معضلات قائمة: مفهوم المادة في تاريخ الفلسفة والفيزياء المعاصرة
بانتهاء حقبة العصر الحديث، ترسَّخت في أذهان العامة رؤية معيَّنة للعالم. على عكس مُعظم المواقف الفلسفية، التي تختلف كثيرًا عن النظريات العلمية، كانت يُنظر إلى تلك الرؤية على أنها نتيجة مباشرة للعلم، بل وحتى «الشرط اللازم» لقيام جميع النشاطات العلمية. اختزالًا، لنُسمِّي تلك الرؤية «المادية».
قامت المادية على خمسة افتراضات أساسية:
-
(١)
المادة هي المكوِّن الأساسي للعالم الطبيعي.
-
(٢)
تؤثر القوى على المادة.
-
(٣)
الجسيمات المادية الأولية أو «الذرات» — والقوى الفيزيائية الأساسية، أيَّا كانت — هي المحدِّدة لحركة جميع العناصر في الطبيعة. من ثَم، فإنَّ المادية تَستتبِع الحتمية.
-
(٤)
كل العناصر الأكثر تعقيدًا التي نُقابلها في العالم الطبيعي هي تجمُّعات من تلك الجسميات الأولية، ويُمكن فهم تحرُّكاتها وسلوكها في النهاية في ضوء القوى الفيزيائية الأساسية التي تُؤثر عليها. كل الموجودات هي نتاج لتلك الجسيمات والقوى. بمعنًى أدق، لا توجد قوى بيولوجية فريدة (قوة حيوية أو «روح»)، ولا قوى واعية (ثنائية العقل والجسد)، ولا قوى إلهية (ما صار يُعرف باسم الميتافيزيقي أو الخارق للطبيعة). من ثَم، استلزمت المادية إقصاء الثنائية،١ والسبَبية التنازلية (بو أندرسن وآخرون، ٢٠٠٠) والفعل الإلهي.٢
-
(٥)
المادية مَوقف أنطولوجي، فهي تُحدد أي الأشياء موجود وأيها غير موجود. لكنها يُمكن كذلك أن تعدَّ بحثًا فيما يُمكن أن يُعد أو لا يُعد تفسيرًا علميًّا. حين تجتمع مع انتهاج لمنهج الاختزال العلمي، على سبيل المثال، فهي تَستلزم أن تكون جميع التفسيرات العلمية في نهاية المطاف قابلة للاختزال إلى تفسيرات الفيزياء الأساسية. ولا يكتمل أي علم آخر، كعلم الأحياء أو علم النفس مثلًا، إلا بعد أن نَكتشف القوانين التي تربط بين ظواهره والفيزياء. من ثَم تَستقصي المادية في صورتها الاختزالية — التي كانت الصورة الأكثر نموذجية لها في الماضي — تفسيرات العلوم التي تأخُذ في الاعتبار السببية «التنازلية»، التي تُعرف أيضًا باسم «الانبثاق القوي».٣ قد يكون الماديُّون مُنقسمين حول ما إذا كان بالإمكان تحقيق تلك الاختزالات بالفعل، وإن أمكن فمتى. لكن تظل إحدى استنتاجات المادية في أغلب صورها الحديثة هي أن ذات عالمة بكل شيء ستكون قادرة على اختزال جميع الظواهر العليا إلى مواضع الجسيمات الأولية وكمية الحركة الخاصة بها.
في الصفحات التالية أُحاجِج بأن هناك أسبابًا فلسفية وعِلمية تدعو إلى الشك في صلاحية ذلك التصور السائد للمادية. في تاريخ الفلسفة الغربية، كما سنرى، يتبيَّن بوضوح صعوبة صياغة مفهوم عمَلي للمادة. وقد أنتجَت الفيزياء في القرن العشرين أسبابًا قوية للاعتقاد بخطأ بعض المُعتقَدات الجوهرية للمادية. حين تَجتمع تلك النتائج مع نظريات المعلومات والتعقيد والانبِثاق الجديدة، الواردة بإيجاز في مواضع أخرى مِن ذلك الكتاب، فإنها تشير إلى تفسيرات بديلة للعالم الطبيعي تستحق التدقيق المتأني والتقييم النقدي.
