رابعًا: مدى قدرة الفكر الإسلامي على استشراف المستقبل الأفضل وارتياد آفاقه، وبيان الطرق لتحويل الأفكار إلى واقع تطبيقي
لقد استطاع الفكر الإسلامي القديم أن يقوم بنفس الدور المناط به حاليًّا. فقد استطاع بقدراته الذاتية على الخلق والإبداع احتواء كل الحضارات القديمة وتمثُّلَها. كما استطاع التوحيد الانتشار فوق الحضارتَين القديمتَين وفتح إمبراطوريتَي الفُرس والروم ووراثة العالم القديم كله. والإسلام اليوم في نفس الظروف وبنفس الإمكانيات، والتحدي الأعظم بالنسبة لنا هو: هل يُمكن الوصول إلى نفس النتائج؟ إن الإسلام اليوم محاط بأكبر إمبراطوريتَين حديثتَين وأقوى دولتَين عُظميَين، لم تُنهِكْهما الحروب بعد. والعالم الإسلامي بموقعه الجغرافي الفريد وإمكانياته العالية من حيث الموادُّ الأولية، والنفط، والثروات الطبيعية، والأسواق، والأيدي العاملة، والخبرات البشرية لا حد لها. ورصيدنا ضخم في العالم الثالث، حيث نُكوِّن قلب أفريقيا وآسيا، وأمريكا اللاتينية تُشاركنا نفس الهموم والرغبة في الاستقلال والتحرر.
- (أ)
طريق التنظيمات السرية، الذي تتبعه بعض فصائل الحركة الإسلامية أو العلمانية (الماركسية)، وهو الطريق الذي اتبعته الثورات العربية والتي أدت إلى الانقلابات العسكرية. وهو طريق مسدود لأن التغير الاجتماعي والنهضة الشاملة أكثر بكثير من الانقلابات والاستيلاء على السلطة. فطالما حصلت اتجاهات على السلطة زاد التعتيم، وتوالت الهزائم، واتسع التخلف. وطالما لم تحصل تيارات على السلطة وكان لها أبلغُ الأثر في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. وكيف يمكن الدعوة للإسلام سرًّا وهو ليس جريمة، ولسنا باطنيين؟ وكيف تنجح دعوة سرية في دولة تقوم أساسًا على أجهزة الأمن، وعيونها في كل مكان؟ ولطالما جربنا ذلك فكانت النتيجة الصدام مع النظُم القائمة ونكوص الحركة الإسلامية أو انتشارها على نحو مرَضيٍّ راغب في الثأر والانتقام. فالدعوة السرية إذن، لكثير من الأسباب، طريق مسدود.
- (ب)
الخروج العلني، وعصيان النظم القائمة، والجهر بالعداء، وتكفير حُكم البشر. والصدام المسلح أو على أقل تقدير المواجهة العنيدة. فأي نظام قائم لن يترك السلطة اختيارًا، وأي مواجهة مدَنية لجماعات دينية لن تصل إلى السلطة، بل سيتم حصارها وتكفيرها وعزلها، فتنفر الناس منها. والناس أقرب إلى طاعة أولي الأمر من الخروج عليهم. وماذا يُجدي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإتيان بمنكر أعظم منه وضياع المعروف؟ وكيف يقبل التغييرَ مَن بيده السلطة وهو مُدان مُكفَّر مُجرَّح سلَفًا؟ فالجهر بالعداء والدعوة إلى الخروج العلني أيضًا طريق مسدود.
