«الجسد الروحاني»: حول ما يمكن اعتباره «مطلقًا» في العلاقة بين الله والمادة والمعلومات
ينطلق هذا الفصل من منظور لاهوتي، لكنَّ ذلك المنظور يضع في اعتباره أيضًا معلومات عن تطوُّر الفلسفة والميتافيزيقا الكلاسيكية، وبعض الخبرات في الحوار العالَمي بين العلم والدين في العشرين سنة الأخيرة. سوف أطرح السؤال التالي: هل لنا أن نتصوَّر ونفهم الواقع الذي قصده اللاهوت الكلاسيكي حين تحدَّث عن «الجسد الروحاني»؟ وعلاوة على ذلك، هل يُمكن إقناع أصحاب التوجهات غير اللاهوتية أن ذلك المفهوم ليس منطقيًّا في سياق الدين فحسب، بل إن من شأنه أن يكون تنويريًّا حتى في خارج ذلك السياق لأنه متأصِّل في الواقع وليس منحصرًا في سياق نوع واحد معقَّد من النقاشات؟
يتطلب التحضير للإجابة عن هذين السؤالين بضع خطوات تمهيدية معقدة. أولًا، يجب التمييز بين الميتافيزيقا «القديمة» و«الحديثة» باعتبارهما إطارين ممكنين لنهجنا ذلك. ثانيًا، يجب أن نقف على فهم للخلق في ضوء الروايات الواردة عنه في الكتاب المقدس وفي ضوء الميتافيزيقا «القديمة». ثالثًا، وَفق روايات الخلق في الكتاب المقدَّس، نجد أن مفهوم الخالق باعتباره المُقيم للكون فقط من الناحية الروحانية ليس مُرضيًا ولا مُخلِّصًا للروح. رابعًا، سيؤهلنا ذلك لفهم دور القيامة في الإبداع الإلهي بصفة عامة، ويقدم لنا فهمًا لطبيعة «الجسد الروحاني» ليسوع المسيح بصفة خاصة وأهميته. خامسًا، سنُحاول فهم القوة التحويلية للجسد الروحاني وإسهام البشر والمخلوقات الأخرى فيه. على هذا الأساس نريد أن نُشرِك المُفكِّرين الأكاديميين غير اللاهوتيين معنا في الحوار ونسألهم إذا كان من الممكن أن يكون للتفاعُل الداعم والمُخلِّص والرافع بين الله والخلائق والمعلومات الروحانية ما يناظره في مجالات الخبرة التي يُعنون بها، وما إذا كان يُمكنه أن يتصدى للتصورات الاختزالية للمادة. نُجيب عن هذا السؤال وَفق الميتافيزيقا «الحديثة».
(١) التمييز بين الميتافيزيقا «القديمة» و«الحديثة»
كان ألفريد نورث وايتهيد هو أول مَن فرَّق تفريقًا مفيدًا بين الميتافيزيقا القديمة والحديثة (دون أن يستعمل هذين المُصطلحين). فهو، على جانب، يقول عن الميتافيزيقا «القديمة»: «أعني بمُصطلح «الميتافيزيقا» العلم الذي يسعى إلى اكتشاف الأفكار العامة التي لا غنى عنها في تحليل كل ما يحدث» (وايتهيد، ١٩٦٠، صفحة ٨٢). وعلى الجانب الآخر، في سياق حديثه عن الميتافيزيقا «الحديثة»، هو لا يتحدَّث عن «الميتافيزيقا» إجمالًا بل عن ميتافيزيقا دون تعريف، وعن «وصفٍ ميتافيزيقي نابع من مجال بحث واحد معيَّن، والذي قد ترسخ عن طريق برهنته على كفاءته وإمكانية تطبيقه في مجالات بحث أخرى» (وايتهيد، ١٩٦٠، صفحة ٨٦ والتي تليها). يُوضح وايتهيد أنه يمكن أن ينبثق «نوع من» الميتافيزيقا من مجالات مُتنوعة؛ الرياضات، أو علم، أو دين، أو الحدس. فما إن تنشأ نظرية مشتركة بين مجالي بحثٍ على الأقل، عن طريق الإشارة إلى أن الأفكار والمفاهيم والعمليات الفكرية الأساسية تصلح في كلا المجالَين، نكون في خضمِّ وضع «وصف ميتافيزيقي»، ونسير نحو شكلٍ من الميتافيزيقا أُشيرُ إليه باسم الميتافيزيقا «الحديثة».
