حديث بالأرقام
عندما حومت الطائرة التي تقل الشياطين الستة فوق مطار القاهرة، كانت الشمس قد غربت منذ قليل، ولمعت ملايين الأضواء في الظلام الخفيف … وبدت المدينة العريقة كأنها لا نهاية لها.
كانت «إلهام» تجلس بجوار النافذة، فمدت عنقها الجميل لتلقي نظرة على المدينة … ومال «أحمد» معها، واجتمع الوجهان بجوار الزجاج السميك … وتلامس الخدان … وهمس «أحمد» في أُذن «إلهام»: إن القاهرة مدينة جميلة … وستكون أجمل وأنت بها.
لم ترد «إلهام» وتلاعبت على شفتَيها ابتسامة رقيقة، وضغطت بخدها على خد «أحمد» فمضى يقول: إنني أفكر أن تكون هذه المغامرة هي نهاية المطاف بالنسبة لنا … ونستقر في القاهرة.
مرة أخرى لم ترد «إلهام» … فقد كانت تعرف أن دماء المغامرة التي تجري في عروق فتاها القوي … لن تبقيه لحظة واحدة ساكنًا في مكانه … لقد أصبحت المغامرات قدره الذي لا فرار منه … خاصةً وأنها ليست مغامرات في سبيل الماديات، ولكن في سبيل المثل العليا والوطن العربي الكبير.
كانت المضيفة قد أعلنت أن الطائرة ستهبط بعد قليل … فتراجع الوجهان الملتصقان … وثبت كل منهما في مقعده بعد أن ربط حزام الأمان تنفيذًا للتعليمات، وبدأت الطائرة تخفض من سرعتها وتحوم فوق المطار … ثم أخذت تهبط تدريجيًّا، وجاءت اللحظة الهامة … عندما تلامس عجلاتها ممر الطيران الناعم … إنها اللحظة التي يعرف ركاب الطائرات جميعًا أنها أخطر لحظات الطيران … تمامًا كلحظة الإقلاع، والطيار المدرَّب يستطيع أن يهبط بلمسة واحدة على الأرض بخفة، وهو ما يسمونه الهبوط الناعم … وهذا ما حققه قائد الطائرة البوينج ٧٠٧ فقد لمست الطائرة الأرض لمسة واحدة … ثم مضت تجري فوق مدرج المطار وهي تلهث.
كان ضمن تعليمات رقم «صفر» أنهم سيجدون سيارة كبيرة من طراز مرسيدس ٣٠٠ لونها أخضر غامق وبأرقام ٤٠٦١١ القاهرة. وفعلًا كعادة رقم «صفر» في تنفيذ كل شيء بدقة بالغة … وجدوا السيارة خارج المطار … وسرعان ما كان «أحمد» يجلس إلى عجلة القيادة قائلًا: مرحبًا بكم في القاهرة.
وشقت السيارة الضخمة طريقها في شوارع مصر الجديدة الهادئة نسبيًّا، ثم دخلت في زحام المدينة الكبيرة إلى ميدان رمسيس … ثم شارع رمسيس حتى ميدان التحرير، ثم عبرت كوبري التحرير … وكوبري الجلاء … ووصلت إلى ميدان الجلاء، وأطلق «أحمد» لها العِنان فقد أصبحوا في محافظة الجيزة، حيث يمتد شارع الهرم من بداية نفق الجيزة حتى الأهرام.
كان «أحمد» سعيدًا برغم حرارة الجو الخانقة … وكان يصف لزملائه كل ما يمرون به … وبعد «أوبرج الأهرام» وقف «أحمد» عند جندي المرور وسأله عن رقم ٤١٢، ثم مضى مسرعًا مرة أخرى، وبعد سؤال آخر وصلوا إلى فيلا صغيرة ودخلت السيارة من باب الحديقة، ثم توقفت وقال «أحمد»: بعد ساعة من الآن سنجتمع لتقرير خطة العمل.
اغتسل الأصدقاء. وبعد ساعة كانوا يعقدون أول اجتماع عمل في مصر … وكانت الفيلا مجهزة كمقر للشياطين بالخرائط وغيرها من الأدوات التي يحتاج إليها الشياطين في مغامراتهم.
