الإله والمادة والمعلومات: نحو خرستولوجيا مُرتكزة على اللوجوس على النهج الرواقي
حتى عصر الحداثة، كان أغلب المُفكِّرين المسيحيِّين يفترضون أن عالم الخلائق مكون من جزأين؛ المادي والروحي، وهما موجودان جنبًا إلى جنب باعتبارهما عالمَين مُستقلَّين وإن كانا متفاعلين. على سبيل المثال، في تفسير الإصحاح الأول من سفر التكوين فُسِّر خلق النور في سفر التكوين ١: ٣ «ليَكُن نور» بأنه نور رُوحاني لكائنات روحانية في عالم روحاني، سابق لخَلق الضوء المادي للشمس في عالم الخبرة العادية في سفر التكوين ١: ١٤.
غريزة الحيوانات والحشرات لا يُمكن أن تُعزى إلا إلى حكمة ومهارة فاعل حي أزلي، الذي وجوده في كل مكان يَمنحه قدرة على تحريك الأجسام التي يشملها حيز إدراكه اللامحدود؛ ومن ثَم على تشكيل أجزاء الكون وإعادة تشكيلها، وهي قدرة تفوق قُدرتنا نحن على تحريك أجزاء أجسامنا. (نيوتن، ١٩٥٢، صفحة ٤٠٣)
وإلا فكيف نُفسِّر نمو الأعضاء الحيوية وملاءمتها لغاياتها؟ وأخيرًا، رغم الحتمية الفيزيائية، كان يفترض وجود مساحة للفاعلية السبَبية للقوى الرُّوحانية والأخلاقية للفاعلين البشريِّين. وقد خلص نيوتن في كتابه «البصريات» إلى أنَّ واجب الإنسان نحو الله والبشر «سوف يتجلَّى لنا في ضوء الطبيعة» (١٧٣٠، صفحة ٤٠٥). إذن فإنَّ قوانين الطبيعة ليست موجودة وحدها، إنما يُوجد بالإضافة إليها قانون طبيعي يسترشد به البشر في اعتباراتهم للصواب والخطأ.
لكن بمرور الزمن خرجت العقيدة الفلسفية للمادية الكلاسيكية التي سادَت في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر بمزعم إضافي وهو أن عالم الجُسيمات المادية هو الواقع الوحيد؛ ومن ثَم لا بد أن تُختزَل جميع المعلومات الحقيقية عن الطبيعة والإنسانية في القوى السببية التي يقوم عليها التفاعُل بين المكونات الفيزيائية الأساسية. يُجسد كتاب جوليان أوفري دي لا ميتري «الإنسان الآلة» (دي لا ميتري، ١٧٤٨) الاختزال المنهجي للروح إلى آليات الجسد البشري، كما يُمثل كتاب بيير سيمون لابلاس «عرض نظام العالم» (لابلاس، ١٨١٣) الاعتقاد بأن الكون في مُجمله نظام فيزيائي مُغلَق مؤلَّف من جسيمات مُتفاعلة، وهو ما لا يترك مساحة لأيِّ فعل إلهي (عدا ربما إنشاء نظام العالم). في تلك النسخ من المادية، تحلُّ المادة محلَّ الإله باعتبارها الواقع النهائي المطلق، فيما يُستبعَد العالم العقلي من قائمة الموجودات الحقيقية. فالموجودات الحقيقية تَكشِف عن نفسها بقُواها السببية، وهي القوى الموجودة أصالة في العناصر المادية.
(١) الواحدية المُحايدة والجوانب غير القابلة للاختزال من المادة
في ذلك العصر، كان الخياران المتاحان لعلماء اللاهوت هما إما المعارضة التامة للمادية، كما فعل روَّاد المدرسة التقليدية ومُعتنقِو مذهب المثالية الفلسفي، أو محاولة تحجيم المادية بادعاء أن الاختيارات النابعة من الإرادة البشرية الحرة، التي تُوجِّهها المشاعر والمبادئ الأخلاقية، لا يمكن اختزالها سببيًّا في العمليات الطبيعية، كما اقترح إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤). افترض روَّاد المدرسة الكانطية وجود انقسام بين الطبيعة والثقافة، فسلَّموا أمرها للحتمية العلمية دون عداوة لكن بغير اكتراث. وبعد أن نحَّى اللاهوتيون الليبراليون كما أُطلِق عليهم الأسئلة الأنطولوجية إذ اعتبروها «ميتافيزيقا تكهنية»، انشغلوا بالأسئلة القيمية المتعلقة بالأخلاقيات والجماليات. واعتبروا أن الخبرة الإنسانية للجمال والحب والحسِّ الأخلاقي هي في حد ذاتها مُؤشِّرات على وجود واقع مُتعالٍ أكثر جوهرية من النظام الحتمي الموجود في الأحداث الطبيعية.
أما علماء اللاهوت التأمُّليون المعاصرون فيبدو أن لديهم خيارات عقلية أوسع. فكما قال عالِما الفيزياء بول ديفيز وجون جريبين، خلال القرن العشرين تحطَّمت أسطورة المادة، و«فقدت المادة دورها المركزي وحلَّت محلَّها مفاهيم مثل التنظيم والتعقيد والمعلومات» (ديفيز وجريبين، ١٩٩٢، صفحة ١٥). ذلك الوضع الجديد يُمكن وصفه بصيغة أخرى وهي أن مفهوم المادة اتَّسع للغاية فصار يَشمل الخواص الجوهرية للمادة (كما استُدلَّ عليها من الكواركات والإلكترونات والذرات والجزيئات … إلخ)، وطاقة المادة (إمكانية امتلاكها جهدًا حركيًّا وقابليتها للتحول)، والبِنى المعلوماتية للمادة (قدرتها على تكوين الأنماط). كان ألبرت أينشتاين هو من مايَزَ بين جوانب الكتلة والطاقة في نظرية النسبية الخاصة (١٩٠٥)، التي بيَّنت أن كتلة جسمٍ ما وطاقة حركته مُتكافئان من ناحية مقدارهما وإن كانا غير متطابقَين. فالمادة تتكون من طاقة و«كتلة سكون» (راجع الفصل الثاني من ذلك الكتاب الذي كتبه إرنان ماكمولين). على إثر ذلك الاكتشاف، بدأ فلاسفة العلم يبحثون ما إذا كانت نظرية النسبية تتطلب في النهاية «انتفاء» المفهوم المتوارث للمادة. على سبيل المثال، في علم الكون المعاصر، توجد أشكال جديدة تمامًا مفترضة من «المادة»؛ «المادة المظلمة» مثلًا لها كتلة مسئولة عن جذب الجاذبية لكنها لا ينبعث منها أي إشعاع.
