مقدمة: هل المعلومات مهمة؟
لا يخفى على أحد أن المفاهيم المُتوارثة للمادة والعالم المادي لم تَقدِر على الصمود أمام التطورات الثورية في علمَي الفيزياء والأحياء في القرن العشرين. لقرون ظلَّ تصوُّر إسحاق نيوتن عن المادة باعتبارها تتكوَّن من «جسيمات صلبة جامدة لها كتلة وغير قابلة للاختراق وقابلة للتحريك» سائدًا بجانب إيمانٍ قويٍّ بقوانين الطبيعة التي يُفترض أنها قادرة على أن تصف بالضبط ما سيَحدُث في المستقبل بِناءً على الوضع الفيزيائي الراهن. كان من السهل أن يَندمِج هذا المزيج من المادية والآلية العِلمية مع الافتراضات المنطقية عن المادة الصلبة باعتبارها حجر الأساس للواقع برمته. في الرؤية العالمية للمادية الكلاسيكية (التي كانت في أوجها بين عامي ١٦٥٠ و١٩٠٠)، كان يُدَّعى أن جميع الأنظمة الفيزيائية ما هي إلا مجموعات من الجسيمات الخاملة التي تخضَع بخنوع لقوانين حتمية. وفقًا لتلك النظرة الكونية الاختزالية، يُمكن تفسير جوهر الأنظمة المعقَّدة مثل الكائنات الحية والمجتمعات وأفراد البشر من حيث المكوِّنات المادية وتفاعلاتها الكيميائية.
بيد أن بزوغ الديناميكية الحرارية في عام ١٨٥٠ تقريبًا بدأ بالفعل يُلقي بظلال الشك على النظرة الحتمية السائدة. دون التشكيك بدايةً في المفاهيم المتوارَثة عن المادة وفق النظرية الجسيمية والآلية، تبيَّن أن فيزياء السوائل والغازات في الأنظمة الديناميكية الحرارية المفتوحة، لا يُمكن التطرُّق إليها من الناحية العملية إلا باستخدام الأساليب الإحصائية؛ من ثَم وجب التخلي عن مقصد دراسة الجزيئات الفردية. وفيما سُمي عن جدارة «الثورة الاحتمالية» (كروجر، وداستون، وهايدلبرجر، ١٩٩٠) صارت الحتمية مسألة اعتقاد ميتافيزيقي لا موقفًا مُثبَتًا علميًّا. بحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، كان فيزيائيون عظماء مثل جيمس كليرك ماكسويل قد بدءُوا يتشكَّكون بالفعل في فرضية الحتمية بالإشارة إلى الأنظمة غير المستقرة لدرجة كبيرة، والتي تُؤدي التغيرات المتناهية الصغر التي تطرأ على ظروفها المبدئية إلى تأثيرات هائلة لا رجعةَ فيها (فيما بعدُ صارت تلك سمةً محوريةً في نظرية الفوضى). لكن أهمية البِنى غير المتوازنة القابلة للتبدُّد في الديناميكية الحرارية ما قادت علماء مثل إليا بريجوجين (١٩٩٦) إلى شن هجوم أعم على افتراضات الانعكاسية والحتمية العلمية إلا في القرن العشرين.
ماذا حدث إذن لمفهوم المادة والمادية؟ في الطور الأول للتحوُّل الذي طرأ على مصطلح «المادة»، بطل تدريجيًّا استعماله في العلوم ليحلَّ محله مفاهيم للكتلة أكثر رسوخًا وقابلية للقياس (كتلة القصور، كتلة الجاذبية … إلخ). قصة تحول فكرة المادة إلى مفهوم شديد المراوغة مع بقائها مفهومًا جوهريًّا، يَرويها لنا إرنان ماكمولين وفيليب كلايتون في الفصلين الثاني والثالث من هذا الكتاب. لكن يكفي هنا أن نشير إلى ثلاثة تطورات بالتحديد طرأت على الفيزياء في القرن العشرين أدَّت إلى انهيار «أسطورة المادة» المتوارثة، وإلى استكشافات جديدة لدور المعلومات الأساسي في الواقع الفيزيائي.