- (جـ)
لم يبق إذن إلا طريق الشرعية، والعمل من خلال النظم القائمة، فلا الإسلام سرٌّ نُخفيه ولا الدعوة له جريمة نخشاها. ليس المطلب الحصول على سلطة بدلًا من السلطة القائمة، ولو أن ذلك مطلب شرعي لكل تيار في إطار الشرعية وبناءً على اختيار الأمة بأسلوب ديموقراطي حر، بل الهدف توحيد فِرَق الأمة وعلى رأسها الحركة العلمانية القصيرة النظر الغير مرتبطة ارتباطًا عضويًّا بتراث الأمة وتاريخها وثقافتها الوطنية، والحركة السلفية التي تُؤثِر الصورة على المضمون، والشعار على الواقع. فلا مضمون بلا صورة (الحركة العلمانية) ولا صورة بلا مضمون (الحركة السلفية). قد لا يكون للنظم القائمة مصلحةٌ في التغيير، ومع ذلك فالتغيير أبقى عليها من الوقوف ضده، والتمسك بالإسلام كدرع يحمي مصالح الأمة خيرٌ من الوقوع في إسلام بلا أمة أو في أمة بلا إسلام. وأن يتم ذلك من خلال رؤية تاريخية، ومشروع طويل يتحقق في عدة أجيال. وليحكم اليوم من يشاء. فما ضاع خلال قرون طويلة لا يعود إلا بجهود عدة أجيال بناءً على خطة محكمة ورؤية تاريخية يتمثل بعضها في الآتي:
(١) مشروع إعادة بناء التراث
لما كان التراث ما زال حاضرًا في وجدان الأمة، مؤثرًا فيها، يُمِدها بقيمها، ويُحدد تصوراتها، ويُوجه سلوكها، فإنه حتى الآن ما زال وحدة واحدة، كلًّا شاملًا، خليطًا متنافرًا، به ما يضرُّ (النزعات الصوفية والإشراقية والحرفية) أكثر مما ينفع (النزعات العقلانية العلمية الواقعية). فمهما حاولت الحركة العلمانية أن تدعوَ إلى العقلانية والعلمية والتقدم والحرية والديموقراطية فإن دعوتها ستصطدم لا محالة بميراث ألف عام من التصوف. والأشعرية أرسخُ وأعمق في وجدان الناس من دعوات المعاصرين. وطالما أن هذا الموروث لم «يتصرف» بعدُ فإنه سيظل المنبعَ الأول الذي يُغذي الحركات السلفية. مشروع إعادة بناء التراث إذن هو إقامة نهضة شاملة تلي حركةَ الإصلاح الديني في القرن الماضي وتُطورها. وعلى هذا النحو نضمن التغيير من خلال الانقطاع حتى نأمن الرِّدة (تركيا، بولندا). كما نأمن ردَّ فعل الحركة السلفية والعودة الى المنبع بلا مصب وتقوية الجذور بلا ثمار. كما نأمن من إزدواجية ثقافة الأمة، وشق وحدة الصف، وضياع وحدة الثقافة الوطنية وتشتتنا بين التعليم الديني والتعليم الدنيوي.
(٢) حرية الفكر
- (أ)
ضرورة اجتهادات الأمة كلها بجميع فرقها. فلا أحد يحتكر الحق ودونه الباطل. ثم يحدث حوار مفتوح بين جميع الفِرَق والاجتهادات؛ حتى يُمكن أن تتوحَّد إن لم يكن على مستوى الأطُر النظرية فعلى الأقل على مستوى البرامج العملية، فتعدد النظر ووحدة العمل أحد الدروس الفقهية القديمة.
- (ب)
عدم دخول الدولة كطرف في الحوار، تُناصر فريقًا دون فريق، تُكفر فريقًا وتُعلن عن إيمان فريق. الدولة سلطة تنفيذية خالصة أما النظر والتشريع فمن شأن المفكرين أي فقهاء الأمة.
- (جـ)
الحوار بين الحركة الإسلامية والحركة العلمانية، وهما الجناحان الرئيسيان في فكر الأمة. الأول يُدافع عن الأصول والثاني يجتهد في الفروع، الأول يحرص على الجذور والثاني يقتطف الثمار. وطالما لم تتوحَّد الحركتان سيظل الشقاق في الأمة والخصام في وجدانها ويغيب الحوار، ويظهر العنف، والسباق نحو السلطة.
- (د)
حرية التفكير والتنظيم العلني الشرعي للحركة الإسلامية التي لاقت أشد صنوف العذاب والاضطهاد من الثورة العربية حتى أصبح بينهما ثأر لا يمحوه إلا الدم. فالفكر الإسلامي فكر شرعي، والتنظيم الاجتماعي القانوني للحركة الإسلامية تنظيم تاريخي، لم يَغِب مرة واحدة، بل إن الحكم الإسلامي حكم شرعي بنص القرآن وبضرورة التاريخ وبعد استيلاء الحركة العلمانية على مقاليد الحكم.
