الحرية السيميائية: قوة منبثقة
أصبح مُصطلَح «المعلومات» حاضرًا في شتى مجالات علم الأحياء (والطب) الحديث تقريبًا. لن يُبالغ المرء على الأرجح لو أعاد صياغة القول المأثور عن ثيودوسيوس دوبيانسكي عالم علم الأحياء التطوُّري بأن «لا شيء في علم الأحياء منطقي إلا في ضوء التطوُّر» في يومنا هذا ليُصبِح «لا شيء في علم الأحياء منطقي إلا في ضوء المعلومات». لكن هل هذين المفهومين، التطور والمعلومات، مرتبطان جوهريًّا؟ ولو صح ذلك، فكيف؟
(١) المعلومات في التطور
تفترض المراجع العلمية والصحف وحتى الأوراق البحثية أن معنَي مُصطلحَي «التطور» و«المعلومات» معروفان جيدًا بصفة عامة، ونادرًا ما يُفسَّران. مع ذلك، لا يوجد إجماع في العلوم أو حتى في علم الأحياء على معنَيَيهما الفعليَّين. على سبيل المثال، المثال المفضل للتطور بواسطة الانتخاب الطبيعي (في سياق نظرية توماس كون) هو مثال الميلانية الصناعية. في الغابات التي قضى فيها التلوث الصناعي على الأشنات وكشف جذوع الشجر البُنية الداكنة، يُفترض أن الأجساد الداكنة للعثِّ المفلفل — المتأثِّر بظاهرة الميلانية — أفضل في التموُّه احتماءً من افتراس الطيور لها من أجسادها ذات اللون الرمادي الفاتح التي كانت سائدة قبل الثورة الصناعية. من ثَم اعتُبِرَت عملية الرصد التي جرت عام ١٩٥٠ والتي تُفيد أن الأجساد الداكنة في العثِّ قد حلَّت محلَّ الأجساد الأفتح لونًا دليلًا عمليًّا على الانتخاب الطبيعي. صحيح أن ذلك المثال يُوضِّح تأثير الانتخاب الطبيعي، لكن بيانه لحدوث التطور من عدمه يعتمد على فكرتك عن التطور. وعليه، إذا كان المقصود بمُصطلح «التطور» هو التطور بمعناه في كتاب «أصل الأنواع»، فتجدر الإشارة إلى أنه لم يحدث هنا أي انتواع (ظهور لأنواع جديدة من أنواع أخرى)، وليس من الواضح أن انتواعًا سيَحدُث في مثل تلك الحالة. إذن تتغيَّر جماعات الكائنات قطعًا نتيجة للانتخاب الطبيعي، لكن هل تلك الآلية هي التي تقف أيضًا وراء الانتواع والتطوُّر بصفة عامة؟ يطمئنُّ أغلب علماء الأحياء إلى أن التطور الماكروي — أي، الذي يفوق مُستوى النوع — هو في الواقع نتيجة متأخِّرة لتطور ميكروي مستمر إلى الأبد (تكيف داخل التجمعات)، لكن يظل هناك اختلاف جَدي مع ذلك الرأي (ديبيو وويبر، ١٩٩٥؛ جولد، ٢٠٠٢).
يَحرص مُؤلِّفو المراجع على الإشارة إلى أن نوع المعلومات الذي نتحدث عنه هنا هو المعلومات «التتابعية» التي «تتضاعَف» حين تَنقسِم الخلية، و«تُنسَخ» إلى الحمض النووي الريبوزي الرسول، و«يُعبر» عنها من قبل الجينات. بعد استنساخها في الحمض النووي الريبوزي الرسول، يقال إن المعلومات خضعت «للمُعالجة» أو «التحرير»، بعدها «تنتقل» من النواة إلى السيتوبلازم؛ حيث يقرؤها ريبوسوم في النهاية و«يترجمها» إلى بروتين. لكن كما بيَّن ساهورتا ساركار، كل ما يَجري هنا يمكن التعبير عنه بعمليات كيميائية حيوية تخضع للسببية التقليدية الفعالة (ساركار، ١٩٩٦). فلماذا إذن يُفضِّل علماء الأحياء الحديث عن «المعلومات»؟
إذن «الحديث عن المعلومات» الذي يبدو أنه لا سبيل إلى تجنُّبه في علم الأحياء الجزيئي قد يؤدي (بغير قصد؟) إلى التطرُّق إلى الجانب القصدي (السيميائي) على نحو موارب إن جاز التعبير. فعلى المستوى الظاهري، تُعامَل المعلومات الجينية باعتبارها عاملًا سببيًّا بسيطًا، لكن فِكرنا يَنجذب إليها لأنها تُشير بطريقة مُتوارية إلى القصدية، التي يُحظَر الحديث عنها إلا في ذلك السياق. ولعلَّ استبعاد التاريخ لا ضرَر فيه نسبيًّا على مستوى علم الأحياء الجزيئي نفسه، لكن حين يُعتبر هذا العلم أساسًا لعلم الوراثة والتطور، فإن ذلك الفهم المستبعِد للتاريخ من شأنه أن يُضفي صفة الاستقلال على عمليات هي في الواقع جزء من القيود السياقية التي يَنبغي أخذها في الاعتبار في نظرياتنا. يُفترض أن الجينات تُحدِّد سماتٍ أو خواصَّ مُعينة مثل غياب العيون في ذبابة الفاكهة أو داء هنتنجتون في البشر. إذن السؤال هو: ماذا يعني أن الجينات تحمل معلومات عن تلك الخواص؟
