المعلومات واللاهوت والكون
المسألة الأهم في النقاش الدائر بين اللاهوت والعلم هي مسألة كيف يتصرَّف الإله في الكون أو يؤثر فيه. هنا سأبحث إن كان لمفهوم المعلومات أن يُساعد علماء اللاهوت على معالجة تلك المسألة. من المعروف جيدًا أن المنظورات الفلسفية واللاهوتية التقليدية تَفترض استنادًا إلى الحدس وجود مبدأ «معلوماتي» كوني يَسري في جميع الأشياء. الاعتقاد بأن «العقل» أو «الحكمة» أو «اللوجوس» مُتغلغِل في الكون ومُشكِّل لأنماطه على جميع المستويات هو اعتقاد ما ينفكُّ يتكرَّر بأشكال مختلفة: في الفلسفة الإغريقية القديمة، وفي أدبيات الحكمة في النصوص المقدَّسة العبرية، ولدى الفيلسوف فيلو، وفي المسيحية المبكرة، والفلسفة الرواقية وفلسفة هيجل ووايتهيد وغيرهم. لكن هل الافتراض الحدسي بأن الكون حامل لمعنى كلي — لمبدأ معلومات موجود بشكلٍ فاعل في صيرورة الكون بأكملها — معقول بأي درجة في عصر العلم؟
ففي كل الأحوال، في وقتنا الحالي لا بدَّ أن يتأنى المرء قبل أن يربط مفهوم اللوجوس اللاهوتي بالأنماط الطبيعية. الدافع الرئيسي لذلك التأني هو أن عمليات الحياة كما يراها علماء علم الأحياء التطوري لا تبدو تجسيدًا لأي مبدأ إلهي كَوني للمعنى أو الحكمة. بخلاف صورة النظام الكوني كما تصفُه الكثير من المنظورات الفكرية الدينية، ينطوي التطور على تجارب تبدو لا نهائية ﻟ «أشكال» مختلفة، أغلبها يُستبعَد ويحلُّ محله تلك الأشكال التي يُصادف ملاءمتها لمتطلبات الانتخاب الطبيعي. ذلك التوسع التجريبي لأشكال الحياة من خلال التطور الدارويني المُحايد، الذي لا يتكيف خلاله لمدة زمنية طويلة إلا قلة من تلك الأشكال، لا يَعكس على الإطلاق وجود أي حكمة إلهية وراءه. نشأة الحياة التلقائية، والعشوائية الظاهرة للتبايُن الجيني الذي يساعد على تفسير تنوُّع أشكال الحياة، وحوادث التاريخ الطبيعي التي تجعَل مسار قصة الحياة برمَّته غير متوقَّع، كل ذلك يجعل المرء يتساءل إلى أي مدًى يُمكن اعتبار العالم الطبيعي مستندًا إلى «غاية» فعلًا. التطور يشكك قطعًا في فكرة «التصميم» الإلهي. بل إنَّ الطبيعة تبدو، على الأقل ظاهريًّا، من صنع ما أسماه ريتشارد دوكينز (١٩٨٦) «صانع ساعات أعمى». إذن، كيف للاهوت أن يصوغ فكرة وجود إلهي يُسيِّر الطبيعة وَفق غاية أو معنًى بطريقة مُتماسكة في خضمِّ ذلك الحياد الأعمى والإمكانات غير ذات الأهداف التي تتجلَّى في الصورة الجديدة التي يرسمها العلم للطبيعة؟
(١) هل يُمكن أن نستخدم المعلومات باعتبارها تشبيهًا؟
وعلى الرغم من أن التشبيهات لا غِنى عنها في اللاهوت، فإن بعض التشبيهات أقل إيحاءً من غيرها. على سبيل المثال، ما تنفكُّ صورة الإله «المُصمِّم» تتزَعزَع لا سيَّما في منظور التفسيرات التطورية للحياة. فهل يُمكن إذن أن يكون استعمال مفهوم «المعلومات» أقل تضليلًا من مفهوم التصميم في التأملات اللاهوتية المتأنية بالضرورة حول كيفية عمل الفعل الإلهي في العالم الطبيعي؟