(٢) الموازنة بين النزعة الأفلاطونية والنزعة الرواقية في اللاهوت المسيحي
كيف يُمكن أن تتعامل التأملات الدينية المعاصِرة مع المفهوم المتعدِّد الأوجه للمادة، الذي نتج عن فيزياء القرن العشرين؟ في موضع آخر (جريجرسِن، ٢٠٠٧) حاججتُ أن اللاهوت يَنبغي أن يهتمَّ بشدة بالمُقترحات العِلمية لمفهوم شامل للمادة باعتبارها مجالًا للكتلة والطاقة والمعلومات. حتى فكرة الثالوث الإلهي — الآب والابن والروح القدس — قد تبدو تهيئة للتطورات اللاحقة؛ ومن ثَم تُعد أساسًا فريدًا لبناء إطار أنطولوجي للعلاقات يتوافَق مع مفهوم المادة باعتبارها «مجالًا» للكتلة والطاقة والمعلومات. بالفعل منذ القرن الرابع فصاعدًا، وضع الآباء الكبادوك (جريجوريوس النيصي، وجريجوريوس النزينزي، وباسيليوس الكبير) مفهومًا للطبيعة الإلهية والحياة لا يُنظَر فيه إلى الإله باعتباره كيانًا أو شخصًا فردًا (كما اعتبره مذهب اللاهوت الخاص بالقرن السابع عشر لاحقًا)، إنما باعتباره «وحدة» من الأشخاص أو الأقطاب المتفاعِلة. في ذلك المفهوم لا تُعدُّ كينونة الإله جوهرًا مُسبق الوجود. بل طبيعة الإله التي لا يمكن الإحاطة بفهمها واستمرارية العطاء الإلهي والمحبة الإلهية هما نتاج تفاعُل مشترك بين ثلاثة مراكز للنشاط: الآب والابن والروح القدس. «الآب» هو المصدر المُطلَق للحياة الإلهية وإيجاد الكون؛ و«الابن» أو اللوجوس هو المبدأ التكويني للإله، وهو أيضًا المصدر المعلوماتي للخَلق؛ أما «الروح القدس» فهو الطاقة الإلهية التي تمدُّ أيضًا عالم الأحياء بالحياة.
التناظُر بين الأقانيم الثلاثة غير القابلة للاختزال للإله وثالوث المادة المكوَّن من الكتلة والطاقة والمعلومات ليس مجرد تناظُر شكلي. فمن المنظور اللاهوتي، لا بدَّ أيضًا من وجود رابط أنطولوجي بين الإله والعالم نتيجة البنية التجسُّدية لعقيدة الخلق: الإله موجود في نسيج العالم الطبيعي باعتباره المبدأ المعلوماتي (اللوجوس)، والمبدأ المحرِّك (الروح القدس). أما الآب الذي هو المبدأ الأول المُنشئ للكون فيظل هو المبدأ الوحيد المتعالي أبدًا، ومن ثَم فهو الإجابة على السؤال الميتافيزيقي: من أين بدأ الكون؟ وعليه، فإن فكرة اللوجوس الإلهي هي الإجابة على السؤال: من أين جاءت المصادِر المعلوماتية البادية في تاريخ الكون؟ أخيرًا، تجيب فكرة الرُّوح القدس عن سؤال: ما مصدر الطاقة والحركة الدائمة الموجودَين في العمليات الطبيعية؟ وحده التفاعل بين المعلومات (اللوجوس) والطاقة (الروح القدس) وعالم الخلائق يُنتج التجدد التطوري بدلًا من مجرد التكرار البحت (جريجرسِن، ٢٠٠٧، الصفحات ٣٠٧–٣١٤). من هذا المنظور، بالطبع، ما يعدُّه المنظور الفيزيائي الواقع النهائي، يعدُّه المنظور اللاهوتي الواقع قبل النهائي. ومن ثَم فإن المنظور الأنطولوجي القائم على اللاهوت يفترض أن الإله كامن في جوهر المادة الفيزيائية كما تصفُها العلوم (ومُتجاوز لها كذلك)، من دون دمج الإله الخالق وعالم الخلائق في وحدة واحدة.
مفهوم الإله الخالق، الذي هو المصدر النهائي لجَميع العمليات المادية، يُشير إلى وجود عنصر أفلاطوني ما يزال باقيًا في جميع أشكال مُعتقَد الألوهية (التي نَعتبرها هنا تتضمَّن بمفهومها الواسع عقيدة الثالوث). يُبقي مفهوم تعالي الإله على الفهم الديني للأسبقية الوجودية للإله (باعتباره الخالق) ولثَبات محبَّته وعطائه اللذَين كتبهما على ذاته (باعتباره المخلِّص والمحقِّق) إزاء تقلبات الدهر. لكن المنهج المتسق منطقيًّا يستلزم اعتبار الإله الخالق يخلق داخل العمليات المادية ومن خلالها وفي إطارها (وإلا فكيف يُمكن أن يخلق في ذلك العالم الواحدي؟). هذا يُشير إلى نزعة رواقية قديمة غالبًا ما تُنسى في الاعتقاد المسيحي، لا سيَّما فيما يتعلَّق بالاعتقاد المسيحي المحوري بتجسد الإله في الزمكان.
