أولًا: مقدمة: وصف الظاهرة
ماذا تعني «كبوة الإصلاح»؟ تعني كبوة الإصلاح أن نهضتنا الحديثة
التي بدأت منذ أوائل القرن الماضي باصطلاح المؤرِّخين إنما بدأت في
جيلَين وانتهت على يد جيلَين. فإذا ما أتى الجيل الخامس فإنه يجد
نفسه في أزمة: هل يُعاود الإصلاح من جديد؟ هل يبدأ بداية جديدة؟
وما هي هذه البداية؟ وكأن نبوءة ابن خَلْدون قد تحققت في تاريخنا
المعاصر وهي أن الدورة التاريخية تمتدُّ أربعة أجيال! فإذا أخذنا
التيارات الرئيسية الثلاثة التي تُكون نهضتنا الحديثة: الإصلاح
الديني، والفكر العلمي العلماني، والفكر السياسي الليبرالي، لوجدنا
أن كل تيار قد حدثت فيه الكبوة على مر هذه الأجيال الأربعة.
فالإصلاح الديني بدأه الأفغاني بداية جيدة، وحدد مشروعه الإصلاحي
تحديدًا متفقًا مع ظروف عصره: مواجهة الاستعمار في الخارج ومقاومة
التسلُّط في الداخل. ولكن بعد الثورة العرابية والاحتلال الإنكليزي
لمصر خبا مشروع الإصلاح وهوى إلى النصف على يد محمد عبده فاصلًا
الدين عن السياسة — لعن الله ساس ويسوس! تاركًا الثورةَ للإعداد
لها، وتغيير النظم السياسية لتربية الشعوب، ومواجهة السلطان إلى
إصلاح مناهج التعليم والمحاكم الشرعية. وبعد اشتداد الحركة الوطنية
في البلاد على يد تلاميذ الأفغاني، وفي مقدمتهم مصطفى كامل ومحمد
فريد وسعد زغلول واندلاع ثورة ١٩١٩م، خبا المشروع الإصلاحي مرة
أخرى عند رشيد رضا بعد أن رأى مخاطر الوطنية في العلمانية وتقليد
الغرب والتفرنج كما هو الحال في تركيا بعد الثورة الكمالية في
١٩٢٤م. ثم خبا المشروع مرة ثالثة على يد الإخوان المسلمين بالرغم
من محاولتهم إعادةَ الحياة له وإكمالَه عن طريق تجنيد الجماهير.
فبعد مقتل حسن البنا في ١٩٤٩م واضطهاد الجماعة كلها على فترات
متتالية في ١٩٥٤م ثم في ١٩٦٥م، ولعدم تطوير الحركة الإصلاحية
وموقفها؛ تحولَت إلى حركة
سلفية، ومنها خرجت الجماعات الإسلامية المعاصرة تعبيرًا عن ظروف
الاضطهاد للحركة الإسلامية المعاصرة. انغلقت على الذات وعادت
التيارات الأخرى، وأصبحت تُمثِّل رد فعل على فشل الأيديولوجيات
العلمانية للتحديث؛ ليبراليةً أو اشتراكيةً أو قوميةً أو ماركسية.
١
وإذا أخذنا التيار الثاني وهو الفكر العلمي العلماني، فقد بدأه
شبلي شميل بداية طيبة في الترويج للفكر العلمي، وبيان أهمية
التحليل العلمي والمنهج العلمي؛ كي تحدث الصدمة الحضارية الثانية
بعد أن حدثت الأولى إبَّان الحملة الفَرنسية على مصر في مشاهدة
علماء الأزهر للتَّجارِب العلمية التي أجراها علماء الحملة. وقامت
جريدة «المقتطف» التي أسسها يعقوب صروف بذلك خيرَ قيام. واستمز فرح
أنطون في الدعوة إلى العلم من خلال ابن رُشد. استمر الجيل الأول
إذن في الدعوة إلى العلم الذي لا وطن له أو إلى العلم القومي حتى
الجيل الثاني في القرن الماضي. ولكن خبَت الدعوة على يد الجيل
الثالث عند سلامة موسى، ثم الجيل الرابع عند إسماعيل مظهر وزكي
نجيب محمود بعزلة التيار وارتمائه كلية في أحضان الغرب.
