تقديم
الإنسان، عبر …
علامات على طريق المسرح
التعبيري
رخاء اقتصادي، تقدُّم، تطوُّر في الصناعة إلى حدٍّ يهدد باستبعاد الآلة للإنسان، غرور النَّزعة العلمية والوضعية، ازدحام المدينة الكبيرة وضياع الفرد الوحيد فيها، مجتمع المال والتجارة والنِّفاق والمنفعة والطُّمأنينة، البرجوازية الكاذبة، الظلم الاجتماعي الذي يسحق العمال والفقراء، ثم الحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المُرَّة المظلمة؛ ذلك هو الجو الذي دوَّت فيه صرخة التعبيريين واحتجاجهم العاطفي النبيل، لكن عمر الصرخات قصيرٌ، والصوت المحتج — مهما يلمس القلوب ويُسيل الدموع — لا يلبث أن يتبدد في ضباب الغموض أو صحراء المطلق أو متاهة الكلمات، ما لم يرتبط بفكر واضح وهدف محدد؛ لذلك سرعان ما ذبلت التعبيرية التي تمخَّضت عن أزمة طويلة في الروح الأوروبي والضمير الأوروبي، فقد ولدت حوالي سنة ١٩١٠م ولفَظَت أنفاسها الأخيرة حوالي سنة ١٩٢٥م. تركت وراءها أعمالًا عديدةً في الشعر والقصة والمسرح خيَّم على معظمها النسيان، وأسماء لا تكاد تُحصى كادت أن تختفيَ حتى من كتب تاريخ الأدب، ولم يبقَ منها إلا هذا البستان الموحش الجميل الذي أرجو أن تصحبني في هذه الجولة القصيرة فيه.
لكن ما هي التعبيرية؟
هي اصطلاح يدل على حركة فنية واسعة لا تقتصر على الأدب وحده، بل تشتمل الموسيقى والرسم والرقص والمسرح. ونخطئ لو تصوَّرنا أنه يقتصر على الأدب الألماني أو أن الألمان هم الذين أوجدوه من العدم؛ فالواقع أنه إجابةٌ ألمانيةٌ على سؤال أوروبي عام، والواقع أيضًا أنه يشير إلى جوٍّ عامٍّ مشترك، وأن الأدباء أنفسهم لم يضعوه، بل وضعه نقاد الفن والرسم الجديد لتمييزه عن الرسم التأثيري أو الانطباع الشائع في ذلك الحين، وتلقَّفه الشعراء والفنانون الساخطون، ووجدوا أنه ينطبق على نزعتهم الجديدة؛ نزعة التعبير عن الإنسانية الجديدة التي وضعوها في مركز فَهْمهم للفن. ويكفي أن نذكر أسماء كاندفسكي وكوكوشكا وباول كليه وفرانز مارك وجماعتَي «الجسر»، و«الفارس الأزرق» في الرسم. وشونبرج في الموسيقى، وتراكل وهايم وبن وشتادلر في الشعر، وكافكا ودوبلن وموزيل وفرانز فيرفل — في مراحل تطوُّرهم الأولى على الأقل — في القصة والرواية، وجورج كايزر وهازنكليفر وإرنست تولر وشتيرنهايم وزورجه ورينهارد جيرنج في المسرح، وغيرهم وغيرهم من الأسماء العديدة التي طواها النسيان.
كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاج كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد. وكانت من ناحية أخرى صرخة احتجاج على مدرستين كانت لهما الغَلبة في ذلك الحين: «الطبيعة» التي تحاول أن تنسخ الواقع وتزعم أنها تصور الحياة تصويرًا دقيقًا يلائم آخر التطورات العلمية والطبيعية وقوانين الوراثة والبيئة (وقد تجلَّت مثلًا في أعمال أرنو هولس ويوهانس شيلاف)، و«الرمزية أو التأثيرية» التي راحت تتعبد مثل الجمال الخالص والشكل الكامل وتميل بالضرورة للغموض والأسرار التي ترتفع بأصحابها إلى معارج التصوف، وتمجد القيم الفنية الأرستقراطية المتعالية التي تُحلِّق بها في أجواء بعيدة عن قسوة الواقع وظلم السياسة وتخلُّف المجتمع (وقد اتضحت مثلًا في أعمال رلكه وستيفان جورجه وهوفمنستال).
جاء الجيل الغاضب — وليست الكلمة حديثة كما قد يظن البعض — الذي سئم الطبيعيين وضيَّق أفقهم وسطحيتهم وكره حساسية الرمزيين وتعاليهم عن مشكلات الواقع والسياسة وعذاب الإنسان المُهان، وأعلنوها ثورةً لم تقف كما قلت عند حدود الأدب والفن، بل أصبحت ثورةً سياسية واجتماعية تنادي بقيم جديدة وتبشر بإنسانية جديدة. ثورة حالمة تبحث عن المطلق في معظم الأحيان، وترتبط في بعض الأحيان بنظام أو فكر محدد، ولكنها تظل ثورة عاطفية وشاعرية في كل الأحوال.
