ثانيًا: تراث الغير
ولما كان الوعي الحضاري الذي أنتج التراث الذاتي وعيًا متفتحًا على الحضارات الأخرى فإنه سرعان ما تَمثَّل تراثَ الغير واحتواه واستعمل لغته، واستعمل أساليبه، واستخدم طرقه، وأكمل نقائصه. ثم أبدع بمناسبته خَلْقَه الذاتي. استطاع القدماء احتواء حضارة العقل عند اليونان والديانات الشرقية في فارس، وعلوم الهند.
أما المُحدَثون فإنهم في انفتاح وعيهم الحضاري الجديد على تراث الغير، التراث الغربي، حدثَت لديهم «صدمة الحداثة» وخلطوا بين التحديث والتغريب، فكان من الضروري «تحجيم» تراث الغير، وردُّه إلى حدوده الطبيعية داخل بيئته المحلية.
(١) الحداثة والتحديث
تعني الحداثة هنا الانتقال من التراث الذاتي إلى تراث الغير ليس على مستوى الثقافة، بل على مستوى السلوك اليومي والعادات والتقاليد. وهنا يتم الخلط بين الحداثة في السلوك وتحديث المجتمعات أي تغيير نظمها الاجتماعية، وكأن «العصرية» تعني فقط السلوك المهذَّب للأفراد دون تنمية اجتماعية شاملة.
(أ) مظاهر الحداثة
- (١)
العيش على مستوى الإنتاج الآلي في الغرب، والتمتع بالخدمات الحديثة واستيراد أحدث الاختراعات لتسهيل رغد العيش. وكما تحدث في مجتمعاتنا الصحراوية الحاليَّة من وجود أحدث أنواع الاختراعات الحديثة في الغرب.
- (٢)
الحداثة في مظاهر الحياة الخارجية في العمارة والهندسة وفي العمران بوجه عام من شقِّ الطرق، وتشييد الجسور العُلوية، وإقامة الميادين والحدائق العامة، والانتقال من عصر «الجِمال» إلى عصر «الصَّواريخ»، ونقل إنجازات الغير دون اختراعها.
- (٣)
الحداثة في الثقافة، والاطلاع على آخر صيحات العصر في الفكر والفن والأدب، دون وعي داخلي، لتزيين القصور ولحديث الأندية والمجتمعات. فالثقافة ترَف، والفن سلعة، والأدب من المستلزمات العصرية. وهنا تنشأ أقلِّية من العصريين، امتدادًا لثقافة الغير وعاداته وتقاليده، تُكوِّن نواة النخبة السياسية فيما بعد.
(ب) مخاطر الحداثة
- (١)
ترويج التقدم على السطح، وترك التخلُّف في العمق وفي تصور الناس للعالم، وكما قال أحد شعرائنا المعاصرين: «لبسنا قشرة الحضارة، والروحُ جاهلية.»
- (٢)
انقطاع الماضي عن الحاضر، وغياب أي تطور طبيعي بينهما؛ مما يُسبب في الحياة العامة تجاوُرَهما المكاني دون أي اتصال زماني. فتُشيَّد الأبنية الحديثة في مقابل الأبنية القديمة دون تطويرٍ للقديم ودون ربط للجديد به.
- (٣)
توليد المحافظة من أجل الدفاع عن القديم، وإحداث تيار عكسي للحداثة ورفض ما هو قائم. فما دام القديم قد توقف نموُّه بسبب موانع الجديد فإنه لا يبقى أمامه إلا التطور إلى الوراء.
- (٤)
القضاء على خصوصية القديم ونوعيته، والتنكُّر لها أو الجهل بها تمامًا وإحلال الشمول محلَّها. وعادةً ما يكون الشمول الغربي الذي هو في حقيقة الأمر خصوصية غربية انتشرت خارج حدودها بسبب تقدم الغرب السابق لنهضة الشعوب غير الأوروبية بحوالي خَمسِمائة عام، منذ عصر النهضة الأوروبي.