وأمام خريطة لمصر وقف «أحمد» وحوله الأصدقاء … وقال «أحمد»: في ذهني خطة بسيطة ولكنها ضرورية … وهي القيام بالرحلة التي قام بها قطار الذهب من أسوان إلى القاهرة. مع فارق بسيط … أننا سنذهب بسيارة جيب.
قالت «زبيدة»: أعتقد أن رجال الشرطة في مصر قد قاموا بنفس الرحلة … ولا بد أن كل المعلومات التي نريد الحصول عليها قد حصلوا هم عليها … ورقم «صفر» سيرسل لنا هذه المعلومات.
رد «أحمد»: سيزودنا رقم «صفر» بكل المعلومات التي تصله من رجال الشرطة ولكننا نحن سنقوم برحلتنا بعد عدة حسابات بسيطة … وسنركز جهودنا في منطقة لا يزيد طولها على ٤٠٠ كيلومتر فقط!
خالد: كيف؟ إن المسافة التي قطعها القطار ١٠٠٠ كيلومتر!
أحمد: سأوضح لكم فكرتي … تصوروا أن القطار قد غادر أسوان في السادسة مساءً … هل تبدأ العصابة عملها في السادسة … وما زال ضوء النهار يغمر الكون … إن الغروب كما تعرفون في الساعة الثامنة تقريبًا …
بو عمير: طبعًا ليس قبل الغروب!
أحمد: ثم إن الوقت من الثامنة حتى العاشرة تقريبًا يكون الناس ما زالوا ساهرين خاصة في الصيف.
إلهام: معقول.
أحمد: إذن فإن العصابة ستبدأ عملها بعد ذلك … ولو كنت مكانهم لانتظرت على الأقل ساعة أخرى … أي الحادية عشرة.
بو عمير: معقول!
أحمد: إذن يكون القطار قد سار خمس ساعات أي ٤٥٠ كيلومترًا تقريبًا … ثم تعالوا نتصور … هل تقوم العصابة بضربتها بعد شروق الشمس؟
بو عمير: لا، طبعًا …
أحمد: إن الفجر في مصر يطلع الساعة الرابعة تقريبًا … والفلاحون يخرجون لصلاة الفجر في ذلك الوقت ثم يذهبون إلى الحقول … ولا يمكن أن تعرِّض العصابة نفسها للافتضاح في ذلك الوقت.
إلهام: عظيم …
أحمد: إذن فإن العصابة قد ضربت ضربتها بين الساعة الحادية عشرة ليلًا والساعة الرابعة صباحًا … أي في مسافة قدرها ٤٥٠ كيلومترًا. وهي المسافة التي سنركز بحثنا فيها.
قال «خالد»: إنها حسبة دقيقة وذكية للغاية يا «أحمد».
قال «أحمد»: فإذا نظرنا إلى الخريطة لوجدنا أن هذه المسافة تقع تقريبًا بين محافظة قنا ومحافظة المنيا … وهي منطقة مناسبة، حيث تقل كثافة السكان من ناحية وتتزايد المناطق الجبلية حيث يسهل الاختباء.
خالد: متى فكرت في كل هذا أيها الشيطان؟
أحمد: منذ اللحظة الأولى التي أبلغنا فيها رقم «صفر» بالتقرير الأول … فقد علقت خريطة مصر في رأسي منذ ذلك الوقت وظللت أفكر حتى الآن … ولكن هناك ملحوظة هامة قد تغيب عنكم لأنكم لستم من مصر … إن هذه المنطقة التي حددناها فيها كثير من المنحنيات فالقطار لا يسير بسرعة موحدة طول الوقت … وأعتقد أن سرعته قد تنخفض أحيانًا حتى أربعين … وربما عشرين كيلومترًا في الساعة …
بو عمير: على كل حال البحث في ٤٥٠ كيلومترًا أو ٥٠٠ أفضل من البحث في ١٠٠٠ كيلومتر … ولكن المهم عن أي شيء نبحث؟
أحمد: كما اتفقت أفكارنا جميعًا تقريبًا … فإن سرقة عربة الذهب تمت بواسطة تحويلة … ولا يمكن أن تكون قد تمت بأي شكل آخر، وسنبحث إذن عن وجود تحويلة في المنطقة التي حددناها.