•••
بلغَت الأزمة ذروتها في أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها. فقد أطلقت هذه الحرب وحوشَ الدمار من أغلالها. عمَّ الخراب وسالت الدماء وغطت الجثث والأشلاء كل مكان. وانهارت قيم الحضارة التي جاهد الإنسان في حمايتها وتجديدها. وانهار كذلك الإنسان المتحضر وانهارت معه الدولة والنظام الاقتصادي. وبدأت الأسئلة الحاسمة التي تُثار عادةً بعد الأزمات الكبرى تشغل الأذهان؛ أسئلة عن معنى الإنسان ومصيره، عن غاية المجتمع وهدف الحياة. لم يعد أحد يسأل عن الإنسان المتحضر، بل عن الإنسان نفسه من حيث هو إنسان. لم يَعُد أحد يشغل نفسه بالأدب الرفيع، بل بالأدب بوصفه تعبيرًا عن الإنسان الذي عثر على نفسه بعد صدمة الحرب والانهيار. لنضع إذن الإنسان المعبر عن نفسه في مركز هذا الأدب التعبيري، وليكن هو الإنسان «الكوني» المرتبط بالكل والملتزم كذلك بالكل. لن تشغله الآن — كما شغلت سلَفه الرومانتيكي — جراح قلبه وآلام عزلته وغربته في هذا الكون، بل سيعذبه تحكُّم القوى المعادية، ولم يعد هذا الإنسان جزءًا من الطبيعة، يخضع لقوانين العليَّة التي تخضع لها – كما صوَّرته الطبيعة – بل كائنًا تستذله سلطة أخرى خلقها بإرادته – سلطة العلم الحديث والمدنية الحديثة والتكنيك الحديث. إن الجهاز الذي أوجده أصبح الآن يسيطر عليه ويجرده من إنسانيته. والاقتصاد الرأسمالي يجيعُه ويُفقره. والدولة العسكرية تزجُّ به في شقاء الحرب. وليس أمامه الآن إلا أن يجدد نفسه بالثورة، والثورة هي التعبير عن التمرُّد على القوى التي تُجرِّده من إنسانيته؛ أي التعبير عن الإنسان الجديد الذي يرفض كل سُلطة (حتى سلطة الآباء، فقد ظل الصراع بين الأبناء والآباء أحد الموضوعات الرئيسية في أدب التعبيريين). ليكن الإنسان إذن هو الكائن القادر على الحب؛ حب أخيه الإنسان، وحب الطبيعة، وحب الله في أرفع أو أدنى مخلوقاته. وليبحث الأديب المعبر عن هذا الإنسان عن فنٍّ جديدٍ (تمتد جذوره في الفن القوطي والباروك وترانيم المتصوفين على مر العصور)، فنٍّ حيٍّ، متحركٍ، متدفقٍ بالعاطفة والشعر والغناء. وليسِر هذا الفن أيضًا في طريقه فيخلق لنفسه أسلوبًا جديدًا يتميز بالتجريد والتكثيف والاقتصار على كل ما هو جوهريٌّ وأساسيٌّ، وليُثبت مقدرته أيضًا في مجال الدراما، وليبعث في المسرح حياةً جديدة.
•••
لنقف الآن وقفةً قصيرةً نتدبر فيها عَلاقة التعبيرية بالمسرح. وسيعفيني القارئ بغير شكٍّ من تقديم تاريخ لحركتها المسرحية في مراحلها المختلفة، فلهذا مكانه في كتب تاريخ الأدب وتاريخ المسرح. ولن ينتظر مني أيضًا أن أعرض عليه الأعمال البارزة فيها، فالمجال لا يتسع لشيءٍ من هذا، ولا أن أحدثه عن أعلامها؛ لأن معظمهم (مثل جورج كايزر وكارل شتيرنهايم) قد كتبوا أنضج أعمالهم وأدقها من ناحية البناء والتصميم بعد أن تجاوزوا المرحلة التعبيرية من حياتهم. أضف إلى هذا أن التعبيريين قد قدَّموا أجمل عطائهم في الشعر، وأقله في القصة وأخصبه في المسرح؛ ولذلك فلن أستطيع أن أعِد القارئ بأكثر من لمحةٍ خاطفةٍ عن موقفهم من الدراما قبل الحديث بشيءٍ قليلٍ من التفصيل عن بعض كتَّابهم ومسرحياتهم المبكرة.
لا بد — من باب الإنصاف — أن نقول إن التعبيرية كمذهب في الفن والحياة تنقصها العَلاقة الحميمة التي كانت تصل الطبيعية بالدراما، فهي لا تقدم لنا الإنسان الذي تسيطر عليه قوةٌ أكبر منه وتدفعه للعذاب والفشل والسقوط، بل تريد أن تُقدِّم الإنسان المطلق المتحرر من كل قوة وكل سلطان. إن كل بياناتها وبرامجها النظرية والفكرية تُحتِّم عليها أن تبين انتصار الإنسان، وهزيمة القوى المعادية له. وهي لا تتجه إلى الدراما كشكلٍ فنيٍّ تريد أن تصلحه أو تحقق فيه أسلوبًا بعينه، بل كوعاء يحتوي أشواقها، ومجالٍ تعبر فيه عن انتصار الإنسان الجديد على أعدائه؛ ولذلك يصبح البطل الدرامي هو الذي يمثل هذا الإنسان الجديد الذي يتحدى كلَّ قوة وكلَّ نظام ينافي الروح الإنسانية. هذه القوة هي النظام القائم الذي يحيا فيه، وهذا النظام يتمثل في الدولة وسُلطتها المطلقة التي تحطمه بجهازها البيروقراطي المخيف، وجهازها العسكري المتوحش. وهذه الدولة نفسها لا تملك السيادة على نفسها، وإنما تستعبدها إرادة السلطة الحديثة التي تتمثل في الصناعات الكبرى ورأس المال. هكذا تظهر الدولة في ثلاثية فرتس فون أنروه (١٨٨٥م–؟) المسرحية (التي كتب الجزأين الأول والثاني منها في مسرحيته «جيل» و«ميدان»، ولم يكتب الجزء الأخير حتى الآن) كقوةٍ تعمل على إشعال الحرب أو كصنمٍ حكوميٍّ هائل يعبده أعداء الإنسان الذين يضحون بأخوتهم في أتونها. كما تظهر في مسرحيتين شهيرتين هما غاز «١»، وغاز «٢» لجورج كايزر (١٨٧٨م–١٩٤٥م) كأداة للصناعة الضخمة التي حولت الإنسان إلى «إنسان آلي»، وعند إرنست تولر (١٨٩٣م–١٩٢٩م) كدولة استعمارية تخيب أمل المثالي الشاب الذي راح يبحث فيها عن مجتمعٍ إنسانيٍّ حقٍّ (كما في مسرحية التحول).
«ستكون روح الفن وقلبه. من كل البلاد سيتدفق الناس جميعًا — لا الصفوة القليلة وحدها — إلى هذا المكان؛ ليلتمسوا فيه الشفاء والنجاة.»
«بحار! بحار جديدة! شواطئ لم تطأها قدم! بشر! بشر مضيئون! حب لم يجربه إنسان!»
ولكنه ينفجر في النهاية في مونولوج يعبر عن اشمئزازه ويأسه من الجماهير ويختمه بصيحة تردد سخطه واحتجاجه على كل شيء وكل إنسان: «كل شيء شرير!»
وهذا البطل عند كاتب مثل هانزيوست (الذي ولد سنة ١٨٩٠م وكتب مجموعة من المسرحيات التعبيرية الناجحة قبل أن يصبح داعية النازيين الأول ويسقط السقطة التي لن يغتفرها الفن ولا التاريخ) هو الملك الشاب الذي يريد أن يحكم على أساس الإنسانية المطلقة والخير المطلق، فيُلغي البلاط ويحكم بالعدل الخالص ويضرب المثَل الذي يعتقد أنه سيغير العالم، ثم لا تلبث أحلامه أن تتبدد، فتعلن أمه أنه مجنون ويُلقَى القبض عليه. ويستولي عليه اليأس – وكل أبطال التعبيريين الشبَّان يائسون أو مخفقون أو خائبو الأمل – فيُلقي بنفسه من برج القصر في الوقت الذي ينادي فيه الشعب بإعدامه.