- (٥)
عدم اللَّحاق بالغرب وإنتاجه السريع، واللهَث وراءه. فإن معدَّل إنتاج الغرب أسرع بكثير من معدل تَمثُّل الشعوب غيرِ الأوروبية له. وهنا تحدث «الصدمة الحضارية». مع أن هذا التجديد المستمر يهدف إلى إيجاد البديل النظري في الوعي الأوروبي بعد إسقاط الغطاء النظري القديم منذ عصر النهضة، في حين أن الشعوب غيرَ الأوروبية ما زالت تحت غطائها النظري الموروث.
- (٦)
تكوين طبقة من «المستغرِبين» أو ما سماهم فِكرنا المعاصر «المُتأوْرِبين» منعزلة عن جموع الشعب لا أرض لهم، يعيشون في العواصم الأوروبية ويتنقَّلون بينها، وقد يُولَدون فيها ويموتون بها مثل مُلَّاك الأرض الغائبين على مستوى الدولة.
- (٧)
الولاء للغرب، إذ إنها تدور في فَلك الأجنبي، وتُمثل مراكز الاستعمار الثقافي في البلاد، هم النخبة السياسية والثقافية والاجتماعية، أجانب ومصريون مُتأورِبون، وأول من يجرفهم التيار في الثورة الوطنية كما حدث في مصر في ثورة ١٩٥٢م. فقد كان «طرد الأجانب» باستمرار أحدَ المطالب الوطنية كما حدث في ثورة عرابي.
(ﺟ) دور الحداثة
- (١)
تعليم جيل في التخصصات الدقيقة كان له فاعلية وأثر على حياة البلاد في العمران بوجه عام والحياة الثقافية بوجه خاص، فأُنشِئَت المدن الجديدة، وأُقيمَت البنايات الحديثة، ومُهِّدت الطرق، وشُيِّدت الجسور والسدود، إما لبقايا من وطنية أو لخدمة الاقتصاد الغربي أو للسيطرة على ثروات البلاد.
- (٢)
تعليم أجيال لاحقةٍ من الوطنيين أصبح ولاءُ معظمهم للبلاد، فاتسعت قاعدة الفنيِّين والمتخصصين مما ساعد على إعداد «البناء التحتي» للبلاد، وظلت البلاد في هذا الصراع بين المتخصص غير الوطني والمتخصص الوطني أولًا، ثم بين الوطني غير المتخصص بعد الثورة المصرية وغير الوطني وغير المتخصص في جيلنا هذا ثانيًا بعد احتجاب مصر وظهور طبقة من غير الوطنيِّين وغير المتخصصين، لا أهل خبرة ولا أهل ثقة.
- (٣)
كان المتأورِبون نافذةً لمصر خاصة وللأمة العربية عامَّة على العالم الخارجي. فمن خلالها اطَّلع الوطنيون على مظاهر التقدم الأوروبي؛ مما أوحى لبعض الحُكَّام جعْلَ مصر «قطعة من أوروبا»، وكما حاول الغرب الشيء نفسَه مع إيران قبل الثورة، فقد كانوا صحفيين ومفكِّرين وساسة ورحَّالة، ولكن كان معظمهم علماءَ ومهندسين وفنيين.
- (٤)
كانوا نافذةً للغرب على العالم العربي. فاستطاع الغرب أن يرى من خلالهم الشعوبَ غير الأوروبية سواءٌ من خلال كتاباتهم عن شعوبهم؛ مصر والشام خاصة، أو من سلوكهم وتقاليدهم وأحاديثهم عن بلادهم في الخارج. فقد رأى الغربيون صورة الشعوب غير الأوروبية مجسَّدة في أشخاصهم.
(٢) التحديث والتغريب
والحقيقة أن هذه الحداثة في سلوك الأفراد لم تُنتِج أثرًا في تحديث المجتمعات تحديثًا شاملًا؛ نظرًا لقيامها على «التغريب» في الوعي القومي، فالتحديث هو محاولة تغيير المجتمعات على يد «المُحدِّثين» الذين هم في واقع الأمر ضحيةُ التغريب في وعيهم الثقافي والوطني.
(أ) النقل والاستيعاب
- (١)
الخلط بين العلم والمعرفة؛ وذلك أن العلم شيء والمعارف العلمية شيء آخر. العلم هو نشأة العلم بِناء على تصور علمي للعالم وليس مجموعة من المعارف يحملها جاهلٌ بنشأتها. ولكننا لم نَعِ هذا الخلط لأن وجداننا القومي يرى أنه «رُبَّ سامعٍ أوعى من مُبلِّغ» مع أن ذلك في الاستفادة والاستعمال وليس في الإبداع. فلا مانع لدى العالم أن يكون ناقلًا لآخرِ النظريات في علوم الذرة ثم يتبرَّك بآل البيت، ويُغير واقعه بالدعاء.
