سابعًا: التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية
إذا كان التقابل الذي يصنعه المؤلف بين مصر وتونس، المشرق العربي
والمغرب العربي، والعروبة وفلسطين يُمثل مواقف فكرية وسياسية فإن
اعتبار التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية كإطار نظري لفهم الشخصية
العربية الإسلامية والمصير العربي تتم الإحالة إليه باستمرار هو
نوع من التغريب النظري والمنهجي صاحبَ المؤلفَ من أول الكتاب إلى
آخره. بل إن استعمال التاريخ الغربي والثقافة الغربية كإطار مرجعي
تتم الإحالة إليه باستمرار إنما يكشف عن موقف حضاري أبعدَ وأعمق،
وهو فهم الأنا أو الذات بالإحالة المستمرة إلى الآخَر أو الغير،
وكأنَّ الأنا أو الذات ليس لها إطارها النظري الخاص ولا يُمكن
فهمها بتكويناتها الداخلية أو باستعمال الإطار النظري الخاص بها من
داخل حضارتها التي تكوَّنَت فيها الحضارة الإسلامية، وكأنَّ الأنا
لا تعكس نفسها إلا في مرآة الآخر، لا تعي ذاتها بذاتها كأنَا إلا
من خلال الآخر كمقياس ومعيار للحكم. إن من شروط التعريف هو عدم
تعريف الشيء المجهول بشيء آخر مجهول بل تعريفه بشيء معلوم، وإن
القارئ العربي الإسلامي الذي يُريد معرفة ذاته وشخصيته العربية
الإسلامية ومصيره العربي لا يستطيع أن يعلمها بالذَّهاب إلى
البوربون والهبسبورغ والبلغار والسلاف والبروتستانت والكاثوليك
وأوغسطين ومردال وسِنسِناتوس
Cincinatus، بل الإحالة إلى الخلفاء الراشدين
والأُمويين والعباسيين والخلافة العثمانية. وإن القارئ العربي لا
يفهم ذاته وشخصيته بالإحالة إلى سارتر وميرلو بونتي وفرويد
واشبنجلر، بل بالإحالة إلى الأشعري والغزالي والباقلَّاني وابن سينا والرازي وابن عربي.
ألا يستطيع القارئ الذي لا يعرف كل هذا
التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية أن يفهم ذاته وشخصيته؟ وإذا كان
المثقفون العرب لا يعلمون هذا الإطار المرجعي الغربي بالدرجة
الكافية فالأَوْلى ألا تعرف جماهير القراء ذلك. بل إن القارئ
العربي الذي يعرف التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية لَقادرٌ أيضًا
أن يعرف ذاته بالإحالة إلى مكوناته الشخصية ومخزوناتها النفسية
ورواسبها القديمة. لا يقع المؤلف فقط في نوع من التغريب يعترف به
بادئ ذي بدء.
١ بل إن التغريب لديه يتحول إلى نوع من الاغتراب، اغتراب
الأنا في الآخر، مع أن من مكونات الشخصية العربية الإسلامية كما
فهمها القدماء فهْمَ الآخر من خلال الأنا، وإعادة بناء حضارات
الآخر يونانية ورومانية وفارسية وعبرانية ابتداءً من حضارة الأنا.
بل لقد استمر ذلك عند رواد النهضة العربية الحديثة وفي مقدمتهم
الطهطاوي سواءٌ في «مناهج الألباب» أو في «تخليص الإبريز»، وهم
الرواد الذين أسقطهم المؤلف من الحساب كما أسقط التراث القديم، بعد
أن اختار التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية كأساس نظري لفهم
الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي وكإطار مرجعي تتم
الإحالة إليه باستمرار.
والأمثلة على ذلك كثيرة. والنصوص تشهد على أن القارئ العربي لا
يفهم شخصيته العربية الإسلامية بالإحالة إلى مكونات الشخصية
القومية في الغرب. ألا يُمكن فهمُ الشخصية العربية الإسلامية دون
الإحالة إلى الجرمان والإسبان والسلاف والمجر والبلغار؟ هل لا بد
لفهم الشخصية العربية الإسلامية من المرور عبر الإمبراطورية
الرومانية والغاليين في بلاد غاليا والبروطون في مقاطعة بريطانيا
والسلتيبار في أسبانيا، والظاهرة الجرمانية والعصر النيوليتي
ومملكة شرلمان والحرب بين ورثة لويس الزاهد؟ هل لا بد من تحليل
العناصر المكوِّنة لظهور الشخصية القومية الأوروبية لفهم الشخصية
الإسلامية العربية دون التحقق من صدق المفهوم أولًا ثم البحث عن
مكوناته الداخلية في التراث القديم بدلًا من الإحالة إلى تاريخ
الغرب وثقافته، النزعة الكسمبوليتية للأُسَر الأميرية في أوروبا
والملك أصيل بلاد هانوفر وأسرة هابسبورغ وأسرة بوربون وعرش اسبانيا
وعرش إنكلترا؟
٢ وتتجاوز الإحالة من مجرد منطق للتقريب والفهم إلى منطق
للحكم. فتكوين الشخصية القومية في الغرب يُصبح هو المعيارَ الذي
يُقاس عليه تكوين الشخصية العربية الإسلامية، وكأن هناك نمطًا
واحدًا فريدًا هو النمط الأوروبي عليه تُقاس كل النماذج لدى الشعوب
الأخرى. فهو النموذج العالمي الذي انتشر في أوروبا الغربية
والشرقية والوسطى منذ القرن الماضي، عصر القوميات حتى هذا القرن
مرتبطًا بزوال الاستعمار وكأنه لم يستمر في الصِّهيونية باعتبارها
من بقايا عصر القوميات في القرن الماضي.
