سادسًا: الموقف من الواقع
إن الموقف من التراث القديم والموقف من التراث الغربي كِلَيهما مدخلان حضاريَّان يُعبران عن موقفنا الحضاري اليوم الذي هو مصبٌّ لتُراثَين قديمٍ ومعاصر. إنهما في حقيقة الأمر مصدرٌ واحد من مصادر المعرفة وهو النقل، بصرف النظر عن مصدره: النقل من الماضي أو من الحاضر، من الأنا أو من الغير. والحقيقة أن الواقع لم يكن غائبًا في الموقفَين الحضاريَّين السابقَين؛ فالموقف من التراث القديم، في أحد جوانبه، هو رد التراث إلى الواقع الأول الذي منه نشأ والذي له صيغٌ خاصة به، ثم عرضُ التراث على الواقع الحالي. فما اتفَق مع مصالحه بقي وتطوَّر، وما نافى هذه المصالحَ تم إسقاطه ونقده وتلاشيه. والموقف من الغرب أيضًا هو في أحد معانيه ردُّ التراث الغربي إلى بيئته المحلية وظروفه التاريخية التي نشأ منها، ومعرفة أي مرحلة أكثر اتفاقًا وأجلب نفعًا لنا في المرحلة الحاليَّة التي نمرُّ بها، وأيُّها أبعدُ عنا وأكثر ضررًا. فالواقع حاضر في قلب الحضارة: منه تنشأ فكرًا، وإليه تعود أثرًا.
- (١) تحرير الأرض من الاحتلال والغزو. وهي القضية الأولى في واقعنا القومي نُفكر فيها ليلَ نهار، ونُحاول الوقوف أمام هذا التيار الجارف المتجهِ لاحتلال مزيدٍ من الأرض وغزوِ عديد من الأوطان. هذه هي القضية التي تتناولها أجهزة الأعلام وتُدافع أنظمة الحكم من أجلها عن كراسيِّ الحكم، وتُقاوم في سبيلها أحزابَ المعارضة. وهذه القضية هي التي تملأ نفوس الجماهير مرارةً وحسرةً وغمًّا. وتدفع البعض إلى الانتحار أو الانهيار أو الموت كمَدًا، وهي ليست غريبة على الفلسفة سواءٌ في تراثنا القديم أو في التراث الغربي المعاصر. فالله في القرآن «إله السموات والأرض»، والطبيعياتُ عند الحكماء سابقةٌ على الإلهيات، والحقُّ والخلق شيء واحد عند الصوفية، وإقامة الشريعة للامتثال وللتكليف من مقاصد الشريعة. لقد قامت حركاتنا الإصلاحية الحديثة دفاعًا عن الأرض ضدَّ المحتل الأجنبي أو الإقطاعي الداخلي.١ وقد احتلَّت الصِّهيَونيةُ الأرضَ بعقيدة أرض الميعاد والاختيار وأرْضَنةِ الله Enlandisement of God. وتظهر الأرض في شِعرنا المعاصر.٢ وتُقام «فرقة الأرض»، ويهزُّنا «يوم الأرض». وفي التراث الغربي يتحول «فشته» من فيلسوف مثالي كانطي، فيضع نظريةً في الجدل بين الأنا واللاأنا من أجل خلق الأنا المطلَق؛ تحريرًا للأرض من الاحتلال وغزوِ نابليون لألمانيا. ويَصوغ كلَّ فلسفته في نظرية السعادة من أجل تحرير الأرض، ومقاومة المحتل؛ فالخير الأقصى تحقيقٌ للذات، وفي رسالة الإنسان تحقيقٌ للمثَل الأعلى، وفي الاقتصاد الموجَّه من الدولة توجيهٌ لموارد الدولة للحرب ضدَّ سياسات الانفتاح والاقتصاد الحر. إن دراسة قضية «الله والأرض» وجعْلَها مِحورَ التراث القديم، وأن الله محلٌّ للحوادث كما تقول الكَرَّامية؛ تجعل التراثَ مرآةً للواقع، وإن تدريس فشته لطلابنا يجعل قلوبهم مع الأستاذ، وكلاهما مع حاضر الأمة وواقعها.٣
- (٢) إعادة توزيع الثروة في مواجهة التفاوت الطبقي. وهي قضيةٌ رئيسية نتناولها في مَحافلنا العامة ونراها واضحةً للعيان؛ فقد اجتمعَت في الأمة أعلى درجةٍ من درجات الغنى وأدنى درجةٍ من درجات الفقر. مِنَّا مَن يترهل بِطْنةً، ومِنا من يموت جوعًا، منَّا من يعيش في القصور كالأحياء، ومنا من يعيش في مقابر الأموات، وهذه قضيةٌ يتناولها الشعر والمفكرون، وبسببها قامت الثورات العربية المعاصرة لإعادة توزيع الثروات، والإصلاح الزراعي وبرامج التأميم والتصنيع وحقوق العمال. ولأجلها قامت الأحزاب الاشتراكية والماركسية، ودخل الآلافُ في السجون والمعتقلات واستُشهِد العشرات. وهي قضية مُثارة في أصل الوحي في نظرية الاستخلاف، ونقد تَكْديس الثروة في يدِ حَفنةٍ من الأغنياء، وضرورة المشاركة في الأموال، وسار على أثرِها الخلفاء. ومن أجلها نُفِي أبو ذَر. وفي التراث الغربي ندرس ديكارت وكانط ونترك روسو ومونتسكيو وسان سيمون وبرودون وأوين وماركس في أقسام الاجتماع أو اللغة أو الأدب، وكأنَّ موضوعات العدالة الاجتماعية والمساواة ليست من الميتافيزيقا، أو الفلسفة العامة في شيء. وقد قام الرهبان الشباب في أمريكا اللاتينية بالاشتراك في حرب العصابات دفاعًا عن الفلاحين وضدَّ الإقطاع.٤