(١) مفهوم المادة في تاريخ الفلسفة
حين يبدأ المرء في تقصي تاريخ مفهوم المادة في الفلسفة الغربية، يتبيَّن دينامية غريبة. يبدو أنه في كل مرة حاول فيها الفلاسفة المنهجيون العظماء تعريفها، كانت تتفلَّت من قبضتهم مرة تلو الأخرى. ما ينفكُّ الفلاسفة الذين يزعمون أنهم يُقدِّمون حلًّا للمُشكلات المفاهيمية ويُوفِّقون بين المدارس المتعارضة — أفلاطون وأرسطو وتوما الأكويني وديكارت ولايبنتس وهيجل ووايتهد — يَفشلون في تقديم مفهوم جوهري للمادَّة، مما يترك القارئ كل مرة خالي الوفاض. حين يُضيف المرء المعضلات الفلسفية المتكرِّرة التي تنشأ داخل نظريات المادة إلى التطورات التي حدثت في الفيزياء التي نستعرضها بإيجاز في القسم التالي، يبدأ في التساؤل إذا كان ثمة قصور ما في الأساس في فكرة أن الكون مبني من المادة.
ينطبق ذلك الوصف على مجموعة كبيرة من الفلاسفة في الغرب، إلا أنه يُلائم فلسفة أفلاطون بدقة بالغة. ورث أفلاطون تراثًا ثريًّا من الفلسفة الطبيعية تطوُّر في عصر ما قبل سقراط. بنى فلاسفة عدة تفسيرات مُتباينة لما يُمكن أن يكون «الآرخي» (الأصل) أو المبدأ الأول، الذي يعدُّ لدى كثيرين تفسيرًا للطبيعة وخواص المادة. بالنسبة إلى طاليس كان الماء هو المكون الأساسي لكل شيء؛ وبالنسبة إلى إمبادوقليس كان ذلك هو التراب والهواء والنار والماء؛ وبالنسبة إلى بارمنيديس كان المنطق؛ وبالنسبة إلى هرقليطس كان مبدأ التغير نفسه («أنت لا تخوض في النهر نفسه مرتين»). أدرك أفلاطون أن ذلك التباين في المواقف غير المتوافِقة يضع مجموعة من المُعضلات أمام الفلسفة: هل كل شيء جزء من كلٍّ واحد، أم إن «التعدد» هو الحقيقة المطلقة؟ هل التغير حقيقي أم مُتوهَّم؟ ما الذي يُوحِّد اختلاف المظاهر؟ كما هو معروف جيدًا، وجد أفلاطون الحل في عقيدة «المُثُل». الحقيقة المطلقة هي «إيدوس»؛ فكرة الشيء. تلك الأفكار موجودة في عالم عقلي بحت وهي بمثابة أنماط أو نماذج تُستنسَخ منها جميع الموجودات. فهذا العنصر شجرة لأنه مشارك في مثال الشجر، وذلك وضع عادل لأنه مُشارك في مثال العدل.
المادة هي «ما يُصنَع منه مصنوع، ويكون موجودًا في [ذلك المصنوع] مثل برونز التمثال وفضة الوعاء» (أرسطو، ١٩٣٤، ٢-٣، ١٩٤، ٢٣–٢٦). اعتقد أرسطو أن افتراض وجود تلك المادة باعتبارها مُطلقًا غيبيًّا سيسمح له بتفسير ما يجعل الشيء ما هو عليه:
ما علَّة وحدة الشيء الكروي والبرونز؟ تتَّضح لنا الإجابة إذا أدركنا أن أحدهما مادة والآخر صورة. إذن ما علَّة ذلك، علة انتقال شيء من حيِّز الإمكان إلى حيز التحقق، في حالة الأشياء التي يمكن صناعتها، إلا الصانع؟ إذ لا يوجد أي علَّة أخرى تجعل كرة في حيز الإمكان موجودة بالفعل؛ فهذا هو جوهرها.
تعلق جيل قائلة: «وَفقًا لتفسيره للمركَّبات الوارد في الكتاب السابع من كتابه «الميتافيزيقا»، مادة مثل البرونز هي كيان مُنفرد ينتمي إليه الشكل الكروي. من ثَم فإن الشكل الكروي موجود في البرونز، كما تُوجد تلك الصورة في تلك المادة … مشكلة الوحدة بالنسبة للمركَّبات المادية هي أن المرء يجب أن يُحدد شيئين منفصلين؛ المادة والصورة» (جيل، ١٩٨٩، صفحة ١٤٢).