٣ وتأخذ فرنسا مكانًا مرموقًا في التاريخ الأوروبي كما
أخذت تونس المكانة نفسَها في العالم العربي. فالثورة الفرنسية
نموذج الشخصية القومية بعَلَمها المثلَّث الألوان وعيدها ونشيدها
الوطني لفترة طويلة بشهادة بيجي وميرلو بونتي! وهي كذلك بما أعطت
لها من تضامن قومي وولاء وطني للأمة وليس لشخص الملك وبطابعها
الديمقراطي وسيادة الأمة. بل إن الأمر تجاوز حدَّ الهوامش الشارحة
للتاريخ الفرنسي، شرح فرنسا بفرنسا والمستشارين البروتستانت لآخر
ملوك الغالوا وتعاليم ريشيليو وعدله وتسامح لويس الرابع عشر، كل
ذلك لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي!
٤ ثم يأتي النموذج الألماني والأنجلوسكسوني والسوفياتي
والأمريكي إلا النموذج الإسلامي العربي. فالنموذج الألماني يعتمد
على التراب والعرق بجانب اللغة والدين. ويعتمد النموذج
الأنجلوسكسوني الأمريكي على المجال الاقتصادي الواسع المنفتح على
كل الطاقات البنَّاءة. ويقوم النموذج السوفياتي على قوة
الأيديولوجية الماركسية كرسالة كونية توحيدية قادرة على التجنيد
القومي للشعوب.
٥ فالمؤلف يعرف تاريخ نشأة القوميات وتطورها في الغرب
والشرق ويُحيل الشخصية الإسلامية العربية إليها دون تعميق لجذور
هذه الشخصية في التوحيد الذي قام بالدور نفسِه الذي قامت به
الأيديولوجية الماركسية بالنسبة لانصهار القوميات.
وتكثر الإحالات إلى المؤلفين الغربيين سواءٌ من العصور الوسطى أو
الحديثة مثل سنسناتوس وأوريجان وسيريل وأوغسطين وماركس وفرويد
واشبنجلر ومردال وسارتر في صراعه مع الرومان بالرغم مما في وجه
المقارنة من تعسف وحكم جائر على الحسين شهيدًا ووصفه بأنه كان
متعطشًا للحكم! وتُوصَف مصر المسيحية بأثر أوريجان وسيريل ومجمع
خلقيدونية. ويتساوى في الثقافة العربية في المغرب العربي القديس
أوغسطين وابن خَلدون وخير الدين باشا! والتاريخ باعتباره قاعدة
أساسية للوعي القومي يعتمد بالضرورة على شهادة لاشبنجلر بالضرورة
حتى ولو كان التشبيه أعجميًّا مثل «زاوية المدخن!». واقتران النظر
بالعمل في الإسلام لا يوجد فقط عند الرسول محمد بل أيضًا عند
ماركس. وتحليل الشعور العربي الإسلامي لا يتم إلا بالإحالة إلى
فرويد في «مستقبل وهم» وإلى ميرلو بونتي حتى ولو كان الاستشهاد
صعبَ الفَهم ركيكَ العبارة، وهو الذي يشعر المؤلف نحوه بقرب كبير،
ووصف الخلق عن طريق سارتر والعالم العربي عن طريق مردال.
٦ بل إن الحديث عن أيديولوجية البعث يتم أيضًا عن طريق
الإحالة إلى الثقافة الغربية؛ سواءٌ في إنكاره للمادية التاريخية،
أو في تأثر ميشيل عفلق برونبرغ والهيجلية والشخصانية.
٧ حتى الخاتمة لم تسلم من استشهاد بمالرو ونقضٍ له فيما
يتعلق بطيِّ صفحة التاريخ بطي صفحة اللاهوت.
٨ إن تعريف الشيء الغامض بشيءٍ آخر أكثرَ غموضًا لا يتفق
مع قواعد التعريف، وبالتالي فإن إحالة مكونات الشعور العربي
الإسلامي الحالي إلى مكونات الشعور الغربي هي إحالة للشيء الغامض
إلى شيء أكثر غموضًا، مع أن الإحالة إلى التجارِب المعاشة أو إلى
المخزون التراثي الثقافي يُساعد على التوضيح المطلوب.
