أولًا: ماذا يعني التراث والعمل السياسي؟
ليس التراث مجموعةً من العقائد المقدسة، والأبنية الصورية أو النصوص المخطوطة والمنشورة والمراجع والمعاجم ودوائر المعارف؛ فهو ليس تراثًا صوريًّا فارغًا لا أثر له ولا هو تراث مادي حسي، مجرد مجموعة من الكتب «الصفراء» القديمة تدرسها الجامعات الدينية. التراث هو المخزون النفسي عند الجماهير، هو تواصل الماضي في الحاضر، يتحول إلى سلطةٍ في مقابل سلطة العقل أو الطبيعة. يمد الإنسان بتصوراته للعالم وبقيمه في السلوك. ويظهر التراث كقيمة في المجتمعات النامية، وهي المجتمعات التراثية التي ما زالت ترى في ماضيَها العريق أحد مقومات وجودها، وفي جذورها التاريخية شرط تنميتها وازدهارها.
فلما كان التراث سلطة وقيمة وحُجة في وجدان الناس، يُطيعونه دون ما حاجة إلى اقتناع، استعمله الحكامُ طلبًا للطاعة لهم وإثباتًا لشرعيتهم. وأظهروا عقائد الطاعة أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: ٥٩] دون عقائد «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق» أو الخروج على الإمام إذا ما نقض البيعة ولم يُراعِ المصلحة العامة أو هادن الأعداء ولم يُدافع عن البلاد. ولما كانت حركة المعارضة إما علمانيَّة تجهل التراث ولا تستعمل التراث المضاد، أو إسلامية سلفية تُكفر الحاكم دون أن تُوجه إليه نفس السلاح وظهرها مؤمَّن بالجماهير الإسلامية، فإن تراث المعارضة لم يُستعمَل إلا نادرًا في جيلنا هذا. ولم تستعمل حركة الإصلاح إلا تراثًا متوسطًا بين تراث الحاكم وتراث المحكوم، وهو تراث الطبقة المتوسطة الذي يعتمد على الإصلاح والتنوير والعلم والعقل والطبيعة والتقدم والنهضة؛ من أجل تأسيس دول قومية حديثة أو ملكيات دستورية مقيدة، ونظُم برلمانية حديثة تقوم على تعدد الأحزاب؛ أُسوةً بالنظم البرلمانية في الغرب.
أما العمل السياسي فإنه يعني تطوير المجتمعات، ونقلها من مرحلة إلى مرحلة. فهو العمل السياسي بالمعنى الواسع الذي يشمل التغير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني والتعليمي والفني … إلخ. تعني السياسة هنا كل ما يتعلق بقضايا التغير الاجتماعي لما كانت الأولوية للسياسة في المجتمعات النامية. وبالنسبة لنا يعني التغير الاجتماعي من منظور السياسة قضايا تحرير الأرض من الاحتلال والغزو، والدفاع عن الحريات ضد صنوف القهر، والعدالة الاجتماعية والمساواة ضد سوء توزيع الثروة والفروق الطبقية الشاسعة بين الأغنياء والفقراء، والوحدة بين أجزاء الأمة المبعثرة ضد التشتت والتجزيء والتشرذم والتفتُّت، وقضية الهوية والأصالة في مقابل التغريب والتقليد، وهي القضية الحضارية الأولى. وربما كانت هي نفسَ القضايا التي تعرضت لها أجيالنا السابقة منذ فجر النهضة العربية الحديثة في القرن الماضي بتياراته الثلاثة: الإصلاح الديني (الأفغاني) والعقلانية العِلمية (شبلي شميل)، والليبرالية الحديثة (الطهطاوي). يعني العمل السياسي أيضًا كيفية إدارة الصراع من أجل مواجهة هذه القضايا ودور ثقافة الجماهير ونوعية قياداتها، وقنوات الاتصال بين الأولى والثانية (الخلايا والأحزاب أم الأئمة والمساجد).