وهو عند نفس الكاتب هو «توماس بين» (في المسرحية التي ظهرت سنة ١٩٢٧م واعتبرها بعض النقاد — على الرغم من تزييفها الواضح للتاريخ — أهمَّ مسرحية سياسية في الأدب الألماني الحديث) و«بين» هو بطل حرب الاستقلال الأمريكية المشهور الذي يدعو للحرية ويُلهم القواد العسكريين مثل واشنجطون وجرين. ولكنه يذهب إلى فرنسا الثورة فتروعه مادية اليعاقبة ويعارض إعدام الملك، ويسجن كما هو معروف بتهمة الملكية، ويعود إلى وطنه بعد سبعة عشر عامًا فلا يعرفه أحد. ويختم حياته بإلقاء نفسه في البحر، بعد أن تأكَّد من تحقيق رسالته واستقلال أمته.
وفالتر هازنكليفر (١٨٩٠–١٩٤٠م) (الذي كتب أشهر مسرحية معبرة عن صراع الأجيال وهي مسرحية الابن) يجعل من أنتيجونا، في مسرحيته التي كتبها بهذا الاسم سنة ١٩١٧م، بطلةً مثاليةً تُندِّد بالحرب وتدعو إلى الثورة على السلطة العسكرية التي تتمثل في الطاغية كريون.
وجورج كايزر (١٨١٨م–١٩٤٥م)، وهو أنضج الكتَّاب التعبيريين وأخصبهم إنتاجًا، وتقع أنجح مسرحياته وأشهرها في مرحلة متأخرة تجاوز فيها التعبيرية ولغتها الغنائية وصرخاتها العاطفية إلى البناء العقلي المحكم.
يصور رجلًا يُسمِّيه شباتسيرر (والتسمية تدل على شخصيته، فمعناها هو المتنزه) يعيش في حالة استعدادٍ دائمٍ لدعوة عالمه غير المكترث بالإنسان إلى الإنسانية الحقَّة (وذلك في مسرحيته «جحيم، طريق، أرض» التي كتبها سنة ١٩١٩م).
وقد تدور مسرحيات أخرى حول وجود البطل نفسه الذي تتهدده قوًى معادية تريد أن تُلغيَ كِيانه وتدمر إنسانيته، فالكاتب رينهارد جيرنج (وهو بالطبع غير مارشال الطيران النازي المزعج) يصور في مسرحيته (المعركة البحرية – ١٩١٧م) مجموعةً من البحَّارة في إحدى السفن الحربية الألمانية يجدون أنفسهم في موقف يُحتِّم عليهم أن يحاربوا ويموتوا كالحيوانات الذبيحة. وتبدأ المعركة، ويسأل أحد البحَّارة المتمردين إن كان لهذا الموقف الحتمي ما يبرره، أو إن كان الإنسان هنا يختلف عن الخنزير الذي ينتظره الجزار، أو البهيم الذي ينتظر حدَّ السكين.
وطبيعي أن يُخفق هؤلاء الأبطال المثاليون، وطبيعي أيضًا أن تسير هذه الدراما التعبيرية على منطق التراجيديا ما بقي الهدف الذي يسعى إليه البطل هدفًا خياليًّا يَلُفه ضبابُ الأحلام. لقد كانت فكرة اليوتوبيا أو مجتمع المدينة الفاضلة الذي لا وجود له في أي مكان (على حسب مدلول الكلمة اليونانية نفسها) هي التي تشغل ذهن جورج كايزر عندما صوَّر بطله الذي يحث الناس على بناء المجتمع الإنساني الحق في مسرحيته السابقة الذكر «جحيم، طريق، أرض». ولا يرجع هذا الإخفاق إلى سيطرة القوى غير الإنسانية التي قد تكون شيئًا عارضًا يمكن تغييره أو إزالته، ولا إلى عجز البطل التعبيري الذي قد يكون أحيانًا واقعيَّ النظرة مُحدَّد الهدف، بقدر ما يرجع إلى طبيعة الإنسان نفسه وطبيعة المجتمع الذي يحيا فيه.
إن توماس بين في مسرحية «يوست» التي أشرت إليها يأتي إلى فرنسا كممثل لشعب مكافح إلى شعب آخر يكافح في سبيل حريته. ولكن ماذا يجد أمامه؟ يجد حكومةً طاغيةً، وسلطةً تحكم باسم الشعب وتقدم له الرءوس بدلًا من الخبز، والدم بدلًا من النبيذ. وينتظر أن تساعده حكومة الثورة في قضيته وقضية بلاده، فتُلقي به في ظلام السجن ورعب انتظار المِقْصلة، عقابًا له على احتجاجه على إعدام الملك، ويعود إلى وطنه منسيًّا لا يعرفه أحد، فيُلقي بنفسه في الماء.
وفي مسرحية «الإنسان والجماهير» (١٩٢١م) ﻟ «إرنست نولر» نرى امرأةً من الطبقة الوسطى تناضل في صفوف الشيوعيين، معتقدةً أنها بهذا تناضل في سبيل الإنسان. ولكنها سرعان ما تكتشف أن كل ما يشغل زعماء الحزب هو السيطرة على الجماهير، وأن القائد الملهم كالنبي الموحَى إليه، لا بد أن يصطدم يومًا بالجماهير التي تُسيِّرها الغريزة وتحكمها المادة، ولا بد أن تعجز هذه الجماهير عن الارتفاع إلى برجه العالي وإدراك رؤيته المجنحة، فتنصرف عنه وتقف في وجهه وقد تحاربه وتقضي عليه. إن هذه المسرحية التعبيرية الخالصة (التي كتبها صاحبها عندما كان سجينًا في إحدى القلاع القديمة في بافاريا عقابًا له على اشتراكه في مظاهرات الشيوعيين سنة ١٩١٩م في ميونيخ) تلجأ كسائر المسرحيات التعبيرية الأولى إلى التجريد والشخصيات العامة التي لا تحددها الأسماء. فهناك المرأة والزوج، والرجل المجهول، وهم يظهرون على المسرح في سلسلة من المشاهد الرمزية أو الواقعية. إن المرأة قد انضمت إلى الثورة كما قلت، وزوجها الذي يقف بعنادٍ في صفوف النظام القديم يحاول عبثًا أن يردَّها إلى حياتها الأولى، والحرب لا تزال دائرةً في الجزء الأول من المسرحية. وهي شيء من صنع رأس المال وتدبيره. كما ترى وجهة النظر الماركسية التي يعرضها المؤلف في مشهد حُلمٍ بديعٍ يصور السماسرة وهم يشترون سندات الحرب ويبيعونها، فإذا بلغتهم أنباء الهزيمة رقصوا رقصة الموت.