- (هـ)
تكوين الجمعيات الثقافية والسياسية والاجتماعية المستقلة التي تبدأ بالحوار وتطرح جميع الموضوعات دون خوف أو رهبة، حتى ما يظنه الناس على أنه من المقدسات أو المحرمات (التابو) كالدين، والسلطة، والجنس. وطالما قامت النهضات بل ووحدة الأمم من خلال الجمعيات والمنتديات، ويصحب ذلك حرية الاستيراد والتصدير للكتب والمجلات الثقافية على الصعيد العربي والإسلامي. فلا بقاء لنظام يخشى حرية الكلمة.
(٣) المحافظة على مقاصد الشريعة
ليس الفكر الإسلامي فكرًا صوريًّا يقوم على شعارات لا مضمون وراءها، ولكنه فكر يقوم على تحقيق أهداف إنسانية هي مقاصد الشريعة أي الضروريات الخمس: المحافظة على الحياة، والعقل، والدِّين، والعِرض، والمال بإجماع فقهاء الأمة. فالحياة قيمة مطلقة، والمحافظة عليها واجب ديني، وفرض إلهي، ضد الجوع وسوء التغذية وحوادث الطريق وحروب الإبادة، والاغتيال والاعتقال. وكذلك المحافظة على العقل واجب شرعي، وبالتالي يستحيل الجهل، والتعتيم والكذب والتشويه والتمويه والخداع، فالعقل أساس التكليف. كما يستحيل إيقاع الناس في الأسطورة والغيب والخرافة والسحر والشعوذة. والمحافظة على الدين أيضًا فريضة، والدين هنا أي الحقيقة والمبدأ العام الشامل الذي ينتسب إليه الإنسان بعيدًا عن العنصرية والقومية والقبلية والطائفية، وبعيدًا عن التردد والشك واللاأدرية وتغير القيم تبعًا لتغير الظروف، وإيثار النفعية الخالصة والبراجماتية الرخيصة. والمحافظة على العِرض تعني المحافظة على جميع القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية العامة المتمثلة في عِرض الإنسان رمز شرفه وكرامته وحرمته. فحرية الإنسان جزء من عِرضه، وكرامته وشخصيته المستقلة وحياته الخاصة أيضًا من عِرضه بعيدًا عن مظاهر الانحلال والتفسخ. أما المحافظة على المال فهو دفاعٌ عن حياة الإنسان المادية وحقه في الكسب والرزق، والمأكل والمشرب والمسكن دون عدوان من أحد عليه، ينهب قوته، ويسرق نتاجه، ويبتزُّ عرَقه. هذا هو تطبيق الشريعة الإسلامية وليس مظاهر النفاق الديني عن طريق بناء المساجد دون المدارس، والنداء على الصلوات بمكبرات الصوت منافسة للأغاني الإباحية والتفسخ والانحلال ولخطب القادة والسياسيين وكأن كل ما في الأمر هو حرب الهواء، وإطالة اللحى، ولبس الجلباب، وارتداء الحجاب، فما الفائدة في ظاهر عامر والباطن خراب؟ ومما يُساعد على ذلك التفسير «الموضوعي» للقرآن من خلال «المعجم المفهرس» لألفاظه حيث يُمكن التعرف على النظرية العامة في الحياة أو العقل أو الدين أو المال أو أي موضوع آخر يمس مصالح الناس بدلًا من تقطيعه وتجزيئه في التفسير «الطولي» للقرآن، سورةً بعد سورة، وآيةً بعد آية.
(٤) الإصلاح في الأرض لا الإفساد فيها
(٥) استقلال المؤسسات الدينية
- (أ)
دور الإمام الرائد في القرية أو في الحي، حيث يتصل بالجمهور خمس مرات يوميًّا على الأقل يثقون فيه إذا رأوا فيه قدوة وجُرأة، وشرفًا ونزاهة، مستعدون لطاعته إذا أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، أكثر من أي إطار سياسي أو «كادر» حزبي لا يلتف حوله إلا أنصارُه أو الراغبون في المنفعة.