(٣) جوانب المادة التي تتعلَّق بالكتلة والطاقة
في مُنتصَف القرن التاسع عشر كان مفهوم المادة قد صار أشمل وأقل جمودًا مما كان من قبل. وفي النهاية، اكتسب مفهوم الطاقة أهمية مُساوية لأهمية الكتلة، بل تفوُّقها حتى. في كتابه «ملاحظات عن قوى الطبيعة غير الحيوية» (ماير، ١٨٤٢)، وضع الفيلسوف الطبيعي الألماني يولويوس روبرت ماير مبدأً أوعز بإحداث تغيُّر جوهري في المفهوم العِلمي للمادة. رأى ماير أن خاصية القوة أو الطاقة الجوهرية تتألف من «اتحاد خاصيتي عدم القابلية للتدمير والقابلية للتحول» (ماير، ١٩٨٠، صفحة ٧٠). بعد فترة قصيرة، في عام ١٨٥١ قال عالم الفيزياء الإنجليزي ويليام تومسون (الذي أصبَحَ بعد ذلك اللورد كلفن) مُحذرًا: «أعتقد أن العالم المادِّي ينزع إلى تبدد الحركة، وأن عملية عكس التركيز بوجهٍ عامٍّ تحدث تدريجيًّا» (تومسون، ١٩٨٠، صفحة ٨٥).
من ثَم تكوَّنت أفكار حدسية صيغت لاحقًا في قانونَي الديناميكا الحرارية الأول والثاني. ينص قانون الديناميكا الحرارية الأول على أن الطاقة لا تفنى، بل تُحفظ حين تستخدَم في الشغل وتتحوَّل إلى حرارة؛ وبدا أن الحرارة خاصية عامة للمادة. بعد ذلك في عام ١٨٦٥صاغ رودولف كلاوزيوس القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينصُّ على أن تبادُلات الطاقة غير قابلة للانعكاس. في نظام مُغلَق، يتحوَّل جزء من الطاقة إلى شغل يتبدَّد ويفقد قُدرته على أداء الشغل نفسه مرة ثانية. هكذا فإن الطاقة سمة أساسية للمادة ولكنَّها سمة تُفقِد المادة كفاءتها بمرور الزمن. وإذا فهمنا الكون باعتباره نظامًا مُغلقًا وطبقنا عليه القانون الأول للديناميكا الحرارية، نجد أن قانون الإنتروبيا يتنبَّأ برؤية مُظلمة وهي أن قدرة الكون على إنتاج الحرارة اللازمة لبقاء الكائنات الحية ستقلُّ بمرور الزمن.
المادة، بمفهومها البديهي، هي شيء لا يَفنى بمرور الزمن ويتحرك في الفراغ. لكن هذا المنظور لم يعد مقبولًا بالنسبة لفيزياء النسبية الحديثة. لم تَعُد الكيانات المادية أشياءً باقية لها حالات مُتغيرة، بل صارت أنظمة مُكوَّنة من أحداث مُترابطة. وزال عن المادة رسوخها القديم، وبزواله زالت السمات التي كانت تجعل مُتبني المذهب المادي يَعتبر المادة أكثر واقعية من الأفكار العابرة.
في معرض نقاش الفيلسوف نوروود راسل هانسن عن تأثير نظرية النِّسبية وميكانيكا الكم، تحدث عن «انتفاء خواص المادية القديمة» عن المادة بمفهومها العِلمي؛ إذ قال: «لقد انتفت عن المادة خصائصها المادية، لا باعتبارها واقعية بالمفهوم الفلسفي فحسب، بل أيضًا باعتبارها فكرة في الفيزياء الحديثة … فالخواص التي أسندها نيوتن إلى المادة؛ على سبيل المثال أن لها حالة قابلة للتحديد، ولها شكلٌ كالنقطة وصلبة غير قابلة للاختراق، لم تَعُد خواصَّ تُوصَف بها الإلكترونات؛ لأنها لا يمكن نظريًّا أن تُوصف بها» (هانسن، ١٩٦٢، صفحة ٣٤). بالطبع لا يقصد هانسن أن الأحداث الفيزيائية ليس لها أساس مادي، إنما يقصد أن مفهوم المادة خضع لمراجعات جذرية. فقد انتفَت خواصُّ المادية القديمة مثل القابلية للرصد وعدم القابلية للانقسام والتموضع.
أيضًا يُثير علم الأحياء أسئلة جديدة عن المادية بوضعه المعلومات في بؤرة التركيز. على الرغم من كل مزاعمها عن الاختزال السببي، عجزت الفيزياء (لا الكلاسيكية فحسب، بل الحديثة أيضًا) عن شرح السمات الأساسية للتطور الحيوي. ففي حين تنشأ خواص بعض المركبات الكيميائية (مثل تلك المعروفة من الجدول الدَّوري على سبيل المثال) تحت ظروف معيَّنة نتيجة التقارب الذري الذي يُمكن شرحه بالكامل بقوانين الفيزياء، فإنه لا يُوجد قانون يشرح تسلسلات الجزئيات الكبيرة للحمض النووي. لذا، فالعلاقة بين الجينومات والتقاربات الكيميائية المكونة لها علاقة اعتباطية. فالجينومات تتشكَّل نتيجة ظروف تاريخية عارضة. لكن إذا كانت البِنية المعلوماتية لتسلسلات الحمض النووي تمنحُها فاعلية سببية إرشادية، فلن يمكن استبعاد المعلومات من الصورة الشاملة. فما له فاعلية سبَبية يكون واقعيًّا كما ذكرت. في الواقع، المعلومات تُساهم في تحديد كيفية استعمال الكائنات الحية لمخازن الطاقة لديها.