لكن اعتبار المعلومات الجينية «معلومات تتابعية» يُعزز الاعتقاد في نسخ الداروينية المرتكزة على الجينات، ويتعزَّز به. فإذا كانت المعلومات مجرَّد خاصية جزيئية للحمض النووي، فهذا يعني أنه يُمكن مضاعفتها ونقلها عبر الأجيال في وحدات محدَّدة بدقة وغير مُبهمة قابلة للتعديل بواسطة عمليتي التطفُّر والانتخاب. حينئذٍ سوف يحسن الانتخاب الطبيعي تدريجيًّا من كفاءة مجموعة الوحدات التوجيهية التي تَحملها تجميعة الجينات لجماعة ما. تلك الرؤية المبسطة أيضًا تُزيل عن وظيفة الجينات عبء السياق. تعتمد الوظيفة المحدِّدة للجينات لا على الخلفية الجينية التي صادَف أنها وُجدت فيها فحسب، بل أيضًا على مجموعة من الظروف التي عادة ما يُطلق عليها البيئة المحيطة (جريفيث وجراي، ١٩٩٤؛ جراي وجريفيث وأوياما، ٢٠٠١). مفهوم الجينات باعتبارها وحدات وظيفية محددة أو مستقلة لا يتحقق حتى في الأمراض الأحادية الجينات (التي يُسببها حدوث طفرة في جين واحد) التي كنا من قبل نَعتبرها مثالًا لأفكارنا عن عمل الجينات. هكذا تبين الآن أن مرض بيلة الفينيل كيتون الذي تُسبِّبه طفرة جينية في جين واحد يُظهِر تباينًا غير مُتوقَّع في النمط الظاهري (سكرايفر ووترز، ١٩٩٩). فلا يظهر في كلِّ حامِلي «الجين المسبب للمرض» ممَّن لم يخضعوا للعلاج اضطرابٌ في النمو الإدراكي، على الأرجح لأنَّ ثمَّة عوامل غير معروفة تُؤثِّر على تراكم حمض الفينيل ألانين الأميني في الدماغ بحيث يَصِل إلى تركيز سام. المعلومات الجينية ببساطة لا «تتسبَّب» في حدوث أشياء.
لا داعي للقول بأن أنصار حركة «التصميم الذكي» يَستخدمون ذلك النوع من النقد للقدح في صحة نظرية التطوُّر. وعلى الجانب الآخر، يُقابل الداروينيُّون أي نقد يوجه إلى المخطَّط العام لنظرية التطور بتشكُّك عميق. لكن يوجد احتمال ثالث، وهو احتمال سأعرضه وأناقشه في الجزء الباقي من هذا الفصل؛ ألا وهو النهج المُسمَّى «السيميائيات الحيوية».
(٢) السيموزيس (صيرورة العلامات) والحياة
لكن العلامات ليسَت أسبابًا بالمعنى التقليدي للسبَبية الفاعلة (الأرسطية)؛ إذ إن تأثير علامة ما ليس تفسيرًا إلزاميًّا، بل يَعتمد على عملية تفسير، والتفسير قد يكون «خاطئًا»، وهو ما يحدث في الأغلب. أحد أمثلة ذلك هو حين يُفوِّت حيوان مُفترس عش طائر لأنه أخطأ في تأويل سلوك الطائر الثقيل الحركة أنه علامة على أنه صيد سهل. لكن الطائر كان يتظاهَر فحسب أن جناحه مكسور، وما إن فوَّت المفترس عشَّه حتى طار مبتعدًا. في تلك الحالة المُثيرة للاهتمام من الناحية السيميائية، يستفيد الطائر من «معرفته» بعادة اختيار المفترس للصيد السهل المتوقَّعة. سواء كانت «معرفة» الطائر في تلك الحالة نابعة من تطور سلالته (من الحدس) أو من تنشئته (مُتعلَّمة)، لا يغير ذلك المنطق العام للموقف؛ ما يختلف فقط هو مسألة الآلية المستخدمة والفترة الزمنية للفعل التفسيري. فعلى جانب، لو كان سلوك الطائر يستند إلى الحدس؛ فهو نتيجة لتفسير تطوري، وحينئذٍ سيكون المقصود هو فترات زمنية تبلغ ملايين السنين تطوَّرت فيها تلك العادة بالتحديد في الطائر بصفتها استجابة تفسيرية للسلوك المتوقع للمُفترسين. لكن على الجانب الآخر لو كان السلوك مستندًا إلى التعلم، فسيكون الفعل التفسيري نتيجة عمليات دماغية غير بعيدة عن تلك المتضمَّنة في نشاطنا التفسيري البشري.
