سادسًا: العروبة وفلسطين
ويظل استدلال المؤلف مستمرًّا من التقابل بين مصر وتونس إلى
التضاد بين المشرق العربي والمغرب العربي إلى أن يصل مداه في إنكار
القومية العربية وجعل العروبة من اختراع المشرق العربي دون المغرب
العربي، ثم التسليم بالمشروع الصِّهيَوني. فالفكرة العروبية إنما
نشأت في المشرق لتشييد أمة مجددة في المشرق، وليس في المغرب.
والثقافة العربية المعاصرة تتصف بضحالة مؤلمة كمًّا وكيفًا فاقدة
للنفس والتقنية! إنتاجها الأدبي تسوده السذاجة وتغيب عنه الطلاوة
ويعكس عالمًا ساذجًا. بل إن الطبقة الاجتماعية ليست عاملًا
موحِّدًا بين العرب. فالبرجوازي في بغداد غيرُه في القاهرة،
والبرجوازي في تونس غيرُه في الجزائر، وكأن التجزئة تستعصي على شتى
الاختيارات الأيديولوجية الفكرية المثالية أو الماركسية
الاجتماعية، وكأنَّ الاختيار الوحيد هو الانتقائية المنهجية التي
تُبرز عناصر التجزئة وتُخفي عناصر الوحدة والتي لا تنفي شرعية
انتقائية مضادَّة تُبرز عناصر الوحدة وتُخفي عناصر التجزئة. ويكون
التحدي إذن هو اكتشاف جدلية الشرعيتَين، التجزئة والوحدة. التجزئة
وحدها هي الرصيد الوجداني، هي هذا الجدار الباطني الذي يقف حاجزًا
بين البدوي في تونس ونظيره في الأردنِّ أو العراق، فالأول جرفه
الحضر تحت وطأة هجرة العمالة، والثاني حافظَ على بدويته الأولى
وكأنَّ هناك عنصرًا عربيًّا نقيًّا أصيل السِّمات وهي نظرة عِرقية
تُنافي العروبة التي ترتكز على اللغة والثقافة والحضارة والتاريخ
المشترك والتراث القديم.١ وينكر المؤلف على الأمة العربية حاليًّا أي إبداع كما
أنكر من قبلُ تاريخها. فالشُّقة الآن بعيدة بين أدنى مؤرخ أو
فيلسوف قديم، وبين أكبر مؤرخ أو فيلسوف حديث في الوضع الذي عليه
العالم العربي الآن، وكأن أجيالنا الحاليَّة ليست وراء فجر النهضة
الحديثة ولم تقم بحركات التحرر ولم تُنشِئ الدول الحديثة، وكأنها
لا تُشارك في هموم مشتركة ومصالح مشتركة، وكأنها لا تُواجه أعداء
مشتركين. وإذا لم يُحقق الشعب العربي حتى الآن وحدة النضال إلا أنه
يُمارس نضال الوحدة.٢ بل إن المؤلف يُنكر على العرب أخذهم اليابان نموذجًا
للتحديث، وهو ما كان يدعو له الأفغاني من قبل، وروَّادُ النهضة
العربية منذ القرن الماضي؛ نظرًا لأن العرب لا يملكون ما تملكه
اليابان، وهو مشروع التصنيع الذي سبق العرب بقرن، وعدم تعرضه للغزو
الاستعماري كما تعرض العرب، وعدم تمسكه بإرادة سياسية أدت إلى
هزيمته واقتصاره على نمو اقتصادي، على خلاف العرب الذين يحرصون على
إرادة سياسية تجعل لهم مكانًا في التاريخ!٣ إلى هذا الحد وصل حد الإقلال من العرب، تاريخًا
وحاضرًا، مع أن مصر بدأت نهضتها الأولى مع اليابان، وكان
الإمبراطور ميجي يعتبر محمد علي رائدًا له في بناء الدولة الحديثة.
وإن العملاق الاقتصادي والقزم السياسي ليس مثالًا يُحتذَى به. كما
أن الإرادة السياسية المستقلة والتأثير في مجرى التاريخ ليس وهمًا.