تبدأ المشكلات في الظهور حين يسعى المرء لفهم الماهية الفِعلية لتلك المادة. لم ينجح أرسطو قط في وضع نظرية منهجية للمادة، ويتطلَّب تحقيق الاتِّساق بين تعليقاته المبعثرة وضع فرضيات إضافية. ينوه فرودنتال في بحثِه حول نظرية أرسطو للجوهر المادي قائلًا:
في نظريته عن المادة لا يُوجد «ضرورة منبثقة من الأسفل»: فمادة أرسطو لا تنظم نفسها تلقائيًّا إلى جواهر منظَّمة مثل الكائنات الحية. لكن من الواضح أن الصور تنبثق في المادة؛ إذ تظهر الكائنات الحية … يَستتبِع ذلك عدم إمكان تفسير البنى الموجودة في العالم المادي في إطار نظرية أرسطو الوحيدة عن المادة، لذا يجب أن يتضمَّن الأمر افتراضات تفسيرية إضافية.
تكرَّرت مشكلة أرسطو القديمة في أعمال توما الأكويني في القرن الثالث عشر. على عكس اللاهوتيين الأفلاطونيِّين، سعى توما الأكويني إلى تأكيد العالم التجريبي وتناول مسألة خلق الإله للعالم المادي بجدية. سلك مسلك أرسطو، فاعتبر العناصر مُكوَّنة من صورة ومادة. في بادئ الأمر، بدا أن توما قادر على طرح نظرية عن المادة أكثر قبولًا من نظرية أرسطو لأن اللاهوت يفتح المجال لاحتمال خلق الإله لمادة الكون «من العدم». قد يتوقَّع المرء أن خلق الإله للعالم سيَمنح المادة وجودًا راسخًا ويَضمن لها وضعها الأنطولوجي.
لكن توما الأكويني الذي مُنِح فيما بعدُ لقب «عالم لاهوت» الكنيسة الكاثوليكية، فشل في إيجاد حل لمُعضلة المادة. لأنَّ الإله، المُعرِّف الأول للوجود (الوجود ذاته)، هو روح مطلقة، ليس متجسدًا أو معتمدًا على المادة بأيِّ حال، تظلُّ علاقة المادة بالإله باعتباره مصدرها الأول مُعضِلة. إذ كيف يخلق الإله شيئًا مختلفًا جوهريًّا عن ذاته؟ (تظلُّ العلاقة بين الإله والشر مُحيِّرة بالقدر نفسه، وهي ما يشير مرةً أخرى إلى التوازي الذي أشرنا إليه عند أوغسطينوس: المادة مُساوية تقريبًا للشر.) تكرَّرت المشكلة في أنثروبولوجيا توما الأكويني؛ جوهر الإنسان هو الروح، التي هي «صورة» الشخص أو جوهره. كي يبلغ الشخص الكمال، يجب أن تتَّحد روحه مع الجسد بعد الموت. غير أن طبيعة تلك المادة، التي يفترض بطريقة ما أن تكون لازمة لكمال الوجود، تظل مجهولة. شكَّل لاهوت توما الأكويني إطارًا معياريًّا لجزء كبير من اللاهوت المسيحي، لا سيَّما في التراث الكاثوليكي الروماني، إلى حدِّ أن المفكرين الغربيِّين ما زالوا مُتأثِّرين بإجابته غير الوافية عن مسألة المادة.
للوهلة الأولى، بدا أن رينيه ديكارت الملقب ﺑ «أبي الفلسفة الحديثة» في الغرب، يُحرز تقدمًا في حل تلك المعضلة القديمة. في كتابه «التأمُّلات» الذي صدر عام ١٦٤٠ (ديكارت، ١٩٦٨-١٩٦٩)، أصر على أنه يُوجد نوعان مطلقان من الجوهر: الفكر، والمادة. لكن كلَّما تقدمنا في النص، يتَّضح تدريجيًّا أن ديكارت منَح المادة وضعًا أنطولوجيًّا واضحًا، إلا أن دورها يظلُّ تابعًا للفكر. جوهر الشخص هو العقل أو الوعي، الذي يُعد نقيضًا مطلقًا للجسد. ومن ثَم كتب ديكارت في عمله «المقال»: «عرفتُ أني جوهرٌ طبيعته هي التفكير، وأنه لا يحتاج إلى مكان كي يُوجد، ولا يعتمد على أي شيء مادي، بهذا أكون «أنا»، أي الروح … مُستقل تمامًا عن الجسد» (المصدر السابق، صفحة ١٠١). أو ببليغ عبارته: «أنا موجود، وأنا لستُ بجسد؛ وإلا إن شككتُ بجسدي سأكون أشكُّ في نفسي.» (المصدر السابق، صفحة ٣١٩).