- (٢)
تصور أن التقدم هو استيراد آخر الاختراعات وإنجازات التكنولوجيا الحديثة وليس إبداعَ وسائل للسيطرة على الطبيعة حتى اضطُرَّت الشعوب غير الأوروبية إلى انتظار «قطع الغيار» لوسائل لم تُبدِعها. ولما كان معدل الاختراع أكبرَ من معدل النقل تحولت مجتمعاتنا إلى مجتمعات استهلاكية صِرْفة لما ينتجه الغرب. ويصدر الغرب اختراعاته السابقة التي ما زالت بالنسبة لنا تُمثِّل لحاقًا بالتقدم العلمي والتكنولوجي.
- (٣) القفز إلى النتائج دون المقدمات، وقطف الثمار بلا غَرْس، وجَنْي الأوراق بلا جذور بالرغم من قراءتنا أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم: ٢٤]. فالإنجازات العلمية إنما أتت بعد تطور طويل للمنظور العلمي منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر حتى عصر الاكتشافات العِلمية في القرن الماضي، وتكنولوجيا هذا القرن. ولكن مجتمعاتنا تُحاول أن تعيش في عصر النهضة وأن تقفز إلى عصر التكنولوجيا دون أن يحدث تطور طبيعي في منظورها العلمي أو في تصورها للعالم؛ لأن التاريخ ومراحله ليس بُعدًا في وجداننا القومي.
(ب) مخاطر التغريب
- (١)
التعلُّم المستمر والتتلمذ على أيدي الغير إلى ما لا نهاية، والتهميش والترجمة لما نتعلم حتى يُرهَق الذهن ويضيع الوقت في الاستيعاب ويتحول الذهن إلى «مُتلقِّي العلم» وليس إلى «مُبدع العلم»، ويُصبح العلم كَمًّا هائلًا بلا كيف، ويغلب على إنتاجنا طابَعُ التجميع والعرض باسم العلم، ويُصبح العالم هو صاحبَ العلم الغزير، ويكون أفضل عالم هو العالم الموسوعي.
- (٢)
لما كان معدل الإنتاج الغربي أسرعَ بكثير من معدل الترجمة، طالت فترة الترجمة والتجميع ولم نتحوَّلْ بعد إلى التأليف والإبداع، مع أن فترة الترجمة الأولى لم تستغرق أكثرَ من مائة عام وهو القرن الثاني الهجري جاء بعدها التأليف في القرن الثالث عند الكِنْدي مثلًا. ونحن قد بدأنا الترجمة في القرن الماضي منذ بعثات محمد علي وتحت إشراف الطهطاوي وما زلنا نشكو من نقص التراجم.
- (٣)
تكوين مركَّب العظَمة الحضاري لدى الشعوب الغربية وفي مقابلها مركَّب النقص الحضاري لدى الشعوب غير الأوروبية ما دامت العلاقة أُحاديةَ الطرَف، طرف يُعطي وطرف يأخذ، طرف يُبدع وطرف ينقل، وبمرور الأجيال، تتحول العادة إلى طبع، ويتحول الطبع إلى سلوك طبيعي.
- (٤)
ضياع قدرة العقل على التفكير وتحويله إلى وظيفة الذاكرة، أي التذكر والاستيعاب. وبالتالي تقلُّ قدرات الذكاء، وتختفي محاولات الإبداع، وينتقل ذلك الموقف الحضاري العام إلى نمط في الحياة الثقافية في التعليم في المدارس والجامعات حتى في معاهد البحث العلمي.
- (٥)
خلق طبقة من المتخصصين لنشر العلم والقيام بأعمال الترجمة لمراكز الثقافة الممثِّلة للدول الغربية، وتوجيه الرأي العام لدى الشعوب بنوع المعلومات المترجمة، ومعظمها عن مآثر النهضة الأوروبية ومميزات المدَنية الحديثة حتى يتحول الوعيُ القومي من الذات إلى الغير فتتكسَّب هذه الطبقة، وتُحوِّل العلم من رسالة إلى منفعة شخصية أو إلى وجاهة اجتماعية وسط شعوب في حاجة إلى التعلم والمعرفة.