وتهتف المرأة بالجماهير أن يُضرِبوا عن العمل لكي تتوقف الحرب، ولكن الرجل المجهول يحرضهم على الاشتراك في الثورة الفعلية. فإذا عارضَته المرأة اتهمها بالبرجوازية:
وإذا جاء القسم الثاني من المسرحية وجدنا الحرب الأهلية مشتعلةً في الشوارع بين الجيش والثوار، وتقف المرأة مرةً أخرى في وجه الرجل المجهول. إنه يمثل الجماهير؛ ولذلك فهو يأمر باستمرارِ النضال، غير عابئٍ بالأرواح التي تُزهَق والأفراد الذين يموتون في سبيل القضية. وترتاب المرأة في الثورة التي ظنَّت أنها ستُنقذ الإنسان فإذا بها تُلغي وجوده بالموت أو تطمس شخصيته في زحام الجماهير:
وتفشل الثورة، وتنتصر الرجعية، ويُلقى القبض على المرأة، ويأتي زوجها لزيارتها ويعرض الحرية عليها فترفض عرضه. ويأتي الرجل المجهول لزيارتها فترفض كذلك أن تشتريَ حريتها لقاء ثمنٍ غالٍ هو قتل حارس السجن. ويدور بينهما حوارٌ أخيرٌ تتكشف فيه مثاليتها التي تتعارض مع مادية الجماهير. وحين يقول لها الرجل المجهول: «إن قضيتنا تأتي أولًا.» ترد عليه قائلة: «بل يأتي الإنسان.» وتُساق إلى الموت. ولكنها لا تموت عبثًا؛ فلا تكاد الرَّصاصة تنطلق إلى صدرها حتى ترى اثنتين من زميلاتها في السجن — وكانتا بصدد سرقة بعض متاعها الباقي — تركعان على ركبتيها وتتمتمان: «يا أختنا، لم نفعل هذه الأشياء؟»
ومصير هذه المرأة المثالية لا يختلف عن مصير الملك الشاب في مسرحية «يوست» السابقة الذكر. فهو كذلك مثاليٌّ متحمسٌ، ومثاليته تؤدي به إلى الإخفاق والموت، بل إن رغبته في تحقيق الخير المطلق والإنسانية الخالصة لا تجني عليه وحده بل تجني كذلك على غيره. إنه يساعد فتاةً ساقطةً ويرفعها إلى صفوف النبلاء، فإذا به يكتشف أنها مخلوقة لا قلب لها ولا ضمير، وأنه بفعلته هذه أهلك أميرةً نبيلةً كان من المفروض أن تصبح زوجته.
كل هؤلاء الأبطال إذَن مثاليون خائبون فاشلون. وهم لا يخيبون؛ لأن الإنسان يريد أن يصبح إلهًا — كما نرى مثلًا عند بعض أبطال شيلر وبخاصة فالنشتين في الثلاثية المسرحية الكبرى المعروفة بهذا الاسم — ولا يفشلون؛ لأن المثالي الذي يظن بنفسه العلم ولا يلبث أن يتبين جهله وحمقه — كما نرى في بعض أعمال إبسن وهاوبتمان — بل إنهم يفشلون ويخيبون؛ لأنهم يطمحون إلى المثل الأعلى ويبحثون عن الحق والعدل والإنسانية المطلقة في عالم فاسدٍ شرير؛ ولذلك فهم يسقطون وحول وجوههم هالةٌ من المجد والنور، ويسقطون سقطة البطل التراجيدي الذي تطهرت نفسه واستضاءت بصيرته (حتى ليصير المبصر حقًّا وهو الأعمى. تذكر أوديب بعد أن فقأ عينيه). إن البطل التعبيري الذي يُخفق من الخارج يبلغ قمة انتصاره الباطن. إنه يحتفظ في لحظة النهاية بإنسانيته ويحسن تعاطفه مع إخوته من أبناء الإنسان. فالمرأة الاشتراكية الأصيلة في مسرحية تولر السابقة تندمج في الثورة وتُسجن. وهي تستطيع إذا شاءت أن تنقذ نفسها بالعودة إلى زوجها الرجعي أو باغتيال حارس السجن المسكين. ولكنها ترفض الحرية التي تُشترى بالجريمة، وترضى بالموت الذي لا يتسبب في موت الآخرين، وبالسلام الأخير الذي لا يمكن أن يُولد بأيادي العنف الدموية.
هذه التجارب المؤلمة العنيفة هي التي تساعد على إنضاج البطل، ولكنها تساعده كذلك على تجاوز المرحلة التعبيرية نفسها. فالشاب في إحدى مسرحيات «يوست» يمر بمجموعة من المواقف التي تميز الدراما التعبيرية. إنه يعطف على حبيبة صديقه التي تنتظر ولدًا ويضمها إليه، ويبحث عن الإنسانية الحقة عند إحدى البغايا ثم يعلن عن وفاته ويحتفل بدفنه، ولكنه يقفز من فوق سور المقبرة وينطلق إلى الحياة الجديدة تاركًا وراءه ذلك الشاب الذي كانه. وصاحب الأرض المتعلق بالحياة وشهواتها يعاني في مسرحية «بول الأزرق» لإرنست بارلاخ (١٨٧٠م–١٩٣٨م) (الذي طغت شهرته كمثال على شهرته ككاتب مسرحي) تجربة روحية عميقة توقظه وتغيره من جذوره. ونوح التقيُّ الورِع (في مسرحية بارلاخ أيضًا عن طوفان الخطيئة) يواجه نقيضه فالان الذي يتحدى السماء ويضع نفسه في موضع الموجود المطلق، وإنسان المرآة في ثلاثية فرانز فيرفل (١٨٩٠م–١٩٤٥م) المعروفة بهذا الاسم تصور البطل تامال الذي ينظر في المرآة فلا يملك نفسه من الحقد والغيظ من إطلاق الرَّصاص عليها لتخرج من الزجاج المهشم ذاته الشريرة التي تدفعه من خطيئةٍ إلى خطيئةٍ، ومن ذنبٍ إلى ذنبٍ حتى ينتهيَ به الأمر إلى أن يشرب السم ويُلغيَ نفسه الشريرة بنفسه؛ أي ينتصر على إنسان المرآة ويتجاوز بذلك الإنسان التعبيري الراقد في أعماقه.
