سابعًا: خاتمة
لا يعني الفيلسوف عندنا إذن صاحبَ المنصب الشامخ بمعنى كانط وهيجل؛ فهذه المذاهب قد نشأت في ظروف خاصة، وبعد تعرية العالم من أغطيته النظرية الموروثة. إننا لم نمرَّ بعدُ في هذه الظروف، ولم تحدث عندنا بعدُ عمليةُ التعرية المشار إليها. ولا يعني الفيلسوف عندنا، مرة أخرى، مَن يتساءل عن معاني الحياة والوجود الإنساني كما هو الحال في الفلسفة المعاصرة. فقد نشأ ذلك في الغرب بعد أن احتوت المذاهبُ حياةَ الإنسان واعتبرته جزءًا من كلٍّ، تُرسًا في آلةٍ كبيرة، وليست هذه قضيةَ الإنسان عندنا، قضيتنا غياب الإنسان كله، وما زلنا ندرس «الله» عند الكِنْدي والفارابي وابن سينا. ليس الفيلسوفُ كلَّ مَن ادَّعى رأيًا أو من صاغ نظرية من إبداعه أو تقليدًا للآخرين: قدماء أو مُحْدَثين؛ فالآراء الأصيلة لا يُمكن أن تُوجد لأن الغطاء النظري الموروث ما زال واردًا، والغطاء النظري الحديث مُزاحم له. ولا يُوجَد الرأي الأصلي إلا عند بعض الفئات القليلة خاصة في المجال العلمي والتقني والفني. ولكن النملة لا تُزاحم فيلًا، والفأر لا يُزحزح أسدًا. وعادة ما يكون أصحاب الموقف دُعاةَ ظهور، وأصحابَ بطولات فردية، وليس في الموقف نِزالٌ، لكنه يتجاوز مبارزة الشجعان.
الفيلسوف هو صاحب الموقف الحضاري الذي يأخذ موقفًا من التراث القديم ويأخذ موقفًا نقديًّا من الموروث حتى يُزحزح الغطاء النظري القديم من أجل تنظيرٍ آخر، آخذًا العقلَ والطبيعة كمِحورَين في العلم الجديد. الفيلسوف كلُّ مَن يأخذ موقفًا من التراث الغربي رادًّا إيَّاه إلى داخل حدوده الطبيعية، مُحجِّمًا إياه بعد أن ظهر على امتداد مائتَي عام خطورة وضع نقل جديد فوق نقل قديم، إذ ازداد العقل المعاصر ثقلًا فوق ثقل، وأصبح لا فرق هناك بين من يقول: قال ابن تيميَّة وبين من يقول: قال كارل ماركس، أو بين من يقول: قال الله والرسول وبين من يقول: قال ديكارت وكانط. الفيلسوف كلُّ من يحاول التنظير المباشر للواقع محاولًا التعرف على مكوناته، مبدعًا، دارسًا الأشياءَ، مُحللًا للظواهر قدر الإمكان، قاصدًا إلى الأشياء ذاتِها، متخليًا عن المنقول إلى المعقول، وواصلًا إلى المعقول مِن المشاهدة والحسِّ والتجرِبة. إنه كل من يحاول سَبْر غَوْرِ الواقع محصيًا إياه، عدًّا عدًّا، فلا فكر إلا مِن واقع، ولا ثقافة إلا من شعب. الفيلسوف إذن هو صاحب الموقف الحضاري في أحد أبعاده الثلاثة أو فيها كلِّها، فهي مترابطة فيما بينها. والموقف من التراث القديم محاولة للمساهمة في حل أزمة العصر كما يفرضها الواقعُ مع التقليل من مخاطر الغزو الثقافي الغربي. والموقف من التراث الغربي هو في الوقت نفسِه تحريرٌ للذهن من النقل وإفساح المجال للإبداع الذاتي التزامًا بقضايا الواقع، واكتشافًا للتَّواصل التاريخي بين الماضي والحاضر، وعودةٌ للتراث القديم بعد أن تمت إزاحته جانبًا في منافسة غير متكافئة الأطراف. والموقف من الواقع هو في حقيقة الأمر موقف من التراثَين: القديم والجديد، واللذَين ما زالا يفعلان فيه، ويفرضان معلوماتهما عليه.
بدون هذا الموقف الحضاري ستظل الفلسفة في جامعاتنا ومعاهدنا نباتًا بلا غَرْس، هواءً بلا طير، كتابةً بلا مِداد، وسنظل نُعاني ما نُعاني منه اليوم من ضياع وتشتيت وبكاءٍ على غياب الفلاسفة وتحسُّر على الطلاب. الفلسفة مشروع قومي حضاري وليست مجردَ مادة علمية مقررة، لها كتاب محفوظ، وأستاذ مُلقِّن، وطالب يستذكر، وشهادة تُعطى، ووظيفة تُؤخذ لحل قضية المعاش وكسب القوت. وهي ليست مصطلحاتٍ مِهنيةً ومذاهبَ مُستغلِقة يشعر الأستاذ أمامها بالزَّهو والطالبُ بالرهبة والقراءُ بالعظَمة. الفلسفة تنبع من موقف حضاري محدد، وتُساهم في صنع وتحديد معالمَ مرحلة تاريخية يمرُّ بها مجتمعٌ ما، هي القدرة على التعرف على اللحظة الحاليَّة، وقراءة روح العصر، والإحساس بالموقف الحضاري، وإلا كانت لا زمان لها ولا مكان، أسطورة وغيب، ولظلت الماركسية كتحليلٍ للتاريخ ولحركات الشعوب نقطةَ جذبٍ لوعي الأمة، وبالتالي الوقوع في مزيد من التغريب.
هذا ليس بحثًا في السياسة بل هو بحث في الفلسفة، لا يُعطي توجيهاتٍ عمَليةً بل يُعطي تأصيلاتٍ نظريةً من خلال الموقف الحضاري لجيلنا، لا يهدف إلى معارضةِ نُظمٍ قائمة أو إحداث تغيير أو انقلاب، إنما يبحث في أزمة الفلسفة في عالمنا العربي اليوم: لماذا هي في وادٍ وواقعُنا في وادٍ؟ ولماذا ظلت أحوالُنا الثقافية، بالرغم من عشرات أقسام الفلسفة في جامعاتنا، على ما هي عليه؟ لماذا لم تُؤثِّر كتاباتنا الفكرية بعدُ في حياتنا القومية؟ قد يكون هذا البحث أشبهَ بالصراخ أو الخَطابة، ولكن الفلسفة ليست مفاهيمَ أو ألفاظًا يُعاب عليها التجريد وأنها فلسفة، أي لا طائل تحتها ولا نفع منها. قد لا يحتوي هذا البحث إلا على عموميات يعرفها الجميع، وكرَّرناها منذ عدة أجيال. وقد يكون فيه نوعٌ من اتهام الذات، وتعذيب النفس، ولكنه يبقى على أية حال صراخَ يوحنَّا المعمدان على تلال عَمَّان.