٢ أو بالرِّدة عنه والعودة إلى تراث الأمة لإيجاد نوعٍ
من الاتساق الحضاري والاستمرارية في التاريخ.
٣ فما إن أتى الجيل الخامس حتى ظهر الاضطراب لدرجة
الصراع بين العلم والإيمان ونشأة رد فعل على العلم في التيارات
اللاعلمية واللاعقلانية المنتشرة في مجتمعاتنا اليوم.
أما التيار الثالث الذي يُمثِّله الفكر السياسي الليبرالي فقد
بدأه الطهطاوي أيضًا بداية جيدة؛ وذلك بنشر أفكار الحرية والعدالة
والمساواة، ووضع موضوعات جديدة للفكر الوطني مثل التقدم والدولة
والدستور، والحديث عن الزراعة والصناعة
والتعليم من أجل تأسيس الدولة
الحديثة. وقد حدَّد مشروعه في «مناهج الألباب» تحديدًا واضحًا
ودقيقًا. وسار الجيل الثاني ممثلًا في لطفي السيد مؤكدًا على
الوطنية المصرية. ولكن ما إن أتى الجيل الثالث ممثلًا في طه حسين
والعقاد ثم الجيل الرابع ممثلًا في جماهير المثقفين الوطنيين من
خلال حزب الوفد حتى خبا المشروع الأول. فتحولت الدولة من أداة
تكوين إلى أداة قهر، وتحول المفكِّرون من بُناة دول وطنية إلى
موظَّفي أنظمة سياسية. وقامت الثورات العربية الأخيرة التي بالرغم
من إنجازاتها الاجتماعية والسياسية على الصعيدَين الداخلي والخارجي
انتهت بالقضاء على الحريات ومعاداة الليبرالية والقضاء على النظم
البرلمانية الدستورية الحزبية، حتى أصبح المفكر الحر مرادفًا لنزيل
السجون!
تعني الكبوة أيضًا أن الحركة عمرها قصير، انتهَت بمجرد أن بدَأت،
سقطَت بمجرد أن قامت. وكأنَّ الصاروخ لم يستطع أن يخترق حُجبَ
الفضاء، وعاد إلى الأرض بمجرد الانطلاق وانتهاءِ قوة الدفع الأولى.
ومن ثَم كان مسار النهضة قوسًا أو نصف دائرة من أسفل إلى أعلى ثم
من أعلى إلى أسفل، وليس خطًّا مستقيمًا تتراكم فيه الخبراتُ جيلًا
بعد جيل، وكأنَّ الدورة لدينا لا بد وأن تبدأ من الصفر من جديد دون
أن ترث الأجيالُ من بعضها البعض خبراتها حتى يحدث تراكمٌ تاريخي كي
يحدث في نهضتنا تغيُّر كيفيٌّ مُماثل في القدر. لم تتعلَّم الأجيال
من بعضها البعض، ولم ينشأ حوار بين القُدماء والمحدَثين إلا في
أضيق الحدود وفي مجالات الأدب دون الفكر والتاريخ. لم ينشأ حوار
بين الأموات والأحياء، بل أُعيدَ حوار الأموات فيما بينهم في
المناقضات الأدبية أو حوا الأحياء فيما بينهم، أيهم على صواب وأيهم
على خطأ في المجلات الأدبية. لم يحدث وعي تاريخي، وبالتالي أصبح
الوعي السياسي بلا رؤية أو منظور. وانحصرت الحركة في مجموعات من
المثقفين أو «صالونات» فكرية أو منتديات ثقافية دون أن تُكوِّن
حركة جماهيرية أو ثقافية شعبية. وعلى أقصى تقدير حملتها الطبقات
المتوسطة كوسيلة للتحديث، ولكنها لم تنتشر خارجها. ولما كانت حركة
النهضة في صميمها حركة إصلاح ظلت نسبية، تُراجع القديمَ وتُؤوِّله،
ولكنها لا تأخذ موقفًا نقديًّا منه، ولا تغير شيئًا من منطلقاته
الأساسية حتى ولو كانت البدائل القديمة موجودة. تعني كبوة الإصلاح
أن هناك إجهاضًا مستمرًّا لكل تجرِبة تمر بها مجتمعاتنا حتى تبدأ
من الصفر من جديد، تبدأ دولة محمد علي ثم تنهار، ويتحول المشروع
إلى مشروع مضاد؛ من النهضة والاستقلال والوحدة إلى الكبوة
والاحتلال والتَّجزِئة. ثم تأتي تجرِبة مصر الليبرالية ثم تُجهِضها
الثورات العربية. وتأتي التجرِبة الناصرية ويتم القضاء عليها وتكاد
تنهار الدولة، وينتهي المشروع القومي الحديث من الحرية والاشتراكية
والوحدة إلى القهر والرأسمالية والتجزئة، وتتحول التجرِبة المصرية
من مقاومة الاستعمار إلى الوقوع في براثن الاستعمار، ومن كونها
مركزَ الدوائر الثلاث إلى كونها محيطًا لمراكزَ أخرى.