وتبدو مظاهر التغريب في دراسة الشخصية العربية الإسلامية؛ سواءٌ
في الأحكام العامة أو في النظرة إلى التاريخ والعصور أو في بعض
المصطلحات أو في المراجع العامة. فمن الأحكام العامة ما يقوله
المؤلف من أنَّ تقهقر المشرق العربي وتقدم المغرب العربي ثقافيًّا
— مع التسليم جدلًا بذلك — إنما يرجع إلى أن المشرق العربي لم ينهل
من باع الثقافة الغربية قدر ما نهل المغرب العربي مما أغرق المشرق
في القديم وقطعه عن الحداثة، في حين أن المغرب العربي قدَّم حلولًا
لمشكلة التقليد والحداثة مازجًا بين الاثنَين. ومثل هذا الحكم يقوم
على وضع معكوس، وذلك لانفتاح المشرق على الغرب منذ القرن الماضي
بلا حدود، كما أن انفتاحه كان متنوعًا وليس فقط على الثقافة
الفرنسية. والإغراق في القديم سِمةٌ عامة في المشرق والمغرب على حد
سواء. بل إن المزاوجة بين القديم والجديد أكثر وضوحًا في المشرق
على ما وضح في حركات الإصلاح منه في المغرب الذي تحولت فيه
المزاوجة إلى ازدواجية وصراع بين الجديد الذي مثَّلَته ثقافة
المستعمر وبين القديم الذي مثَّله التراث دفاعًا عن الهوية
الوطنية. وما يُقدمه المغرب العربي في هذا العصر يُشابه ما قدمه
الشوامُ في العصر الماضي، يُصبح البعض منه قريبًا من الشقشقات
اللفظية التي تردَّد جوانب عديدة من ثقافات الحي اللاتيني. أما
بالنسبة للتاريخ والعصور فإن المؤلف يعتبر الإسلام جزءًا من تاريخ
العصر الوسيط، وكأنه يتبنَّى الغرب كمقياس لكل الحضارات، فتاريخ
الغرب وعصوره الوسطى والحديثة والمعاصرة هي تاريخ لكل الحضارات
وعصورها. فالمؤلف يقع ضحية المركزية الأوروبية والتي تجعل ما سواها
مجرد أطراف. يتحدث المؤلف عن إسلام العصر الوسيط والإسلام التركي
المتوسطي، وعن بِنْية الدولة في البلاد العربية خلال العصر الوسيط
والحديث. وفي العصور الحديثة يتبنَّى المؤلف التاريخ الميلادي
ويُسقط من حسابه التاريخ الهجري، فيتحدث عن ظهور الإسلام في القرن
السابع الميلادي، وعن السلطان خليفة المسلمين في القرن السادس عشر.
٩ ويستعمل المؤلف مصطلح البرجوازيات، والبرجوازية الصغرى
نظرًا لاستقرار المصطلح وشيوعه في الفكر العربي المعاصر. أما
بالنسبة إلى المراجع فإن نسبة المراجع العربية إلى المراجع
الأجنبية كنسبة ١ : ٧. فمن بين ١٦٢ مرجعًا هناك ٢١ مرجعًا عربيًّا
في مقابل ١٤١ مرجعًا باللغات الأجنبية منها ١٧ مرجعًا لمفكرين عرب،
٤٧ مرجعًا لمستشرقين أوروبيين، وبالتالي نسبة الاستشراق العربي إلى
الاستشراق الأوروبي ١ : ٣. ولا تدخل في المراجع مؤلفات الطهطاوي
والأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين في دراسة الشخصية العربية
الإسلامية!
إن أهم نقد يُمكن إذن توجيهه إلى الكتاب هو استعمال التاريخ
الغربي والثقافة الغربية كإطار مرجعي تتم الإحالة إليه باستمرار
لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي وهو «التغريب»
كأساس نظري لتحليل الموضوع. ويُمكن إرجاع ذلك إلى سببَين
رئيسيَّين. الأول طول العلاقة بين الأخوة المثقفين في المغرب
العربي والثقافة الأوروبية خاصة الفرنسية منها جعل الغرب يظهر في
ثقافته كإطار مرجعي حتمي تتم الإحالة إليه باستمرار كما هو الحال
قديمًا وحديثًا لدى الإخوة الشوام خاصة في لبنان. والثاني أن
الكتاب أصلًا مكتوب باللغة الفرنسية ويهدف إلى مخاطبة الجمهور
الفرنسي، وبالتالي أصبحت الإحالة إلى الثقافة الغربية ضرورية حتى
يُمكن للقارئ الغربي عامة والفرنسي خاصة أن يفهم الشخصية العربية
الإسلامية والمصير العربي بسهولة ويسر وبالإحالة المستمرة إلى
تاريخه وثقافته. ولو كان الكتاب أصلًا باللغة العربية للجمهور
العربي لما ظهرت هذه الإحالة المستمرة إلى الثقافة الغربية ولتم
استعواضها بالثقافة العربية الإسلامية التي يعرفها القارئ العربي
والتي يسهل إحالة الموضوعات إليها تقريبًا للأفهام.