وينتهي المؤلف إلى إنكار الأمة العربية إنكارًا تامًّا واقعًا
وتاريخًا ومصيرًا، وكأن نقد أيديولوجيات القومية العربية حتى مع
صوابه هو دليل على عدم وجود أمة عربية وليس فقط دليلًا على ضعف
الصياغات الأيديولوجية الحالية.٤
وبالرغم من أن فلسطين جزء رئيسي من تاريخ العرب وركيزة وجدانهم
المعاصر؛ إلا أنها لا تحظى من المؤلف إلا بفقرات محدودة وكأنها
هامشية المكان لا تُعادل في أهميتها التاريخَ الأوروبي بالنسبة
للشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي. ويدعو المؤلف قُرَّاءه
العرب إلى التأمُّل في الوجاهة الأخلاقية والتاريخية للمشروع
الصهيوني! فالشعب اليهودي يعود إلى أرض كانت له من قبل؛ وبالتالي
فهو يُدافع عن كِيان مهدَّد في كيانه، يجمع بين الماضي والحاضر،
بين التاريخ والروح. لذلك تعاطف معه الغرب لاشتراكه معه في هذا
التاريخ وهذه الروحانية وخذل العرب في فهمهم للقضية؛ نظرًا
لتركيزهم على الصلة بين الصِّهيونية والاستعمار! ويُمكن نقضُ
المشروع الصِّهيوني بطبيعة الحال بما يُقابله من مشروع عربي
إسلامي، حجة بحجة، شرعيتان تتنازعان أرضًا واحدة،٥ وبالرغم من أن المؤلف يرفض الحلول الاستسلامية إلا أنه
أيضًا يرفض الحلول الثورية التي ترى في تثوير العالم العربي
تحريرًا لفلسطين، ويحكم عليه بأنه حل تهرُّبي طوباوي. ويقترح ترك
القضية التي يُسميها المؤلف «الإسرائيلية» وليس الفلسطينية لآفاق
المستقبل، بعد أن عجز الحاضر عن إيجاد حل لها!٦
١
«ولذا فإن الفكرة العروبية تُكون إطارًا سياسيًّا
ثقافيًّا جيدًا لكي تُشيد في المشرق أمة مجددة» (ص٩٠). «إن
الثقافة العربية المعاصرة تتصف بضحالة مؤلمة كمًّا وكيفًا
فهي فاقدةٌ للنفس والتقنية، وهما خاصيتان ملحوظتان فيها
فضلًا عمَّا هنالك في الميدان الأدبي خاصة من سذاجة بدون
طلاوة تعكس بصورة مشوَّهة عالَمًا ساذَجًا قطعًا. إنما
المظهر الإنساني فيه يبدو شفافًا للنظر المتيقظ» (ص٧٤).
«إن الفرق قوي بين البرجوازي في بيروت والبرجوازي في بغداد
وبينه وبين صِنْوه في القاهرة وبينه وبين البرجوازي في
تونس. هناك عنف عراقي يجهله المصري وفكاهة مصرية يجهلها
الجزائري» (ص٨٣). «هناك عالم سميك باطني يقف حاجزًا بين
شخص من الرحل من قبيلة «ماجر» أو «جلاص» المتكونة من
الاختلاط بين البربر وبني هلال، مع هيمنة العنصر الثقافي
العربي وبين البدوي الأردني أو العراقي الأمر الذي جعل
الناس لا يتعارفون. لكن البدوي التونسي تحول إلى فرع من
العمالة المقيمة بحواشي المدن وقد هاجر من بلده كما هاجر
ماضيه تحت وطأة الحداثة، وهو يُقارَن بصنوه المشرقي من هذه
الوجهة، وعكسًا لذلك إن البدوي الأردني حافظ أكثر من غيره
على نقاء سِماته العرقية الثقافية ولا يُمكن تمييزه إلا
بعسر عن صِنوه العراقي أو السوري أو اللبناني».
٢
«لكن الشُّقة كبيرة بين أدنى مؤرخ أو فيلسوف قديم وبين
أكبر مؤرخ أو فيلسوف حديث في الوضع الذي عليه العالم
العربي» (ص٧٤). ويذكر المؤلف مؤيدًا شعار «لن يُحقق الشعب
العربي وحدة النضال ما لم يُمارس نضال الوحدة»
(ص٦٠).