ذكرت آنفًا أن القيمة الاستدلالية لمفهوم المعلومات تَنبثق من الطبيعة التاريخية للأنظمة الحية. ومع أنه لا أحد في مجال العلوم ينكر أن الكائنات الحية هي نتاج عملية تطورية، عادةً لا يُتصوَّر أن تلك العملية هي عملية تاريخية بالمعنى التقليدي للكلمة؛ إذ يُفترض أنها خضعت للقاعدة الحتمية لقوانين الطبيعة. لكن يبدو أن اكتشافات العلم الحديث لا تنفك تهدم مبدأ الحتمية الميتافيزيقي. بالطبع لا يُمكن إقصاء الحتمية كليًّا، لكن لم يعد ثمة سبب قويٌّ لتبنِّيها. في كتاب ستيوارت كوفمان «تحقيقات» (٢٠٠٠)، يتناول جزء مهم من التحليل مسألة أن الكون لم يكن لديه الوقت الكافي حتى تَعكس الحالة الحالية له بطريقة ما جميع حالاته المُحتمَلة الجوهرية. حركة الكون المستمرة نحو «الإمكان القريب» تُعيقه من الوصول إلى حالة تَعتمِد على الترجيح الإحصائي. بل إن الكون تاريخي؛ إذ «يدخل التاريخ حين يفوق حيِّز الإمكان الذي كان يُمكن استكشافه حيزَ المتحقِّق بالفعل» (كوفمان، ٢٠٠٠، صفحة ١٥٢).
لكن إذا لم يكن الانتخاب الطبيعي مسئولًا عن ذلك التعلق، فما أساسه؟ يقترح كوفمان وكلايتون تعريفًا مبدئيًّا من خمسة أجزاء:
أبسط صورة لفاعل جزيئي مُستقِل هي نظام ينبغي أن يكون قادرًا على التكاثر بتنوع يمكن توريثه، وأن يُكمل على الأقل دورة عمل واحدة، وأن تكون له حدود كأن يُمكن تمييزه عن بيئته بصورة طبيعية، وأن يكون قادرًا على التكاثُر ذاتيًّا وأن يضع قيودًا، وأن يكون قادرًا على الاختيار من بين بديلَين على الأقل.
اقترح تيرانس ديكون نظامًا أبسط لانبثاق الحياة والفاعلية قبل الحيوي، نظامًا يدعوه «الخلية الذاتية التكوين» (ديكون وشيرمان، ٢٠٠٨). الخلايا الذاتية التكوين هي بِنًى جزيئية تستمد تفردها من العلاقة التآزرية بين نوعين من عمليات التنظيم الذاتي يعتمد كل منهما بالتبادل على استمرار الآخر. ربما كانت تلك الخلايا خطوة مهمة في العملية التي تُؤدي إلى خلق حياة مما هو غير حي. لكن كما أشار ديكون وشيرمان، الخلايا الذاتية التكوين هي خلايا لم تُصبح بعد أنظمة حية كاملة. فهي تَفتقِر إلى عدة سمات تُعتبر عادةً معايير للحياة، مثل امتلاكها للجزيئات المُضاعِفة للحمض النووي الريبوزي أو الحمض النووي، والقدرة على الصمود التفاضُلي أثناء عمليات التضاعُف. كما أنها لن تستوفيَ مجموعة المعايير التي وضعها كوفمان وكلايتون. لكن نموذج الخلية الذاتية التكوين يُبين احتمال وجود مقياس متصل يبدأ من الديناميكية الحرارية ويصل إلى القابلية للتطور.