(٢) المعلومات وعدم الاحتمال
كل أنظمة المعلومات هي أنظمة محدودة، قادرة على التعامل مع قدرٍ مُتناهٍ فقط من المعلومات. من ثَم لا بد من الحرص عند تشفير رسالة على مراعاة النطاق الذي يسمح به الوسط. ونظرًا لوجود احتمال آخر وهو ضياع الرسالة أو حجبها نتيجة التشويش أو غيره من التدخلات، فلا بد من تشفير الرسالة على نحو يجعلها تصل رغم تأثيرات «الضوضاء» المشوشة. من ثَم فإن «التكرار» جانبٌ ضروري في معالجة البيانات (سايف، ٢٠٠٦، الصفحات ٥–٢٠). يُخفِّض التكرار كفاءة الاتصال وجودته، لكن ضمانه لنقل المعنى بدقة يُعوِّض ذلك التأخير. لكن التكرار المُفرط يمكن أن يُفقِد المعلومات ميزة كونها مُخبِرة بجديد إن جاز التعبير. إذ سيحُول دون انبثاق أي جديد. وعلى الجانب الآخر، إذا تجنَّبنا التكرار بالكلية، فقد تُفقَد الرسالة وسط الضوضاء.
إذا كان الكون ناقلًا معنًى دينيًّا موحًى به، فلن يتوافَق ذلك المعنى جيدًا مع أي طريقة فهم علمية قياسية. فقد يكون على درجة من عدم الاحتمال تجعل العلم يتجاهله بالكلية. فالعلم (على الأقل في صورته التقليدية) غير قادر على التعامل مع فردانية عدم الاحتمال، إنما يَسعى إلى اختزال غير المحتمل إلى المحتمل؛ ومن ثَم فإنه يستلزم تكرار العديد من الأمثلة لوقائع شبيهة كي يَصوغ منها القوانين والنظريات العامة. وأي معلومة عن الفعل الإلهي أو الغاية من الكون لن تظهر على شاشات مصمَّمة لاستقبال المتوقَّع والمحتمل فقط. ومن ثَم فإنه من المنطقي أن تكون المعلومات ذات الأهمية القصوى التي يحملها الكون مُتجاوزة للفهم العلمي بالكلية.
(٣) الضوضاء والتكرار والوحي الإلهي
علاوة على هذا، إذا كانت العملية الكونية تَحمل في أعمق طياتها معنًى لاهوتيًّا مهمًّا، فإن تشبيه المعلومات يسمح بافتراض أن الوجود «المكرر» لعادات حتمية قابلة للتنبؤ (على سبيل المثال قوانين الفيزياء أو «آلية» الانتخاب الطبيعي) لا يَعزل الكون بالكلية عن تأثير الإله المخبر بمعلومات المُفتَرَض. في بعض الأحيان كانت الطبيعانية العِلمية الحديثة تفترض أن الطبيعة سلسلة مُغلَقة من الأسباب والنتائج المادية المحدِّدة فيزيائيًّا لا يُمكن أن يخرقها أي فعل أو وحي إلهيٍّ مُمكن. لهذا السبب رفض ألبرت أينشتاين فكرة عدم إمكان اشتمال أي دين حقيقي على الإيمان بإلهٍ شخصيٍّ مُتفاعل (أينشتاين، ١٩٥٤، صفحة ١١). لكن احتكام الطبيعة إلى قوانينها، إذا التزمنا تشبيه المعلومات، لا يستلزم ذلك المزعم المتطرف. فما يبدو في الطبيعة سلسلة من الأحداث الحتمية هو مجرَّد تجريد عقلي (رياضي) لجانب واحد فقط من عملية معلوماتية أكثر ثراءً تشقُّ طريقها بالمعنى الحرفي بين الضوضاء والتكرار الواقعين على طرفَي نقيض.