والحقيقة أن ظاهرة الكبوة هذه لا يُمكن إدراكها إلا برؤية الحاضر
في الماضي وبنظرةٍ تراجعية تكشف عن بداية المسار وتطوره. بل إنها
لا تُكشَف إلا ابتداءً من أزمات العصر وأزمة الجيل الخامس، جيلنا.
ومع ذلك فهي تخرج من نطاق التقييم الذاتي إلى الوصف الموضوعي، ومن
الحكم الفردي إلى الاتفاق الجماعي.
وقد لا يكون العيب في الإصلاح الذي حُدِّد مشروعه في ظروف عصره،
بل فينا نحن الذين لم نُطوِّره وظننَّاه باقيًا عبر عدة أجيال
كنمطٍ خالد لا يتغير. فانزلق الواقع من تحته في مساره الخاص، وأصبح
الإصلاح فارغًا بلا مضمون أو كاد. وبالرغم من أن هذا البحث يتناول
نموذج مصر إلا أنه يُمكن تعميم التجربة؛ فظاهرة الكبوة عامة، داخل
مصر وخارجها، سواءٌ تحت أثر مصر أو بالاستقلال عنها. وبالرغم من
اعتماد البحث على التأملات والملاحظات التاريخية الحية أكثرَ من
اعتماده على إحصاءات المؤرخين وتدقيقاتهم وأسماء الملوك والبلدان،
إلا أنه يعتمد على منهج دقيق في العلوم الإنسانية وهو منهج تحليل
الخبرات الفردية والاجتماعية من أجل إعادة بناء الموقف التاريخي
بعد تكشُّف أبعاده في الموقف الحاليِّ، ومن ثَم تتم رؤية الماضي في
الحاضر، والحاضر من خلال الماضي، وهو المنهج الذي طالما استعملناه
لدراسة التجارِب الحية المعاصرة لكشف دلالاتها المستقلة.
٤
وقد جرت العادة عند الباحثين والمؤرِّخين على هذه القسمة
الثلاثية لروافد النهضة الحديثة: الإصلاح الديني، والتيار العِلمي
العلماني، والفكر السياسي الليبرالي. وفي حقيقة الأمر إن هذه
الروافد الثلاثة إنما تُمثِّل موقفًا حضاريًّا واحدًا ذا شُعَبٍ
ثلاث: الموقف من القديم، والموقف من الغرب، والموقف من الواقع؛
فالحركة الإصلاحية إحياءٌ للقديم وتمثُّل للغرب وتغييرٌ للواقع،
والفكر العلمي العلماني ثورة على القديم وتَمثُّل للغرب وتغيير
للواقع، والفكر السياسي الليبرالي تمثُّل للقديم وتمثُّل للغرب من
أجل بناء الواقع. الإصلاح الديني ردُّ فعل على القديم بالإحياء،
والفكر العلمي العلماني ردُّ فعل على الغرب بالتمثُّل، والفكر
السياسي الليبرالي ردُّ فعل على الواقع ذاته بإعادة بنائه. فكل
رافد يكشف عن موقف حضاري واسع، وبالتالي قد تتقارب الروافد الثلاثة
أكثر مما تتباعد، وتجتمع أكثر مما تفترق، وتتفق فيما بينها أكثرَ
مما تختلف. ويتناول هذا البحثُ الموقفَ الحضاري الموحَّد للروافد
الثلاثة أكثر من تناوله للروافد الثلاثة ذاتها؛ حتى يُمكِن وصفُ
ظاهرة الكبوة وانتقال الإصلاح من جيل إلى جيل.
٥