ما يميز الميتافيزيقا «الحديثة» هو أنها نهج تفكير «تصاعدي» لا «تنازلي». ويحاول ذلك النوع من الميتافيزيقا تنمية الحدس وتفنيده، والارتقاء به إلى مستويات عقلية أعلى عن طريق وضعه في سياق «مجالات بحث» معيَّنة يستلزم استكشافها أنماطًا معيَّنة من التفكير. ووجود فروق بين التفكير الحدسي والتفكير الذي يستلزمه الانخراط في أحد تلك المجالات على الأقل، ناهيك عن وجود فروق في أساليب البحث المعرفي بين اثنَين على الأقل من هذه المجالات (على سبيل المثال العلم واللاهوت)، يدفعنا إلى تطوير ميتافيزيقا «حديثة».
(٢) مفهوم الخلق في الميتافيزيقا «القديمة» وفي روايات الكتاب المقدس الكلاسيكية
في تمايُز كبير، تعرض لنا قصة الخلق الآبائية في الإصحاح الأول من سفر التكوين صورة أدق تفصيلًا. فبكلمة الله، صارت المادة العشوائية قادِرة على اكتساب الصور والأشكال والطاقة والحياة. فالنجوم والأرض والماء والبشر خُلِقوا كي يُشاركوا الله بفاعلية طاقته وقدرته. وقد استُعمِلَت الأفعال المُستخدمة في عملية الخلق الإلهي أيضًا للدلالة على مشاركة المخلوقات في عملية الخلق، أحياءً كانوا أم جمادات. وإزاء التخوف المنتشر من اعتبار اشتراك الخالق والمخلوق في الخلق «تآزرًا»، لا بد من إدراك أن قصة الخلق هذه لا تتعامل من منظور العلاقات بين بنيتَين فقط (الله والخلق، الله والعالم، الله والبشر). تتْبع تلك الرواية منظور العلاقة بين بِنية الله وبِنًى أخرى عديدة تُمنَح فيها مخلوقات معيَّنة حصةً مِن قُدرة الخلق الإلهي حسب مكانتها. فالمخلوقات تُشارك بطرق عدة في تكوين الخليقة. ففيما يخص السماوات، تحكم النجوم الأزمنة وأيام الأعياد، والأرض تُخرِج المخلوقات، والبشر موكلون بأن يحكموا المخلوقات، ومن ثَم فهم يَعكسون صورة الله.
في تلك العلاقة بين الله وأطراف متعدِّدة، ليس لمخلوق قدرة على أن يتصرف نيابة عن الله، مع ذلك فإن المخلوقات تَمتلك قدرةً كبيرة على الخلق. وتلك القدرة تمكن البشر وغيرهم من المخلوقات من أن يمارسوا قُدرتهم على الخلق بحرية ويتصرَّفوا على نحو مستقل؛ ناهيك عن أنها تُمكنهم من تعريض أنفسهم للخطر والهلاك. وتوجد عدة مؤشرات في قصة الخلق تدعم ذلك الفهم الواقعي في مُقابل أوهام «صانع الساعات المثالي» (والتي دائمًا ما تأتي ملازمة لمسألة العدالة الإلهية). إذن المخلوقات المشاركة في الخلق تظلُّ مخلوقات. فرغم ما لديهم من قدرة، هم ليسوا آلهة (كما تعتبرهم بعض روايات الخلق القديمة). وكذلك ليست السماوات والشمس والقمر والنجوم والأرض بقُوى إلهية. كما أن نبرة أن البشر هم «السادة والمُخضعون» التي تعكسها «الدعوة إلى التسلُّط» السيئة السمعة تشير إلى أنه يجب موازنة الصراع بين البشر والحيوانات على موارد البقاء المشتركة. من الواضح أن البشر قد مُنِحوا الأفضلية، مع ذلك، في خضمِّ سعيهم وراء تحقيق مصالحهم الذاتية وتفضيلهم تكاثرهم وانتشارهم في ربوع الأرض، عليهم أن يعكسوا صورة الله للمخلوقات الأخرى، وهو ما يَعني أن يتصرفوا وَفق التصورات القديمة للحكام النُّبلاء فيُعاملوا الضعفاء برحمة وعدل.
