ثالثًا: الموقف من الغرب
بالرغم من التمايز بين روافد النهضة الثلاثة، إلا أنها في واقع الأمر أخذت موقفًا متشابهًا بالنسبة للغرب، وهو أنها جميعًا اعتبرَت الغرب نمطًا للتحديث، والخلاف بينها مجرد اختلاف في الدرجة لا خلافًا في النوع.
أما التيار العِلمي العلماني فإنه دعا صراحة إلى أخذ الغرب كنمط للتحديث، دفاعًا عن الحداثة والمدَنية. فالغرب هو مصدر للمعرفة وليس لدى غيره إلا الجهل، وبدايات الإنسانية. الغرب هو العلم والاجتماع، العلوم الطبيعية والإنسانية، ولا حرج من تقليد الغرب في العادات والتقاليد فالمدَنية لا وطن لها. وبالرغم من مشاركة أنصار هذا التيار في الحركة الوطنية باسم الليبرالية والحرية إلا أن اعتبار الغرب نمطًا للتحديث قد أدى عند الجيل الخامس إلى الوقوع الكلي في «التغريب» حيث أصبحنا وكلاءَ حضاريِّين للغرب، نخلط بين المعرفة والعلم، نجمع المعارف ونُكدِّسها نقلًا عن الغرب ولا نُنشئ علمًا أو يكون لدينا تصوُّر عِلمي للعالم. وأصبح الشباب لدينا هو الذي يبدأ حياته الفكرية بذكر أكبر قدر ممكن من أسماء الأعلام في الغرب والمذاهب في الغرب منتسبًا إلى إحداها وداخلًا في معاركها وهو لم يُنشِئها، وليس طرَفًا فيها ولا تُعبِّر عن أي واقع لديه. ويبدو أن توقُّف الإبداع الذاتي كطابَع مميز لمرحلة تاريخية أفسح المجال للنقل بصرف النظر عن مصدره؛ نقل من القدماء ونقل من المُحدَثين، نقل من القديم فتنشأ الحركة السلفية أو نقل من الغرب فتنشأ الحركة العلمانية. وبالرغم من محاصرة العلمانية وعزلتها وظهور تراث الجماهير كعامل مكوِّن لثقافتها لم يُحاول الجيل الخامس تغيير الغرب كنمط للتحديث. ولم يلتفت إلى تراث الشعب إلا كنوع من الفن الشعبي «الفولكلور» مطورًا إياه أيضًا بأسلوب غربي.
أما الفكر السياسي الليبرالي، فإن الغرب كان لديه أيضًا في إحدى لحظاته التاريخية وهي الثورة الفرنسية، نمطًا للتحديث، وبدأت حركة الترجمة والنقل عنه، وتأسس ديوان الحكمة الثاني «مدرسة الألسن» لأجله. وبدأ نقل العلوم الطبيعية والإنسانية. وكانت «الشرطة» نموذجًا للدستور، وباريس مثالًا للعمران عند الطهطاوي. وعاد لطفي السيد لترجمات اليونان، وطه حسين لوضع مصر في ثقافة البحر الأبيض المتوسط. ولم يُحاول أحدٌ منا أبناء الجيل الرابع أو الخامس مراجعة الغرب كنمط للتحديث في التيار الليبرالي بعد أن بانت حدوده وتكشَّفت سلبياته. فبالرغم من عظمة الثورة الفرنسية إلا أنها أدت إلى غزو نابليون لأوروبا، وانتهت إلى عودة الملَكية. وبالرغم من أهمية الفكر الحر الثاني الذي حمله الهيجليون الشبَّان إلا أنه أدى إلى فشل ثورة ١٨٤٨م. وبالرغم من أهمية باريس كنموذج للعمران الحديث إلا أن ذلك قد أدى إلى اعوجاجٍ في وعينا القومي مما أدى إلى الهجرة. فقد أصبح المواطن يعيش في قلبه الغرب، ليس باريس، بل أمريكا وأستراليا وكندا، واجدًا في الغرب أملَه وحياته، حاضره ومستقبله، كسبه ومعاشه، حتى حدَثَت أكبر عملية لاستنزاف العقول، وأصبحنا نبني ونُعمِّر في الغرب وبيتنا خراب. واستمرت الترجمة حتى الآن، مما جعل أقصى مشروع لدينا هو ترجمة الألف كتاب، وأن الكتاب يُترجَم لدينا أو يُقرَأ قبل صدوره في بلده الأصلي. فطالت فترة الترجمة إلى قرنَين من الزمان ولم يحدث إبداع بعد. في حين أن الترجمة الأولى لم يمر عليها قرن واحد حتى بدأ الإبداع بعدها في القرن الثاني. وقد تم الترويج بيننا لنظرية الصدمة الحضارية، ومؤداها أن معدل إنتاج الغرب أسرع بكثير من معدل ترجمتنا له، وبالتالي فإن الهوَّة بيننا تزداد اتساعًا على مر الأيام. فمهما ترجمنا فإننا لن نلحق به حتى نظل نجري وراء الغرب لاهثين ثم نُصاب بالصدمة الحضارية، أي باليأس من التقدم والتمدن حتى على مستوى الترجمة والنقل، فما بالنا على مستوى الخلق والإبداع؟ وبالرغم من جهاد أنصار هذا التيار في الحركة الوطنية إلا أن الليبرالية قد أدت في النهاية إلى الإقطاع، وأدى الإقطاع إلى ثورات عسكرية انتهت بالقمع، أي إلى القضاء على الليبرالية كمنطلق أول. ولم يمنع ذلك أيضًا بفعل الغرب كنمط للتحديث في بعض البلدان إلى الانتقال منه إلى موالاة الغرب ومحالفة الغرب على المستوى السياسي والعسكري والوقوع في مناطق النفوذ وسياسة الأحلاف. لم يُحاول أحدٌ منا أبناءَ الجيل الخامس مراجعةَ هذا النمط للتحديث الذي كان متفقًا مع ظروف عصره داعيًا إلى تحجيم الغرب، ورده إلى حدوده الطبيعية؛ لإفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب، وتعدُّد أنماط التحديث طبقًا لخصوصياتها، والاستفادة من عمقها التاريخي وتَجارِبها الوطنية وإمكانيات شعوبها.
فبالرغم من تمايُز هذه التيارات الثلاثة إلا أنها تبنَّت موقفًا واحدًا من الغرب وهو الغرب كنمطٍ للتحديث. وكبا الإصلاح لاستمرار هذا النمط عبر أربعة أجيال دون أن يتغير على يد الجيل الخامس، فنشأت ظاهرة التغريب، وظهر ردُّ الحركة السلَفية بمُعاداة الغرب المبدئية دون وضع الغرب في حدوده الطبيعية، وجعله موضوع دراسة في علم الاستغراب.