روميو وجولييت
أحس «أحمد» بضيق شديد … فقد كانت عواطفه في هذه الأمسية الحارة … ومع المشهد الطبيعي … قد اتقدت … وكان يتمنى أن يقضي ولو بضع دقائق مع «إلهام» وحدهما … ولكن … هذا التليفون اللعين …
أسرعت «إلهام» ترد على التليفون … وجلس «أحمد» في الشرفة في انتظار نتيجة المكالمة … وخرجت «إلهام» … ونظر إلى وجهها يحاول أن يستكشف ما حدث … ولكن وجه «إلهام» ظل جامدًا وأحس «أحمد» بالخوف … خاصةً وهو لم يرَ بقية الشياطين في الفيلا … وقال بقلب واجف وقد نسي عواطفه: ماذا حدث؟
وتقدَّمت «إلهام» حتى أصبحت أمامه تمامًا وقالت: النمرة غلط!
وضحكت «إلهام» وقفز «أحمد» محاولًا الإمساك بها وعقابها على ما فعلت … ولكنها جرت منه … وجرى خلفها … كانت شرفة الفيلا تدور حولها … فدارت «إلهام» مع الشرفة و«أحمد» خلفها … وعندما لحق بها وكاد يمسك بها قفزت إلى الحديقة … ولم يتردد «أحمد» فقفز خلفها … ولكنه عندما وصل إلى الأرض لم يجدها … لقد اختفت ووقف مكانه ساكنًا تمامًا … كان كمغامر يعرف أنها سوف تتحرك من مكمنها وسوف تُحدِث صوتًا … وحدث ما توقعه … بعد لحظات سمع صوتًا عند طرف الحديقة وأسرع إلى هناك … ولكنه لم يجد إلا أشجار الفُل وهي تتمايل مع النسيم … ودار «أحمد» دورة سريعة حول الفيلا دون أن يجد «إلهام» … وأدرك أن الشيطانة الذكية قد صعدت مرة أخرى إلى الشرفة … وقفز هو الآخر … ووجدها جالسة تبتسم … واقترب منها فلم تتحرك … وارتكز على ركبته أمامها ومدَّ يده … فمدَّت يدها، وأمسك باليد الرقيقة القوية واحتواها بين يديه وأحست «إلهام» كأن أصابعه تلهب يدها، واستسلمت إلى مشاعر متضاربة من الحب … والأمل … والإحساس بالواجب …
وقالت: «أحمد».
قال: «إلهام».
كان صوته يحمل شُحْنَة متدفِّقَة من عواطفه العميقة نحوها … ونسيت كل شيء في هذه اللحظة إلا أنها موجودة بجوار الشاب الذي تحبه … فجذبته نحوها، وترك يديها، وأحاط كتفيها بذراعيه …
وفي هذه اللحظة دق جرس التليفون مرة أخرى، وهمَّت «إلهام» بالنهوض، ولكن «أحمد» قال في صوت هامس: نمرة غلط.
قالت «إلهام»: ربما كان الضابط المصري «أكرم» … إنه الوحيد الذي يعرف رقم التليفون!
ونظر «أحمد» إلى ساعة يده ذات الميناء المضيء … وقفز بسرعة … كان رنين التليفون مستمرًّا … وفي ثلاث قفزات كان يرفع سماعة التليفون واستمع قليلًا ثم وضع السماعة وكانت «إلهام» قد لحقت به فقال: ستكون العربة اللاندروفر جاهزة بعد ساعة …
ووقعت عيناه على القطار الصغير الذي أحضره معه من بيروت فأضاء بقية أنوار الصالة … ثم أخرج القطار من علبته وأعده للسير وأطلقه، ووقف بجوار «إلهام» وهو ينظر إلى القطار يفكر بعمق … وقالت «إلهام»: مسألة صعبة!
أحمد: يطوف بذهني خاطر معيَّن … إننا نبحث عن طريقة لتحويل عربة تسير بسرعة ٨٠ أو ١٠٠ كيلومتر في الساعة … ولكن لماذا لا تكون العربة قد حولت وهي تسير بسرعة ٢٠ كيلومترًا مثلًا … لقد قلنا إن هناك منحنيات في الطريق … ولو كنت مكان العصابة لاخترت وقتًا يُهدِّئ فيه القطار من سرعته عند أحد المنحنيات ثم أقوم بتحويل العربة.
إلهام: إنني متفقة معك تمامًا … ولكن المشكلة ليست في التوقيت … المشكلة كيف تم تحويل العربة دون أن تتبعها بقية العربات الثلاث التالية لها … إن هذا مستحيل … مستحيل!
أحمد: إنه يبدو مستحيلًا فعلًا … ولكنه حدث … ومهمتنا أن نعرف كيف حدث …
ثم انحنى «أحمد» على القطار الصغير … ومد أصابعه وأخذ يفك العربة الرابعة (عربة الذهب) من القطار ثم تركه ينطلق وبالطبع سار القطار وخلفه ثلاث عربات … بينما بقية العربات الأربع الأخيرة سارت فترة بقوة الاندفاع … ثم توقفت!
كانت نفس التجربة التي أجراها في بيروت وحصل على نفس النتيجة.
قالت «إلهام»: نسيت أن أقول لك إن الشياطين الأربعة ذهبوا لزيارة الأهرام.
ردَّ «أحمد» وهو مشغول البال: لقد استنتجت أنهم خرجوا.
وأخذ يتمشى في الصالة الواسعة و«إلهام» تتابع القطار وهو يسير ويسير … وقد استغرقت هي الأخرى في أفكارها.