إلهام: من المؤكد أن رجال الشرطة المصريين قد فكروا بنفس الأسلوب، وأنهم سيبحثون عن الآثار!
أحمد: لقد اتفقنا على ذلك فعلًا … ولكن لعل بحثنا في مساحة أقل يعطينا فرصة أكبر … وعلى كل حال … نحن في انتظار تقرير رقم «صفر» عن جهود جهات الأمن المصرية … وعندما يصلنا سنبدأ العمل فورًا.
إلهام: سأقوم لاختبار جهاز اللاسلكي الذي وجدته هنا.
أحمد: وسأقوم بتدبير سيارة جيب تستطيع أن تحملنا جميعًا بما في ذلك المياه والمؤن وغيرها من أدوات الرحلة.
خالد: ابحث عن سيارة لاندروفر فهي أكبر وأوسع.
أحمد: سأترككم الآن، وأرجو عندما أعود أن يكون رقم «صفر» قد أرسل تقريره، حتى نستطيع السفر في الفجر.
وغادر «أحمد» الفيلا، وانصرف مسرعًا إلى جهة معيَّنة يعرف أن رقم «صفر» يتعاون معها … بينما دخلت «إلهام» إلى غرفة اللاسلكي حيث الجهاز، ثم أرسلت إلى رقم «صفر» أول تقرير عن اجتماعهم، وعن الخطة التي وضعت للتنفيذ … ووقف بقية الشياطين في شرفة الفيلا … ثم نزلوا إلى الحديقة يستمتعون بنسمة باردة هبت عليهم بعد اليوم الحار … حملت إليهم رائحة الفل والياسمين المزروع في قصور وفيلات شارع الهرم … ومن بعيد كانت موسيقى الكازينوهات تصدح … وقالت «زبيدة»: كم أتمنى قضاء سهرة تحت سفح الهرم!
ردَّ «عثمان» الذي كان صامتًا أغلب الوقت: إذا لم يصل تقرير رقم «صفر» الآن ففي إمكاننا الانطلاق بالسيارة حتى الهرم.
وخرجت «إلهام» إلى الشرفة، وعندما شاهدوها اتجهوا ناحيتها فقالت: لن يتم إعداد تقرير رجال الشرطة المصريين قبل منتصف الليلة.
عثمان: سأذهب أنا و«خالد» و«زبيدة» و«بو عمير» في رحلة سريعة إلى الهرم لنشرب زجاجة كوكا كولا مثلجة.
إلهام: ليس هناك ما يمنع، وسأخبر «أحمد» حين عودته.
ركب الشياطين الأربعة السيارة المرسيدس، وانطلقوا إلى الهرم … ووقفت «إلهام» وحدها في الشرفة تنتظر عودة «أحمد» … ومضت ساعة … ثم رأت سيارة تقف على الجانب الآخر للطريق … وينزل منها «أحمد» … ثم ينتظر حتى تغادر السيارة مكانها وتعود … ثم يتحرك ناحية الفيلا … وعرفت أنه يقوم بإجراء أمن بسيط حتى لا يعرف سائق التاكسي وجهته … وأحست بمزيد من الإعجاب بهذا الشيطان الذكي الحذر.
دخل «أحمد» من باب الحديقة … وشاهد «إلهام» تقف وحدها في الشرفة … فاتجه إليها ووقف تحت الشرفة قائلًا: إن روميو يرسل لجولييت قبلة أرق من نسمة الربيع وأجمل من زهرة الياسمين … و…
وقاطعته «إلهام» ضاحكة: إن جولييت تشكر روميو … ولكن …
وقبل أن تتم جملتها كان «أحمد» يتسلق شجرة اللبلاب التي تحيط بالفيلا … تمامًا مثلما فعل روميو في مسرحية شكسبير الخالدة … «روميو وجولييت» … ولم يكد يصل إلى الشرفة ويقفز بجوار «إلهام» … حتى دق جرس التليفون.