- (٦)
ويَزيد ولاءُ هذه الطبقة للغير إلى حد يقرب من الخيانة الوطنية إذا ما أصبحوا أدواتٍ للغزو الثقافي الأجنبي، ورسلًا للاستعمار الثقافي وهم على وعي بدورهم، فيجرفهم في النهاية أقربُ تيار للثقافة الوطنية.
(ﺟ) طغيان طابَع العقلية الغربية
- (١) التجزئة والتقسيم والتفتيت بدعوى التحليل والدقة العلمية لرؤية المتناهي في الصِّغر، حتى استحالت رؤية الكل الشامل. فأصبح المثقفون لدينا بدعوى «المنهج التحليلي» قصيري النظر لا يتجاوزون التخصص الدقيق في حياتهم العامة، وفقدوا المنظور التاريخي، والبُعد الحضاريَّ للعلم. وقد حدث ذلك في الغرب خاصة كردِّ فعل على الشمول الكنَسي الأرسطي ومذاهب الفلسفة في العصر الوسيط والفكر الموسوعي.١
- (٢)
الوقوع في المتعارِضات المفتعَلة والتناقضات الوهمية والاتجاهات المتضاربة التي ينفي أحدهما الآخر؛ مثل العقل والحس، المثالية والواقعية، الصورية والمادية، العقل والعاطفة، الفردية والاجتماعية، الرأسمالية والاشتراكية، وكأن الحقيقة في طرف دون الطرف الآخر. وقد حدث ذلك خاصة في العقل الأوروبي نتيجةً لسيطرة طرَف ورفضِ الطرف الآخر لذلك. فقد دفع المُعطَى الديني الغربي العقلَ إلى الروح فآثرَ المادة، وإلى الآخرة فآثرَ الدنيا، وإلى التسامح فأخذ العنف.
- (٣)
وكان نتيجة لذلك أن انتقل العقل الأوروبي من الفعل إلى ردِّ الفعل، ومن رد الفعل إلى الفعل من جديد، يرفض اليوم ما قبله بالأمس، ويرفض بالأمس ما يقبله اليوم، وأصبح من الممكن دراسةُ الحضارة الأوروبية كلِّها طبقًا لهذا القانون من الكلاسيكية إلى الرومانسية، إلى الكلاسيكية الجديدة، إلى الرومانسية الجديدة في الفن، ومن المثالية إلى الواقعية إلى المثالية الجديدة إلى الواقعية الجديدة في الفلسفة … إلخ.
- (٤)
ونتج التغير المستمر، وعدم الاستقرار، والقلق، والبحث؛ عن بؤرةٍ للأشياء لا يُمكن العثورُ عليها؛ إذ يمتد الذهن باستمرار إلى أطراف البؤرة وليس إلى البؤرة ذاتِها، وكأنه غير قادر تاريخيًّا على حسن التصويب لفقد البواعث الموجِّهة أو الهدف الأقصى. هذا الإيقاع السريع في البحث عن شيء هو الدافع وراء الإبداع المستمر من أجل الاستقرار على شيء. وهو ما لم يحدث قبل ذلك في الشعوب غير الأوروبية المستقرة نظريًّا في تصورها للعالم.
- (٥)
التحيز المسبق للمادي والعياني والمحسوس والاعتماد على المعرفة الحسية والتجريبية؛ نظرًا للعقدة من المسلَّمات والمصادَرات والمعطَيات المسبقة التي مثَّلَتها الكنيسة وأرسطو، وهو ما أصبح يُسمَّى «بالمادية الأوروبية» وقد انتقلَت من مجال المعرفة إلى مجال الأخلاق وكأن الوعي الأوروبي قد ارتكن إلى الرومان دون اليونان، وإلى اليهودية دون المسيحية.