يُمثل جوتفريد فيلهلم لايبنتس مثالًا مُثيرًا جدًّا للاهتمام. إذ كانت نظرياته الميتافيزيقية بالغة التأثير، وظلَّت مُهيمنة في أوروبا من خلال تلميذَيه وولف وبومجارتن حتى عصر كانط. كان لايبنتس مفتونًا للغاية بتطوُّر الفيزياء الآلية في القرن السابع عشر، وكان له مساهمة كبيرة في تطويرها بابتكاره لحِساب التفاضُل. كان يَعتقد أن فلسفته عن الجُسيمات القابلة للانقسام اللانهائي تقدم نموذجًا ميتافيزيقيًّا لتوحيد تلك الفيزياء الجديدة والتراث الميتافيزيقي الغربي، واللاهوت المسيحي على وجه الخصوص. لكن هذا يَعني أن لايبنتس كان عليه أن يُبيِّن كيف يُمكن أن يكون الإله هو خالق العالم الناتج عن ذلك والحاكم له، وكيف يُمكن أن يكون لذلك العالم غاية ومعنى، وكيف يُمكن أن يكون مُتوافقًا مع الخير المُطلق لخالقه المطلق القدرة. واضعًا ذلك الهدف نصب عينَيه، عرَّف وجود الذرات الفردية «المونادات» بأنها مصادر «عقلية بحتة» للأفعال:
ليس الموناد، الذي سنتحدَّث عنه هنا، سوى جوهر بسيط يدخل في تكوين المركبات؛ والبسيط هو ما لا أجزاء له … لا يُوجد شيء في تلك الجواهر البسيطة عدا إدراكاتها وتغيُّرات تلك الإدراكات. ولا يُمكن أن تتشكَّل جميع الأفعال الباطنة للجوهر البسيط إلا منهما.
في مُراسلاته الطويلة، حاول لايبنتس أن يضع نظرية وافية للمادة. إنه يدفع بأن «الجواهر البسيطة» عند النظر إليها مجتمعة تُنتج التأثيرات في العالم الذي يدرسه الفيزيائيون. لكن منفردة، يكون كلٌّ منها مثلنا؛ مركزًا للنشاط الفكري والإرادة والفهم. ربما تملك الخلايا والذرات فهمًا أقل بكثير ممَّا لدينا نحن البشر، لكنها تظل عناصر فاعلة عقلية. علاوة على ذلك الموناد «بلا نوافذ»، بمعنى أنه لا يُدرك فعليًّا الجسيمات المحيطة بها «ولا يتأثر بها مطلقًا»:
إذن يجوز القول إنَّ الجوهر لا يُؤثر أبدًا على جوهر آخر ولا يتأثَّر به، وإن بدا ذلك غريبًا. ما يحدث لكل جوهر هو نتيجة فكرته أو تصوُّره الكامل؛ إذ إن تلك الفكرة تتضمَّن بالفعل جميع المحمولات وتصف الكون بأكمله … أيضًا لا سبيل إلى تفسير إمكان تأثُّر الموناد أو تغيُّره من داخله عن طريق مخلوق آخر؛ إذ يستحيل أن يَنتقل إليها شيء أو أن نتصوَّر فيها حركة باطنة، يمكن إثارتها أو توجيهها أو زيادتها أو نقصانها … ليس للمونادات نوافذ يُمكن من خلالها أن ينفذ إليها شيء أو يخرج منها.
إذن صورة الآلة التي تعمل بسلاسة التي يبدو عليها الكون هي نتاج «تناغُم مبنيٌّ مسبقًا» لا بدَّ أن الفضل في حدوثه يرجع إلى الإله.