- (٣) تحقيق الحرية والديموقراطية في مواجهة القهر والطغيان. وهذه قضية نُعاني منها جميعًا بما في ذلك الأستاذ والطالب، والمفكر والمواطن، والباحث والعالم، والإعلامي والسياسي، فقد عُرِفت مجتمعاتنا بأنها مجتمعات القهر والتسلُّط والطغيان. سجوننا ملأى، وأفواهنا مُكمَّمة، وأجهزة إعلامنا في يد الحكومات، وصحفنا ومِجلاتنا مُراقَبة، وأجهزة الأمن تتحكم في كل شيء، تسمع وتُراقب، حتى أصبح الخوف والترقب البناء النفسي للجميع، ويفشل درس الفلسفة بسبب الخوف: خوف الأستاذ الذي يتحول إلى جُبن، وخوف الطالب الذي يتحول إلى خشية. الكل يبغي التعايش وعدم فقد الوظيفة لتربية الأطفال ورعاية الأسرة، وهكذا نشأت الازدواجية في حياتنا القومية، وظهر الفرق بين الحديث الخاص وبين الحديث العام، بين لغة حلقات الأصدقاء وبين لغة الاجتماعات الرسمية، بين همسات حجرات النوم وبين صُراخ الأحزاب وصخب أجهزة الإعلام حتى أصبحت السلطة كالجنس والدين محرَّمات لا يجوز الاقتراب منها، وهي موجودة في أصل الوحي وفي أول إعلان له في الشهادتَين. فالشهادة إعلان وبيان، إعلان رؤية، وبيان موقف يبدأ بالرفض والنفي، بالتمرد والثورة على كل آلهة العصر المزيَّفة في «لا إله»، ثم يأتي بعد ذلك فعلُ الإيجاب ووضع مبدأ واحد يتساوى أمامه الجميع في «إلا الله». وقد استنَّ الخلفاء بعقيدة الحرية كما سار عليها الأشهاد.٥ والفلسفة ليس لها موضوعٌ إلا الحرية، ولا غايةٌ إلا التحرُّر. وقد شغَل الموضوع مُفكِّرينا القدماء، متكلِّمين وفقهاء، فدافع المعتزلةُ عن خلق الأفعال، وأثبتوا حريةَ الاختيار، وأكَّد الفقهاءُ ضرورة كلمة الحق في وجه السلطان الجائر. وفي الفلسفة الغربية لا يُوجَد نسق فلسفي إلا والحريةُ أحد مظاهره. إن التاريخ كله هو قصة الحرية (كروتشه). إنَّ ثوراتِنا الحديثةَ قد قامت دفاعًا عن الحرية كما قامت حركاتُ استقلالنا الوطني تحقيقًا للحرية وما زال للكلمة رنينٌ في قلوب الناس جميعًا؛ فأشعارنا تُصوِّر مدى القهر، وقصصُنا مدى الطغيان، ورواياتُنا صورَ الطغيان.
- (٤) تحقيق الوَحدة في مواجهة التَّجزئة، وهذه قضيةٌ أخرى نُفكر فيها ليلَ نهار، تُقام من أجلها الدول، وتنهار الأنظمة، وتندلع الثورات ثم تُقام الثورات المضادة. كل الأحزاب وَحْدَويَّة، والأحزاب المخالفة انعزاليَّة طائفية. أُمَّة موحدة تاريخًا ولغةً وحضارةً، ومصلحةً وهدفًا ومصيرًا. جزَّأَها الاستعمار، واحتلت الصِّهيَونية قلبَها، عزَلَت كُبراها، وتفرَّدَت بصُغراها واحدةً تلو الأخرى. وقضية الوحدة معروضةٌ في أصل الوحي: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: ٣٩]، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: ٩٢]. وأفاض الحكماءُ والصوفية في الحديث عن الواحد والوحدة، والاتحاد والحُلول والفناء، وفضح المتكلمون الثنَويَّة والتعددَ والشِّرك، وعشقوا أفلوطين. وقامت أحزابنا كلها باسم الوحدة، واندلَعَت ثوراتنا من أجل الوحدة، وفتحَت السجونُ أبوابها لدعاة الوحدة. وما زلنا نُعاني من التجزئة، وقد احتُلَّت الأراضي، وتوالت الهزائم بسبب التجزئة، ومع ذلك لم تُطرَح في مناهجنا فلسفاتُ الوحدة وتَجارِبُها، ولا جعلناها مادةً أساسية في التكوين. وقد غزانا هيجل لأنَّ فلسفته تقوم على الوحدة. وحتى الآن لم تُصَغ الوحدة حتى كسؤال ميتافيزيقي، مع أن القدماء قد وضَعوا هذا السؤال في مباحث الوحدة والكثرة عند المتكلمين، ومباحث التوحيد عند الحكماء، ونظريات الاتحاد والحلول ووحدة الوجود عند الصوفية، ووحدة الأُمة عند الفقهاء.