المسألة التي يصعب حلُّها في أي نظرية عن منشأ الفاعلية والحياة هي كيفية توحيد النوعين المنفصلَين ظاهريًّا من الديناميات؛ ديناميات أنماط التفاعُل الكيميائي وديناميات صيرورة العلامات (السيموزيس). هذا يضع تلك المسألة مباشرة في الموقف السياقي للبيئة. وهو ما يبدو أن معايير كوفمان–كلايتون تفعله، غير أنها أيضًا تفترض بداية أكثر تعقيدًا بكثير من نموذج الخلية الذاتية التكوين. لكن يظلُّ غير معروف ما إذا كان يُمكن التوفيق بين هذين المنهجين وكيف.
بالطبع، تذكرنا السيميائيات الحيوية على الفور بأن «السؤال عن منشأ الحياة هو سؤال عن منشأ البيئة» (هوفماير، ١٩٩٨). فالكائنات الحية جزءٌ لا يتجزَّأ من بيئاتها مثل النقوش المنسوجة في سجادة؛ لا يُمكن أن يَنفصِلا. من منظور سيميائي، كانت الخطوة الحاسمة في العملية التي أدَّت إلى نشوء الحياة هي ظهور نوع جديد من عدم التماثُل في الحياة، عدم تماثل بين الظاهر والباطن. قد تكون الخطوة الأولى هي تكوُّن غشاء مُغلَق حول نظام مغلق ذاتي التحفيز ذي مكونات (كوفمان، ١٩٩٣). ذلك الغشاء يفترض أنه صنع ما يُعتبر على الأرجح سمة الحياة الأكثر تفردًا وجوهرية: «اهتمام» ما بداخله بما هو خارجه، أو بعبارة أخرى «التعلق» الخلوي. أشرتُ إلى أن ذلك «الاهتمام» ينبغي أن يُفهَم باعتباره خاصية نابعة في نهاية المطاف من الغشاء البدائي نفسه. فالغشاء المُغلَق يكون له نوعان من الأسطح؛ السطح الداخلي والسطح الخارجي. كي تظهر الفاعلية، لا بدَّ أن تكون تلك الأغشية قد استطاعت تمرير تيار مُنتقًى من المواد الكيميائية في أرجائها، وكذلك استيعاب نظامها الداخلي ذي المكوِّنات لمساعدة تلك المكونات على مقاومة تدفُّق الاضطرابات من السطح الخارجي. أو بعبارة أخرى، كي تصمُد الأغشية، ستحتاج أن تؤدي وظيفة واجهة تربط العوالم الموجودة بداخلها بالعالم الخارجي. في مرحلة ما في النمو قبل الحيوي، نشأ وصف رقمي ذاتي الإحالة (في الحمض النووي الريبوزي أو الحمض النووي) للمكونات الأساسية ﻟ «الخلية». لكن كي يُصبح نظام قبل حيوي نظامًا حيًّا فعليًّا، يجب أن يُدمَج ذلك الوصف الذاتي الإحالة للنظام (بواسطة تحويل الإشارة مثلًا) في النظام الغيري الإحالة المكوَّن من المُستقبِلات على سطح الخلية. قد يُعتبَر ذلك الاندماج المستقر لنظام ذاتي الإحالة مُشفر رقميًّا في نظام غيري الإحالة مُشفَّر تناظريًّا أحد تعريفات الحياة (هوفماير، ١٩٩٨).
(٣) الحرية السيميائية
أستطيع أن أرسم خريطةً لعشرات الآلاف من المُكونِّات الموجودة في كائنٍ وحيد الخلية وجميع الأسهم التي تُشير إلى الاتجاهات الصحيحة للعلاقات بينها، (ولكن حتى إن فعلت) سوف أنظر أنا أو أي أحد غيري إلى تلك الخريطة ولن أستطيع أن أتنبَّأ منها بأي شيء على الإطلاق.
لا بدَّ من البحث عن أساس التنظيم في الخلية أو الكائن الحي في القيود التاريخية (التطورية) المفروضة على تفاعُلات الأنظمة الحيوية البسيطة بعضها مع بعض ومع بيئاتها. في الفهم السيميائي الذي استعرضتُه فيما سبق، دور آلية الانجذاب الكيميائي هو دمج استشعار العالم الخارجي مع واقع العالم الداخلي كما هو موصوف في الأنظمة الذاتية الإحالة أو الجينية. بالطبع عدَّل الانتخاب الطبيعي ذلك النظام منذ الخلايا الأولى على الأرض؛ وحسب علمنا فإن ذلك النظام مَصُون بعناية. لكن يبقى احتمال أن تفسده الطفرات أو تُغيره، والأهم من ذلك أن العوامل الخارجية قد تخدعه. على سبيل المثال، يمكن للباحثين أن يخدعوا نظام الانجذاب الكيميائي البكتيري بسهولة بإضافة نظائر للمغذيات (مثل المُحلِّيات الصناعية بدلًا من الجلوكوز) إلى الوسط؛ وعلى الأرجح «تبتكر» الطبيعة نفسُها من حين لآخر أنواعًا مشابهة من النظائر الخادعة.