(٤) المعلومات تتعلق بالاختلافات
هنا يُقابلنا سؤال: ما المقصود بالمعلومات؟ فيما يلي، أفترض أن المعلومات، بمعناها العام، لها علاقة بتوليد الاختلافات وانتشارها. والمعلومات بهذا المعنى موجودة في أساس الوجود المادي في صورة الأحداث الكمية التي تُنشئ الاختلافات باستمرار حين يَنعدِم اتِّساق المجالات الكمية وتَصير أحداثًا فردية مُتحقِّقة. تلك هي فرضية سيث لويد (٢٠٠٦) الأساسية التي ناقشها في الفصل الخامس من هذا الكتاب. لكن أغلب الأحداث الكمية يُلغي بعضها بعضًا فتتماثَل نواتجها. ولا يَكفي أن تُولِّد الأحداث الكمية اختلافاتٍ فحسب، بل يجب أن تُولِّد اختلافاتٍ لها تأثير سبيي طويل الأمد كي نَعتبرها «اختلافًا يُحدِث اختلافًا» (على حدِّ تعبير جريجوري بيتسون الشهير). أخيرًا، حين نتأمَّل الظواهر التي تُحدث اختلافًا بارزًا، نجد أنه «اختلاف يُحدث اختلافًا بالنسبة لشخصٍ ما»، شخص يُقيم ذلك الاختلاف بأنه مُهم أو بارز من ناحية ما.
يوجد مفهوم آخر للمعلومات يختلف عن مفهوم شانون، وهو الذي يُسميه بودفوت «المعلومات التشكيلية»، وهي شكل أو نمط الأشياء الموجودة. هنا يكون التركيز منصبًا على المورفولوجيا، أو دراسة الأشكال أو الخواص المحدَّدة. المعلومات التشكيلية قد تأتي من مصادر داخلية (مثل لاقحة) أو من قيود خارجية تجعل شيئًا ما يتخذ نمطًا محددًا بالنسبة إلى بيئته. تلك المعلومات التشكيلية هي جوهر معلومات شانون حين تُستخدم للإخبار بشيء ما عن البيئة. لكن لاحظ أن المعلومات التشكيلية موجودة بكثرة في العالم من حولنا، وهي تختلف حسب الأنواع المختلفة من القيود التي قد تركز عليها عملية الرصد، وكذلك حسب مستوى البحث. على سبيل المثال، هل الحلزون وقوقعته شكل واحد، أم أنهما مركب مِن شيئَين؟ من ثَم أقترح إدراج فئتَين إضافيتين تحت فئة «المعلومات التشكيلية» العامة. يبدو أن المعلومات التشكيلية لها صورتان، فهي إما تُوجد في صورة توليد الاختلافات (كما في حالة الأحداث الكمية)، أو صورة البِنى الأوسع نطاقًا شبه المستقرة أو المرنة التي تَبحثها المجالات الكلاسيكية من الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء. في القسم التالي، سوف أُشير إلى هذَين النوعين من المعلومات التشكيلية باسم «المعلومات الحاسمة» و«المعلومات التوجيهية» على الترتيب.
كما حاجَج ديكون ويسبر هوفماير (في الفصلَين الثامن والعاشر من هذا الكتاب)، فإن جانبَي الأهمية والتعلُّق للمعلومات قد يكونان موجودين بالفعل في المستوى الحيوي. لكن بصرف النظر عن المستوى الذي نعتبر أن المعلومات الدلالية تظهر فيه (سواء كان المستوى الخلوي الأساسي أو مستوى الدماغ أو مستوى التواصُل البشري) لا يَسعنا أن ننتقل بسلاسة من أحد جوانب المعلومات إلى غيره. إذ تَنبثِق سمات معلوماتية جديدة على مدى التطور. لكني أرى أن «مفهوم المعلومات التشكيلية أساسي بالنِّسبة إلى المفهومين الآخرين للمعلومات». فالمعلومات العددية الغرض منها نمذَجة المعلومات التشكيلية أو اختزالها (سواء كان مصدرها أحداثًا كمية أو كلاسيكية). أما المعلومات الدلالية فتدخل إلى الصورة حين يُبدي فاعلون بيولوجيون عناية بمُستقبلهم. لكن قدرات أولئك الفاعِلين تكون نابعة من بِنًى من المستوى الأعلى ذات طبيعة تشكيلية. وتظهر المعلومات الدلالية حين نُريد تفسير المعلومات التشكيلية لغرض معين.
السؤال هنا هو: هل يُمكن التمييز بين أنواع مُختلفة من المعلومات التشكيلية في مجالات مُختلِفة تمتدُّ من الفيزياء إلى علم الأحياء؟ إجابة ذلك السؤال مهمَّة صعبة تفُوق قُدراتي. فلتَسمحُوا لي إذن أن أُحدِّد فقط عددًا قليلًا من أنواع من المعلومات التشكيلية ذات الأهمية في سياق التأمُّلات الفلسفية والدينية.
(٥) من المعلومات الكمية إلى المعلومات البيولوجية: الحسم والبناء
في كتابه «برمجة الكون» (٢٠٠٦)، يُصوِّر سيث لويد الكون بأنه حاسوب عالَمي. لكن الكون لا يُشبه الحاسوب الرقمي كما يقترح ستيفن وولفرام (٢٠٠٢). الكون حاسوب، لكنه حاسوب كمِّي لا يحسب بالبتَّات العادية إنما بالكيوبتات. «كل جزيء وذرة وجسيم أوَّلي يُسجل بتات معلوماتية. وكل تفاعُل بين تلك الأجزاء من الكون يعالج تلك المعلومات بتغيير تلك البتَّات. أي إن الكون يُجري عمليات حوسبية» (لويد، ٢٠٠٦، صفحة ٣). وقد بدأ الكون عملية الحوسبة منذ نشأته، وما يحوسبه هو نفسه.
