ثانيًا: النموذج التراثي
- (١)
يُؤخَذ التراث على أنه غاية في ذاته وليس مجردَ وسيلة لتحقيق غاية أخرى هو تقدم الشعوب ونهضة المجتمعات. فالتراث قيمة في حد ذاتها يُحرَص عليها، ولا يُمكن تناولها بالنقد أو التغيير. التراث مصدر القيم، وهو في حد ذاته قيمة روحية. هو مضمون الإيمان أو «المطلق في التاريخ». هو «المقدَّس» الذي لا يمكن تدنيسه بالبحث الإنساني أو بإعمال العقل، أو بتحويله إلى «الدنيوي» أو «العلماني». وفي هذه الحالة يكون التراث والدين شيئًا واحدًا، وتُنفَى عنه صفة الإبداع الإنساني، وكأنه من صنع الروح الإلهي والنَّفْح النبوي. يفعل في الناس، ويُوجِّه المجتمعات، ويُحدد المصائر، يجب الخضوع له، والثورة عليه كفر وإلحاد. ويشمل الكتب المقدَّسة والمؤلفات الصوفية والفقهية والعقائدية، ويضم الضريح والولي وكلَّ صاحب عمامة وبائع عطور!
- (٢)
يكون التراث مستقلًّا عن الواقع وليس جزءًا منه أو موجهًا له، فهو فكر وواقع، عقيدة وشريعة، تصور ونظام، دين ودنيا، مصحف وسيف … إلخ. ويكون بديلًا عن الواقع، يَطْرد الواقع الحالي، ويُحِلُّ محلَّه الواقعَ التراثي، ويتم الخلط بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، بين المبدأ والواقع، أو بلغة الأصوليين بين الأصل والفرع. أو على الأقل ينبغي على الواقع الحاليِّ أن يُطوِّع نفسه طبقًا للواقع التراثي، فالتراث لا يقبل واقعًا من خارجه يندُّ عنه أو يهرب منه أو يثور عليه. التراث مُلزِم ومشرِّع وقادر على احتواء كل شيء خارجه. التراث هو الذات والموضوع، الأنا والغير، الروح والمادة، مغلق على نفسه، لا يمكن النَّفاذ إليه.
- (٣)
التراث كلٌّ لا يتجزأ يُؤخَذ كله أو يُرفَض كله، لا يقبل الترقيع أو التوفيق مع تراث آخر مغاير. التراث وحدة واحدة لا بداية له ولا نهاية، يبدأ من ذاته ويعود إلى ذاته، منه البداية وإليه المنتهى. الناس صنفان: مؤمن أو كافر، ولا وسط بينهما، فلا وسط بين الحق والباطل أو بين الصواب والخطأ. لذلك تحولت الجماعات التراثية إلى جماعات مستغلقة على نفسها تتزاوج فيما بينها ولا تسمع أو تُطيع إلا لمن هو فيها، بل وتُهاجر وتُكوِّن جماعات كليةً متطهرة في ربوع الصحراء أو على أطراف المدن لا تتعامل مع غيرها إلا بعد التحول من النقيض إلى النقيض، ومن الضد إلى الضد.
- (٤)
يكون التراث خارج التاريخ والزمان والمكان، حقيقة أبدية لا تتطور أو تتغير ولا يخضع لتأويل أو تفسير أو وجهة نظر. يشمل الزمان والمكان ويطويهما فيه، فلا فرق بين ماضٍ وحاضر ومستقبل، ولا وجود لمراحل التاريخ أو نوعية المجتمعات أو خصوصيات الشعوب. وبالتالي، تم التنكُّر للحاضر كلية، وتمت التضحية بأصول الفقه في سبيل أصول الدين، وغلبَت العقيدة على الشريعة، وأصبح أصحاب التراث معبرين عن مبدأ أكثر منهم عاملين في الواقع ومغيرين له. يقف التاريخ لديهم في عصر ذهبي في الماضي، يكون هو الْتقاءَ الخلود والزمان. ومن ثم لا تتقدَّم الشعوب إلا بالرجوع إلى الماضي واختزال التطور، فلا يُصلح حالَ هذه الأمة إلا ما صلح به أولُها. يعيشون الماضيَ في الحاضر ويعيشون الحاضر في الماضي، والمستقبل غائب باستثناء المعاد، وخلود الأرواح.
- (٥)
الواقع كله مدان، ولا يمكن تطويره أو إصلاحه بل هدمه من الأساس حتى يبدأ البناء الجديد على أسس راسخة، أصله ثابت وفرعه في السماء. فالهدم يسبق البناء، والموت شرط الحياة، والبداية من الصفر خير من البداية على ما هو موجود بالطبيعة. ولما كان الواقع باقيًا، والحياة قائمة فإن الهدم لا ينتهي حتى يبدأ البناء، ومن ثَم يبدو التراث عدائيًّا للواقع، رافضًا له، خارجًا عليه، سرعان ما ينتهي أصحابه بتدمير أنفسهم والواقع باقٍ لم يتغير، والمجتمعات تندم وتتحسر على هذه الطهارة الضائعة الخاسرة. ولما استعصى الواقع طال الهدم ولم يأتِ البناء، فظهر السلبُ دون الإيجاب، والرِّفعة دون القَبول.