- (٦)
كل المذاهب المثالية التي حاولت إعادة صياغة المسيحية على نحوٍ عقلاني طبيعي اجتماعي، وتلك التي كانت ردَّ فعل على المذاهب المادية؛ لا تخرج على حدود الوعي الأوروبي، بل تنطبق عليه وحده. فمبادئ العقل والحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية وكلُّ ما أعلنه ميثاق «حقوق الإنسان» إنما يصدق داخلَ أوروبا وحدها. أما خارجها فتنقلبُ هذه المبادئ إلى ضدِّها؛ فخارِجَها لا تُوجَد شعوب بل أشباه شعوب، ولا تُوجَد حقوق بل واجبات، ولا تُوجَد حضارات إنسانية حاضرة بل حضارات تاريخية موضوعًا للأنثروبولوجيا في متاحف الغرب.
- (٧)
أصبحت الحضارة الغربية هي النموذجَ الأوحد لكل الحضارات، وتاريخها، وعصورها، وحروبها تاريخُ كل الشعوب، وعصورُ كل الحضارات، وحروبُ كل الأمم. فيها تنصبُّ جميع الروافد الحضارية اليونانية والرومانية، واليهودية والمسيحية، وكل ما سواها مُقدِّمات لها مثل حضارات الشرق القديم. وكل ما يتلوها خارجٌ عنها مثل الإسلام والنهضة الحديثة للشعوب غير الأوروبية.
- (٨)
كانت صورة الشعوب غير الأوروبية من صنع الاستشراق والتبشير والأنثربولوجيا والعلوم التاريخية: قبائل وطوائف، وشعوب بُدائية، وحضارات فجر التاريخ، سكون، وحركة، وتخلف. وبعد البعثات التعليمية في الغرب قامت نهضتنا الحديثة في «الدول المتحررة حديثًا» تُحاول إيجاد صياغات للدولة ومذاهب للمجتمع. هي شعوب هُلامية ودول لم تتشكَّل بعد في صياغاتها النهائية، تفتقد إلى الاستقرار، وتدور عليها الانقلاباتُ العسكرية.
- (٩)
الانتشار خارج الحدود من أجل تحويل حضارة الغرب إلى حضارة الإنسانية جمعاء، والانتقال من الخصوصية إلى الشمول. وقد حقَّق التبشير والاستعمار والغزو الثقافي هذا الهدفَ حتى قامت النهضات الحديثة للشعوب غير الأوروبية للتحرر من الاستعمار ولصياغة الثقافات الوطنية.
(٣) التحرر من الغير
ومنذ فجر النهضة العربية الحديثة وقد بدأت محاولاتُ التحرر من الغير وبعث التراث الذاتي في مواجهة تراث الغير، وبصرف النظر عن درجة هذا التحرر وأسلوبه من رفضٍ شامل إلى رفض جزئي، وبصرف النظر أيضًا عن نجاحه التامِّ أو نجاحه النسبي، أو فشله التام أو فشله النسبي.
(أ) مرآة الغير
- (١)
الاطلاع على الجديد، والإقدام على حضارة الغير، كما حدث أولًا مع اليونان، دون تهيُّب أو رهبة، ومحاولة معرفة كل شيء سواء في العلوم الطبيعية أو في العلوم الإنسانية، وكأن الدعوة إلى التعلم تحولت من مجرد نص مكتوب إلى باعث حضاري.
- (٢)
حدوث الصدمة الحضارية التي وقعت للمشايخ والعلماء أمام تَجارِب نابليون والتي عبَّر عنها الكُتَّاب والأدباء في وصفهم للآخر مثل «تخليص الإبريز» للطهطاوي، و«حديث عيسى بن هشام» للمويلحي. وتم اكتشاف الذات بالمقارنة مع الغير، مع إحساس قوي بالتغاير.
- (٣)
تَمثُّل حضارة الغير والنهَلُ منها، وانتقاءُ لحظات تجد فيها الذات نفسها مثل «الثورة الفرنسية» وأفكار الحرية والعدالة والمساواة والوطن والدستور والتي كان لها أبلغُ الأثر في نهضتنا الحديثة (الطهطاوي، أديب إسحاق … إلخ).
- (٤)
بدايات النقد الذاتي لتراث الذات بمناسبة تراث الغير، ثم اكتشاف أن هذا النقدَ الذاتي يتفق مع بواعث التراث الذاتي في نشأته الأولى مثل تعليم البنات كما هو الحال عند الطهطاوي في «المرشد الأمين».