بإعادة صياغة طفيفة لفرضية لويد، يعني ذلك أن أيَّ حدث كمي «يفعل» شيئًا ما على أساس الحالة الآنية للكون (إذ يُؤدي عملية تبادل للطاقة) إلى جانب أنه بوقوعه «يوجه» (معلوماتيًّا) الحالة التي تليها مباشرة والتي ستَقع فيها أحداث كمية أخرى. ولأن العلاقة بين حدثين كميَّين («أ» و«ب») لا تسير في اتجاه أحادي محدَّد من «أ» إلى «ب» (رغم أن التبادلات الإجمالية بين الحدث «أ» والحدث «ب» تخضع للقيود الإحصائية لميكانيكا الكم)، فإنَّ الكيوبتات لا تتصرَّف مثل بتات الحواسيب الرقمية، ولا تُعطي توجيهات بطريقة مماثلة؛ فالحواسيب الرقمية تُشغِّل برامجها بواسطة نظام مُكونات مادية كلاسيكي. لكن الكيوبتات لا تتصرَّف مثل نظام الأرقام الثنائية، الذي يكون لكلِّ خطوة فيه احتمالان فقط (٠ أو ١)، يحدد برنامج مسبقًا أيهما سيتحقَّق (إذا كان «س» فاختر ٠، وإذا كان «ص» فاختر ١). فسلوك الكيوبتات غالبًا ما يكون له عدد أكبر بكثير من النواتج المحتملة.
نظريًّا يُمكن التنبؤ بنواتج معالجة حاسوب رقمي للمعلومات (وإن كانت نواتجه أحيانًا ما تكون غير متوقَّعة من الناحية العملية)، أما نواتج معالجة الكيوبتات فلا يمكن التنبؤ بها نظريًّا حتى. هذا يعني أننا لن نستطيع أبدًا أن نَصنع «نسخة» مطابقة للتاريخ الكمي للكون على حاسوب كمي تكنولوجي. لكن فرضية سيث لويد تَنطوي على فكرة أننا قد لا نحتاج إلى نسخة كاملة. بافتراض أن الكون في مُجمله حاسوب (بمعنى أنه يُؤدي الخطوات الأساسية ويُحدد بِناءً عليها الظروف التي ستقع فيها الخطوات المستقبَلية)، فإنه «لا يختلف» عن الحاسوب الكمي (المرجع السابق، صفحة ٥٤). أي إننا لو استطعنا تكنولوجيًّا بِناء حاسوب كمِّي محلي باستخدام الكيوبتات لا الأرقام الثنائية، يعمل بكفاءة وسرعة مُماثلين لسرعة وكفاءة العمليات الكمية الفعلية، فسنستطيع أن نحلل بدقة مقاطع محددة من العمليات الكمية. نتيجة لذلك، ستتضاعف معرفتنا بالعمليات المعلوماتية الواقعية، وسنستطيع التوصل من سلوك وتوجيهات الكيوبتات المحلية إلى صورة أعم للعمليات الكونية الإجمالية. هذا الافتراض يُثير اهتمامي، وأعتقد أن ذلك المنظور للواقع له نتائج مثيرة.
-
(١)
«تُقرر» الأحداث الكمية (تبادُل الذرات) مستقبل الكون عن طريق تأثيرات انعدام الاتساق الكمي.
-
(٢)
الكون في مستوى الكيوبتات الأساسي يعدُّ «آلة مولدة للاختلافات»؛ ومن ثَم للاستحداث المعلوماتي.
-
(٣)
نتيجة لذلك، «تميل المعلومات للتراكم» على مدى التاريخ الطبيعي للكون.
-
(٤)
ظهر «تفسير جديد للإنتروبيا» باعتبارها مقياسًا «للمعلومات غير المرئية» (لا باعتبارها فقدًا للمعلومات)؛ المعلومات غير المرئية هي التي لا نستطيع حصدها (رغم أنها موجودة بالضرورة لأن الأحداث الكمية لا تتوقف عن الوقوع ومن ثَم توليد الاختلافات).
-
(٥)
ولأنَّ الكون يماثل حاسوبًا كميًّا من ناحية اتخاذه خطوات وتوجيهه الخطوات التالية، فهو «يُحوسب باستمرار» نفسه بصرف النظر عن نتائج ذلك على الأنظمة الواسعة النطاق (التي تقع في حيِّز اهتمام الكائنات الحية).
إذن المعلومات التي نتعامل معها هنا لا تُعنى بالمعلومات الدلالية. إذ لا يحدث أي تخزين لأنماط معلوماتية «مميزة». بل يستمر الكون في حوسبته الحيادية مثل حاسوب كمي دون أيِّ اكتراث للنتائج. من هذا المُنطلَق يجوز القول إن لغة الآلة الكمية هي «الحسم»؛ أي إن العمليات الكمية تحدد مسارات فيزيائية معينة نتيجة لتأثيرات معينة، فيما تستبعد ما سواها من الاحتمالات.