في هذه الأمثلة كلها نجد الدراما التعبيرية تعود إلى دراما الخلاص والنجاة المعروفة في عصر الباروك أو بالأحرى تواصلها وتستمر فيها.
ولذلك فليس غريبًا أن نجد التعبيريين يحتفون بمسرحية إبسن الرمزية والشاعرية الشهيرة «بيرجنت»، فيترجمونها ويعلقون عليها ويقدمونها بنجاحٍ هائلٍ على المسرح. وليس غريبًا كذلك أن نراهم يتأثرون بمسرحيات سترندبرج بعد أن تجاوز المرحلة الطبيعية، ويحتفون بوجه خاص بمسرحيته (أو بالأحرى ملحمته الصوفية) «إلى دمشق»، أو مسرحيته «حلم» اللتين تُعبِّران عن بحثه المعذب عن الله وسعيه الدائب إلى الحقيقة.
والنتيجة الطبيعية لهذا كله أن تكون معظم شخصيات التعبيريين روحيةً ونفسيةً لا شخصيات واقعية من لحمٍ ودم. بل لعلنا أن نكون مبالغين بعض الشيء في إطلاق كلمة «الشخصيات» على هذه الكائنات التي تفتقر إلى كل ما يميز الشخصية من تفرُّد وخصوصية (بلغت ذروتها في مسرح شكسبير ومسرح الطبيعيين). والواقع أن التعبيريين لم يجدوا في هذا عيبًا ولا نقصًا. بل وجدوا أن التشخص أو التفرد شيءٌ عرَضيٌّ ينبغي أن يتخلصوا منه، وتعمدوا إبراز الجوهر والاقتصار على الجوانب الأساسية العامة، بحيث يُبقون الجذر والساق، ويستبعدون الفروع والأغصان والأوراق؛ لذلك فليس عجيبًا أن يُسموا أغلب أبطالهم بأسماء عامةٍ كالرجل والمرأة والابن والأب والشاعر والأم وهو وهي … إلخ وليس هذا من الرمزية في شيء، بل هو نوعٌ من الإيجاز والتكثيف والتجريد الذي يسمح لهم بالتعبير عن الإنسان الحق، أي عن الكاتب أو الشاعر نفسه في نهاية الأمر؛ لذلك فإن هذا التعبير يلتصق باللغة التي تنطق بها هذه النماذج العامة، وهي لغةٌ ينبغي أن «تعبر» عن ذواتهم المضطربة الثائرة، وتكون مرآةً لحاجتهم المُلحة إلى «التعبير». ومن هنا كانت بالضرورة — وبوجه خاص في المراحل الأولى من تطور الحركة التعبيرية، أي قبل أن تصل عند كُتابها المتأخرين إلى الشكل الناضج والبناء الدقيق المحكم – لغةً شاعريةً مجنحةً، تميل إلى النبرة الخطابية الجهيرة، أو إلى الأنغام الغنائية الموقعة. إنها ليست اللغة التي تصور طبيعة الشخصية، ولا هي اللغة التي تلتزم بقواعد يمليها الواقع أو الفن، وإنما هي لغة تحمل قيمتها في نفسها، وتحاول أن تنقُل أشواق أصحابها وصراخهم وغضبهم وحنينهم إلى الأخوة البشرية والمجتمع الإنساني الحق نقلًا حيًّا مباشرًا؛ ولذلك نجدها تجمع بين الشعر والنثر، وتستخدم الديالوج والمونولوج، وتتأرجح بين الحُلم والواقع، وتقترب في كثيرٍ من الأحيان من شكل الأوبرا وروحها، وتلجأ إلى طريقة المشاهد والمواقف واللوحات المتتابعة التي تساير التجربة ولا تلتزم ببناء الدراما التقليدي، وتتأثر بأسلوب الفيلم السينمائي في تركيب اللوحات أو الرجوع إلى الوراء، بل قد لا تجد مانعًا من التعبير بالمشاهد الصامتة الخالية من كل شيء اللهم إلا الرقص أو الإيماء، وذلك إمعانًا في التركيز والتكثيف والتجريد.
ويكفي أن ننظر في بعض مشاهد من مسرحية «الناس» (١٩١٩م) لفالتر هازنكليفر لنتأكد من هذا القول، فالمشهد الأول من الفصل الأول يدور في إحدى المقابر. الوقت عند غروب الشمس. يسقط أحد الصلبان.
(إسكندر يخرج من القبر.)
(القاتل يأتي ومعه شوال.)
(إسكندر يفزع.)
(يناوله الشوال.)
(إسكندر يمد يده.)
(إسكندر يُلقي التراب فوقه.)
هبةُ ريحٍ، الكنيسة تتوهج بالنور … إلخ.
وهناك مشاهد أخرى في نفس المسرحية تخلو تمامًا من أي كلام. انظر مثلًا إلى المشهد الثاني من الفصل الخامس وهو يدور في مستشفى المجانين: (بشرٌ على صورة الحيوانات، في الوسط أحد الممرضين).
(المجانين يزحفون على بطونهم.)
(الممرض يجلس على الأرض.)
(إسكندر يدخل.)
(الممرض يضع التاج على رأسه.)
(إسكندر يهوي على الأرض، ويزحف على أربع.)
ثم انظر إلى المشهد الأخير من المسرحية الذي يدور كالمشهد الأول في المقبرة، وفي وقت ينتشر فيه الشفق على صفحة السماء:
(إسكندر يأتي ومعه الشوال.)
(القاتل يخرج من القبر.)
(إسكندر يناوله الشوال.)
(إسكندر يتجه للقبر وينزل فيه. تطلع الشمس.)
وليست هذه المسرحية بالطبع عنوانًا على كل المسرحيات التعبيرية، ولكنها تمثل طابَع التجريد والتركيز الذي غلب على بعضها، إلى جانب النبرة العاطفية والشاعرية والتدفق الخطابي والغنائي الذي غلب على بعضها الآخر. والأمر كله يتوقف على درجة التعبير ومستواه، فقد يكون نثرًا عاديًّا يصل أحيانًا إلى حدِّ السُّوقية والابتذال عندما يصور الحياة الواقعية العادية، وقد يكون شعرًا أو غناءً أقرب إلى ترانيم المزامير في العهد القديم عندما يعبر عن صراخ البطل وأزماته وثوراته المتفجرة. والمهم أن التعبيريين – وقد جاءوا في وقت أحسَّ فيه الجميع بأزمة البحث عن لغة جديدة وإمكانيات لغوية جديدة – قد نظروا إلى اللغة نظرتهم إلى المادة التي من حقهم أن يتصرفوا فيها كما يشاءون، ويجعلون منها أداة للتعبير عن الروح الإنسانية التي يبشرون بها وينتظرون الخلاص على يديها؛ ولذلك أصبحت هذه اللغة الجديدة من صنع الإنسان نفسه، وأصبح من واجب التعبيريين الموهوبين أن يستغلوها في الدراما للتعبير عن حركتهم وفكرهم الجديد، كما استغلوها من قبل في الشعر فأتَوا بكل غريبٍ وعجيب. ولذلك أيضًا لم تعُدِ اللغة هي تلك الهدية أو النعمة التي يتلقَّاها الإنسان من الله، ولا عادت «لغة الأم» التي تقيد الأبناء بتراثها الثقيل.