- (ب)
دور المسجد أيضًا في القرية والحي، حيث يلتقي الناس خمس مرات يوميًّا على الأقل، فهو مكان عامر باستمرار دون ما دعاية. وأكثر عمرانًا من أي مركز حزبي أو خلية سياسية. يجد الناس فيه التقوى والصلاح، الخير والمنفعة، الإيمان والعمل. وهو مكان للعلم دون ما حاجة إلى مدارس وتكاليف إضافية وبرامج محو أمية التي غالبًا ما تفشل.
- (جـ)
والجماهير موجودة، ومستعدة للعمل، يسهل تجنيدها. هي الرصيد الطبيعي لأية حركة اجتماعية، حركة تلقائية في مركزها المسجد وفي وسطه الإمام. فلا شكوى إذن من «سلبية» الجماهير التي تُعلنها الأحزاب السياسية أو من «غياب» الجماهير، وانعدام ثقلها في الساحة. الجماهير موجودة. وهي جماهير المصلين، تقع العروش إذا تحركت وتهتز التيجان إذا ما تجنَّدَت.
- (د)
والعقائد أيضًا لها دور في تحريك الجماهير وإعطائها تصورات للعالم وموجِّهات للسلوك، والتوحيد قادر على تحويل جماهير المصلين إلى جند الله يفتحون البلاد، ويُحررون الأراضيَ ويستعيدون مجد الإسلام، ويستردون كرامة المسلمين. والتراث الإسلامي ما زال في قلوبهم يُمِدهم ببعدٍ حضاري، والتاريخ الإسلامي يُعطيهم نماذجَ وقدوة وسِيَرَ أبطال، وكأنَّ التاريخ نفسَه يُعيد سيرته الأولى من جديد.
(٦) إبطال مظاهر النفاق الديني من أجهزة الإعلام وجهاز الدولة
إن ما يُثير الناس والحركات الإسلامية والعلمانية هو وضع «الدين» في جهاز الدولة عامة وفي «أجهزة الإعلام» عنوان الدولة وصورتها خاصة. فكل دولة ترفع شعار الإسلام، تضع في دستورها أن دين الدولة هو الإسلام بعد معارك عدة تشق فيها الوحدة الوطنية وتعتبرها وسيلة لإضفاء الشرعية على الحكام. كثيرًا ما يتسمى الحاكم «أمير المؤمنين» أو «الرئيس المؤمن» طلبًا للطاعة وتأكيدًا لشرعية الحكم. يُؤذَّن للصلاة في أجهزة الإعلام من خلال الفواصل الموسيقية والبرامج الراقصة. ويُحتفَل بالموالد النبوية وبأعياد الأولياء، ويُعظَّم القرآن ككتاب مُحلًّى بالذهب ومجلَّد بالقطيفة ومزركَش بالفن العربي كتحفة فنية على الموائد والنوافذ والعربات الخاصة. وتبني الدولة المساجد، وتُنشئ دُور حفظ القرآن، وتُقيم الجوائز والمسابقات الدينية، وتحتفل على رأس الطرق الصوفية، وتتشدق بتطبيق الشريعة الإسلامية وبتقنين بنودها. وتُركِّز على الدين كمادة إجبارية في التعليم، وتفرض الموادَّ الدينية على الجامعات بدعوى الإصلاح الجامعي، وتفتح أقسام الدراسات الإسلامية ليس حبًّا في الإسلام بل لمناهضة الأقسام العلمانية ومقاومة المذاهب الهدامة. وينتسب الحكام إلى بني هاشم أو إلى العلويين أو إلى شريف أو نقيب وكأن النبوة والحكم إرثٌ من السلَف إلى الخلَف. وتُطال الذقون، وتُهَف السراويل، وتُطقطَق المسابح، ويفوح البخور، وتُباع المساوك، وتُغسَل الكعبة، وتُرسَل الكسوة حبًّا في آل البيت أو قدوة للرسول!