بعبارة أخرى، العالم الفِعلي مزيج من النظام والفوضى. الكون المطَّلع لكن غير المكتمل الذي أتحدث عنه هنا هو عملية تتضمَّن تنظيم الفوضى المهمة المتجددة دائمًا وإعادة تنظيمها. يُوجد فيه معنى أن جميع المعلومات هي تنظيم الفوضى. على سبيل المثال، في الجمل التي أسردُها الآن، فإن العشوائية النسبية لمجموعة مُفكَّكة على سبيل المجاز لأبجدية لغة ما هي المادة الخام التي يُركِّبها الكاتب في نمط معلوماتي محدد. هي سلسلة اعتباطية تمامًا من الحروف جعلتها الجمل والفقرات التي نظمتها فيها غير اعتباطية.
أقترح أن اللاهوت الطبيعي سيكون من الأنسب له فهم التأثير الإلهي في سياق التدفُّق المعلوماتي بدلًا من التصميم، مع أن ذلك أيضًا سيكون تشبيهًا لا يُجسد الصورة الكاملة لمفهوم الحقيقة المُطلقة وَفق الخِبرة الدينية الفعلية. الفكرة من الاستعانة بتشبيه المعلومات من الأساس هي أنه يستوعب حقيقة وجود العوارض في الطبيعة. فهو لا يُصر على أن معقولية فكرة الإله تعتمد على وجود الكمال المنظم في العالم الطبيعي. على النقيض، يعتبر أنصار التصميم الذكي وكذلك دوكينز حقيقة أن الطبيعة والحياة زاخران بالطوارئ أو العوارض المناقضة للفعل الإلهي والغاية الكونية؛ ومن ثَم يَعتبرونها دليلًا مؤيدًا للإلحاد. لكن وجود إله «مجدِّد لكل شيء» يتوافق مع وجود العوارض بوفرة في التطور، على الأقل من الناحية المعلوماتية.
بالإضافة إلى هذا، فإن الطابع المعلوماتي للطبيعة يتماشى مع فكرة أن الطبيعة في جوهرها سردية. أحد توابع التطورات التي حدثت في الجيولوجيا وعلم الأحياء وعلم الفلك خلال القرنين الماضيَين هو أن الكون صار يتمثَّل لنا الآن في هيئة قصة تتكشف أحداثها، لا في حالة وجودية ثابتة جوهريًّا. وراء ذلك الطابع السردي للكون، تقف الحقيقة الأكثر تجريدًا وهي التكوين المعلوماتي للكون. التفكُّك «العشوائي» نسبيًّا هو السبيل الوحيد لأن تتيح صيرورة الكون انبثاق أنماط سردية جديدة، في بعض الأحيان على الأقل. والنزعة العشوائية للكون تجاه الفَوضى قد تكون ضرورية لتكشف أحداث قصةٍ ذات معنى. ووجود درجة من «الضوضاء» وليس نقيضها هو أمر لازم للإبداع أو الوحي الإلهي. وإذا كان مبدأ معلوماتي إلهي مُفتَرَض يُعبِّر عن نفسه بالمعنى التشبيهي عن طريق الأحداث الكونية التي تتكشف، فلن يكون من المفاجئ أن تحويَ صيرورة الكون باستمرار مخزونًا من العشوائية كي يكون لها مستقبَل حقيقي من الأساس وكي تكون لديها الفرصة لتوليد أشكال معقَّدة من النظام مثل تلك المتمثِّلة في ظواهر الحياة والعقل والثقافة. تذبذُب الكون بين الضوضاء والتكرار يناظر عملية تشفير المعلومات باستخدام حروفِ أبجديةِ لغة ما. دون قُدرة الطبيعة على الهدم، لن يكون من الممكن أن تتألَّف خلالها أي «قصة». ودون النزوع المستمر إلى حالة من الضوضاء، لن يمكن للكون أن يكون حاملًا لأي معنًى.