عاشت الحركة التعبيرية بحساب التاريخ ما يقرب من خمسة عشر عامًا (١٩١٠م–١٩٢٥م) ولكنها لفَظَت أنفاسها بأسرع مما تسمح به قوانين الميلاد والموت! فقد خنقتها الأزمات الروحية والمادية التي استشرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وشلَّها الرعب الذي استولى على أصحابها وهم يرون سُحب التعصب القومي والعنصري تتجمع في الأفق، وذئاب النازية الهمجية تهدد بالزحف. وشعروا أن صرخاتهم النبيلة تختنق وسط صياح البرجوازية البليدة المتطلعة للمال والمنفعة والغزو والسيطرة، وأن مُثلهم وقيمَهم التي نادَوا فيها بالمجتمع الإنساني والأخوة البشرية والمحبة والحرية ونقاء الروح تموت كلها وتنهار تحت أقدام الحقد والكراهية والمادية المظلمة، وتشرد معظمهم في البلاد أو تعذَّب في السجون أو سقط في الحرب أو مات في المعتقلات أو انتحر يأسًا من الحياة. أما من بقي منهم فقد لاذ بالصمت أو اتجه إلى النقد الاجتماعي الساخر أو انغمس في أدب الترفيه والتسلية أو آثر أن يعيش منسيًّا من القراء والنقاد وكُتاب تواريخ الأدب! ويكفي أن نتذكر أسماء رينهارد زورجه وأوجست شترام اللذين سقطا في ميدان الحرب العالمية الأولى، ورينهارد جيرنج وإرنست تولر اللذين ماتا منتحرَين، وهازنكليفر الذي فضَّل الانتحار في أحد المعتقلات الفرنسية على الوقوع في أيدي النازيين الزاحفين، وجورج تراكل — أعظم شعراء التعبيرية — الذي دفعته معارك الحرب الأولى إلى حافة الجنون فمات في الغالب منتحرًا بتأثير الأقراص والحبوب المنومة، و«جو تفريد بن» الذي لزم الصمت طَوال العهد الهتلري، وغيرهم وغيرهم ممن أحرق النازيون كتبهم في حريق برلين المشئوم.
استطاعت التعبيرية أن تكشف عن موقف الإنسان الحضاري والفني في مرحلةٍ معينة، ولكنها عجزت عن تقديم حلٍّ إيجابيٍّ للمشكلات التي واجهته. صحيح أن الفن لا يقدم الحلول ولم يكن هذا ولن يكون من وظيفته ولا من طبيعته. ولكنه يستطيع مع ذلك أن يُلقيَ الضوء على المشكلات أو يلفت الأنظار إلى الطريق الصحيح الفعَّال لمواجهتها أو السيطرة عليها سواء بالفعل أو بالوعي والوجدان، وقد أخفقَت التعبيرية في تحقيق هذا في المجال الاجتماعي، وبقيَت مُثلها مطلقة، وأهدافها أشبه بالأحلام، وفكرتها عن مجتمع الأخوة البشرية أقرب إلى اليوتوبيا. ولذلك فليس غريبًا أن ينهار معظم أبطالها أو يقضوا على أنفسهم بالصمت أو الموت. إن الشاب يدفن نفسه بنفسه في مسرحية يوست السابقة الذكر، والملك المتحمس في مسرحيته الأخرى يلجأ للانتحار. والشاب المثالي في مسرحية «التحول» لإرنست تولر يذوق مرارة الفشل وخَيبة الأمل في الحرب التي ظنَّ أنها ستُخلِّص المجتمع من عفونة النظام الاجتماعي القديم. لقد أسرع بالتطوُّع فيها، فلم يجد إلا صور الموت والتشوه والخراب في كلِّ مكان. ولذلك فهو ينتهي بأن يصبح ثائرًا، يدعو الجماهير إلى الثورة على الحرب والسلطات التي تحرض عليها وتكسِب من ورائها، والأغنياء الذين دفنوا قلوبهم حيةً تحت ركام الأطماع والخزعبلات.
«اذهبوا إلى الجنود وقولوا لهم أن يحولوا سيوفهم إلى محاريث. ازحفوا الآن! ازحفوا في ضوء النهار!»
ولكن النهار الجديد لم يطلع، والنظام القديم لم يُشفَ من أمراضه بل زادت عليه العلل والأزمات! وهذه الخيبة نفسها يعانيها الجندي العائد إلى وطنه بعد الحرب في مسرحية «هينكمان» (التي كتبها تولر كذلك سنة ١٩٢٣م)، والمرأة المثالية التي تصدم آمالها في الثورة فتسلم نفسها للموت في مسرحية «الإنسان والجماهير»، والملاحون في مسرحية «المعركة البحرية» التي أشرت إليها يحاربون حربًا ميئوسًا منها ويموتون ميتة الخنازير المذبوحة.
ولو صرفنا النظر عن المشكلات الاجتماعية التي ثارت عليها التعبيرية دون أن تحدد الهدف من ثورتها أو تواجهها مواجهةً بناءةً، لوجدنا أن موقفها من المشكلات الميتافيزيقية قد ظل كذلك موقفًا يحوطه الغموض والتجريد، وأن الحلول التي قدَّمتها لها بعيدةٌ مستحيلةٌ على التحقيق. فكاتبٌ مثل كايزر لا يكاد يُقنعنا إلا حين يصور الإنسان في لحظات سقوطه وإخفاقه. وعالم الأحلام الذي يلوذ به في بعض الأحيان لا يخرج عن أن يكون مقدمةً تمهد للفشل؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يواصل الحياة في الوهم إلى ما لا نهاية. لقد ظل الغرض الذي تقوم عليه مسرحيته التي سبقت الإشارة إليها وهي «جحيم، طريق، أرض» من أن المجتمع يمكن أن يدفع إلى الحياة الإنسانية الحقة، فرضًا خياليًّا صرفًا، وكذلك الهدف الذي وضعه لها لا يخلو من الإسراف في الخيال. فهو يعتقد أن الإنسان يستطيع أن يحقق الخلاص على هذه الأرض إذا عاش حياته بعمقٍ وغاص فيها وخلق لنفسه نوعًا من الفردوس الأرضي. هو هدفٌ مسرفٌ في الخيال كما قلت (وإن كنت لا أظن أنه مستحيلٌ على الذين مسَّتهم لمسة التصوف، سواء زهدوا في الحياة وانطوَوا في قلعتهم الذاتية ليتعمَّقوها بالفكر والتأمل، أو أقبلوا على نعمها ولذَّاتها ومحنها وآلامها ليتعمَّقوها بالتجربة والمعاناة، وكلاهما في رأيي متصوفٌ على طريقته).