فما سماه الغرب خطأً بداياتِ الامتداد الثقافي الغربي في الشرق، هو في حقيقة الأمر بداياتُ رؤية الشرق لنفسه في مرآة الغرب. فكان الغرب مجردَ عاكس للشرق لأصوله وتراثه وقِيَمه وحضارته.
(ب) تأصيل الغير
- (١)
العقل ضد الخرافة والوهم، وإعمال النظر والرَّوِية والتفكير في الأمور والتخطيط لها. وقد دفع ذلك رُوَّاد النهضة إلى اكتشاف دور العقل عند القدماء والاجتهاد في مقابل التقليد. وما زلنا حتى الآن نُحاول إرساء دعائم العقلانية وجعل العقل أساسًا للنهضة الحديثة، سواءٌ عند المصلحين أو الليبراليين.
- (٢)
أثبت العقل جدارته في النقد وجُرأتَه على القديم في الرفض حتى تحول فيما بعدُ إلى نقد مجتمعاتنا المعاصرة وخفَّت حدَّة «المقدسات» وأُعيدَ النظر في المسلَّمات، وبدأت الاستفسارات، وعمت التساؤلات، وأُعيد النظر في الاختيارات الأولى، وطُرِحت البدائل من جديد. وبدأت معركة القدماء والمُحدَثين، وإحياء التيار الاعتزالي كما هو واضحٌ عند محمد عبده.
- (٣)
العلم الطبيعي وإنجازاته في فهم ظواهر الكون والسيطرة على قُوى الطبيعة وتسخيرها لصالح الإنسان، وامتداده إلى الحياة الإنسانية. فنشأ الفكر الطبيعي العلمي (شبلي شميل، فرح أنطون، نقولا حداد، يعقوب صرُّوف … إلخ) ودراسة المجتمعات على نحوٍ علمي. وظل هذا المطلب إلى الآن عند دعاة الفكر العلمي من الليبراليين أو الماركسيين واكتشاف ذلك عند القدماء كما فعل الأفغاني مع نظرية التطور.
- (٤)
ظهور النزعة الإنسانية والاهتمام بحياة الإنسان الفردية والاجتماعية والإقلال من الموضوعات المتعالية الني كثرت عند القدماء، واكتشاف ذلك في أسس الشرع وفي مقاصد الوحي الذي أتى من أجل مصلحة الإنسان ومنفعته في الدنيا.
- (٥)
التركيز على الحرية والديموقراطية والدستور والحياة النيابية، وتأصيل ذلك في الشورى والبيعة عند القدماء، واحترام تعدُّد الآراء والآراء المعارضة، واكتشاف ذلك عن القدماء في اختلاف الأئمة كرحمةٍ بينهم.
- (٦)
الإعجاب بالعلوم الاجتماعية وبفلسفات التاريخ، وبتقدم المجتمعات ونهضتها، والثناء على الحركات الاشتراكية وثورات الشعوب ونضال العمَّال، وثورة المضطهَدين، وتأصيل ذلك عند القدماء في العدالة ضد الظلم وسُننِ الله في الكون، والخروج على الحكام.
(ﺟ) تحجيم الغير
- (١)
إدراك «محلية» الثقافة الغربية وأنها خاضعةٌ لظروفها الخاصة وقد تكونت بفعل روافدها اليوناني الروماني أو اليهودي المسيحي أو البيئة الأوروبية نفسِها. وكُشِف القناع عن دعواها في الشمولية التي تُخفي وراءها الرغبةَ في الانتشار خارج حدودها؛ تحقيقًا للهيمنة على غيرها من الثقافات كمقدمة للسيطرة على الشعوب.
- (٢)
تحجيم الغرب داخل حدوده الطبيعية، ودراسة ثقافته ككلٍّ واحد لا يتجزَّأ، له بداية ونهاية، له بناءٌ وتطور، له روافدُ وآثار، وله سمات مميزة خلقت عقليةً ذاتَ طابع معين، وتطبيق مبادئ علم اجتماع الثقافة على ثقافته، وتحويلها أيضًا إلى موضوع للأنثربولوجيا الثقافية.