(٣) «الخلق» نفسه يُشير إلى أن الله أكثر من مجرد داعم للكون
هنا ندرك حقيقة أن أي «معرفة فطرية بالإلهي» مرتبطة بمشكلات ملحة، كما بَيَّن جون كالفن بوضوح في مطلع كتابه «أسس الدين المسيحي» سنة ١٥٥٩. أي منظور يعتبر الله خالقَ الكون وداعمَه لن يتغلَّب أبدًا على حسِّ التناقض والاضطراب الناتجين عن أي لاهوت «طبيعي» عن الخلق. يصف كالفن ذلك «الإحساس المتأصل بالإلهي» — الذي يراه مُسلَّمة لا تقبل النقاش — بأنه «غير راسخ ومتذبذب» (كالفن، ١٥٥٩، الجزء الأول، الفصل الثالث، القسم الثالث).
إذا لم نُفنِّد تلك الخبرة الواقعية للخلق من خلال منظور الميتافيزيقا «القديمة»، فسيلزم أن نقر بأن قوة تُقيم الكون فقط — مهما كانت جبارة — ليسَت أهلًا لأن توصف بأنها «إلهية». وبالمِثل، لا يرقى تجسيد تلك القوة ولا «غايتها» لأن يوصفوا بأنهما «الإله». وإزاء محدودية الحياة وحقيقة أنها تقوم على حساب حياة أخرى، وأن قدرة المخلوقات على المشاركة في الخلق تَنطوي على إمكانية تعريض الذات للخطر وإهلاكها، لا بد لنا أن نسأل الخلاص والرفعة من إله خالق كي نسمو فوق التناقض البالغ الذي صوَّرناه لتونا.
وكما هو واضح «الخلاص والنجاة» في تلك الحالة لا يَعني فقط تقويم مسار العمليات الطبيعية. لا شكَّ أن حياتنا وخبراتنا الدنيوية من ولادة وشفاء ومسامحة وتصالح وسلام تعكس عمق عناية الله وإرشاده لخلقه. وتلك الخبرات من شأنها أن تَستدعي الامتنان والفرح والتمجيد والإجلال. لكن يظل سؤال يلح علينا وهو: هل يُمكن أن تتجاوز قدرة الله على الإبداع محدودية حياة المخلوقات نفسها وتناقُضها العميق؟ هذا السؤال لا يمكن طرحه وإجابته دون التطرُّق إلى موضوعين صعبَين في علم الأُخرويات (الإسخاتولوجي)؛ وهما الخلق الجديد والقيامة.
(٤) الإبداع الإلهي كما يتجلَّى في قيامة المسيح وجسده الروحاني
عرف الشاهدان المسيح المُقام لا من سلامه وكسر الخبز وتحية السلام، وطريقة توضيحه لهما الكتب وبغيرها من العلامات فحسب، بل من مظهره أيضًا في الضوء. وهذا يُناقض بوضوح أي خلط بين القيامة والإحياء الجسَدي. وتؤكد عدة خبرات مُتنوِّعة قابلَ فيها شهود المسيح أنه باقٍ وسيظلُّ حاضرًا «بجسده» بيننا. على النقيض تُبين روايات القبر الفارغ لحظة تجلٍّ واحدة فحسب، وهو حتى إن كان تجليًا مَهيبًا من الرسل السماويِّين، فهو لا يكفي لإقامة إيمانٍ على أساسه. بل إن ما بقيَ بعد القبر الفارغ هو الخوف والدهشة والصمت (كما جاء في إنجيل مرقص). في الوقت نفسه، ذاع الاعتقاد بأنَّ الجسد قد سُرِق، واستُخدِمَ لترويج الشائعات، وانتشَر (في إنجيلي يوحنا ومتى). وَفقًا لإنجيل لوقا، جرى تجاهُل ما شاهدته السيدتان عند القبر باعتباره «ثرثرة نسائية».
لكن تأكُّد قيام المسيح لا يدلُّ على أنه موجود على الصورة التي كان عليها قبل صلبه وقيامته. في الواقع، كامل جوهر شخصه وحياته موجود الآن «في الروح وفي الإيمان». هذا الوجود «في الروح وفي الإيمان» يصعب فهمه، ليس فقط على أصحاب الفكر الطبيعاني والعلمي الذين عادةً ما يُركزون بدلًا من ذلك على مزايا ومناقب الإحياء الجسدي. على النقيض، فإن كمال شخصية المسيح وحياته يُؤكد على جماعة الشهود المتَّحدين في الروح والإيمان وذكراه في النصوص المقدسة. على هذا النحو، فإن كامل حياة يسوع، أي، قوة تأثيره وقدراته، حاضر وفاعل في المسيح المُقام والمرفوع.