هذا الإخفاق والاضطراب في الجوانب الاجتماعية والفكرية يقابله ضعفٌ آخَر في الجانبِ الفنيِّ الخالص. فقد أسهمت التعبيرية — أكثر بكثير مما فعلت الرومانتيكية — في العمل على تفكُّك الدراما. صحيح أنها نفخت فيها أنفاسها العاطفية الدافئة، وأثرتها برؤاها وأنغامها الشاعرية، وأحدثت في أساليب العرض والإخراج ثورة لا تزال باقيةَ الأثر، وساعدت بما أدخلته على البناء التقليدي من تفتيت — تجلى في استخدام اللوحات المتتابعة وطريقة التركيب أو المونتاج المعروفة في الأفلام السينمائية والمزج بين الواقع والحُلم والعناية بالمونولوج وتحويل الدراما إلى عرضٍ أو تمثيل — على خلق إمكانيات كان لها صداها حتى اليوم في تجارب المسرح الملحمي والشاعري واللامعقول. ولكن هذا كله لا يمنع من القول بأن الدراما التعبيرية الحقيقية لم تستمر طويلًا ولم يكن من الممكن أن يُكتب لها الاستمرار. لقد كانت — كالثورة التعبيرية نفسها — أشبه بصرخة احتجاجٍ لم تترك وراءها أصداءً باقيةً أو أعمالًا خالدةً. ومعظم الأعمال المسرحية التي صمدت حقًّا للزمن وضعها الكتاب التعبيريون بعد أن تجاوزوا المرحلة التعبيرية. ويكفي أن نذكر «كارل شتيرنهيم» ومسرحياته الاجتماعية الساخرة بالبرجوزاي المسكين (وأشهرها المواطن شيبيل) — أو جورج كايزر الذي سيطر على خشبة المسرح فترةً طويلةً حتى لقد عُرضَت له بين سنتَي ١٩١٣م و١٩٢٢م إحدى وعشرون مسرحيةً، ولا زالت بعض هذه المسرحيات — التي ألَّف منها ثلاثين فيما لا يزيد عن اثنتَي عشرة سنة — تُعرَض حتى اليوم بنجاح، والسر في ذلك أنه كان قد تخطَّى التعبيرية، سواء من ناحية اللغة أو الموضوع أو الشكل الناضج المُحكَم. وأما بقية التعبيريين الأُوَل فقد تفرَّقت بهم السبل. اتجه «فرتز فون أنروه» و«فرانز فرفل» إلى الدراما التاريخية، واتجه هازنكليفر (الذي ألَّف كما قلت مسرحية الابن في شبابه ١٩١٦م، وتُعَدُّ من أهم المسرحيات التعبيرية وأدلها على الحركة كلها) إلى التسلية والترفيه فحقق نجاحًا كبيرًا بملهاته الضاحكة المتشائمة «الزيجات تتم في السماء» (١٩٢٨م). وانضم «يوست» الذي كان من ألمع المواهب بين التعبيريين إلى صفوف النازيين وأخذ يكتب مسرحياتٍ سياسيةً وتاريخيةً تنضح بالتعصب والحقد العنصري وتخلو من أية قيمة. وراح «بارلاخ» يكتب مسرحيات تُعبِّر عن مشكلاته الذاتية وصراعه من أجل الوصول إلى الطُّمأنينة واليقين في مسائل الدين. ومع ذلك فقد ظلَّت هذه المسرحيات كلها تفيض بجراح التعبيرية وخيبة آمالها وانهيار مُثُلها ويأسها من تحقيق عالمٍ أفضل.
•••
واجَه التعبيريون أزمة البرجوازية المنهارة قبل الحرب العالمية الأولى وفي أعقابها، وفشل الثورة الاشتراكية بعد هزيمة الألمان، وموجة الشك في العلوم الوضعية وفي مجتمع الصناعة والتقدم المزعوم. وكان إنتاجهم تعبيرًا حيًّا ومباشرًا عن هذه الأزمة. ولكنه لم يُسهم مساهمةً إيجابيةً في إيجاد حلٍّ لها أو البحث عن مخرجٍ منها، بل ربما زادها حدةً وعمقًا، واشتركت الفلسفة بدورها في التعبير عن هذه الأزمة الخانقة التي كانت قد مهَّدت لها طَوال قرنٍ من الزمان بإبعاد الإنسان عن المتعالي أو الحقيقة المتعالية (الترانسندنس) وتأكيد استحالة معرفته به (كانْت) أو بخلعه نهائيًّا عن عرشه (نيتشه) أو التبشير بحلول عصرٍ علميٍّ جديدٍ (الوضعيون والبلديون على اختلافهم)، وتوجيه انتباهه إلى الوجود المتعين المتحقق على هذه الأرض. وأسفرت الحرب عن شكٍّ هائلٍ في كل القيم. وحتمت إعادة النظر في الوجود بعامة ووجود الإنسان بوجهٍ خاصٍّ. وسادت الحَيرة وبدأ الفلاسفة والناس العاديون أيضًا يشعرون أنهم يتخبطون في الظلام. ويكفي أن نذكر ما قاله الفيلسوف «فيلهلم دلتاي» عن هذه الحال في أوائل القرن: «إن هذا العصر يقف من اللغز الأكبر عن أصل الأشياء ومن قيمة وجودنا والمعنى الأخير لأعمالنا وسلوكنا موقفًا ليس بأذكى من موقف الإغريقي القديم الذي عاش في المستعمرات الأيونية أو الإيطالية، أو العربي الذي عاش على أيام ابن رشد. وفي الوقت الذي نشاهد فيه التطور السريع للعلوم نجد أنفسنا نواجه هذه المسائل ونحن أشدُّ حيرةً مما كنا في أي عصرٍ مضى.» ويزيد الفيلسوف الأخلاقي «ماكس شيلر» هذا الكلام وضوحًا حين يقول: «إن الإنسان لأول مرة في تاريخه لم يعُدْ يعرف نفسه فحسب، بل إنه يعرف هذا بوضوح» ألقى الإنسان إذَن على نفسه كما يُلقى على حجر. بدت أوهام الإنسان المتأله أو الإنسان الأعلى نوعًا من التهور أو السخف الذي يشبه أحلام الأطفال.