في تلك الحالات، يبدو من الملائم أن نقول إن الخلية «تخطئ في تأويل» الإشارات الكيميائية لبيئتها. تعدُّ تلك الأخطاء التأويلية خطيرة، وسيُحابي الانتخاب الطبيعي أي حل يساعد الكائن على تأويل المواقف التي يُقابلها. بالفعل، يُتوقَّع من الانتخاب أن يُحابي تطور أشكال أكثر تعقيدًا من «الحرية السيميائية»؛ بمعنى زيادة القدرة على الاستجابة لإشارات مختلفة عن طريق تكوين تأويلات «ذات معنًى» (موضعيًّا). تسمَح الحرية السيميائية (أو القُدرة على التأويل والاستجابة له) لنظامٍ ما بأن «يقرأ» صورًا عديدة من «التلميحات» في محيطه، وهذا عادة تكون له تأثيرات مفيدة بالنسبة للصلاحية. من ثَم فإنها من بدايتها البسيطة التي رأيناها في البكتيريا التي تنجذب كيميائيًّا، يفترض أن الحرية السيميائية للأنظمة العضوية ستنزع إلى الازدياد، ومع أنه لم يكن من السهل إثبات أن أي زيادة منهجية في التعقيد، كما هو التعريف التقليدي لهذا المفهوم، قد صاحبَت العملية التطورية، يتضح أن التعقيد أو الحرية السيميائية وصلت إلى مُستويات عالية في المراحل اللاحقة؛ إذ تُعدُّ الأنواع المتقدمة من الطيور والثدييات بصفة عامة أعقد سيميائيًّا بكثير من الأنواع الأكثر بدائية (هوفماير، ١٩٩٦).
يُغير اعتبار وجود الحرية السيميائية في العالم العضوي مُهمَّة تفسير التطور الانبثاقي لأن الحرية السيميائية لها ديناميكية ذاتية التضخيم. أنماط التواصُل في تجمعات الخلايا أو الأفراد غالبًا ما تكون قد ظهرت باعتبارها نتيجة بسيطة لعملية المُحاولة والخطأ في التفاعل العادي، وحينئذٍ قد تصمد لفترات زمنية طويلة. إذا كانت تلك الأنماط تُكسِب التجمعات (الخلايا أو الكائنات) ميزة، فقد يرسخها في النهاية حدوث تطفرات لاحقة. خلال تلك الآلية «شبه البالدوينية»، تدخل العملية التطورية إلى مساحة الغائية التي كانت من قبل محظورة عليها (هوفماير وكول، ٢٠٠٣).
تقدم السيميائيات الحيوية حجة قوية تدعم منظورًا انبثاقيًّا للحياة. أعني بالانبثاق السيميائي بناء كيانات ماكروية أو أنماط من مُستوى أعلى عن طريق تبادُل سياقي للعلامات بين المكونات من المستوى الأدنى. النقطة المهمة هنا هي أنه بينما قد يشوب انبثاقَ أنماط المستوى الأعلى شيءٌ من الغموض (عادة ما يُثير الاتهامات بتبنِّي المذهب الحيوي)، طالما لا يُنظَر إلا إلى التفاعلات الفيزيائية بين الكيانات، لكن تُصبح النتيجة نفسها مفهومة جدًّا حين تستند إلى التفاعلات «السيميائية» بين الكيانات في المستوى الأدنى. الأهم من ذلك هو أن «الانبثاق السيميائي» بهذا المعنى قد يكون مرشَّحًا محتملًا بديلًا للانتخاب الطبيعي باعتباره آلية لتفسير تطور السلوك الغائي.
يُشير الفهم السيميائي الحيوي ضمنًا أيضًا إلى أنه لا يُمكن استخدام القدرة على التواصُل بالعلامات للتمييز بين النوع البشَري وغيره من المخلوقات في العالم. المهارات اللغوية التي يتمتَّع بها نوعنا تجعلنا مختلفين جدًّا عن الأنواع الأخرى على الأرض، لكن كما يُوضح بحث تيرانس ديكون، فإن القُدرة على الإحالة السيميائية ليست في حدِّ ذاتها علامة تميز البشر عن الحيوانات. أما ما يُميِّزنا فهو براعتنا التي لا مثيل لها في ذلك النوع بالتحديد من النشاط السيميائي، وهو الإحالة الرمزية (ديكون، ١٩٩٧)؛ ومن ثَم استخدام اللغة. نحن نتشارك في قدرتنا السيميائية (أي الإحالة بالأيقونة والإشارة) مع شتى أشكال الحياة؛ ومن ثَم تعيدنا السيميائيات الحيوية إلى الطبيعة بينما تعيد بناء الطبيعة لتُصبح مكانًا ينتمي إليه البشر. الطبيعة أقرب شبهًا إلينا مما يقرُّ العلم، الذي يحاول تجنب أن تلصق به وصمة مركزية الإنسان. بدلًا من التفكير الديكارتي الأحادي، تفرض السيميائيات الحيوية تفكيرًا نسبيًّا.