هذا التطور يبلغ مستوًى جديدًا في عالم الأحياء، حين تُخزن المعلومات كيميائيًّا على نحو وطيد في الجزيئات الكبيرة للحمض النووي، وتظهر أهمية التمايُز بين ما هو داخل جسد الكائن الحي وما هو خارجه. يشير جون ماينارد سميث في مقاله المنهجي (في الفصل السابع من هذا الكتاب) إلى أن المعلومات مفهوم جوهري في علم الأحياء؛ لأن الحمض النووي — شأنه شأن الثقافة — يُعنى بتخزين المعلومات ونقلها. ويُحاجج بأنه يوجد اختلاف جوهري بين «الجينات» التي هي «شفرات» تُوجِّه إلى بناء بروتينات معيَّنة، و«البروتينات» التي تُشفرها تلك الجينات. ورغم أن البروتينات يكون لها أحيانًا تأثير سببي قوي باعتبارها محفزات أو مثبطات للجينات، فإن تأثيرها السببي على الجينات يكون اعتباطيًّا. فلا يوجد ضرورة تُحتِّم أن تُنظِّم بروتينات معينة جينات معينة؛ إنما هي مسألة صدفة أو «عطية» (كما أسماها مونو). على الجانب الآخر، فإن الجينات تشفر نتيجة محددة بدقة، مثل إنتاج العينين. الجينات ليسَت معلوماتية فقط من جانب أنها «تخزن معلومات» عن الماضي البيولوجي؛ إنما هي معلوماتية أيضًا من جانب أنها «تُعطي توجيهات» ذات أغراض تكيفية. يُحاجج ماينارد سميث بأن الجينات من هذا الجانب لا تعد ذات أهمية محورية لعلم الأحياء الجزيئي فحسب، بل لعلم الأحياء النمائي أيضًا. والجينات قصدية، لا بالمعنى العقلي للقصدية، إنما بمعنى أنها تنشد تحقيق نتائج مقصودة. وعنصر «القصدية» البَعدي ذلك في حدِّ ذاته هو أحد نتائج الانتخاب الطبيعي.
لم يتَّضح بعد إذا كان نهج السيميائيات الحيوية سيتمكَّن من توجيه الأنظار إلى أشكال من السببية لا يُمكن شرحها بالمناهج الكيميائية الحيوية التقليدية (مثل الارتباطات الكيميائية). لكن من المنظور الفلسفي، ما يُميز نهج السيميائيات الحيوية هو أنه يشرح إمكانية انبثاق المعلومات الدلالية أو «المقاصد» الحيوية بِناءً على المعلومات التوجيهية التي يُوفرها الجينوم. ومع أن نهج السيميائيات الحيوية يقوم على مفهوم المعلومات التوجيهية الموجود في مجال الكيمياء الحيوية التقليدي الذي يَبحث الجينات والبروتينات، فهو يضع قصة الجين في سياق أوسع؛ ألا وهو حياة الوحدات الأساسية للكائن الحي؛ أي الخلايا.
استكمالًا للاستعارات المستخدمة آنفًا، تكوين «عادات مبنية على المقاصد» لا يَقتصر فحسب على المعلومات الحاسمة (التي تُولِّد الاختلافات التي يَنبني عليها التطور)، والمعلومات التوجيهية (التي تُكوِّن بِنى البروتينات)، لكنه يشمل أيضًا معلومات التواصُل (وهي تُعنى باستيعاب الأنظمة الحيوية لموقف معين واستجابتها له بما يتوافَق مع مقاصدها)، وتلك الأنظمة الحيوية تمتدُّ من الخلايا وصولًا إلى الكائنات الحية. وكما سنرى الآن، تلك الجوانب الثلاثة من المعلومات تعدُّ محورية بالنسبة إلى اللاهوت المسيحي.
(٦) المعلومات وخرستولوجيا مرتكزة على اللوجوس: منظورات لاهوتية
أهدف فيما يلي إلى استكشاف كيف للتأمُّلات العلمية والفلسفية عن المادة والمعلومات، كما عرضتها فيما سبق، أن تُوضح المزاعم الكونية التي تُعدُّ أساس التراث الديني، وأعني هنا الدين المسيحي. في الوقت نفسه آمُل أن أُقدِّم دليلًا على أن نصوص ما قبل الحداثة مثل مقدمة إنجيل يوحنا ظلَّت محافظة على حساسيتها للفروق الدقيقة بين الجوانب المُختلفة لمفهوم المعلومات التي بيَّناها آنفًا. من ثَم فإن فكرة اللوجوس الإلهي في إنجيل يوحنا مرتبطة بالمعلومات الحاسمة والمعلومات التشكيلية (باعتبار اللوجوس «نمطًا»)، وبالجوانب الموجِّهة لتكوين حياة (باعتبار اللوجوس «حياة»)، وبالمعلومات الدلالية (باعتبار اللوجوس «كلمة»). ويعتبر اللوجوس متجسدًا (أي، صار «جسدًا») رغم أصله الإلهي.
تبدأ مقدمة إنجيل يوحنا (١: ١-١٤) بوضع دلالة شخصية يسوع التاريخية في سياق كوني. فتصور اللوجوس الإلهي بأنه المبدأ الخالق والمبدأ المُصوِّر للكون «في البدء» (يوحنا، ١: ١-٥)، وبأنه مصدر المعرفة لجميع البشر منذ بدء الخليقة (يوحنا، ١: ٩). ذلك اللوجوس الإلهي الحاضر في الكون كله والمؤثر فيه هو الذي صار «جسدًا» في حياة يسوع الناصري (١: ١٤). من ثَم فإن اللوجوس و«الجسد» مفهومان مترابطان، وكلاهما له تأثير كوني.
تلك التفسيرات المبكرة لإنجيل يوحنا هي دليل على أن الفكر المسيحي تأثر بالرواقية (لا الأفلاطونية فحسب)، وتأثر بها كذلك آباء الكنيسة المعادون للغنوصية. نتيجةً لذلك، ثمة رابط قوي بين طبيعة الله «الداخلية» وإبداعه «الخارجي». ويوجد دليل على ذلك التفسير في نَص مقدمة إنجيل يوحنا نفسه. إذ يقول عن اللوجوس الإلهي: «كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان» (يوحنا ١: ٣). إذا طبَّقنا ذلك على النقاشات الآنفة، يجوز القول إن اللوجوس هو «مصدر معلوماتي إلهي»، وهو إبداعي إذ يبث التمايزات في العالم (يحدد الأشياء) ويجعل الأنماط المعلوماتية تَعمل وتتناغَم بعضها مع بعضٍ (يمزج بين الأشياء). يجوز أن نصف اللوجوس بأنه البنية المعلوماتية التي تقوم عليها الصور الملموسة التي انبثقت والتي ستنبثق في عالم الخلائق.