وجود المسيح المُقام يَعكس قوى الحبِّ والتسامح والشفاء ومحبَّته للأطفال والضعفاء والمنبوذين والمرضى والبؤساء. علاوة على ذلك، فإن القدرة على مصارعة ما أطلق عليه «السلاطين وولاة العالم» تبدأ تتَّضح في وجوده؛ على سبيل المثال في صراعه مع المؤسسات السياسية والدينية بحثًا عن الحقيقة والمُطالَبة بالعدل الحقيقي. إن شخص يسوع المسيح وحياته مصدر تحفيز لتجديد الأعراف والثقافات وغيرها من التأثيرات الإبداعية. وقد أدرك الشهود وجود المسيح المقام من خلال العديد من العلامات — بما فيها علامات بسيطة — تدلُّ على المحبة والشفاء والتسامح والإخلاص والتقبل والسعي الحثيث إلى العدالة والحقيقة. على هذا المنوال التدريجي، المسيح وملكوت الرب «قادمان».
إلى جانب هذا القدوم المنبثق الذي يُصلي المسيحيُّون لأجله «الصلاة الربانية»، تتناول نصوص الكتاب المقدس أيضًا المجيء الأخير لابن الإنسان. وهي تتطرَّق إلى رؤى إسخاتولوجية، وهي رُؤى بالضرورة لأنَّ المسيح المُقام المرفوع لا يأتي في سنة محدَّدة أو منطقة محددة من العالم. إنما يأتي في جميع الأزمنة وجميع المناطق في العالم. وكما تقول عقيدة الآباء الرسل، هو يسود «الأحياء والأموات». تلك الرؤية مُتعالية بالضرورة على كل التصورات الطبيعية والتجريبية. لكن تلك الرؤية المهمَّة والشافية تُعارض الفوقية الظاهرة والمستترة لدى ثقافات وحِقَب معينة.
إذا لم تكن لدينا سوى رؤية ابن الإنسان آتيًا وجميع الملائكة القدِّيسين معه «فإننا أشقى جميع الناس» كما قال بولس الرسول في الإصحاح ١٥ من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس. فالحديث عن المسيح «الآتي» يصير مُطمئنًا؛ لأنَّ «الآتي» لن يُكشَف عنه لأول مرة في نهاية الزمان، بل هو بينَنا بالفعل الآن باعتباره المسيح المصلوب المُقام؛ ولأن المصلوب المُقام كان موجودًا في صورة يسوع التاريخي قبل الصلب والقيامة وعُرِف من خلال قرب حياته وأعماله البشرية من البشر وهو في صورته المتجسِّدة. لهذا السبب، لا يمكن أن نفصل ذكرى يسوع التاريخي عن إدراك أن المسيح المصلوب المُقام موجود وسوف «يعود» في المجيء الثاني. وأنَّ الله الخالق والمنجي موجود هنا، يحيط مخلوقاته بعنايته ويدعم الحياة في صراعها مع قوى الخطيئة والموت. تلك القوى مُمثَّلة بوضوح في صليب المسيح.
على صليب المسيح، أُدِين يسوع باسم السياسة والدين. وأُعدِم باسم القانون اليهودي والروماني. حتى الرأي العام كان ضدَّه: «فصرخوا أيضًا: «اصلبه!»» (مرقص، ١٥: ١٣-١٤). اليهود وغير اليهود، اليهود والرومان، أبناء البلد والأجانب جميعُهم اتَّفقوا على ذلك. اتحدت جميع السلاطين والقُوى، وانهار «جهاز المناعة» العالَمي. في واقعة الصَّلب، سقطت الحسابات والموازَنات التبادلية بين الدين والسياسة والقانون والأخلاقيات. وتضاءلت جميع الصراعات بين المحتلِّين وأصحاب الأرض، وبين القوة الكبرى والمضطهَدين. حتى تلاميذ المسيح خانوه؛ إذ تركوه وهربوا، كما تُبيِّن بوضوح روايات واقعة العشاء الأخير وقصة بستان جَثسيماني، و«ليلة الخيانة».