يعرض موضوع «التراث والعمل السياسي» إذن لقضايا التغير الاجتماعي. والمهم فيها ليس التراث، فهو ما يُسلِّم به الجميع، سواء كان قابلًا له أو رافضًا إياه، وليس العمل السياسي، فهو ما يُمارسه الجميع سواء كان العلمانيون أم الإسلاميون. المهم هو حرف العطف «الواو» التي تبدأ بمُسلَّمة وهي أن هناك صلةً وثيقة بين التراث من ناحية «والعمل السياسي» من ناحية أخرى. وأن نموذج الانقطاع بينهما (تركيا، بولندا) ليس هو النموذج المتبَع في مجتمعاتنا النامية. إذ إن الانقطاع افتراض صوري لا وجود له في الواقع، وتقليدٌ للغرب، وتعالٍ طبقي نخبوي على ثقافة الأمة، وترفُّع على جماهيرها. كما أنه وقوع في القبلية والطائفية والشعوبية الحديثة بدعوى الخصوصية والتمايز والإبداع الذاتي. وسينتج عنه بالضرورة إما حركة علمانية محاصَرة معزولة مؤكِّدة حتمية التغريب، أو رد فعل عليها بحركة سلفية محافِظة رجعية تُدافع عن الأصول، أو حركة ليبرالية طبيعية تدعو إلى التواصل والتطوير والتغير الطبيعي والانتقال من الأصالة إلى المعاصرة، أو من التراث إلى التجديد، وهو الاختيار الثالث الذي ترنو إليه كل المجتمعات النامية التي راحت ضحيةَ البديلَين الأوَّلَين، فوقعت الأمة في ازدواجية الثقافة وشقت وحدة الصف، وانقسمَت الحركات السياسية إلى جَناحَين متنازِعَين ويُكفِّر كلٌّ منهما الآخر، ويعتبر كلٌّ منهما الآخرَ عدوه اللدود، ويتنافس كلاهما على الحكم، ويتصارعان على السلطة، وتكون الجماهير والحريات العامة في نهاية الأمر هما الضحية.
ولما كان العمل السياسي مسئوليتنا نحن كمثقفين طليعيين وكسياسيين حزبيِّين، فكذلك التراث مسئوليتنا نحن كمفكرين وطنيين. فالتراث نتاج لكل عصر، ظروفه وصراعاته. وطالما تتغير الظروف يتغير التراث، أو الاختيار بين بدائله، أو حتى تأويله وتفسيره. فليس التراث من المقدَّسات، بل هو نتاج تاريخي صرف يُمكن فَهمه عن طريق «علم اجتماع المعرفة». لسنا مستشرقين نرصد حركتَه التاريخية فحسب، بل هو جزءٌ منا ونحن جزء منه، مسئوليتنا عنه لا تقلُّ عن مسئولية واضِعيه الأوائل. وبالتالي كان علينا تطويره وتغييره بل وقلبه، رأسًا على عقب. ومن هنا كان نقد التراث واجبًا وطنيًّا. والنواح على سلبياته مجرد بكاء وصراخ وعويل لا يُجدي. فالسلبيات يُمكن القضاء عليها بإنتاج تراثي آخر أو تحويلها إلى إيجابيات بفعل سياسي مضاد. كما أن التغنِّيَ بإيجابياته إعجاب بتراث الآباء والأجداد لا قيمة له إلا بمقدار مساهمة هذه الإيجابيات في حل قضايا العصر الأساسية وقَبول تحدياته الرئيسية. فما الفائدة في التغني بالعقل في مجتمع غيبي، أو الفخر بالعدالة الاجتماعية والمساواة في مجتمع الفقر والضنك والبؤس والشقاء، أو الاعتزاز بالحرية في مجتمع القهر والتسلُّط تُفتَح فيه السجون والمعتقلات أكثرَ مما تُفتَح فيه المدارس ودور العلم، أو التشدق بالوحدة في أمة تقطعَت أوصالها وتفرقَت شيعًا يُحارب بعضها بعضًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: ٣٢].