبيراته إلى معانيه وتصوراته، ثم التعبير عنها بلغة عربية تلقائية. فإذا كانت الترجمة الأولى نقلًا فإن الثانية تأليفٌ غيرُ مباشر. وغالبًا ما قام مترجم واحد بالترجمتَين معًا إذا ما تجاوز عمره عمر جيلَين.٣ لم تكن الترجمة استبدالَ لفظ بلفظ وكأنها مجردُ نقل اعتمادًا على المعاجم اللغوية، بل كانت نقل تصورِ الآخَر للعالم إلى تصور الذات، مع تغيير ألفاظ الآخر لتتفق مع تصورات الذات كلَّما اقتضى الأمرُ ذلك. فمثلًا إذا كان النص المنقول يستعمل لفظ «الآلهة» فإن اللفظ الناقل يستعمل بدلًا عنه لفظ «الملائكة». ففي تصوُّر الآخر لا ضيرَ من تعدد الآلهة في حين أنه في تصور الأنا الله واحد، والتعدد فقط للملائكة ولسائر المخلوقات.٤
-
(٥)
وقد استغرقت الترجمة القديمة جيلَين اثنَين حتى ظهرَت بوادرُ التأليف. بل إن بعض المترجمين كانوا مؤلِّفين كما كان بعضُ المؤلفين مترجِمين.٥ ثم تَزامنَ النقلُ المعنوي والتأليف حتى منتصفِ القرن الرابع، ثم استمر التأليف وحده حتى القرن السابع، أما في عصرنا الحاضر فإننا بدأنا النقل عن الغرب منذ ما يزيد على قرنَين من الزمان أي منذ أكثر من أربعة أجيال ولم يتم حتى الآن إبداعٌ. وإذا كان هناك تأليفٌ فهو تجميع للنقل وإعادةُ تبويبٍ وعرضٍ له. ولما كان معدل التأليف عند الآخر أعلى بكثير وأسرعَ من معدل النقل عند الأنا؛ أصبحنا نجري وراء الغير لاهثين بدعوى اللَّحاق برَكْب الحضارة، وساعَدْنا بأيدينا على نقل العلوم من المركز إلى المحيط كأحد مظاهر السيطرة من خلال الهيمنة الثقافية.
-
(٦)
وقد قامت الترجمة بفضل ديوان الحكمة، أي بفضل الدولة ومؤسساتها، وكانت عملًا منظمًا ومختارًا ومقصودًا، لا تخشى مذهبًا، ولا تستبعد مؤلفًا، ولا تُصادر كتابًا. وقد تم ذلك في بدايات نهضتنا الحاليَّة على يد الطهطاوي ومدرسة الألسن. وفي كلتا المرحلتَين كان هناك نقَلةٌ ومراجعون، وكانت الدولة تقوم بالنشر والتوزيع ثم بالتطبيق المباشر لهذا التراث العِلمي في أجهزة الدولة خاصة في الجيش وقطاعات الصناعة والزراعة والتعليم. وكان النقل في الحالتَين بدايةً من العلوم خاصة الطب والكيمياء؛ نظرًا لحاجة الدولة إلى علاج الجُند وإلى صناعة السلاح، ولكن في جلينا قامت الدولة باختيار النصوص التي تتفق مع هواها واستبعادِ نصوص أخرى بدعوى التوجيه المعنوي والإرشاد الوطني والإعلام الحزبي.
-
(٧)
كان المترجمون الأوائل نصارى يعيشون بين المسلمين. كانوا مُزدوجي الثقافة، نصارى العقيدة ولكن مُسلمي الثقافة. لم يكونوا رُسلَ ثقافة الآخر إلى الذات، بل كانوا رسلَ ثقافة الذات إلى الآخر. لم يكونوا على هوامش المجتمع، أقليةً مقهورة في مواجهة أغلبية قاهرة، بل كانوا في قلب المجتمع على قدم المساواة بين جميع الطوائف والملل، لم يكونوا غرباءَ على الأمة دخلاءَ على ثقافتها، بل كانوا أصحابَ حق ينبعون من صميم الثقافة العربية، كانوا مواطنين من الدرجة الأولى، زينةَ مجالس الخلفاء من أطباء ورياضيين وفلكيِّين وفلاسفة وأدباء ونُحاة وظرفاءَ وفقهاء ومتكلمين. لم يكن القصد إيجاد ازدواجية في الثقافة، بين موروث ووافد، بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر، بل كانت الغاية تقديم ثقافة الآخر للأنا؛ من أجل القضاء على الازدواجية الثقافية. كانوا عربًا لغة، ومسلمين تصورًا، وإن كانوا نصارى أو يهودًا عقيدة، وهذا عكس ما حدث في عصرنا عندما كان نصارى الشامِ المُحدَثون يشعرون بالأقلية في مواجهة الأغلبية، على هامش المجتمع وليس في قلبه، كان ولاؤهم أقربَ إلى ثقافة الآخر منه إلى ثقافة الأنا. فالأولى أكثر علمية وعقلانية وإنسانية، في حين أن الثانية أكثرُ خرافة وصوفية وإلهية. قاموا بدور الوكلاء لثقافات الآخر ومذاهبه عند الأنا، وكوَّنوا بؤرًا ثقافية هامشية منعزلة من خلال مدارس التبشير والجامعات الأجنبية. فنشأَت ازدواجيةٌ ثقافية بين ثقافة الأنا وثقافة الغير والتي كان هدف المترجمين الأوائلِ في المرحلة الأولى تجاوُزَها والقضاءَ عليها.
تعثرَت الفلسفة في جيلنا؛ لأنها لم تَعِ تمامًا النشأةَ الأولى كقراءةٍ للآخر من خلال الذات للقضاء على ازدواجية الثقافة، ثم نشأت في المرحلة الثانية كنقل لثقافة الآخر عند الأنا، وفي العصر الذي نُحاول فيه التحرر من جميع أشكال السيطرة والهيمنة الثقافية.