فهل نجح في النهاية؟ يُجيب مُعظم المُعلِّقين بالنَّفي. أفضت مقارنة جورج فريدمان البارعة بين لايبنتس وسبينوزا إلى أن «فلسفة لايبنتس في جَوهرها تَعتقِد بواحدية الرُّوح»؛ أو هي على الأقل فلسفة «على الرغم من جهود صاحبها، تظل فيها حقيقة المادة والحدود بينها وبين الرُّوح مُبهَمة وهشَّة» (فريدمان، ١٩٦٢، صفحة ٢٤٥ والتي تَليها). على مدى المراسلات يُتابع لايبنتس حديثه على أساس أن المادة موجودة، وبالتبعية الحركة والإدراك الحسي موجودان. وقد أحسن بفعلِه ذلك؛ إذ إن المغالاة في المثالية كانت ستُصعِّب (بعبارة ملطفة) وصف الجواهر العقلية التي هي اللبنات الأساسية لفلسفتِه الميتافيزيقية بالتفرُّد أو التمايز. لكن المادة على أقصى تقدير هي ناتج للجواهر العقلية، وعلى أقل تقدير نوع من الأوهام لا تتوافَق مع نظام مثالي في الأساس. وعليه، يتبين أن أول نظام ميتافيزيقي بارز وُضِع بعد فجر الفيزياء الحديثة هو نوع من المثالية الخالصة. يَبدو أنَّ المادة كانت فيه مجرَّد مَظهر، وَهمٍ زَجَّ به إلينا الفهم غير الدقيق للعالم من حولنا.
في القرن التاسع عشر زعم الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيجل أنه يَطرح توليفة فلسفية عظيمة من جميع المَعارف والفلسفات السابقة. كان يرى أنَّ الانقسام بين العقل والمادة كسائر الثنائيات السابقة يُمكن تجاهله. في كتابات هيجل، يجد المرء محاولات عدة لتضمين نتائج العلم الطبيعي في عَصره. لكن للأسف، يُهيمِن مبدأ العقل أو الروح (الجايست) مجددًا على بناء نظام هيجل. القوة التي تُحرِّك الأشياء كلها وتدفع التاريخ إلى الأمام هي الرُّوح المُطلَق لا المادة، مع أن المرء قد لا يُدرك ذلك كليًّا إلا في نهاية التاريخ. يسرد كتاب «فينومينولوجيا الروح» (١٨٠٧) تاريخ «صيرورة الروح»؛ وتبيَّن أن تاريخ الروح يُقدِّم التفسير المطلق والقوة المحرِّكة المطلقة لكل الموجودات. إن كان للرُّوح المطلق جانب مادي، فإنه لا يظهر في أعمال هيجل. في نهاية المطاف، لا تلعَب المادة لدى هيجل دورًا أكثر تأثيرًا مما تلعبه في أعمال سابقِيه. وكما أصاب ستوجانوف في ملاحظته، فإنَّ «هيجل التزم بمنهجِه الإبستمولوجي البحت، فلم يَبحث إلَّا الجانب المثالي؛ ما هو مُتحقِّق، الفعل المطلق؛ ويَفصل ذلك الأخير عن الفعل المادي. حسبما يرى هيجل، المادة هي ركيزة غير فاعلة على الإطلاق لكلِّ تغيُّر وصيرورة وفعل» (ستوجانوف، ٢٠٠١).
لكن المقصود … ليس أنَّ العناصر الطبيعية بالتالي تملك في ذاتها القُدرة على التفكير، لكن لما كنتُ أُفكر بها على نحو ذاتي، فإن أفكاري هي مفهوم الشيء، الذي يُكوِّن بدوره جوهره المطلق. … لا يوجد تناغم حقيقي بين الذاتي والموضوعي اللذَين يُكوِّنانني إلا في الفكر.
من ذلك الاستعراض الموجز لتاريخ الميتافيزيقا الغربية، رأينا أن مسألة المادة تظل مُعضلة قائمة. لقد أُعيد صياغة المشكلة وتعريفها مرارًا، مع ذلك تُفضي كل محاولة لفهم المادة إلى التركيز على مبدأ العقل الفعَّال — أي على أداة الفهم — لا على ما يتعيَّن فهمه، الذي هو المادة بوصفها عنصرًا غير عقلي. مجددًا، يبدو وكأن المادة لا تنفكُّ تتملَّص من قبضتنا. حتى إن المرء ليتساءل: هل يُمكن أن تكون المادة في جوهرها هي «ما يَستعصي على الفهم»، ما يَبتعد عنَّا كلما اقتربنا منه؟ هنا يَتبادر إلى الذِّهن مفهوم «المدلول المتعالي» الحاضر في أعمال الفيلسوف الفرنسي المؤثر جاك دريدا (١٩٩٥ب–١٩٩٨). إن صح التشبيه، فالمادة هي مُرادف لما يُسميه دريدا الاختلاف؛ أي ما هو دائم الاختلاف عن صياغاتنا وما يُرجأ دائمًا إلى المستقبل كلَّما حاولنا أن نفهمه. قد يحسب المرء أن لفظ «المادة» يُستخدم مرادفًا للفظ «المجهول».
