ثانيًا: الموقف الحضاري وأبعاده الثلاثة
موقفنا الحضاري اليوم ذو أبعاد ثلاثة تُعبِّر عن ضرورته، ولا حيلة لأحد فيها، ولا يمكن تغييرها ولا يمكن إغفالها، وإلا كانت الفلسفة بغير موضوع وبغير وطن؛ الأول: هو موقفنا من التراث القديم؛ وذلك لأننا مجتمع تراثي ما زال وعيه القومي مفتوحًا على القدماء، وما زال القدماء يُمثِّلون بالنسبة له سُلطةً يستشهد بها إذا ما نقصه الوعي النظري أو تحليل الظواهر. وما زالت تصوُّراتنا للعالم وموجهاتنا للسلوك مستمَدةً من التراث، لم تقم بيننا وبينه قطيعة، ولم تنشأ حركة نقد للتراث تضع تاريخنا الحديث في مرحلة جديدة. والثاني: موقفنا من التراث الغربي الذي بدأ يُكوِّن أحدَ الروافد الأساسية لوعينا القومي، وأحد مصادر المعرفة المباشرة لثقافتنا العلمية والوطنية. وقد كان الآخر باستمرار حاضرًا في موقفنا الحضاري منذ قدماء اليونان حتى مُحدَثي الغرب. لم تحدث بيننا وبينه قطيعة إلا في الحركة السَّلفية، ولم تقم حركة نقد له إلا في أقلِّ الحدود وبمنهج الخطابة أو الجدل، دون منهج النقد ومنطق البرهان.
والثالث: موقفنا من الواقع الذي نعيش فيه والذي نحتويه في شعورنا عن وعي أو عن لا وعي. وقد يكون هو الباعثَ على المعرفة، والموجِّهَ للاختيار. وقد يكون أحيانًا هو المصدرَ الوحيد للمعرفة بالإدراك الحسي المباشر أو التنظير العقلي المباشر؛ وذلك أن الموقفَين الأوَّلَين موقفان حضاريان بالمعنى الحرفي للكلمة، أي إنهما يتعاملان مع ثقافات مدوَّنة في الغالب، ويغلب عليهما منهج النقل بصرف النظر عن مصدره: النقل من القدماء أو النقل عن المحدَثين. في حين أن الموقف الثالث وحده هو الذي يتعامل مع مادة المعرفة «الخام» دون إدراك مُسبق أو تنظير جاهز سواءٌ من القدماء أو من المحدَثين. وعادة ما يكون هذا الموقف الحضاري المثلث الأبعاد غيرَ متوازن، ويكون حضورُ أبعاده فيه غيرَ متكافئ؛ فقد يتركَّز أساسًا على الموقف من التراث القديم ومن هنا تنشأ ثقافتنا الدينية وحركاتنا السلفية وتعليمنا التقليدي ونظُمنا المحافظة؛ اقتناعًا وإيمانًا، أو نفاقًا وتعميةً عما يدور في الواقع بالفعل. وقد يرتكز على الموقف من التراث الغربي، ومنه تنشأ ثقافتنا العلمية العلمانية وحركاتنا الإصلاحية والتحديثية وتعليمنا العصري ونظمنا الحديثة؛ اقتناعًا وإيمانًا، أو دفاعًا عن مصالح الحكام. وقد يرتكز الموقف الحضاري على البعد الثالث، أي الواقع ذاته، ومنه تنشأ ثقافتنا الشعبية وحركات التغير الاجتماعي، ومنه خرجت ثوراتنا الأخيرة. هذا الاتزان المفقود في الموقف الحضاري هو الذي يُسبِّب فقدان وحدة الشخصية ويجعلنا نعيش في «فصام نَكِد» فتتضارب الثقافات ومناهج التعليم والمذاهب السياسية، ويُقضى على الوحدة الوطنية في الممارسة، وعلى الشخصية القومية في النظر. وقد تتداخل هذه الأبعاد الثلاثة فيما بينها دون هذا الفصل الافتراضي المجرد؛ فقد يكون للوعي الفردي موقفٌ إيجابي من التراث القديم يُسبِّب موقفًا آخر سلبيًّا من التراث الغربي، وقد يكون هناك موقف إيجابي من التراث الغربي يُسبِّب موقفًا آخر سلبيًّا من التراث القديم. وعادة ما يكون هذان الموقفان المتعارضان سلبيَّين بالنسبة للواقع؛ لأن المدخل الحضاري يكون بديلًا عن الواقع المَعيش، وكأن المعركة في الكتب وليست بين الناس. أما الذي يأخذ موقفًا إيجابيًّا واعيًا من الواقع فإنه يكون في العادة إيجابيًّا في موقفَيه الحضاريَّين الأوَّلَين منتقيًا ما يُفيده منهما، فالأولوية للمصلحة على الكتاب، وللناس على الثقافة، وللحياة على الحضارة.