إذا كان يُمكن فهم عنصر الصدفة في العمليات الطبيعية من الناحية اللاهوتية في ضوء مفهوم المعلومات، فإنه يُمكن أيضًا فهم مفهوم التكرار (أو ما يُسمى خطأً «الضرورة»). تجسُّد الغاية في الكون يستلزم عنصرًا من التكرار مثل المُتضمن في الأنماط المنتظمة «الرتيبة» المحكومة بالقوانين الفيزيائية. وجود الاستحداث المفرط في التعبير سيعوق إيصال المعلومات. من ثَم فإن استلزام المعلومات نظامًا يمكن التنبؤ به إلى جانب الفوضى هو أمر ذو دلالة من الناحية اللاهوتية. إذن، هذا يَعني أنه يتعيَّن على الكون أن يسلك طريقًا سرديًّا وسطًا بين طرفَي نقيضٍ هما الفوضى المُطلَقة والتكرار المطلق.
(٤) المعلومات وقصة الكون
في صيرورة الكون، تُعدُّ الزيادات في كثافة المعلومات عوامل أساسية في تطور أشكال أعقد من الحياة والوعي بمرور الزمن. زيادة المعلومات هي المكون الأساسي لظاهرة الانبثاق، والقوة المحركة للتطور. حين اجتاز الكون مرحلة تطوُّره من المادة إلى الحياة، ومنها إلى الوعي والأخلاق والحضارة، اكتسَبَ في كل مرحلة مُنبثقة شيئًا جديدًا؛ ومن ثم غير مُحتمل نسبيًّا. تلك الأشياء المستحدَثة واقعية، وليسَت مجرَّد ستار وهمي لما يُعتبر في جوهره إما «صدفة» محضة أو «ضرورة» عمياء.
لكننا صرنا نرى أن الاستحداث في الكون المُنبثِق يناظر ما نسميه الآن المعلومات. المعلومات يمكن إدخالها باستمرار في عالَمنا دون إحداث أي تغيُّر بأيِّ طريقة في قوانين الديناميكا الحرارية. وكما يُمكنني إدخال المعلومات في معالج النصوص دون إحداث أي تغيُّر في القواعد التي تحكم المستويات الأدنى في التسلسل الهرمي الحوسبي، فإن إدخال أشكال جديدة من المعلومات في نسيج الكون يحدث بسلاسة وخفة شديدتَين إلى حدِّ أن العقليات العِلمية المحدودة عادة ما تعجز عن إدراكه.
إدخال معلومات جديدة في الكون يحدث بطريقة تجعل كل مُستوى لاحقٍ وأعلى من التطور مُعتمدًا على ما دونه من مستويات سابقة له دون أن يخرق بأيِّ حال «القوانين» الفاعلة في تلك المستويات الأدنى والأسبق. على سبيل المثال، انتقال المعلومات الوراثية لا يُعطِّل قوانين الكيمياء والفيزياء أو يُغيرها. من ثَم فإن افتراض أنه يُمكن تمييز الزيادات في المعلومات المُنبثقة أو قياسها وكأنها موجودة في المستوى المنطقي والأنطولوجي نفسه الذي تبحثه علوم الكيمياء والفيزياء. مُستوى المعلومات مُتمايز هرميًّا عن مستوى التأثر بتلك المعلومات.
لكنَّ انبثاق الاستحداث المعلوماتي له شرط ضروري وهو وجود قاعدة من الاحتمال والتكرار الداعِمين له. وهو ما يَنطبق على العمليات الحيوية والتواصُل اللفظي كما هو واضح. في حالة التواصُل اللفظي، من شأن التكرار غير الضروري لكلمات وأصوات معينة أن يجعل الرسالة تصل بوضوحٍ أكبر للمُتلقي العادي. بالمثل في حالة الحياة، لولا الأنماط المتكررة للنشاط الكيميائي والتجمُّعات الحيوية المتكررة لما انبثقت الخلية الحية «غير المحتملة» أو بقيت.
