خامسًا: خاتمة
مهما نظرنا في الفكر الإسلامي، ومهما بينَّا الإجراءات العملية التي يُمكن اتخاذها لتحقيق أهدافه؛ فإن ذلك كله ينتهي في حقيقة الأمر إلى تَكْرار أشياءَ معروفة، قيلت سلفًا عشَراتِ المرات في مجلدات ومجلدات دون إضافة جديد. فنظريات الإسلام السياسيةُ والاقتصادية والاجتماعية معروفة، وليس المهم إعادةَ عرضها، تبرئةً للذمة، وتعويضًا عن مآسي العصر، بل المهم هو بيانُ المسافة بينها وبين الواقع، وتغييرُ هذا الواقع بالفعل حتى يقترب من المثال. وإن تغيير الواقع خطوة واحدة نحو العقلانية أو الطبيعية أو الحرية أو الإنسان أو المساواة أو التقدم؛ لَأقربُ إلى الإسلام من عشرات النظريات فيها ومئات الآراء حولها.
صحيحٌ أن طريق التغيير من الدعاة، والتنظيمات الشعبية، والمؤسسات التعليمية والثقافية طويل ولكن لا بديل عنه. إنما التغيير الأقصر والأنجع هو التغيير عن طريق السلطة كعامل مساعد. وإن ثورة القيادة لا تقل أهمية عن ثورة الجماهير. ولكن، لما كانت السلطة السياسية تعبيرًا عن السلطة الاجتماعية والسلطة الاقتصادية كان السؤال: هل تبغي السلطة السياسية إجراء أي تغيير بالفعل يقوم على مبادئ الإسلام وقيمه، أم أنها ستكون أُولى الضحايا؟ وهنا يدور الفكر الإسلامي في حَلْقة مُفرَغة بين مبادئه النظرية وتحقيقاته العملية. فأصحاب السلطة هم ضحايا التغيير، وهم الذين بيدهم مقاليد الأمور. فهل يقضي الإنسان على نفسه، ويتخلى السلطان عن سلطانه وصاحب رأس المال عن ماله، والظالم عن ظلمه، والقاهر عن سطوته، والساحر عن سحره، والصوفي عن طريقته، والمترئس عن رئاسته؟ هل يتخلى عن ذلك طوعًا عن طريق التوبة والانقلاب الداخلي، أم كراهيةً عن طريقة ثورة الجماهير عليه، أو إعدادًا للناس وعرضًا للأمور، وطلبًا للتحدي، ومعطيًا للبرهان؟ لا مفرَّ من الحوار المفتوح أمام الناس بين أصحاب الحقوق وأدعيائها. ومن ثَم لا مناص من حرية الفكر الذي بدونه لا يُجهَر بحق، ولا يُقال صدق، ولماذا الخوف والعيش في ظلام؟ وبماذا تنفع الدنيا؟ أليس المال والبنون زينة الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى؟ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: ٨٨-٨٩].