- (٦)
تتولد العقلية الانقلابية، وتغيير المجتمعات عن طريق الصفوة الطليعية المؤسِّسة، الجيل القرآني الجديد، القادر على تجنيد الأمة، ومواجهة قُوى البغي والعدوان، والدفاع عن حاكميَّة الله لتقويض حاكمية البشر. يحدث الانقلاب في حياة الفرد أولًا ثم حياة المجتمع ثانيًا، فالتغيُّر انقلاب، والثورة انقلابٌ على ما هو واضح أيضًا في اللغة الأوردية. وبالتالي يتم العمل في الخفاء، سرًّا لا علانية، تحت الأرض أكثر منه فوق الأرض، بجَهازٍ سري شبه عسكري، سرعان ما تكتشفه السلطة القائمة فتقضي عليه بقوة الجيش والبوليس المسلَّح. ولا ضير من استعمال العنف المسلح والاغتيال السياسي لتبديل الزمرة الحاكمة وإحلال الصفوة المؤمنة محلَّها.
- (٧)
ويتم ذلك كله باسم الله دفاعًا عن حقه، وتأكيدًا لحاكميته، وتنفيذًا لإرادته وامتثالًا لطاعته، وطمعًا في أجره وثوابه. ولا يتم باسم الإنسان، دفاعًا عن حقوقه وتأكيدًا لسلطانه وتحقيقًا لمصالحه العامة حتى يعيش في دنياه حرًّا كريمًا. وبالتالي غابت النظرة الإنسانية، ونقصت الرحمة، وظهرت القسوة. والله يُبرر شعوريًّا عند دعاة التراث سلوكَهم؛ لأنهم يُدافعون عن الشرع باسمه. انزوى الإنسان وخاف، وتقلصت قواه، وتجمدت طاقته وضُغِطت طبيعته. فولَّد الكبتُ والحرمانُ مظاهرَ التعويض والإشباع، وكأنَّ الله ليس غنيًّا عن العالمين وفي حاجة إلى دفاع، وكأن الله لم يُكرِّم بني آدم في البر والبحر ولم يجعله سيد العالمين.
- (٨)
ويسود التعصب والتشنج، ويُرفَض الحوار مع الآخرين حتى انغلق أصحاب التراث على الذات وأسقطوا الآخرين من الحساب، فأصبحوا نرجسيين، يرون أشخاصهم وذواتهم في مرآة الآخرين. هم الحق وما سواهم الباطل، وبالتالي استحالت الوحدة الوطنية وانقسمت الأمة إلى فريقَين متصارعَين متعارضَين، خَصْمان يُكفر أحدهما الآخر، ويحمل كلٌّ منهما السلاح في وجه الآخر. وتستعملهما الدولة كل فريق ضد الآخر، فيحدث الشقاق بين قوى المعارضة، وتتوقف عملية التغير الاجتماعي، وتكون الخطورة أعظم إذا ما انشق دعاة التراث على أنفسهم، ودبت الخلافات فيما بينهم، كل فريق يدَّعي أنه على حق وصواب وما دونه الباطل.
- (٩)
وتسهل المعارك الشكلية حين يصعب تغيير المضمون، فيظهر التغير على السطح في مظاهر اللباس خاصة وصورة البدن، مثل إطالة اللحى، والتمتمة بالشفتَين والحجاب، والصلاة وإقامة الشعائر والطقوس؛ بحُجة الاستعداد وعدم التسرع، والإعداد للمعارك القادمة، فيبقى الواقع الاجتماعي لا يتغير، وتُثار المشاكل الوهمية في مجتمعات التنمية مثل فصل الذكور عن الإناث، أو التجمهر لإقامة مصلًّى، ولا يجد الضنك والبؤس والفقر والجوع من يتصدَّى له، ويرتفع المترَفون، وتستسلم الأمة، ويضيع استقلالها على رائحة العطر ومعارض كتب التراث ومعارك الحجاب.
- (١٠)
وسرعان ما تجد القوى المحافظة في النموذج التراثي خير دعامة لإيقاف حركة التغيير الاجتماعي، فتتمسك بالقديم، وتُحافظ على الأصول، وبالتالي تجد شرعيتها في التراث بعد أن فقدتها في الواقع، وتتأصل في المبدأ وتختفي وراءه وتستعمله كقناع يُخفي التسلُّط في الواقع ونهب ثروات الأمة، لذلك عمَّ النموذج التراثي في النظم المحافظة، وأصبح دِعامة الإقطاع العشائري والحُكم القبَلي، والنظام الأسري، وتحولت قيم الأصالة والصلابة والإيمان إلى موانعَ للتغير الاجتماعي، وأصبحت القيم القديمة خير دعامة للنظُم المحافظة. ولا تجد قوى التغير الاجتماعي لديها أية وسيلة لمواجهة القديم أو النظام القائم وإلا اتُّهِمَت بالخروج على المجتمع، خاصة إذا كانت المحافظة هو التيار الغالب على ثقافة الجماهير.