وصف جون ديلي الإنسان بأنه «حيوان سيميائي» (ديلي، ٢٠٠٧). يحدث السيموزيس في شتى ميادين الحياة، لكن البشر فقط هم من «يعرفون» الفرق بين العلامات والكيانات المادية؛ البشر هم الحيوانات السيميائية الوحيدة.
(٤) الانبثاق السيميائي والسببية التنازلية
أحد الأسئلة المهمة في نقاشات الانبثاقية يخص الحقيقة الوجودية للتأثيرات السببية التي تبذلها الأنظمة الماكروية على الكيانات من المستوى الأدنى. عادة ما يُستخدَم تعبير «السببية التنازلية» لوصف ذلك النوع من العلاقات التي تتصرَّف فيها حالة ماكروية بِناءً على الحالات الميكروية المكوِّنة لها (كامبيل، ١٩٧٤). قد يبدو المُصطَلَح مُحاولة للتعبير عن جانب من المفهوم الذي كان يُدعى «السبَبية الغائية» دون أن نَربط أنفسنا بالإرث الثقافي للمَذهب الأرسطي وكل ما هو مُثقَل به من دلالات. كما سنرى، الانبثاق السيميائي والسببية التنازلية وجهان أو جانبان لعملة واحدة، التي أُفضِّل أن أسميها «السببية السيميائية»، والتي تنتج تأثيرات من خلال عملية تأويل.
تُقدم أبحاث ديبورا جوردن الدءوبة التي كان لها مردود كبير على النمل الحاصد الأحمر «بوجونوميرميكس بارباتوس» (الذي يعيش في منطقة ذات ظروف قاسية بين أريزونا ونيو مكسيكو) توضيحًا لتلك النقطة. كشفت أبحاث جوردن أن صمود مُستعمرات ذلك النوع من النمل يَعتمِد بشدة على انتظام نمط مُعقَّد من التفاعلات السيميائية بين أفراد النمل، وهو ما يطرح سؤالًا عمَّا إذا كانت مستعمرة النمل تستحق أن تُعتبر «كائنًا فائقًا» (جوردن، ١٩٩٥، ١٩٩٩). من وجهة النظر السيميائية، يُمكن اعتبار الكائن الفائق مجموعة من الكائنات التي تتفاعَل جماعيًّا مع بيئاتها بطريقة تَعتمِد على نشاط سيميائي داخلي بالغ التعقيد بين الكائنات المفردة؛ «سيميائيات أولية داخلية» (هوفماير، ٢٠٠٨). وجدت جوردن أن عنصرًا أسمته «توزيع المهام» عنصرٌ بالغ الأهمية في سلوك المستعمَرة وعملية النمو؛ وبيَّنت أن تلك العملية تَعتمِد قطعًا على نمط تفاعُل عالي التجريد بين مجموعات النمل المختلفة، إلا أنه يظلُّ فيها شيئًا من العشوائية:
النملة المُنفرِدة لا تستجيب نفس الاستجابة كل مرة تتعرَّض فيها لنفس المثير؛ وكذلك المستعمرات. تُؤثِّر بعض الأحداث على احتمالات أن يُؤدي بعض النمل مهامَّ معينة، وتؤدِّي تلك النظامية إلى نزعات يُمكن التنبؤ بها وليس نتائج حتمية مُطلقة.
يُمكن اعتبار تجارب جوردن في ذلك المجال ردًّا على التجارب التي أجراها إدوارد أو ويلسون، مؤسِّس علم الأحياء الاجتماعي، والتي زُعم أنها تُبيِّن وجود حتمية مطلقة في أنماط استجابة النمل للإشارات الكيميائية (على سبيل المثال حمض الأوليك (ويلسون، ١٩٧٥)). على النقيض، أظهرت تجارب جوردن أنه «كما يُمكن أن تحمل كلمة واحدة معانيَ مُختلفة في سياقات مختلفة … يُمكن أن تُثير الإشارة الكيميائية الواحدة استجابات مختلفة في سياقات اجتماعية مختلفة» (جوردن، ١٩٩٩، صفحة ٩٧). تقول جوردن إنَّ العمليات الفسيولوجية والاجتماعية والبيئية تعمل في آنٍ واحد، وليس أحدها بأبسط من غيره: «تعد المستويات التنظيمية الحية أساسية بالنِّسبة إلى أي دراسة للسلوك الاجتماعي. بالنسبة إلى البشر والحيوانات الاجتماعية الأخرى، دائمًا ما يكون سلوك الفرد مُترسِّخًا في عالم اجتماعي ما» (المرجع السابق، صفحة ٩٦).