كان الفلاسفة الرواقيون يُميزون بين العالم والله؛ إذ كانوا يرون أن اللوجوس الإلهي مبدأ فاعل، والبنى المنطقية للكون صفات منفعلة. لكنهم كانوا يزعمون أن الله مادِّي بقدر العالم الفيزيائي، لكنه من مادةٍ أرقى وأكثر نارية وهوائية. غير أن مفهومهم عن المادة كان مُخالفًا لمفهوم المادة لدى المدرسة الإبيقورية المنافسة لهم التي كانت تَعتبرها جسيمية؛ إذ كانوا يفترضون أن الكون يتألف من مجالٍ متجانس من الطاقة والمادة (مرتبط بالعناصر النار والهواء، والماء والتراب، على الترتيب). في كتابه «مقال عن الوحدة في الفلسفة الرواقية» يقول جوني كريستنسن: «لا يُمكن وصف النظرية الفيزيائية الرواقية إلا بأنها نظرية مجالية، في مقابل النظرية الجسيمية التي يقول بها أتباع المذهب الذري». لكن دور اللوجوس الإلهي على وجه التحديد هو شرح «وحدة التمايز والنظام» داخل الكون: «الحركة مرتبطة للغاية بالنظام (اللوجوس). وهي تتعلَّق بأجزاء الطبيعة، وتدل على درجة فائقة من التركيز على البناء والتمييز» (كريستنسن، ١٩٦٢، صفحة ٢٤ و٣٠).
ذلك التفسير الأخير له نتائج مهمَّة لفهم العلاقة بين الله والعالم المادي إجمالًا. إذن اللوجوس الإلهي ليس موجودًا فحسب في جسد يسوع بالتحديد. بل يوجد أيضًا — باعتباره الخالق والمُخلِّص — في مادة الوجود نفسها. من ثَم فإن موت يسوع يُحقِّق طبيعة اللوجوس الباذلة للذات لأجل الكائنات الممتلكة للحس التي تُعاني، بشرًا كانت أم حيوانات. هكذا يكون اللوجوس نورًا لا لكلِّ إنسان يأتي إلى العالم فحسب، بل هو أيضًا «نور العالم» و«نور الحياة» (يوحنا ٨: ١٢).
إذا نظرنا إلى اللوجوس الإلهي من هذا المنظور التاريخي، ووضَعناه في سياقِ الكون المعلوماتي بمفهومه الحالي، فسيُمكن اعتباره المصدر المعلوماتي الفاعل في عالم الخلائق، من خلال توليد التمايُزات من العمليات الكمية العشوائية، وتوجيه القوى المحركة عن طريق العمليات الديناميكية الحرارية، وتكوين البِنى الحيوية وإعادة تشكيلها، وتيسير تكون الروابط وعمليات التواصل في جميع المستويات الممكنة. بعض تلك الجوانب له طبيعة مُنظَّمة كالقوانين (على الأقل من الناحية الإحصائية في المجمل)، بينما يعتمد البعض الآخر على العمليات العشوائية التي تحدث على مدى التاريخ.
على هذا الأساس، يمكن أن نرى توافقًا كبيرًا بين خرستولوجيا لوجوس مُفسَّرة في إطارها الكوني، والمادة والمعلومات بمفهومهما المعاصر. يرى يوحنا أن «الجسد» الذي وُجِد في العالم المادي قد حلَّ فيه اللوجوس الإلهي، الذي اتحد مع عالم الخلائق؛ عن طريق خلق التمايُزات («المعلومات الحاسمة»)، وتكوين الأنماط وإعادة تشكيلها («التوجيه والبناء»)، وخلق تفاعلات بنَّاءة بين الكائنات الحية وبيئاتها («الاستيعاب والتواصل»)، وجعل المعنى والتواصل مُمكنًا («جعل الأشياء مفهومة»).
بِناءً على ذلك، لعله من الممكن أيضًا أن نؤكد على أهمية «نشيد إلى المادة» البديع الذي ألَّفه الكاهن اليسوعي وعالم الحفريات البشرية تيَّار دي شاردان في لحظة تعجُّبٍ مرَّ بها بعد أن خاض تجربة الحرب العالمية الأولى الصادمة. رغم ذلك، رضي تيَّار أن يَقبل العالم كما هو، بما فيه من قسوة وأهوال. ولعلَّ بعضنا يرفض منهج تيَّار التطوري التقدمي من الأساس، لكن نشيده عن المادة يعكس فهمًا عميقًا للوحدة بين الإله الخالق والعالم المادي الحالِّ فيه الوجود الإلهي:
مباركة أنتِ يا مادة جامدة، يا أرضًا بورًا، يا صَخرة قاسية، يا مَن لا تلينين إلا بالشدة، ولا تُطعمين إلا كادحًا.
مباركة أنتِ يا مادة محفوفة بالخطر، يا بحرًا هائجًا، يا شهوة جامحة، يا من تُهلكينا إن لم نَغلُلك.
مباركة أنتِ يا مادة عظيمة، يا تطورًا كاسحًا، يا واقعًا مُتجددًا أبدًا، يا من تُفجرين دائمًا أسوارنا وتَدفعيننا أن نبحث عن الحقيقة دومًا وبعيدًا.
مباركة أنتِ يا مادة شاملة، يا ديمومة أزلية، يا أثيرًا لا نهائيًّا، يا هوة مثلَّثة للنجوم والذرات والأجيال، أنت يا من تطغين على قياساتِنا الضيقة وتحطمينها فتَكشفين لنا أبعاد الله …
أُحييك، يا بيئة إلهية، حُبلى بالقوة المبدعة، يا محيطًا حرَّكه الروح، يا طينًا مجبولًا ومروضًا بالكلمة المتجسدة.
المراجع
-
Barrett, C. K. (1972), The Gospel According to St. John, London: SPCK.