وإذا ارتقينا إلى مستوًى أعلى، نجد أن نشأة الفكر البشَري الأبعد عن الاحتمال ما كانت لتحدُث دون الاستناد إلى العمليات العصبية والفسيولوجية المتكررة المساعدة التي تُعدُّ ركيزته. الظواهر المستحدَثة المُنبثقة مستحيلة الحدوث دون الأنماط «الرتيبة» الداعمة لها التي تعمل بكفاءة موثوق فيها. ذلك التكرار واضح بشدة في دماغ الثدييات؛ فقد وهبَت الطبيعة أدمغة الحيوانات والبشر عددًا هائلًا من «الدوائر» كي تضمن سلامة العمليات المعرفية والعقلية. على سبيل المثال، مُقارنة بحاسوب — يُعدُّ فيه سلك واحد كافيًا لتفعيل «بوابة» منطقية — يُمكن أن تصبَّ آلاف الألياف العصبية في خلية عصبية واحدة في الدماغ.
لكن التكرار دون قيد يُمكن أن يُعيق التواصل. فوظيفته هي منع «الضوضاء» الناتجة عن العشوائية من عرقلة تدفُّق المعلومات. لكن التكرار قد يكون زائدًا عن الحد في الحالات التي يحول فيها دون توليد أنماط جديدة. من ثَم يجب التغلب على التكرار كي تنبثق ظواهر جديدة أصلية. فإذا وصَل التكرار إلى نقطة الجمود المطلق، فإنه يتدهور إلى الرتابة التي هي نقيض انبثاق المعلومات. لكن دون شيء من التكرار ولو قليل، يَستحيل أن تَنبثِق مستويات جديدة من التعقيد الكوني. فانبثاق الظواهر المستحدثة غير المتوقعة يستلزم التكرار الفيزيائي الذي يكون بمثابة هيكل داعم لها يُميزها عن سائر الأمور المحتملة.
قد تكون الموالفة المعلوماتية للنظام والاستحداث مع المدة الزمنية الطويلة هو جوهر «قصة» مهيبة بحقٍّ وإن لم تكتمل بعدُ؛ قصة تحمل معنًى يفوق قُدرتنا على الاستيعاب موضعيًّا وعلميًّا. وعلى أي حال، المعلومات مفهوم أكثر مرونة على الأقل من مفهوم التصميم من ناحية حملِه للمعنى. من ثَم سيكون من الملائم أكثر من الناحية اللاهوتية وصفُ الكون بأنه «سردية قائمة على المعلومات» بدلًا من وصفه بأنه مُصمَّم تصميمًا آليًّا. يتيح مفهوم المعلومات للاهوت أن يعتبر قياسًا أن الفعل الإلهي يقَع في منطقة وسط بين طرفَي نقيض هما الفوضى المطلقة والتكرار المطلق. لكنه لا يستلزم عدم الحياد عن مفهوم التصميم. فإذا اعتبرنا الكون قائمًا على المعلومات، فلن نَستغرِب وجود الفوضى المحيطة بكل ما فيه من نظام (مثلما يُفهَم من قصة الخلق الأولى الوارِدة في سفر التكوين). على النقيض، فإن مفهوم «التصميم» لا مكان فيه لتلك الفَوضى. وإذا مُنعت الفوضى، استبعِدَت الظواهر المستحدثة، وكذلك استُبعد أي تصوُّر للإله الحي بحق.