- (٥)
تحقيق الهُوِية في مواجهة التغريب. وهذه قضية أساسية تطرَّق إليها المثقفون، وانقسمَت الأمة بسببها إلى قسمَين: دُعاة المحافظة على الهوية بأي ثمن ممَّا أدى إلى ظهور الجماعات الدينية المحافظة كردِّ فعل على ظاهرة التغريب والارتماءِ في أحضان الآخَر. فالتحدي الأعظمُ بالنسبة لكل فِرَق الأمة حاليًّا هو كيف يُمكن المحافظة على الهُوية دون الوقوعِ في مَخاطر الانغلاق على الذات ورفض كلِّ مساهمة للغير، وكيف يُمكن مواجهةُ ثقافات العصر دون الوقوع في مخاطر التقليد والتبعية؟ إن هذه هي القضية التي نُثيرها جميعًا باسم الأصالة والمعاصرة، وهي موجودة في أصل الوحي عندما أبقى الإسلامُ على الهوية العربية وبعضِ قيم الجاهلية وأعرافِها وطوَّرها في منظوره الجديد، وهي قضيةٌ عرَض لها الحكماءُ فظلوا مفكرين إسلاميين متمثِّلين لثقافات الغير، وفي مقدمتها ثقافة اليونان، وهي القضية الأساسية التي تُعالجها العلوم الاجتماعية الغربية الآن لدراسة تطوُّر المجتمعات النامية.
- (٦) تحقيق التقدم في مواجهة التخلف. وهذه قضية يتناولها الجميع ويتناقل الفاظَها، حتى أصبحت من أكثر القضايا شيوعًا وشهرة؛ هذا مُتقدم، وهذا متخلف، وهذا تقدُّمي، وهذا رجعي. وما زال اللفظان يُثيران الشباب. وقد تعرَّض أصلُ الوحي للمفهومَين: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر: ٣٧]. بل إن تطوُّر النبوة ذاتِها يُمثل تقدمًا للوعي الإنساني من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام. ورسالات الأنبياء إنما كانت علاماتٍ مميزةً لمراحل التاريخ. وقد أسس التراث الغربي لمفهوم التقدم علمًا بأكمله هو فلسفة التاريخ، محاولًا وضع قانونٍ لتطور المجتمعات، ومراحل تاريخها ابتداءً من المرحلة الدينية إلى مرحلة الميتافيزيقا إلى مرحلة العلم، ومن مرحلة الآلهة إلى مرحلة الأبطال إلى مرحلة الإنسان، أو من الصيد والقَنْص إلى الرعي إلى الإقطاع إلى الرأسمالية وأخيرًا إلى الاشتراكية. ولم نُدرِّس فلسفة التاريخ في جامعاتنا إلا كمادة إضافية دون أن نصوغَ قانونًا لها، ودون أن نُراجع أحكام الغرب على الشرق أو نُراجع ابن خَلدون في تصوره للدورة والسقوط ونحن في عصر النهضة.٦
- (٧)
تجنيد الجماهير ضد السلبية واللامبالاة. وهذه قضية قد لا تبدو فلسفية في ظاهرها، إلا أنها في حقيقة الأمر قضية فلسفيَّة بالأصالة. فالفكرة ليست تصورًا فارغًا، بل قدرةٌ على تحريك الناس، وإلا فلماذا انضمَّ الشباب إلى الماركسية ووجدوا فيها وحدة النظر والعمل. ليس المفكرُ فِكرَه فقط بل جمهورُه، وليس نظرياتِه فقط بل أمتُه التي يتحدث إليها ويعمل من أجلها. ولطالما اشتكينا في واقعنا المعاصر من سلبية الجماهير، وعدم تحريكها، وعُزلة المثقفين عنها. لقد قاد موسى أمته إلى الخارج، وقاد محمدٌ أمته إلى الداخل، وكان المفكِّرون في الغرب وراء التاريخ والسياسة: أرسطو والإسكندر، غاريبالدي وماتزيني، هيجل وبسمارك، فولتير والثورة الفرنسية، وابن خَلدون وتيمورلنك، ولطالما تحدث الفلاسفة عن «ثورة الجماهير» (أورتيجا أي جاسيه).