جاءت الضربة الأولى من نظرية النِّسبية الخاصة (١٩٠٥) والنِّسبية العامة (١٩١٥) لأينشتاين. بتقريره مبدأ تكافؤ الكتلة والطاقة، وضَعَ سمة المجال للمادة في بؤرة التركيز، وبدأ فلاسفة العلم يُناقشون إلى أيِّ مدًى تُشير نظرية النسبية إلى «انتفاء الخصائص المادية» عن مفهوم المادة. لكن كما يشير ماكمولين، مع أنه بدأ يُنظَر إلى الجُسيمات وتفاعلاتها باعتبارها تجسيدات جزئية لمجالَي الكتلة والطاقة اللذَين تستند إليهما، فإن نظرية النسبية أفسحت الطريق لتصور كيانات ذات سمات زمنية ومكانية من خلال مفهوم «كتلة السكون».
يُشكِّل تصوُّر لويد امتدادًا طبيعيًّا لتقليدٍ عريق يقتضي استخدام ذروة ما وصلت إليه التكنولوجيا مجازًا للكون. في اليونان القديمة، كانت أدوات القياس والآلات الموسيقية هي عجائب تكنولوجيا ذلك العصر، واعتبر اليونانيون الكون تجسيدًا للعلاقات الهندسية والتناغُم الموسيقي. في القرن السابع عشر، كانت تروس الساعة هي أكثر ما جادَت به التكنولوجيا إبهارًا، ووصف نيوتن كونًا حتميًّا كتروس الساعة، فيه الزمن معامل لامُتناهي الدقة يقيس جميع التغيُّرات الكونية. في القرن التاسع عشر حل المحرِّك النفاث محل تروس الساعة باعتباره أيقونة التكنولوجيا في ذلك العصر، وبالطبع وصف كلاوزيوس وفون هلمهولتز وبولتزمان وماكسويل الكون بأنه محرِّك حراري عملاق مولِّد للإنتروبيا، في طريقه بلا هوادة إلى موتٍ حراري كوني. اليوم، يلعب الحاسوب الكمي دورًا مُماثلًا. كل تشبيه جاء برؤى قيمة؛ لكن لا تزال تلك المستمَدة من نموذج الحوسَبة الكمية الكوني طور الاستكشاف الأولي.
في ظل عدم وجود حاسوب كمِّي عامل، يعدُّ الدماغ البشري هو أقوى نظام معروف لمعالجة المعلومات (وهو ما قد يتغيَّر قريبًا؛ إذ يُتوقَّع أن تتفوَّق الحواسيب التقليدية على العقل من حيثية قلب البتَّات البحتة). العلاقة بين العقل والدماغ هي أقدم المُعضلات الفلسَفية، وتعكسها في سياق ذلك الكتاب ثنائية المعلومات والمادة. بصفة أساسية، يفعل الدماغ أكثر من مجرَّد قلب البتَّات. إذ تتضمَّن المعلومات العقلية سمة مهمَّة وهي الدلالة أو السيمانطيقا؛ أي إنَّ البشر يستمدُّون فهمهم لعالَمهم من بيانات الحس، ولديهم القُدرة على نقل المعنى فيما بينهم. السؤال هنا هو ما الذي يُمكن تفسيره بالمعلومات الرقمية المصوغة بالبتات فقط دون اعتبار المعنى وما الذي لا يُمكن تفسيره بها. حين وضع شانون أساس نظرية المعلومات، تعمَّدَ إسقاط أي إشارة إلى معنى المعلومات، وتناول فقط الجوانب المتعلقة بنَقلها. وتعجز نظريته وحدها عن تفسير دلالة الكيانات العالية الرتبة وتواصلها. على أقصى تقدير، يُمكن القول بأن شانون ركَّز على السمات التركيبية لإمكان معلوماتي وذلك كما يقترح ديكون في الفصل الثامن.
تَرتبط الخواص السالفة الذكر لمَجال العقل ارتباطًا وثيقًا بمسألة الوعي. وتظلُّ كيفية توليد الدماغ للإدراك الواعي لغزًا قائمًا يصعب حله، لكن توجد مدرسة فكرية راسخة ترى أن الأمر له علاقة بميكانيكا الكم. حتمًا يختلف دور المراقب في ميكانيكا الكم جدًّا عنه في الميكانيكا الكلاسيكية. هذا بجانب أنه إن كانت ميكانيكا الكم تُقدِّم الوصف المطلق الأوَّلي للطبيعة، إذن في درجةٍ ما لا بد أن تتضمَّن سردًا للوعي والخواص الأساسية العقلية الأخرى (مثل ظهور الدلالة والشعور بحرية الإرادة). لسنوات عدة، دافع هنري ستاب عن قضية فهم العقل بصفته مراقِبًا في سياقٍ كمِّي، وفي الفصل السادس، يعرض وجهة نظر قوية الحجة حول أخذ الوعي على محمل الجد (أي عدم إهماله باعتباره ظاهرة ثانوية) وعلى استيعابه في وصفٍ كمِّي للطبيعة.