يكشف الصليب كما تقول نصوص الكتاب المقدس أن «الكل تحت الخطية». إنه يكشف ليلةً لم يَهجُرِ اللهُ فيها يسوع نفسه فحسب، بل العالم بأكمله. يكشف الصليب وجود العوز والشقاء، لا في ساعة موت يسوع فحسب، بل أيضًا باعتبارهما خطرًا حقيقيًّا موجودًا في كل وقت. والقيامة مُخلِّصَة من ليلة الهجر. ما يجلب الخلاص هو فِعلُ الله لا المساعي البشرية. لا تتجلى القوة المُخلِّصة الحقيقية والضرورة الحتمية للقيامة إلا في مواجَهة الصليب. وفي مواجهته تُدرَك حقيقة أن الله وحده هو المخلِّص للبشرية في ضوء إمكانيةِ وحقيقة أنَّ البشرية إن تُركت وحدها فستَهلك رغم النوايا الطيبة والأنظمة المتقَنة الإحكام. حتى «القانون الحسن» لله يُمكن للبشر أن يُفسدوه تمامًا ويسيئوا استغلاله تحت سلطة الخطية. حينها تَنتصِر الانحرافات في الدين والقانون والسياسة والرأي العام. ومن ثَم فإنه من الضروري أن ندرك أن الله هو منقذ البشرية، وأنها من دونه تضيع تمامًا. والكيفية التي يُنقِذها بها مُهمة أيضًا؛ فهي وإن كانت نافذة فإنها تدريجية لا تتحقَّق بحدث عظيم يَصحبه تهليل. وبقدر ما يُعدُّ تصوير لوحة مذبح إيزنهايم للقيامة مذهلًا، فإن شهود القيامة في روايات الكتاب المقدس يصفُون حقيقة فعل الله المُخلِّص وصفًا مختلفًا تمامًا.
(٥) القوة التحويلية للجسد الرُّوحاني: الإعانة والنجاة والتكريم في الحياة الأبدية
لن يكون ثمة أي أمل حقيقي في حيواتنا إذا لم يكن هناك اتصال بين وجودنا الجسدي على الأرض — الذي يُشكِّله بلا ريب جسدنا المادي — وجسدنا الرُّوحاني الذي تُشكِّله قوى الإيمان والحب والأمل. يتحدَّى بولس الرسول أهل كورنثوس الذين يريدون أن يَربطوا بين المسيح في هذه الحياة وفي الأبد، لكنهم في الوقت نفسه يريدون أن يتركوا مساحة لأي سلوك متعلِّق بالجنس والطعام، فالجسد الدنيوي سيموت في كل الأحوال. «في منظور بولس الكلي … واقع الخلاص ليس واقعًا مُنفصلًا عن الحياة الخارجية العادية، وليس مجرد واقع ديني للحياة الداخلية للشخص. بل يضم ويشمل الخبرة الإنسانية برمَّتها، والشخصية برمتها … ولذلك السبب بالتحديد، يتحدَّث بولس عن «القيامة» لا عن أشياء مثل «الخلود الروحاني» و«الأرواح المتسامية»» (لامب، ٢٠٠٢، صفحة ١٠٤ والتي تليها).
تلك الواقعية الأنثروبولوجية مُرتبطة بواقعية إسخاتولوجية تنظر إلى أي تصور عن الخلق في ضوء الخلق الجديد. تلك الواقعية الإسخاتولوجية تؤكد أن الله الخالق ليس مجرد مُعين أو مقيم للكون؛ لأنَّ ذلك الكون مليء بالغموض واليأس الناتجين عن حرية المخلوقات المشاركة في الخلق وإمكانية إساءة استخدامها؛ إنه مليء بالغموض واليأس نتيجة للوحشية الكامنة للحياة البشرية ومحدوديتها الموجودة في الجسد المادي. مجرَّد اليقين، بأن الله الثالوث يفتح أمام الخليقة إمكانات أكثر ثراءً من حيواتهم المحدودة التي تنتهي بالموت في أوانهم أو غير أوانهم، ليس كافيًا لأن يَنبني عليه إيمان وأمل قوي في وجود أبدي في الجسد الروحاني. وفقًا لبولس الرسول، وجود المسيح المُقام — مُنفصلًا عن حياته وجسده قبل القيامة ومتصلًا بهما، وبالتوجه الروحاني القوي والمعلومات التي يخبر بها ذلك الحضور — يفتح منظورًا جديدًا تمامًا. أولئك الذين يعيشون في المسيح باعتبارهم أعضاءً في جسدِه — بوعي أو بغير وعي منهم — يتحوَّلون إلى مثله ويستمرُّون في الحياة الأبدية لله.