إذن الكفاءة السيميائية للوحدات الجزئية — سواء كانت تلك الوحدات الجزئية هي أفراد من البشر في مجتمَع أو نباتات في نظام بيئي أو خلايا في كائن مُتعدِّد الخلايا أو نملة في مُستعمرة نمل — هي الوسط الذي ينشأ خلاله سلوك وتماسُك الكيان من الرتبة الأعلى ويستمر. إلى حدِّ أن العلاقات السيميائية الداخلية لمثل ذلك النظام تدرك وتوظف الإشارات والعلامات التي تُشير إلى حالة الوحدة الكلية و«احتياجاتها» (أي، تكون بمثابة مؤشِّرات عليها)، يبدو أنه من المُبرِّر أن نتحدَّث عن تلك العمليات باعتبارها عمليات سيميائية داخلية حقيقية؛ ومن ثَم يكون النظام الكلي جديرًا بأن يُعتبَر وحدة مُستقلة بذاتها؛ أي، كائن فائق.
العلاقات السيميائية بين الوحدات الجزئية التي تُعتبر مسئولة عن استقرار النظام الواسع النطاق أو الكُلي (على سبيل المثال، برج النمل أو الكائن المتعدد الخلايا أو ربما النظام التكافلي للحبار القصير الذَّيل وبكتيريا الضمة «فيبريو» الباعثة للضوء: طالع الفقرة التالية) يجب بالضرورة أن تكون مجهَّزة للاستجابة للتغيُّرات التي تحدث في البيئة بطرق لا تهدد سلامة النظام الواسع النطاق. من جانبها، يجب أن تَستقبل الوحدات الجزئية رسائل تعلمها بكيفية دعم النظام الماكرو وأسهل طريقة لفعل ذلك هي توزيع احتياجات النظام الماكرو عبر علامات «إشارية».
ومن ثَم فإن السببية التنازلية والانبثاق السيميائي جانبان مُتداخلان لكنهما غير مُتطابقَين لعملية واحدة. بناءً على السيموزيس الإشارية، تأكَّدَ اقتران تلك الآلية بالساعة البيولوجية للحبار باكتشاف أن الحبار لديه وسيلة لتوليف انبعاث الضوء يَستطيع التحكم بها. فهو يستطيع على سبيل المثال تغيير الطول الموجي للضوء المُنبعِث بمساعدة «مرشح أصفر»، وبوسعه خفض شدة الضوء بفتحِه كيس «حبر» (بروني، ٢٠٠٧). يفترض أن تأثيرات عملية العلامة الإشارية في ذاتها أبطأ من أن تعوض التباينات اللحظية في ضوء الخلفية (كما يَحدث في ظروف الطقس الغائم)، ومن ثَم لزم أن يمدَّ التطور النظام الماكرو (الحبار) بعدد من «الأدوات الإضافية» للتوليف.
(٥) السيميائيات الحيوية والإله
على عكس مُعتقَد الداروينية الجديدة التقليدي المُرتكز على الجينات، لا يتعارَض تصور الطبيعة الحية التي تستخدم العلامات مع حقيقة أنَّ الأرض دعمت تطور كائنات بشرية واعية ذات مَشاعر أخلاقية. قد تُفسر السيميائيات الحيوية ظهور تلك الكائنات عن طريق عمليات طبيعية مُحايِثة. من ثَم يَنفي نهج السيميائيات الحيوية الحاجة إلى جدلية التصميم الذكي أو يقوضها. لا تقتضي السيميائيات الحيوية منطقيًّا تبني أي موقف تجاه وجود خالق مُتعالٍ من عدمه، بل يُمكن اعتبارها طوق إنقاذ للرؤية الكونية العِلمية من الحاجة إلى الإقرار بوجود مثل تلك القوة الفَوقية التي لا يبدو أن ثمَّة مفرًّا منها لو تبنَّى المرء منظورًا علميًّا تقليديًّا. في هذا الشأن قال ديكون وشيرمان:
في الجدال الدائر بين العلم والدين الأصولي الذي يُراقبه المواطن العالَمي بإمعان، تقع على عاتق العلم مسئولية بيان كيف يُمكن للعمليات القصدية أن تَنبثق في غياب ذكاء سالف، أو ظروف سابقة مُنتخَبة بعناية، أو مكونات غائية على نحو جوهري.