واتسعت هاوية العدم أو الجحيم في نفس الإنسان، وساعد «فرويد» والوجوديون على حفرها وتعميقها وصبغ جدرانها بالتشاؤم والسواد. ووضع «هيدجر» الإنسان أمام العدو وجهًا لوجهٍ، وجعله يعيش في القلق والهم، وعرفه بأنه موجود للموت. واكتشف سارتر أن مجتمع البشر جحيم، وكل واحد منهم يحمل جحيمه في ذاته أو يمثل الجحيم لغيره. وبحث البعض عن أملٍ أو عزاءٍ فوجدوه في العودة إلى الحقيقة المتعالية والوجود المتعالي (ياسبرز)، ولكن هذا الوجود المتعالي ظلَّ شيئًا خفيًّا أو متخفيًّا يعجز الإنسان ويرده دائمًا إلى الخيبة والفشل، مهما حاول أن يلمسه بالفكر أو الرؤية أو التجربة الدينية أو المعاناة الفنية. وظلت هُوَّة العدم تفتح فاها للإنسان، وظل الإنسان يتألم أو يرقص على حافتها. وانعكست التجربة نفسها على الأدب والفن واتضحت في ظواهر الشذوذ والنشاز والإغراب في الأسلوب والشكل والاهتمام بمظاهر القبح والفساد والتشوه، بَدءًا من بودلير ورامبو ومالارميه إلى الشعر الحديث والمعاصر، والموسيقى والرسم والتصوير والمعمار. وبدت المدينة الكبيرة والمدنية الحديثة التي احتفل بها الطبيعيون والواقعيون جحيمًا من الضياع والوحشة والزحام والجنون. وأحسَّ الفنان أنه ضائع فيها ضياع هاملت الوحيد اليتيم. وظلت تجربة التعبيريين مائلةً وراء هذه التجارب المتأزمة كلها. وازداد الشعور بأن العالم قد انحرف عن محوره، وأن الفنان — مثل هاملت المسكين أيضًا — أعجز من أن يرده إلى طبيعته. وغلب الإحساس بالوحشة والفراغ والألم واليأس والانكسار، وظهر أوضح ما يكون في الشعر، كما ظهر في أبطال الدراما وعجزهم وإخفاقهم في الوصول إلى الخلاص لأنفسهم أو مجتمعهم أو عالمهم. وتعددت صور التمزق والتحلل والفساد والقبح والانهيار، وأصبح على الفنان الذي خرج من أحضان التعبيرية أو تأثَّر بها أو حاول أن يقاومها أن يُخلِّص نفسه من كل الأوهام، أي أن ييئس من كل أمل في الإنسان، ويصوره تصويرًا موضوعيًّا خالصًا — بعيدًا بالطبع عن موضوعية الطبيعيين ونزعتهم العلمية — على هيئة حيوانٍ خاضعٍ لغرائزه، أو أداةٍ يلهو بها أصحاب السلطة من الساسة وتجار الحروب ورجال الأعمال. وتخلى التعبيري الجديد — مثل برخت في أعماله المبكرة «بعل» و«طبول في الليل» و«في أحراش المدن» و(ماهوجوني) و«أوبرا القروش الثلاثة» — تخلى عن آمال زميله القديم في إصلاح الإنسان أو تحقيق المجتمع البشري الذي ينعم بالأخوة والمحبة والسعادة. وصدق على هؤلاء التعبيريين الجدد الذين راحوا يحاربون التعبيرية في أنفسهم أو فنهم هذا البيت الذي قاله الشاعر «جوتفريد بن» الذي كان تعبيريًّا مثلهم قبل أن يبدد الوهم ويؤمن بالموضوعية القاسية:
ولست في هذا كله أدين التعبيريين أو أقلل من شأنهم، وإنما أحاول أن أضعهم في سياق التطور الطويل الذي ساهموا في صنعه أو تركوا عليه آثار جراحهم وعذابهم. ولا بد لإنصافهم أن يقال إنهم كانوا أحد مظاهر الأزمة التي أثَّرت على الروح الأوروبية ولا تزال تؤثر عليها منذ أكثر من قرن من الزمان. ولا بد أن يقال أيضًا إنهم عبَّروا عن هذه الأزمة بأفضل وأنبل ما يكون التعبير. صحيح أنهم لم يتركوا أعمالًا خالدةً في الفن. ولكن أليس شرَفُ التعبير نفسه جديرًا بالخلود؟ لقد كانت التعبيرية في نشأتها ثورةً حقيقيةً. وكانت ككل الثورات على وعي تامٍّ بالقُوى المعادية التي تواجهها — أي تواجه الإنسان الذي تمثله — أكثر من وعيها بالأهداف المحددة التي تريد بلوغها. وإذا كانت قد أخفقت في تحقيق هذه الأهداف البعيدة فلا شك أنها قد نجحت في تأكيد هذه الغاية العظيمة بل الوحيدة لكل نشاط فني أو إنساني خلاق: ألا وهي كرامة الإنسان، الإنسان المطلق العاري، بعيدًا عن كل الحدود والقيود التاريخية والاجتماعية والقومية والشخصية.
وإذا كانت قد تحطمت وانهارت وهي تخطو خطواتها الأولى، فإن هذا يدين أعداءها ولا يدينها. وهو كذلك يؤكد أن الأزمة الأوروبية بل الأزمة الحضارية الحديثة كانت ولا تزال أعمق وأعقد من أن يحلها شعر الشعراء أو نثر الكتاب، وإن البرجوازي البليد العنيد الذي ينعس ويتمطى في كلٍّ منا لا يزال يدافع بشراسة وضراوة عن آخر قلاعه وحصونه!
•••
صرخت التعبيرية وهتفت من أجل أن يولد الإنسان. لكن الإنسان … الإنسان عبر ولم يولد بعد. فلنحاول نحن — كلٌّ بجهده — أن يُولد في أنفسنا أو في العالم. ولنذكر بالشكر والعرفان تضحية أولئك المثاليين المساكين. وكل المثاليين على هذه الأرض البائسة السوداء مساكين.
القاهرة