جاء التحدِّي الثالث الذي واجه الافتراضات الموروثة عن المادة والمادية من علم الأحياء التطوري وعلوم المعلومات الجديدة، التي جاءت باكتشافاتٍ ثورية في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. ولأنَّ علم الأحياء هو نقطة التقاء العلوم الطبيعية والثقافية، فهو يلعب دورًا محوريًّا في فهمنا لدور المعلومات في الطبيعة. في الفصل السابع، يُحاجج ماينارد سميث أنه يجب النظر إلى علوم الأحياء باعتبارها ذات طبيعة معلوماتية؛ إذ إن تركيب تسلسل الحمض النووي مُرتبط سببيًّا على نحو نظامي بإنتاج البروتينات. في القرن التاسع عشر، كان ينظر إلى الكائنات الحية باعتبارها مادة سحرية ما ممزوجة بقوة حيوية. أما اليوم، فتُعامَل الخلية باعتبارها حاسوبًا فائقًا؛ نظامَ معالجة واستِنساخ معلومات مُذهلَ الدقة. تتجلَّى الجوانب المعلوماتية لعلم الأحياء الجُزيئي الحديث في اعتبار التسلسُل الجيني والمسارات الجينية أساسًا لا لفَهمِ علم الأحياء التطوري فحسب، بل أيضًا علم الأحياء الخلوي والطب. في الفصلَين الثامن والتاسع يُقدم تيرانس ديكون وبرند-أولاف كوبرز وجهتي نظر طبيعانيتَين عن المستويات «الدلالية» الجوهرية للمعلومات التي قد تظهَر من خلال عمليات ديناميكية حرارية (بولتزمان) وتطوُّرية (داروينية). كلا التفسيرَين يَدفع بأن المعلومات البيولوجية ليست تعليمات فحسب، إنَّما لها علاقة أيضًا بالمعلومات «القيِّمة» أو «المهمَّة»، وهو ما يضع المُستَقبِل في بُؤرة الاهتمام. لكن المعلومات القيِّمة تكون دائمًا مجموعة جزئية من مجموعة أوسع من الحالات المعلوماتية، التي يمكن وصفها بأنها «الإمكان المعلوماتي» الأساسي. من تلك الخلفية، يقدم ديكون نظرية طبيعانية لظهور المعلومات السياقية؛ بمعنى القدرة على الإحالة والمعنى، التي يصفها من حيثية مفهوم «الحقائق الغائبة». يفعل ذلك بدمج منظور قانون شانون-بولتزمان القائل بأن المعلومات دائمًا ما تكون نسبية إلى إمكان معلوماتي إحصائي، مع تأكيد دارويني على ما يصلح في الواقع بالنسبة لكائن حي في إطاره البراجماتي. في الفصل العاشر، يُقدم يسبر هوفماير طرحًا سيميائيًّا حيويًّا، يتشكَّك في هيمنة دور الجينات، ويُؤثِّر عليه أهمية المنظور المُرتكز على الخلية. وأخيرًا، في الفصل الحادي عشر، يقدم هولمز رولستون تاريخًا طبيعيًّا لظهور العناية بالغير عن معرفة. التطور عملية تشتهر بكونها «أنانية»، لكنَّها في نهاية المطاف تولد نُظمًا تُظهِر غيرية واهتمامًا بكائنات أخرى. بزيادة الإدراك الحسِّي وقدرات المعالجة التنازلية (من أعلى لأسفل) في أدمغة الثدييات، يظهر بُعدٌ أخلاقي للطبيعة على ساحة التطور. والمنظور المرتكز على الخلية ليس بالضرورة منظورًا يَرتكز على الذات.
سيكون من الخطأ ادِّعاء أن الفصول المبنية على العلم إجمالًا تَقود إلى منظور جديد مقبول ومتسق عن الدور الأساسي للمعلومات في العالم المادي. إذ لا يزال العديد من العلماء يَعتبرون المادة والطاقة العمليتَين الأساسيتَين للطبيعة، بينما يرون المعلومات مفهومًا ثانويًّا أو منبثقًا عنهما. كما أننا نَفتقِر فعلًا إلى النظير المعلوماتي لقوانين نيوتن للميكانيكا. ليس لدينا حتى مقياس فيزيائي بسيط وجليٌّ للمعلومات، كمقياسَي الكتلة والطاقة المعبر عنهما بوحدتي «الجرام» و«الجول». من ثَم، قد يشكُّ الناقدون في أن «المعلومات» ما هي إلا استعارة أنيقة نستعملها اختزالًا للتعبير عن مقاصد عدة، على سبيل المثال ونحن نتحدَّث عن تقنيات المعلومات أو عن أي شيء «منظَّم» أو «منطقي» بالنسبة إلينا.
