أولًا: أنواع المجتمعات البشرية بالنسبة إلى تراثها
تمتاز المجتمعات البشرية على غيرها من المجتمعات الحيوية بأنها مجتمعات تراثية تحتفظ بتاريخها الماضي وتُدون آثارها، أو تَحفظه شفاهًا ثم ترويه الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة. ومن هنا ارتبط تاريخ الإنسانية بعلم النقوش والآثار والحفائر كما حُفِظت حياة المجتمعات في السجلات والحوليات، وخُلِّد الملك على حوائط المعابد والمقابر. فإذا كانت التجمُّعات الحيوانية تحفظ تَجارِبَها السابقة في سلوكها وتَعلُّمها من المحاولة والخطأ، فإن التجمعاتِ البشريةَ تحفظ هذا التاريخَ وتُدونه كتابة. التجمعات البشرية هي إذن وحدها التي لها تاريخ، وبالتالي كان تاريخها سجلَّ حياتها ومرآةَ روحها، وهو ما أكدته فلسفة الحضارات البشرية.
والمجتمعات البشرية بالنسبة إلى تراثها على ثلاثة أنواع: الأول ما يُسمَّى بالمجتمعات «البدائية» وهي المجتمعات التراثية التي يُكوِّن فيها تراثُها ماضيَها وحاضرَها ومستقبلَها، ويُكوِّن دينَها وفنَّها وفلسفتَها وأسلوبَ حياتها، ويكون بديلًا عن واقعها وفكرها ويقوم مقام عملها ومعرفتها. وفي هذه المجتمعات لا يحدث تغيرٌ اجتماعي قصدي، بل يحدث تقدُّم في أساليب الحياة العمَلية طبقًا للمحاولة والخطأ، أو إيهامًا بوسائل السحر وأساليب الخرافة.
والثاني ما يُسمَّى بالمجتمعات «المدَنية» أو المجتمعات الحديثة أو المجتمعات الغربية المتقدمة، وهي المجتمعات اللاتراثية التي كان فيها تراثٌ يومًا ما يُكوِّن ماضيَها وحاضرَها ومستقبلَها ثم تَكشَّف لها تعارُضُ بعض جوانب هذا التراث مع العلم الحديث والعقل البسيط أو الحياة المدنية العصرية التي تقوم على العَقدِ الاجتماعي الحر، فنفَّدته أولًا وتركَتْه ثانيًا، ولم تستبقِ منه إلا ما اتفق مع المعرفة الجديدة والعلم الحديث والنزعة الإنسانية بعد معركة فاصلة بين القدماء والمُحدَثين، بين أنصار القديم وأنصار الجديد.
والثالث ما يُسمَّى بالمجتمعات «النامية» أو المجتمعات المتحررة حديثًا وهي المجتمعات التي ما زالت في مرحلة انتقال بين القديم والجديد، تُحاول الخروج من التراث إلى الواقع والذي تُثار فيه قضايا الأصالة والمعاصرة، وتُعرَض عليه النماذج التراثية واللاتراثية، ويتأرجح بين التقليد والتجديد، ويتجاذبه تيارا الانقطاع والتواصل في هذه المجتمعات، وهي مجتمعاتنا التي لم تُحسَم فيها القضية بعد والتي تُثار فيها قضية «التراث والتغيُّر الاجتماعي». فهي مجتمعات تراثية تُشارف على العصر بعد أن جابهت الاستعمار وحققت الاستقلال الوطني وبدأت التنمية الاجتماعية الشاملة.