- (٣)
التخلص من إشعاعاته وآثاره الثقافية لدى الشعوب غير الأوروبية التي بدأت نهضتها واكتشاف تراثها الذاتي؛ وذلك عن طريق إرجاعه إلى مصادره في بيئته الخاصة بعد أن أصبح لها مُستقَرًّا ومُستودَعًا، وبداية عملية رفض الجسم الغريب، ويسهل ذلك بعد رؤيته كآخرَ مُغايِر للذات، ورؤيته له عن بُعد كموضوع مستقل مغاير.
- (٤)
المساهمة في كتابة تاريخ له، ورؤيته من منظور غير أوروبي، أي إعادة كتابة تاريخ الثقافة الغربية من باحثين ومفكرين غير أوروبيين كما فعل الباحثون الأوروبيون في الماضي مع الثقافات غير الأوروبية. وبالتالي ينشأ علم «الاستغراب» في مقابل «الاستشراق»، وقد يكون هذه المرةَ أسعدَ حظًّا، خاليًا من الإسقاطات والبواعث غير العِلمية.
- (٥)
نقد الثقافة الغربية، باتجاهاتها، ومذاهبها، وتياراتها وبيان حدودها من منظور غير غربي وإقامة «علم نقد الثقافة» خارج قانون الفعل ورد الفعل الذي يقوم عليه نقدُ الاتجاهات المتباينة بعضها للبعض، وقد يكون نقد «الشاهد العَدْل» أكثرَ قَبولًا من نقد الخصوم.
- (٦) إفادة الغرب ذاته بإعطاء نماذج أخرى من الثقافات؛ حتى يتعرف عليها، فيأخذ موقف المتعلم، ويصبح معلمُ الأمس تلميذَ اليوم فيَخفَّ مِن لديه مركَّبُ العظَمة كما خفَّ لدى الشعوب غير الأوروبية مركبُ النقص، وتُصبح الثقافات الإنسانية على قدَم المساواة في الإسهام في الحضارة البشرية؛ طبقًا لمثل وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات: ١٣].
- (٧)
القضاء على تمركز الحضارة البشرية على الحضارة الغربية، وعلى تمركز الحضارة الغربية حول ذاتها؛ فقد وقع ظلمٌ تاريخي على الشعوب غير الأوروبية عندما استُبعِدت من تاريخ العالم المحوري بعد أن أزاحها الغرب إلى هامش التاريخ أو بداياته الأولى، ونهاية أسطورة أن تاريخ الغرب هو تاريخ العالم، وأن عصور الغرب القديمة والوسطى والحديثة هي عصور العالم، وأن عصور الظلام والانحطاط الغربي هي عصور الظلام والانحطاط للعالم.
- (٨)
تَساوي جميعِ الحضارات الإنسانية في المساهمة في الحضارة البشرية، وبالتالي تتعدَّد الحضارات وتتفاعل فيما بينها، وتكون علاقات التفاعل بالتبادل وليست أحادية الطرف من الحضارة الغربية إلى الحضارات غير الأوروبية. فما أعطته الحضارات الصينية والهندية والفارسية والمصرية للعالم القديم قد لا يقلُّ عما أعطته الحضارة الغربية للعالم الحديث.
- (٩)
حصر «فائض القيمة التاريخي» الذي دخل ضمن مكونات الحضارة الغربية ورده إلى أصحابه تاريخيًّا. فقد حدث أكبر تراكم تاريخي وأكبر رصيد للإبداع البشري في الحضارة الغربية. إذ جمَعَت من الشرق القديم عبر اليونان والعبرانيين، كما جمعت من الشرق الإسلامي عبر إسبانيا وجنوب إيطاليا والبلقان وتركيا حضارات الشعوب غير الأوروبية. فكان تعيينُها مجردَ حمَلة العلم ونقَلته إلى الغرب حيث يتم الإبداع.
- (١٠) تحجيم الغرب ثقافيًّا — كما تم تحجيمه قبل ذلك سياسيًّا بعد ثورات الشعوب وحركات التحرُّر الوطني ضد الاستعمار — هو مشروع الشعوب غير الأوروبية ومن ضمنها الأمة العربية والإسلامية. وهي مهمة عدة أجيال قادمة بعد أن مهَّدَت الأجيال السابقة لنا فرصةَ اكتشاف تراثنا الذاتي في مرآة الغير وتأصيل ثقافته في تاريخنا الثقافي.٣