تتجلَّى طبيعة نظرية المعلومات غير المكتملة من خلال استخدام المساهمين في ذلك الكتاب لمصطلح «المعلومات» بعدَّة معانٍ مُتباينة. على سبيل المثال، الأحداث الكمية باعتبارها كيوبتات معلوماتية (لويد)، لها خواصُّ شديدة الاختلاف عن المعلومات الرقمية الأقرب إلى نموذج شانون، أو المعلومات باعتبارها مجرَّد أنماط (المعلومات الأرسطية)، وكل ما سبق عاجز عن تفسير ظهور مفهوم المعلومات «ذات المعنى» (المعلومات الدلالية). ورغم الطبيعة غير المحسومة للموضوع، يُمكن طرح سببَين لمنح المعلومات دورًا مركزيًّا في الأنطولوجيا القائمة على المعرفة العِلمية. النقطة الأساسية هي أن المعلومات تُحدِث تغيُّرًا سببيًّا في عالمنا، وهو شيء يتجلَّى لنا بوضوح إذا ما فكَّرنا في الفاعلية البشرية. غير أن المعلومات مهمَّة حتى على المستوى الكمي. تُلخص الدالة الموجية «كل ما يُمكن معرفته» عن نظام كمي. حين تُجرى عملية رصد، وتتغيَّر تلك المعرفة المُستخلصة، تتغيَّر الدالة الموجية؛ ومن ثَم يتغيَّر التطور الكمِّي اللاحق للنظام. علاوة على ذلك، تلعب البِنى المعلوماتية دورًا لا يمكن إنكاره في الأنماط المادية، كما نرى على سبيل المثال في ظاهرة الرنين الفيزيائية، أو في النُّظُم البيولوجية مثل تسلسلات الحمض النووي. فما الجين إلا مجموعة من التعليمات المشفَّرة الموجَّهة لنظام جزيئي كي يُنفِّذ مهمة. ولا يمكن أن يكون لأي نظرية تطورية دورٌ تفسيريٌّ دون أن تُعنى بالدور الإرشادي لتسلسلات الحمض النووي، وغيره من البِنى الطوبولوجية. بيد أنه لا يمكن تشييد جسر أو ناطحة سحاب دون إيلاء عناية كافية لظاهرة الرنين، وهكذا ومثلما يبدو أن «الأحداث المعلوماتية» هي المكوِّن الأساسي في المستوى الأدنى للواقع الكمي، فإن «البِنى المعلوماتية» هي مُكوِّن أساسي باعتبارها القوى المحرِّكة للكشف التاريخي للواقع الفيزيائي.
تُناقَش المنظورات الفلسفية لعالم مادِّي مبنيٍّ على ثالوث الكتلة والطاقة والمعلومات غير القابل للاختزال في المساهمات الموجودة في الجزء الذي يتناول الفلسفة واللاهوت. في الفصل الثاني عشر يُقدِّم عالم الأحياء واللاهوت الراحل آرثر بيكوك (المُهدَى له هذا الكتاب) رؤيته التكاملية لضرورة أن يكون مذهب الواحدية الانبثاقية القائم على علوم التعقيد مراعيًا لتماسُك العالم المادي وكذلك للمستويات المختلفة التي تطرأ في مراحل لاحقة من التطور. تَمزج أطروحة بيكوك اللاهوتية إذن الطبيعانية والانبثاقية مع التصور الحلولي للإله؛ وهو يَعني أن الإله حالٌّ في العالم الطبيعي، لكنه أيضًا أكبر من العالم الطبيعي بأكمله. تطوَّرت رؤية بيكوك الدينية في إطار ما يُسمِّيه المنظور الانبثاقي/الواحدي الحلولي الطبيعاني. في الفصلَين الثالث عشر والرابع عشر يَستكشِف عالِما اللاهوت الفلسفي كيث وارد وجون إف هوت طرقًا جديدة لفهم الإله باعتباره مصدر المعلومات لعالم ذاتي التطور. يُدافع وارد عمَّا يُسمِّيه المبدأ المعلوماتي الأسمى للكون، الذي من دونه لن يُمكن تفسير القيمة الذاتية للكون والقوانين التي تحكمه. من الناحية المنطقية، تسبق تلك الشفرة المعلوماتية لبناء كونٍ فعلي التراكيب المادية؛ إذ تتضمَّن مجموعة من الحالات المحتملة رياضيًّا، بالإضافة إلى مبدأ تقييمي انتقائي