(٦) بعض الدروس والرُّؤى لأجل الحوارات المتعدِّدة التخصُّصات حول ذلك الموضوع
في هذا الصدد، من شأن منهج بولس الأنثروبولوجي أن يقدم لنا بعض الأدلة، حين نتأمل وصفه لأفعال الروح. من المنظور اللاهوتي والأنثروبولوجي، يُمكِّن الروح القدس الوجود المشترك والاتصال وحتى التفاعُل مع الغائبين، ومن ثَم فإنه يجعلهم حاضرين في غيابهم. من خلال الرُّوح القدس، يتواصل الله غير المرئي مع الروح البشرية ويبث إليها بواعث إبداعية. لكن قدرة الروح على التواصل يمكن أن تبتدئ بطريقٍ بشَريٍّ من أسفل إلى أعلى. وفقًا لبولس، حتى الغائبون يُمكن أن يتواصلوا تواصلًا حقيقيًّا مع الآخرين «بالروح»، رغم وجودهم في موضع مختلف من الزمان والمكان. بتذكُّر زياراته وتعاليمه ووعظه، ومن خلال توسُّلاته لله، وكذلك من خلال خطابات الآخرين ورسائلهم، فإن بولس حاضر في المجتمع «بالروح». وحضوره ذلك ليس مجرَّد محض خيال.
يرى بولس أنه حاضر «روحانيًّا» في المجتمع. ففي الإصحاح الخامس من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، يصف عملية التواصُل الرُّوحاني والفعل المشترك تلك إذ يقول: «فإني أنا كأني غائب بالجسد ولكن حاضرٌ بالروح، قد حكمتُ كأني حاضر في الذي فعل هذا، هكذا: باسم ربنا يسوع المسيح إذ أنتم ورُوحي مجتمعون مع قوة ربنا يسوع المسيح» (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، ٥: ٣–٤). «اسم» و«قوة ربنا» وقطعًا روح ربنا (مع أنها لم تُذكَر صراحة في تلك الفقرة)، لها دور مهمٌّ هنا في اتصال الجمع، حتى وإن كان دورًا عامًّا للغاية؛ أي بحضور جسدي مشترك ودون حضور جسدي. لكن ليس من الضروري الإشارة إلى «الروح القدس» كي تُفهَم عملية الاتصال الروحاني تلك بين بولس وأهل كورنثوس. إذ يمكن أن نشرح الوظائف الأساسية للروح البشرية دون تطرق مباشر إلى الجوانب اللاهوتية.
المراجع
-
Assmann, J. (1992), Das kulturelle Gedächtnis, München: Beck.
-
Assmann, J. (2000), Religion und kulturelles Gedächtnis, München: Beck.
-
Calvin, J. (1559), Institutes of the Christian Religion, trans. Henry Beveridge (2008), Peabody, MA: Hendrickson Publishers.
-
Eckstein, H.-J., and Welker, M., eds. (2006), Die Wirklichkeit der Auferstehung, 3rd ed. Neukirchen-Vluyn: Neukirchener Verlag.
-
Habermas, J. (1987), Metaphysik nach Kant, In Theorie der Subjektivität, eds. K. Cramer et al., Frankfurt: Suhrkamp, 425–443.
-
Lampe, P. (2002), Paul’s concept of a spiritual body, In Resurrection: Theological and Scientific Assessments, eds. T. Peters, R. Russell and M. Welker, Grand Rapids: Eerdmans, 103–114.
-
Peters, T., Russell, R., and Welker, M., eds. (2002), Resurrection: Theological and Scientific Assessments, Grand Rapids: Eerdmans.
-
Polkinghorne, J., and Welker, M. (2001), Faith in the Living God, A Dialogue, Philadelphia: Fortress; London: SPCK.
-
Welker, M. (1999a), Creation and Reality, Philadelphia: Fortress.
-
Welker, M. (1999b), Was ist Pluralismus? In Wertepluralismus, Sammelband der Vorträge des Studium Generale der Ruprecht-Karls-Universität Heidelberg im Wintersemester 1998/99, Heidelberg: C. Winter.
-
Welker, M. (2000a), Kirche im Pluralismus, 2nd ed. Gütersloh: Kaiser.
-
Welker, M. (2000b), What Happens in Holy Communion? Grand Rapids: Eerdmans.
-
Welker, M. (2008), Kommunikatives, kollektives, kulturelles und kanonisches Gedächtnis, In Jahrbuch fur Biblische Theologie, Bd. 22: Die Macht der Erinnerung, Neukirchen-Vluyn: Neukirchener Verlag, 321–331.
-
Whitehead, A. N. (1960), Religion in the Making, (originally 1926), New York: Meridian.