لقد شغلها الواجب عن عواطفها المشبوبة … وأصبحت مشكلة الذهب أهم من أي شيء آخر في حياتهما … وأعاد «أحمد» النظر إلى ساعته ثم قال: سأخرج الآن لإحضار السيارة.
وأسرع «أحمد» خارجًا … وبقيت «إلهام» وحدها مع القطار … وجلست وقد وضعت رأسها بين يديها تفكر وتمعن في التفكير … كيف حلَّت العصابة مشكلة العربة الرابعة … كيف استطاعت تحويلها ومع ذلك ظل القطار يسير وخلفه بقية العربات … وهزَّت رأسها … كانت مشكلة بلا حل …
دقَّ جرس التليفون وسمعت «إلهام» صوتًا هادئًا يقول: «إن فردة حذاء واحدة لا تساوي شيئًا».
ردَّت «إلهام»: إلا إذا كنت تملك الفردة الأخرى.
قال صاحب الصوت: الضابط «أكرم» يتحدث.
ردت «إلهام»: إنني أستمع.
أكرم: تقرير الشرطة سلبي … لا شيء من الآثار على الإطلاق … تمَّ القيام برحلة من أسوان إلى القاهرة وبالعكس … ولكن لا شيء هناك … تتم الآن مراجعة جميع جوازات سفر السياح الذين في المنطقة … ستصلكم معلومات عن هذه الجوازات غدًا مساءً.
وحيَّاها الضابط «أكرم» ثم وضع السماعة.
زمَّت «إلهام» شفتيها … لا معلومات مطلقًا … يا لها من عصابة لا مثيل لها … تحقق معجزة سرقة القطار … وتحقق معجزة أخرى ألا تترك خلفها دليلًا واحدًا … ونظرت إلى ساعتها … كانت قد أشرفت على الحادية عشرة … وسمعت صوت المرسيدس وهي تدخل من باب الحديقة … ثم صوت الأبواب وهي تغلق، وقامت ففتحت الباب وظهر الشياطين الأربعة وقد بدت عليهم مظاهر السعادة والمرح.
قال «عثمان» وهو يقذف كرته الجهنمية إلى فوق: أخبار؟
ردت «إلهام»: لا أخبار!
عثمان: و«أحمد»؟
إلهام: سيعود بالسيارة اللاندروفر بعد نصف ساعة تقريبًا.
عثمان: نحن جوعى.
إلهام: عشاء الليلة من المعلبات فقط … وأظن أننا سنعيش الأيام التالية بنفس الطريقة.
ودخلت «إلهام» و«زبيدة» إلى المطبخ، وعادتا بعلب من السردين والتونة والمخللات والجبن. ووضعتا كل ذلك على المائدة، ثم سمعوا جميعًا صوتًا ناعمًا لسيارة ضخمة تدخل من باب الحديقة … فقفزت «إلهام» قائلة: إنه «أحمد».
وبعد لحظات دخل «أحمد» يحمل ربطة كبيرة. وقال «عثمان»: أشم رائحة لحم.
ردَّ «أحمد» وهو يضع الربطة: كباب وكفتة.
انقض «عثمان» على اللفة وهو يصيح: يا لك من ولد رائع … إنك تفكر في الأكل بنفس الاقتدار الذي تفكر به في الألغاز!
وكان صوت القطار ما زال يزن في الغرفة … واتجه إليه «أحمد» كأنه مغناطيس، وأخذ يتأمله ويتمتم: العربة الرابعة … بعدها ثلاث عربات وقبلها ثلاث عربات … ومع ذلك تم تحويلها …
قال «عثمان» وهو يفتح الربطة الساخنة: دعك من القطار الآن وإلا أصبت بعسر هضم.
والتفَّ الشياطين الستة حول كومة الكباب والكفتة، وانهالوا عليها وكأنها عدو يجب القضاء عليه.
قالت «إلهام»: اتصل الضابط «أكرم» منذ نصف ساعة تقريبًا … لا أخبار … قاموا بمسح الطريق من أسوان إلى القاهرة ذهابًا وإيابًا دون أن يعثروا على أثر واحد … يقومون الآن ببحث جوازات سفر جميع السياح في المنطقة!
قال «بو عمير» وهو يخلص شريحة لحم من عظمها: إنها عصابة من الأبالسة.
قال «خالد»: الأبالسة ضد الشياطين … يا له من صراع!
وكان صوت القطار يزنُّ في الصالة الواسعة فقالت «زبيدة»: إن صوت هذا القطار سيصيبني باضطراب عصبي.
قال «أحمد» وهو يبتسم: سنكون جميعًا في حاجة إلى مستشفى للأمراض العصبية إذا لم نصل إلى حل لهذه القضية العويصة.
وانتهوا من تناول الطعام … وبعد أن تناولوا بعض الفاكهة قال «أحمد»: سنستيقظ في الرابعة … وننطلق في الرابعة والنصف … إن السيارة تتسع لنا جميعًا وفيها كل مواد التموين اللازمة.
وعندما عبَر «أحمد» الصالة إلى غرفة نومه المشتركة مع «عثمان» … وقف أمام القطار مرةً أخرى … فمدَّ «عثمان» يده ونزع فيشة الكهرباء … وتوقف القطار عن السير وقال: سوف تحلم بهذا القطار وأنت نائم!
رد «أحمد»: لعلني أستطيع حل هذه القضية في الحلم … ما دمت لا أستطيع أن أحلها في الواقع.
وبعد لحظات ساد الفيلا صمت عميق … فقد استسلم الشياطين الستة للنوم.