العالم الحقيقي، وكذلك أي عالم يُمكن أن يجسد بطريقة سردية معنًى ما، سيتأرجَح لا محالة بين الرتابة الناتجة عن النظام المُفرط من جانب والفوضى غير ذات المعنى من الجانب الآخر. المُخاطرة التي يَنطوي عليها أي كون قائم فعليًّا على المعلومات هي أنه قد يَحيد أحيانًا عن التوليفة «المناسبة». لكن ما أقصده هو أن أيًّا من البديلَين — سواء كون قائم على الصدفة المحضة أو كون مقيَّد بنمط آلي — لن يكون قادرًا على حمل أي معنى على الإطلاق. من ثَم فإن فكرة «التصميم الذكي» إلى جانب عدم توافُقها مع متطلبات العلم، فإنها غير مُستوفية أيضًا لمتطلبات اللاهوت بما فيها من حيرة تجاه العوارض في الطبيعة. فهي تعجز عن إدراك أن الكون يُمكن أن يكون قائمًا في جوهره على المعلومات دون أن يكون مُصممًا. لكن الجانب الآخر، جانب المادية التطوُّرية المعاصر — الذي يزعم أن أي كون يدعم العمليات التطورية الداروينية خالٍ من المعنى جوهريًّا — لا يستند أيضًا إلى دليل. منظومة المُعتقدات تلك، التي تلقى تقديرًا مُتزايدًا في الوسط الأكاديمي والفكر الثقافي في وقتنا الحالي، هي في الواقع نتاج مُغالطة منطقية منشؤها الخلط بين الصدفة والضوضاء المطلقة من جانب، وبين النظام والتكرار المطلق من الجانب المقابل. هنا تَضيع التوليفة الكونية «الفعلية» من الاستحداث والنظام بين مُطلقَين مُتنافيَين يُعتقد أن الواقع المادي يقوم عليهما دون مُسوِّغ منطقي.
من الثابت أن الكون «توليفة» من النظام والاستحداث، تسلُك طريقًا وسطًا بين التكرار المُطلق من جانب والضوضاء المطلقة من الجانب المقابل. ومن الواضح بداهةً من الخبرة العادية أن المعلومات لا بدَّ أن تحافظ على توازن محكم بين التكرار والضوضاء. فلا ينبغي إذن أن نستغرب حقيقة أن أيَّ كونٍ يَحمل معنى سيَسمح لمحتواه بأن يهيم مغامرًا بين طرفي نقيض هما التصميم الجامد والفَوضى غير المفهومة. لذا، فإنَّ أي معنى قد يحمله كوننا سيتجاهَلُه العلم الذي لا يَنظر إلا إلى ما يُمكن توقُّعه، وستتجاهله كذلك المنظورات «الواقعية» المأساوية التي تتوقَّع أن تسود الكون في حالته النهائية الفوضى المُطلقة. وقد يكون من الضروري تبني قُدرة على القراءة من نوع جديد يَكتسبها المرء بتحليه بفضيلة الأمل إذا أراد فهم أي معنًى نهائي تُعبر عنه صيرورة الكون. لكن حتى لو أدركنا ذلك المعنى فليس من الواقعي أن نتوقَّع أن نفهمه تمام الفهم قبل أن تكتمل القصة. أما في وقتنا الحالي، فأقصى ما نستطيعه هو أن نفهم شيئًا يسيرًا من أعمق ما يحمله الكون من معنى إن أمكن، وهو ما لا يَحصُل إلا إذا استشرفنا مستقبل الكون بعقولنا وقلوبنا. وبالطبع تبنِّي ذلك الموقف المتفائل يحتاج إلى جُهدٍ ديني بالغ، لكنه لا يتعارَض مع العلم، لا سيَّما إذا ما اعتبرنا الكون نظامًا معلوماتيًّا.
(٥) المعلومات والشر
يعدُّ التكرار المفرط والضوضاء غير اللازمة نظيرَين لنوعين مُتمايزَين من «الشر» الذي يقع في حيز الحياة والخبرة البشرية. الشر المُناظر للتكرار المفرط هو التكرار اللانهائي لأنماط معينة في حين أن إدخال معلومات جديدة سيتيح الفرصة لانبثاق موجودات وقيم جديدة في صيرورة الكون. في مستوى الانبثاق الكوني الذي يقع فيه البشر، أحد أمثلة «الشر التكراري» قد تكون ثقتُنا العمياء بمُدركاتنا المعرفية وهوَسنا بأمننا الوجودي إلى الحد الذي يجعلنا نتجاهل التعقيد السياسي والثقافي والعِلمي والديني الموجود في العالم. وهذا النوع من الشر قد يتَّخذ شكل مقاومة التجديد والمغامرة اللازمَين للحيلولة دون اضمحلال الحياة والحضارة البشريَّين. في المقابل، يُمكن أن يتخذ الشر أيضًا شكل الضوضاء غير اللازمة. وفي سياق النظام الكوني المعلوماتي، فإن «الشر الضوضائي» هو التجاهُل المفرط للقواعد التنظيمية التي يستحيل من دونها حمل أي معنًى.
