ثانيًا: الموقف من القديم
أخذ الإصلاح الديني موقف الدفاع عن القديم في ظرف تاريخي كان
القديمُ فيه موضعَ هجوم من المستشرقين في الخارج أو من العلمانيين
في الداخل خاصة في تركيا. كان من الطبيعي إذن في هذا الظرف الذي
تقف فيه الأمة في مواجهة الاستعمار التأكيدُ على التمسُّك بالقديم
والدفاعُ عنه. ولما كان الدينُ جوهرَ القديم فقد ظهر الدفاع عنه
دفاعًا عن الدين والعقيدة والشريعة والأخلاق والتقاليد، سواءٌ كانت
من الدين أو ليست منه. وكان الدفاع عن التأويل السائد والفكر
الديني الشائع الممثَّل في الأشعرية، فكر الدولة السُّنية،
وأيديولوجية النظام السياسي القائم. ولكن بعد أن تأكدت الهوية، وتم
حصار العلمانية، وبانت حدودها في تركيا، ظهرَت كبوة الإصلاح نظرًا
لاستمرار موقف الدفاع عن القديم عند الجيلَين الثالث والرابع حتى
الآن دون أن يُحاول الجيل الخامس تطوير موقف الدفاع إلى موقف
النقد. باتت مخاطرُ الدفاع عن القديم في ظهور الحركات المحافظة
واشتداد التصلُّب في الجماعات الإسلامية المعاصرة ربما كردِّ فعل
على فشل التحديث العلماني القومي الاشتراكي. إن نمط الدفاع عن
القديم نمطٌ مؤقَّت يصلح لجيل في بداية الإصلاح، ولكنه لا يصلح لكل
الأجيال، خاصة لجيل آخر في مرحلة النهضة؛ إذ تتطلب النهضة نقد
الموروث والتحول في نظرية المعرفة من المنقول إلى المعقول، من
الكتاب القديم إلى كتاب الطبيعة، ومن تأويل النصوص إلى تفسير ظواهر
الطبيعة ومعرفة قوانينها. تتطلب النهضة تغيرًا في بؤرة الحضارة من
الله إلى الإنسان، وفي محورها الرئيسي من الأعلى والأدنى إلى
الأمام والخلف، ومن لغتها التشريعية الدينية العقائدية الصوفية
المنغلقة إلى لغة إنسانية عقلية طبيعية مفتوحة تقبل الحوار. نشأت
كبوة الإصلاح لاستمرار نمط الدفاع بالرغم من تغير الظروف وظهور
الحاجة إلى نقد الموروث، وانتهت كلُّ الإنجازات الاجتماعية الثورية
الحديثة وانقلبَت إلى مشاريعَ مضادة؛ نظرًا لأن الموروث هو الرافد
الأساسي في ثقافة الجماهير تعتمد عليه النُّظم القائمة طلبًا
للشرعية، ويُغذِّيه الاستعمار لإجهاض التجارِب الوطنية.
وأخذ الفكر العلمي العلماني موقف الهجوم المقنَّع من القديم
داعيًا إلى الانقطاع عنه فليس فيه إلا دين وتشريع وأخلاق وتصوف،
وليس فيه من علوم الدنيا إلا تاريخ هذه العلوم. وقد سبَّب هذا
الموقفُ الآن في جيلنا ردَّ فعل الحركة السلفية والقيام بالدعوة
المضادة من الدفاع عن القديم كلِّه بكل ما فيه. وقد يكون الهجوم
على أجزاء من القديم وليس على القديم كله، فيُستَثنى من الهجوم
ابنُ رُشد أو ابن خَلْدون أو المعتزلة أو الفقه الواقعي.
١ ولكن هذا الاستثناء لم يُفلِح في إبراز هذه الجوانب من
القديم وتحويلها إلى رافدٍ في الثقافة القومية خاصة وأنها مرفوضة
من الحركة السلفية باعتبارها مواقفَ مقلِّدة للآخَر (اليوناني).
وقد ولَّد التصاقُ هذا التيار بالنصرانية إلى طائفية ضمنية أو
صريحة باعتبار أن النصارى هم أصحاب هذا الموقف: القطيعة مع القديم؛
إذ إنهم لا يجدون أنفسهم فيه. وقد أدى ذلك أيضًا إلى كبوة الإصلاح
في جيلنا. فالقطيعة مع القديم لا وجود لها إلا في ذهن بعض الأفراد.
أما لدى جماهير الشعب وفي أجهزة الإعلام وفي خُطط الغرب فله حضور
دائم وثِقل تاريخي لا يُمكن تجاهله. وقد أدى تفجُّره إلى اندلاع
الثورة الإسلامية في إيران ضدَّ كل محاولات التحديث العلماني
الغربي. إنها مسئولية الجيل الخامس أنه لم يُطوِّر موقف القطيعة
إلى موقف المطوِّر والمغيِّر والمعدِّل من أجل تحقيق التغير من
خلال الاستمرار حرصًا على التجانس التاريخي وحتى لا ينشأ ردُّ فعل
سلفي يعصف بكل شيء أو يكاد، كما هو الحال الآن في تركيا وبولندا،
وفي شتى أنحاء العالم العربي.
أما الفكر السياسي الليبرالي فإنه أخذ موقف التبرير للواقع
باستعمال القديم أو التوفيق بين القديم ومقتضيات الحداثة؛ مما جعل
القديم مجرد آلة للاستخدام لصالح الدولة. استُعمِل لتبرير الحداثة
ونشرها، بل وباستعمال المنقول دون المعقول، وبالاعتماد على
الأشعرية السائدة.
٢ وقد استمر هذا النمط حتى الآن ولم يُغيره أحد،
فاستعملت الدولة القديم لتبرير وجودها وتدعيم شرعية نظامها، كما
استعمله الموظفون الأيديولوجيون لكل نظام لتدعيم السلطة وبيعتها
أمام الجماهير التي ما زال القديم يُمثل بالنسبة لها قيمة مطلقة
وتصديقًا يُعادل الإيمان. لم يَقُم الجيل الخامس بتغيير نمط
التبرير إلى نمط التثوير، ومِن الدفاع عن النظام إلى قيادة
الجماهير، فكبا الإصلاح وتعثَّر، وضاق بعد أن امتدَّ الواقع وتجاوز
نمطه القديم.
وعلى هذا النحو تشترك الروافد الثلاثة فيما بينها في أنها ليس
لديها موقفٌ بحكم عِلمي تاريخي من القديم، بل مواقف لا علمية
تُمثِّل ردود أفعال انفعالية على بعضها البعض أو تكشف عن قصور في
رؤية الواقع.