٣
«يعتبر العرب فضلًا عن ذلك في الغالب النسبي اليابان
نموذجًا للنجاح المثالي للعالم غيرِ الأبيض وتركيبًا
مثاليًّا للنجاح الاقتصادي والمحافظة على الأصالة. علمًا
بأننا نغفل مشروع اليابان في التصنيع بعد وقت قصير من شروع
ألمانيا فيه. ولهذا فهو يسبق العالم العربي بما يُناهز
القرن، فضلًا عن أنه لم يعرف الحضور الاستعماري وما يتضمنه
من إجداب كامن للجهد الأهلي. وعلى كلٍّ عاشت التنمية في
اليابان فتراتٍ صاعدةً وأخرى هابطة. لكن يبدو أن كل الأمور
تُحمَل على الاعتقاد أن إرادة القوة السياسية من قبل
اليابان كانت بالأحرى عاملًا لتبذير طاقته، وأن ازدهاره
الحاليَّ مثل ألمانيا هو ثمرة لسياسة سلمية أي لفقدان
سياسة ما. خلافًا لذلك يظهر العالم العربي الحالي متأهبًا
للاضطراب والبحث عن القوة والإشعاع في العالم»
(ص٧٩).
٤
«ولذا سنبدأ بتقديم أيديولوجيا القومية العربية ونقدها؛
تدليلًا على أنه لا وجود لأمة عربية بصفتها كيانًا موجودًا
فعلًا، لكن ينغي البحث لا محالة في إمكانات المصير المشترك
مهما كانت مشكلة الاصطدام بجدار الواقع، أو التخلي عن أسمى
طموحاته» (ص٥٦).
٥
«إن المشروع الصِّهيوني في حد ذاته لا ينتفي عنه نوع من
الوجاهة الأخلاقية والتاريخية. فالشعب اليهودي حُكِم عليه
بالكينونة والبقاء في الذات بفعل رؤية وبنية تأكيدية
للغاية. فبحث من جديد عن وجود تاريخي عادي على أرض قد سبق
له في الماضي العتيق أن احتلها بالقوة وأُخرِج منها فأراد
استرجاعها، وقد ظهر له هذا الاسترجاعُ للماضي العميق، وهو
ماضٍ مُفعَم بالروحانية، بمظهر المعجزة، معجزة انبعاث
إسرائيل على الأرض الموجودة. وبقدر ما يكون للغرب قواعدُ
روحية يهودية ما زالت تُؤثر فيه، وبقدر ما يصير الصهاينة
الذين تثقَّفوا بالثقافة الأوروبية أبناء لأوروبا حين
يُغادرون أوروبا تجاه الآخر في كامل تجرده فإن ضمير كل
غربي يُحِس بأنه معنيٌّ ببقاء إسرائيل. هذا ما لم يفهمه
العرب جيدًا إذ هم أرادوا قصر كل شيء على مجرد استراتيجية
للإمبريالية» (ص٩٧). «أما على صعيد المبادئ والقيمة فقد
تبين أن المشروع الإسرائيلي مشروعٌ ذو حدَّين إذ يُمكن
دحضُ كل حجة بحُجة ضدَّها وكل نقطة ضوء بنقطة ظل؛ لا سيما
الحماس الأيديولوجي الثقافي الذي عليه يقوم المشروع، فهو
يجد ما يُقابله في الضمير العربي الإسلامي» (ص٩٧-٩٨).
ويبدو أن المترجم قد أحس بانزلاق الكاتب فأردف في الهامش:
«كُتِب هذا قبل اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية
الرابعة.» (هامش ٦١، ص٩٧).
٦
«يجب بدايةً رفضُ كل حل استسلامي صرف. أما المذهب
الفلسطيني الذي يُريد أن يُثوِّر العالم العربي ضمن الأفق
الوحيد الخاص بحل القضية الفلسطينية فهو تهربي طوباوي»
(٩٧-٩٨). «ورأينا أنه يجب وضع القضية الإسرائيلية على
مستوى آفاق المستقبل والتخلي عن الموقع المبدئي الذي غرق
فيه طويلًا» (ص٩٩).