سابعًا: البِنْية الثلاثية للفلسفة: غياب الإنسان والتاريخ
بدأ التأليف عند الكندي واستمر عند الفارابي في موضوعات متفرقة حتى وصل الأمر إلى ابن سينا فوضع لها بِنْية ثلاثية: المنطق، والطبيعيات، والإلهيات. وقد انتقلت هذه البِنية إلى العصر الوسيط الأوروبي، بل وإلى العصور الحديثة حتى هيجل الذي اجتمعت فيه فلسفاتُ العصر الوسيط والعصور الحديثة على السواء، خاصة في «الموسوعة الفلسفية». ولقد انتقلت هذه البنية الثلاثية إلى الفلسفة الأوروبية الحديثة مع تحول جديد إلى نظرية المعرفة ونظرية الوجود ونظرية القيم؛ إجابة على أسئلة ثلاثة: كيف أعرف؟ وماذا أعرف؟ ماذا آمُل؟ وقد نشأ كل ذلك في البداية من الموضوعات الرئيسية الثلاثة في علم أصول الدين: نظرية العلم، ونظرية الوجود، والإلهيات، بالإضافة إلى النبوات (السمعيات).
فإذا سألنا: هل للفلسفة لدينا الان بنية؟ لكانت الإجابة حتمًا بالنفي. والفلسفة بدون بنية مجردُ تأملات في موضوعات متفرقة كما كانت الفلسفة القديمة في بداياتها عند الكندي والفارابي. وإذا سألنا: هل الفلسفة لدينا الآن، وهي في مرحلة البدايات؛ أي التفكير المتناثر المشتَّت في موضوعات متفرقة علمية ورياضية وإنسانية عامة، مرحلة تمهيدية لمرحلة أخرى تاليةٍ تتحول فيها الفلسفة من تفتت المسائل إلى وحدة الموضوع؟ لكانت الإجابة أيضًا بالنفي، بالرغم مما يكون في هذه الإجابة من مُصادَرة على المستقبل، وحرية حركاته وإمكانات إبداعه.
فالمنطق، بالرغم مما يبدو عليه من صورية وتقليدية، منطقُ قضايا وأشكال، إلا أنه قد تم تركيبه بِناءً على تصوُّر الحضارة الجديدة. فالمنطق بالنسبة للفكر عند ابن سينا يُعادل الوحي بالنسبة للعقل، كلاهما يعصمان من الخطأ. وينقسم المنطق إلى منطق صواب وهو البرهان، ومنطق خطأ وهو الجدل والسَّفسطة، كما ينقسم منطق الوحي إلى يقين وظن، وبالتالي سَهُل إدخال مادة المنطق الوافدة في تصور الحقيقة الجديدة. فمنطق اليقين هو البرهان، ومنطق الظن هو الجدل والسفسطة.
وإذا كان البرهان هو قمةَ المنطق أصبحت المباحثُ الثلاثة الأولى فيه: المقولات والعبارة والقياس ثلاثَ مقدمات له، والمباحثُ الأربعة التالية له تطبيقاتٍ عليه في الجدل والسفسطة والخَطابة والشعر. وإذا كانت اللغة مادةَ المنطق التي عليها تتضح أشكال الفكر فإن اللغة هي أيضًا وسيلةُ التعبير في الوحي. هناك إذن تطابق بين المنطق واللغة. المنطق مقولات وعبارة، واللغة ألفاظ وجُمَل، والقضية موضوع ومحمول، والجملة مبتدأ وخبر. إحالة المنطق إلى اللغة هو إحالة الوافد إلى الموروث، ووضع الحضارة اليونانية في تصور الحضارة الإسلامية، وعلى ما وضح في المناظرة الشهيرة بين المنطق والنحو بين متَّى والسيرافي. وقد تم عرضُ المنطق على العقل فقَبِلَه العقل؛ نظرًا لما في المنطق من نسَق هندسي. المقولة نقطة، والعبارة خط، والقياس خطان متوازيان، والبرهان: الموازيان لثالث متوازيان. فنظرًا لأن المنطق عقلي والعقل أساس السمع؛ ظهر تطابقُ المنطق والوحي.
أما الطبيعيات القديمة فهي كما تبدو طبيعيات عقلية مثالية، أقربُ إلى رسم الطبيعة منها إلى علم الطبيعة. وعلى الرغم من أن مادتها من الوافد إلا أن تصورها وترتيبها من أسفل إلى أعلى على نحوٍ صاعد، من المعادن والنبات إلى الحيوان والنفس، أشبهُ بطبيعيات الصوفية والارتقاء من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، كما أن هذه المراتب ذاتَها إنما هي توجُّهات من الوحي، وتحقيق لدعوته للتأمل في مظاهر الطبيعة وآيات الكون، وما أكثرَ وصف المعادن والنبات والحيوان والنفس في الوحي وكأن التطابق بين ثنائيات اليونان: الجوهر والعرَض، الصورة والمادَّة، الكيف والكم، السكون والحركة، القوة والفعل، المعلول والعلة … إلخ، وبين الطابَع المثالي لوصف الطبيعة في الوحي. وكما أنه يستحيل التمييز بين موضوعات علم الطبيعة وموضوعات علم الميتافيزيقا، كذلك يستحيل التمييز بين الآية ودلالتها، بين دليل الحدوث وقِدَم الذات في الفلسفة الإسلامية. فالعلم واحد، سواءٌ كان طبيعيات أم إلهيات؛ الطبيعيات إلهيَّات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى. لذلك استحال فصل العالم عن الله، والحدوث عن القِدَم. أما النفس فهي موطن الالتقاء بين العالَمَين؛ عالم الواقع، وعالم المثال. كلاهما بُعدان للنفس، ما أسهل إذن الحصول على دلالات معاصرة للطبيعيات القديمة وذلك بطريقتَين؛ الأولى: معرفة كيفية تركيب الطبيعيات القديمة إلى طبيعيات معاصرة، أي إلى بُعدٍ طبيعي للشعور من أجل القضاء على الثنائيات الموروثة والتي تُغذِّيها ثنائيات الحلال والحرام. والثانية: الكشف عن البُعد الطبيعي للإنسان، ووضع الإنسان في الطبيعة لتحقيق تطابق العقل والوحي والطبيعة.