(٢) المادة في الفيزياء المعاصرة
في مُفتتح مقالنا، استعرضنا المعتقدات الأساسية للفلسفة المادية: الواقع يتكوَّن من جسيمات مادية أولية؛ تُحدِّد تلك الجسيمات الأولية بالإضافة إلى القوى التي تُؤثر فيها سلوك جميع العناصر الموجودة في العالم؛ وكل ما دون ذلك مُكوَّن من تلك المكونات؛ وأن الاختزالية حقيقة. على سبيل المثال في نموذج ستيفن واينبرج الاختزالي، تُشير جميع أسهم السببية لأعلى انطلاقًا من الأسباب الميكروفيزيائية الأساسية، بينما تُشير جميع الأسهم التفسيرية لأسفل (واينبرج، ١٩٩٤).
للوهلة الأولى، قد يبدو أن النهج الذي أتَت به الفيزياء أكثر فائدة في فهم المادة مما جاءت به الميتافيزيقا. ففي النهاية، علم الفيزياء هو وليد قرار بالإعراض عن تقلُّبات التأملات الميتافيزيقية، والسعي بدلًا من ذلك إلى «حفظ المظاهر». هدف الفيزياء هو وضع سلسلة من الفرضيات التي تصفُ حركات (ديناميات) العناصر وتفسرها وتتنبأ بها بدرجة وافية. على مدى مئات السنين، نجح الفيزيائيون نجاحًا فاق التوقُّعات في استنباط المبادئ والقوانين القادرة على تفسير سلوك العناصر في العالم المادي بِناءً على تلك النظرة للعالم.
وُصِف البرنامج المادي للبحث وصفًا محكمًا في الكتاب الأول من مُصنَّف توماس هوبز العظيم الذي وضعه في القرن السابع «اللفياثان» (١٦٥١)، وفي منهج جون لوك الإبستمولوجي المذكور في كتابه «مقال عن الفهم البشري» (١٦٩٠). بدأ هوبز من مُنطلق أن كل شيء هو «مادة متحرِّكة»؛ وأن المهمة الأساسية التي تنشأ عن ذلك هي فهم «كيف» تتحرَّك الأشياء بالضبط؛ وكيف يُمكن أن يكون وَهم وجود أشياء غير مادية قد نشأ من عالم مادِّي بحت. سُمي ذلك النموذج بالنهج «التحليلي» أو «التركيبي»: فيه يحدد المرء اللبنات الأساسية للواقع ثم يُبين كيف أن كليات أكثر تعقيدًا مُكونة من تلك اللبنات الأساسية، حتى يُعيد بناء عالم التجربة البشرية برمته. اعكس تلك الخطوات — أي «حلل» أو فكِّك التجربة إلى أجزاء أصغر فأصغر — وستصل مجددًا إلى المكونات الأساسية للواقع. تتضمن الأمثلة التقليدية لذلك البرنامج البحثي استبعاد لوك للسمات الثانوية واستبعاد هيوم للكيانات الراسخة والأسباب الميتافيزيقية؛ بعبارة أخرى أي شيء يتجاوز «الاقتران الدائم».
هذا يعني أن أيَّ جسمين يجذب كلٌّ منهما الآخر بقوتين مُتساويتين عكسيتين؛ يتناسب مقدار تلك القوة طرديًّا مع حاصل ضرب الكتلتين وأيضًا مع مربع المسافة بين مركزي كتلتَي الجسمَين.
في أعمال بريستلي ولافوازييه وغيرهما، باحت الكيمياء بأسرارها لما يبدو أنه المنهج التحليلي نفسه. وللوهلة الأولى، بدا أن علم الأحياء سيُقدِّم مثالًا آخر للمبدأ نفسه. وبدا أنه لا يلزم سوى أن ينفض المرء عنها الافتراضات الميتافيزيقية الموروثة من القرون الوسطى — مثل افتراض عدم وجود الفراغ، والتسلسل الهرمي الثابت للأنواع غير المُتغيِّرة، والغاية الإلهية — كي يتجلى له علم أحياء قائم على الفيزياء بالقدر نفسه. على أي حال، هكذا نُظِر إلى اكتشافات داروين على مدى أغلب القرن العشرين. لبعض الوقت، كان يُعتقَد أن مانفيستو كونت قد فتح الباب أمام نجاحات شبيهة في العلوم الاجتماعية، وأننا نسير نحو إدراك تلك الغاية من خلال أعمال دوركايم في علم الاجتماع، وتايلر في الأنثروبولوجيا، وفرويد في بداياته في علم وظائف الأعضاء النفسي.