قام ديكون وشيرمان بمُحاولة جديرة بالإعجاب ﻟ «تتبع انبثاق السلف الجديد لتلك العلاقات القصدية»، ومع أن نهجهما طبيعاني بحت، أخرجه تأكيده على نظريات التعقيد والسيميائيات للأسف من المساحة الضيقة للفاعليات السببية المقبولة في الرؤية الكونية العِلمية السائدة.
يقف مُؤلِّف هذا الفصل على الحياد من مسألة وجود خالق مُتعالٍ أو مُحايث، لكنه يلاحظ أن الاستمرار في ذلك الموقف الحيادي كان ليُصبح صعبًا لولا الحل الذي قدمته السيميائيات الحيوية للمَسائل الصعبة المتعلِّقة بالقصدية الطبيعية. ففي الصورة العلمية التقليدية للعالم الذي يحكمه فيها قوانين طبيعية لا يُمكن خرقها، وحده الإله يمكن أن يخلق أمثالنا من الكائنات «غير الطبيعية».
المراجع
-
Bruni, L. E. (2007), Cellular semiotics and signal transduction, In Cellular Semiotics and Signal Transduction, ed. Barbieri M. Dordrecht: Springer, 365–407.
-
Campbell, D. T. (1974), “Downward causation” in hierarchically organised biological systems, In Downward Causation, eds F. I. Ayala and T. Dobzhansky, Berkeley: University of California Press, 179–186.
-
Clayton, P., and Kauffman, S. (2006), On emergence, agency and organization, Biology and Philosophy, 21: 501–521.
-
Deacon, T. (1997), The Symbolic Species, New York: Norton.
-
Deacon, T., and Sherman, J. (2008), The pattern which connects pleroma to creatura: The autocell bridge from physics to life, In A Legacy for Living Systems: Gregory Bateson as Precursor to Biosemiotics, ed. J. Hoffmeyer, Dordrecht: Springer, 59–76.
-
Deely, J. (2007), Intentionality and Semiotics: A Story of Mutual Fecundation, Scranton, PA: University of Scranton Press.
-
Depew, D. J., and Weber, B. H. (1995), Darwinism Evolving: Systems Dynamics and the Genealogy of Natural Selection, Cambridge, MA: Bradford/The MIT Press.
-
Gibbs, W. (2001), Cybernetic cells, Scientific American, August, 285: 52–57.
-
Gordon, D. M. (1995), The development of organization in an ant colony, American Scientist, 83: 50–57.
-
Gordon, D. (1999), Ants at Work, How an Insect Society is Organized, New York: The Free Press.
-
Gould, S. J. (2002), The Structure of Evolutionary Theory, Cambridge, MA: The Belknap Press of Harvard University Press.
-
Gray, R., Griffiths, P., and Oyama, S. (2001), Cycles of Contingency, Developmental Systems and Evolution, Cambridge, MA: MIT Press.
-
Griffiths, P. E., and Gray, R. D. (1994), Developmental systems and evolutionary explanation, Journal of Philosophy, 91 (6): 277–304.
-
Hoffmeyer, J. (1996), Signs of Meaning in the Universe, Bloomington, IN: Indiana University Press.
-
Hoffmeyer, J. (1998), Semiosis and biohistory: A reply, Semiotica, 120 (3/4): 455–482.
-
Hoffmeyer, J., and Kull, H. (2003), Baldwin and biosemiotics: What intelligence is for, In Evolution and Learning, eds B. Weber and D. J. Depew, Cambridge, MA: MIT Press, 253–272.
-
Hoffmeyer, J. (2008), Biosemiotics. An Examination into the Signs of Life and the Life of Signs, Scranton, PA: University of Scranton Press.
-
Kauffman, S. (1993), Origins of Order: Self-Organization and Selection in Evolution, New York: Oxford University Press.
-
Kauffman, S. A. (2000), Investigations, New York: Oxford University Press.
-
McFall-Ngai, M. J., and Ruby, E. G. (1998), Sepiolids and vibrios: When first they meet. BioScience, 48: 257–265.
-
Sarkar, S. (1996), Biological information: A skeptical look at some central dogmas of molecular biology, In The Philosophy and History of Molecular Biology: New Perspectives, ed. S. Sarkar, Dordrecht: Kluwer, 187–231.
-
Scriver, C. R., and Waters, P. J. (1999), Monogenic traits are not simple, Trends in Genetics, 15(7): 267–272.
-
Ulanowicz, R. E. (2009), A Third Window: Natural Foundations for Life, Philadelphia: Templeton Foundation Press.
-
Wilson, E. O. (1975), Sociobiology, The New Synthesis, London: Belknap Press.