يُحابي العالم الفعلي الذي نَسكُنه. يقترح وارد أن ذلك الواقع الأنطولوجي الأوَّلي قد يكون وثيق الصلة بالإله، بخاصة إن أمكن اعتبار أن قوانين الطبيعة المُعينة تُتيح مجالًا لصفات مثل الصلاح والقيمة الذاتية. يَزعم هوت أن المعلومات يجب أن تُحافظ على الشعرة بين التكرار (النظام المفرط) والضوضاء (العشوائية المفرطة). تلك التوليفة الموفَّقة بين الانضباط والاستحداث هي التي تُحوِّل الكون من مجرَّد نظام فيزيائي إلى سردية عن معالجة المعلومات. وبينما يُذكرنا جميعًا بوجوب اعتبار «لغة الإله» تناظرية، يُحاول إثبات أن مفهوم الإله باعتباره جوهرًا معلوماتيًّا فعَّالًا في صيرورة الكون برمَّتها هو تصور أكثر ثراءً من فكرة الإله المُصمم القابع على حافَّة الكون. ومع تأكيد وارد على الحيز المنطقي للطبيعة بأكملها وتأكيد هوت على تمدُّدها التطوري، يتطرَّق كلاهما إلى التفسيرات العلمية المُعاصرة للطبيعة التي تتوافَق مع حقيقة وجود إله له قُدرة على تغيير العالم. هكذا قد يُمكن أن تسمح الطبيعانية المُستندة إلى العلم بالتمييز بين عالم الطبيعة بمفهومه المحدَّد في ذلك السياق، والعالم بمفهومه الإجمالي. أخيرًا، في الفصلَين الخامس عشر والسادس عشر، يُحاول نيلز هنريك جريجرسِن ومايكل فيلكر إثبات أن المنظورات العِلمية الجديدة عن المادة والمعلومات الملخصة في ذلك الكتاب تُقدِّم باعثًا جديدًا لإعادة تفسير مُكوِّنات مهمة في تراث الكتاب المقدس. يُوضح جريجرسِن كيف أن مفهوم «الكلمة صار جسدًا» في العهد الجديد (يوحنا، ١: ١٤) به أوجُه شبه بنيوية بالمفهوم الرواقي القديم لمفهوم «اللوجوس» باعتباره مبدأً تنظيميًّا أساسيًّا للكون، ويجب عدم تفسيره استباقًا بأسلوبٍ أفلاطوني. ولعلَّ النظرة اليوحناوية للكلمة الإلهية (اللوجوس) باعتبارها تشترك في حيِّزٍ واحد مع عالم المادة تترسخ وتتَّضح أكثر في سياق المفاهيم الحالية للمادة والمعلومات، التي تدعم أيضًا الوجود المشترك للنظام والاختلاف. يُقدَّم تصنيف من أربعة أنواع من المعلومات، يمتدُّ من المعلومات الكمية وصولًا إلى المعلومات ذات المعنى. في المقال الأخير، يقترح فيلكر أن النقاشات المتعدِّدة التخصُّصات (بين العلم والفلسفة واللاهوت) يَنبغي أن تكون قادرةً على التنقل بين الطروحات الميتافيزيقية العامة، والمساحات الدلالية الأكثر خصوصية، والتي غالبًا ما تكون أكثر عناية بالتفاصيل المحدَّدة. أحد الأمثلة على ذلك هو تمييز القديس بولس بين «الجسد» الفاني واحتمال حلول الطاقة الإلهية في «أجسام» بعينها. ربما بإمكان تلك الاختلافات أن تشمل الأبعاد الاجتماعية للوجود المادي المشترك، التي تتجاهَلُها التفسيرات في الأشكال الأعم من الميتافيزيقا. يرى بولس أن الروح القدس قد تُشبِع الأجساد الروحانية للبشر وتحملهم على التواصل، حين تتحوَّل إلى الخلق الجديد للإله.
نأمل أن تفتح المقالات المختارة المُقدَّمة في ذلك الكتاب صفحة جديدة في الحوار بين العلم والفلسفة واللاهوت.
المراجع
-
Krüger, L., Daston, J., and Heidelberger, M., eds (1990), The Probabilistic Revolution, Cambridge, MA: MIT Press.
-
Prigogine, I. (1996), The End of Certainty, Time, Chaos and the New Laws of Nature, New York: The Free Press.