-
Brown, R. E. (1966), The Gospel According to John (i-xii), New York: Doubleday.
-
Buch-Hansen, G. (2007), It is the Spirit that Makes Alive (6:63), A Stoic Understanding of pneuma in John, Copenhagen: Copenhagen University.
-
Bultmann, R. K. (1971), The Gospel of John: A Commentary, Philadelphia, PA: Westminster Press.
-
Christensen, J. (1962), An Essay on the Unity of Stoic Philosophy, Copenhagen: Munksgaard.
-
Davies, P., and Gribbin, J. (1992), The Matter Myth: Dramatic Discoveries that Challenge our Understanding of Physical Reality, New York: Simon & Schuster.
-
Deacon, T. W. (2003), The hierarchic logic of emergence: Untangling the interdependence of evolution and self-organization, In Evolution and Learning: The Baldwin Effect Reconsidered, eds. B. H. Weber and D. J. Depew. Cambridge, MA: MIT Press, 273–308.
-
de La Mettrie, J. O. (1748), Machine Man and other Writings, ed. Ann Thomson (1996), Cambridge: Cambridge University Press.
-
Einstein, A., and Infeld, L. (1938), The Evolution of Physics, New York: Simon & Schuster.
-
Emmeche, C. (1999), The Sarkar challenge to biosemiotics: Is there any information in the cell? Semiotica, 127(1/4): 273–293.
-
Engberg-Pedersen, T. (2000), Paul and the Stoics, Louisville, KY: Westminster John Knox Press.
-
Flores, F. (2005), The Equivalence of Mass and Energy, Stanford Encyclopedia of Philosophy, originally accessed 2 August 2006; substantive revision 2007 (http://plato.stanford.edu/entries/equivME).
-
Gregersen, N. H. (1998), The idea of creation and theory of autopoietic processes, Zygon: Journal of Science & Religion, 33(3): 333–367.
-
Gregersen, N. H. (1999), I begyndelsen var mønsteret, Kritisk Forum for Praktisk Teologi, 75: 34–47.
-
Gregersen, N. H. (2001), The cross of Christ in an evolutionary world, Dialog: A Journal of Theology, 40(3): 192–207.
-
Gregersen, N. H. (2007), Reduction and emergence in artificial life: A theological appropriation, In Emergence from Physics to Theology, eds. N. Murphy and W. Stoeger, New York: Oxford University Press, 284–314.
-
Hanson, N. R. (1962), The dematerialization of matter, Philosophy of Science, 73(1): 27–38.
-
Hoffmeyer, J. (2008), Biosemiotics, An Examination into the Signs of Life and the Life of Signs, Scranton and London: University of Scranton Press.
-
Laplace, P. S. (1813), The System of the World, vols 1-2, trans. J. Pond (2007), Whitefish, MT: Kessinger Publishing.
-
Lloyd, S. (2006), Programming the Universe, New York: Knopf.
-
Mayer, J. R. (1842), Bemerkungen uber die Krafte der unbelebten Natur, Philosophisches Magazin, 24: 371–377.
-
Mayer, J. R. (1980), Remarks on the forces of inorganic nature, In Darwin to Einstein: Primary Sources on Science & Belief, eds. N. G. Coley and V. M. D. Hall, Harlow, UK: Longman, 68–73.
-
Newton, I. (1952), Opticks, or A Treatise of the Reflections, Refractions, Inflections & Colours of Light, 4th ed (1730), New York: Dover Publications.
-
Peacocke, A. (2007), All That Is: A Naturalistic Faith for the 21st Century, ed. P. Clayton, Minneapolis: Fortress.
-
Puddefoot, J. C. (1996), Information theory, biology and christology, In Religion and Science: History, Method, Dialogue, eds. M. Richardson and W. J. Wildman, New York: Routledge, 301–320.
-
Richards, R. J. (1987), Darwin and the Emergence of Evolutionary Theories of Mind and Behavior, Chicago, IL: University of Chicago Press.
-
Russell, B. (1961), Introduction to A History of Materialism, by F. A. Lange (1925), In The Basic Writings of Bertrand Russell 1903–1959, eds. R. Egner and L. E. Denonn (1961), New York: Simon & Schuster, 237–245.
-
Schnackenburg, R. (1979), Das Johannesevangelium, Einleitung Kommentar Teil 1, Freiburg: Herder Verlag.
-
Stubenberg, L. (2005), Neutral monism, Stanford Encyclopedia of Philosophy, originally accessed 31 July 2006; substantive revision 2010 (http://plato.stanford.edu/entries/neutral-monism).
-
Teilhard de Chardin (1978), The Heart of Matter, London: Collins.
-
Tertullianus (c. 200), Adversus Praxeas, In Patrologia Latina, vol.2, ed. J. P. Migne (1857), Turnhout: Brepols, 160, Theophilus of Antioch (c. 190) Ad Autolycum, In Patrologia Graeca, vol. 6, ed. J. P. Migne (1866), Turnhout: Brepols, 1064.
-
Thomson, W. (1980), On the dynamic theory of heat, In Darwin to Einstein, eds. N. G. Coley and V. Hall, Harlow, UK: Longman, 84–86.
-
von Harnack, A. (1892). Über das Verhältniss des Prologs des vierten Evangeliums zum ganzen Werk, Zeitschrift fur Theologie und Kirche, 2(3): 189–231.
-
Weaver, W. (1949), Recent contributions to the mathematical theory of communication, In The Mathematical Theory of Communication, eds. C. E. Shannon and W. Weaver, Urbana: The University of Illinois Press, 94–117.
-
Wolfram, S. (2002), A New Kind of Science, Champaign, IL: Wolfram Media.
-
Zemann, J. (1990), Energie, In Europäische Enzyklopädie zu Philosophie und Wissenschaften, ed. H. J. Sandkühler et al., Hamburg: Felix Meiner, 694–696.