إن وجود هذَين النوعين من الشر في العالم لا يتعارَض منطقيًّا مع الإيمان بواقعية الإبداع والوحي الإلهي. فنحن إذا أكَّدنا على أن للإله الذي يُعدُّ مصدر المعلومات طبيعة باذلة للذات وغير مُجبرة لخلقه، فلن نستغرب من أن التطور الكوني والوجود البشري قد يحيدان عن الاستقامة أو يَسلكان مسارًا مُتعرجًا، فتارة يميلان نحو العشوائية وتارة نحو الرتابة، لكنهما على الأمد الطويل قد يُكوِّنان معنًى معلوماتيًّا حقيقيًّا بين الصورة المطلقة لكلٍّ من العشوائية والنظام. المعلومات لا تستلزم عدم الحياد مطلقًا عن النظام، كما تَستتبِع فكرة «التصميم الإلهي». من ثَم إذا تعلمنا أن ننظر إلى الكون باعتباره نظامًا معلوماتيًّا، وإلى صيرورة الكون باعتبارها عملية معلوماتية، فلن نستغرب بشدة ظهور درجة ما ولو بسيطة من العشوائية أو التكرار على هامشَي تطوُّره. بخلاف فكرة المعلومات، فإن فكرة «التصميم» لا تحتمل وجود الفوضى، وتستبعد وجود أي درجة من الفوضى وكذلك الاستحداث. وحيثما يُستبعد الاستحداث يُستبعد أيضًا وجود كون مُثير بحقٍّ، ويُستبعد كذلك الوصول إلى فهمٍ مُكافئ له في التعقيد للواقع والمعنى النهائيَّين.
المراجع
-
Atkins, P. W. (1994), The 2nd Law: Energy, Chaos and Form, New York: Scientific American Books.
-
Bowker, J. (1988), Is Anybody Out There? Westminster, MD: Christian Classics.
-
Campbell, J. (1982), Grammatical Man: Information, Entropy, Language and Life, New York: Touchstone.
-
Cobb, J. B., and Griffin, D. R. (1976), Process Theology: An Introductory Exposition, Philadelphia: Westminster.
-
Dawkins, R. (1986), The Blind Watchmaker, New York: W. W. Norton.
-
Dawkins, R. (2006), The God Delusion, New York: Houghton Mifflin.
-
Einstein, A. (1954), Ideas and Opinions, New York: Bonanza Books.
-
Gould, S. J. (1977), Ever Since Darwin, New York: W. W. Norton.
-
Gould, S. J. (1989), Wonderful Life: The Burgess Shale and the Nature of History, New York: W. W. Norton.
-
McGrath, A. (2005), A blast from the past? The Boyle Lectures and natural theology, Science and Christian Belief, 17: 1, 25–34.
-
Monod, J. (1972), Chance and Necessity: An Essay on the Natural Philosophy of Modern Biology, trans. A. Wainhouse, New York: Vintage Books.
-
Newman, J. H. (1959), The Idea of a University, Garden City: Image Books, Philadelphia: The Westminster Press.
-
Provine, W. (1989), Evolution and the foundation of ethics, In Science, Technology and Social Progress, ed. S. L. Goldman, Bethlehem, PA: Lehigh University Press.
-
Seife, C. (2006), Decoding the Universe: How the New Science of Information Is Explaining Everything in the Cosmos, from Our Brains to Black Holes, New York: Viking.
-
Tillich, P. (1958), Dynamics of Faith, New York: Harper Torchbooks.
-
Tillich, P. (1967), Systematic Theology, vol. I, Chicago: University of Chicago Press.
-
Whitehead, A. N. (1925), Science and the Modern World, New York: The Free Press.