إن كان يمكن اختزال جميع المُركَّبات إلى أجزائها الأولية، وإن تمكَّن المرء بعد أن عرف الأجزاء الأولية وقوانين الفيزياء الأساسية من إعادة إنشاء العملية التكوينية وصولًا إلى أعقد الكيانات والسُّلوكيات المُدرَكة، إذن لا بدَّ أن جميع العناصر الموجودة (حسبما كان يُعتَقَد) تُشبه المجاميع الجزئية للوحدات الأولية للمادة، وينبغي أن تكون شروط هويتها قابلة للتحديد بتلك الطريقة. نجاحات العلوم المختلفة من الفيزياء إلى علم الأعصاب، بالإضافة إلى المنهج المشترك الذي يبدو أن جميع العلماء انتهجوه، كانا كافيَين للوصول إلى ذلك الاستنتاج.
بالطبع ترك رد الفعل المُنتشِر ذلك مُعضلةَ العقل والجسد دون حلٍّ؛ إذ لا يدخل الوعي في المعادلات. غير أن العديد من الماديِّين اعتبروا تلك الحقيقة مجرَّد عثرة مُؤقَّتة. ورأوا أن العلوم الطبيعية ستنجح في نهاية المطاف في فهم جميع الأفكار البشرية من ناحية البِنى العصبية، والتركيب الكيميائي، والديناميكا الكهربية للمخ والجهاز العصبي المركزي. ورأوا أنه بعد اختزال جميع المعارف بجميع الأشياء إلى جسيمات أولية وإلى قوانين فيزيائية عامة، سيَكتمِل انتصار المادية.
غير أنه في وقتٍ ما قُرب بداية القرن الماضي، بدأ المشروع الاختزالي المادي يواجه صعوبات مُتزايدة. مثَّلَت النِّسبية الخاصة والعامة، وتطوُّر ميكانيكا الكَم على وجه الخصوص، سلسلةً من الانتكاسات في مسيرة أحلام الاختزالية المادية، ووضعت ربما نهاية دائمة للمشروع المادي في أي صورة له تُشبه صورته الكلاسيكية. (يُمكن القول إنَّ علم الديناميكا الكهربية الذي وضَعَه فراداي وماكسويل، وكذلك علم الديناميكا الحرارية، كانا بالفعل قد بدآ يقترحان إعادة النظر في المادية الكلاسيكية، لكن ذلك الادِّعاء محل نزاع أوسع.) في الصورة العلمية المُعاصرة للعالم، المستوى الأولي المطلق من التحليل هو فيزياء الكم، المعني بدراسة الجسيمات والطاقات تحت الذرية التي يتكون منها العالم الفيزيائي المرئي بالعين المجرَّدة. (ربما يتمكن الفيزيائيون يومًا ما من أن يُبرهنوا على أن فيزياء الكم هي حالة مُتطرفة لمجموعة من المعادلات الأولية، مثل معادلات نظرية الأوتار ونظرية إم، لكن لم نرَ مثل هذا البرهان بعد.)
لكن لاحظ أن التشابه بين فيزياء العالم الكمِّي والفيزياء التي أنتجت الصيغ الكلاسيكية للمادية وبررتها ضئيل. تأمل الاختلافات التالية:
-
(١)
الجُسَيمات الفيزيائية مثل الإلكترونات قابلة للتحويل على ذلك المستوى إلى نبضات من الطاقة أو موجات. وباكتشاف رينتجن لظاهرة النشاط الإشعاعي، التي تتحوَّل فيها المواد الصلبة بالتدريج إلى موجات إشعاعية، بدأ الفيزيائيُّون يدركون أنه لا يوجد اختلاف أنطولوجي جوهري بين المادة والطاقة. قدَّمت معادلة أينشتاين الشهيرة ، التي تُعدُّ المعادلة الفيزيائية الأشهر في التاريخ، وصفةً كميةً دقيقةً لتحويل الكُتلة إلى طاقة (أو الطاقة إلى كتلة) وثبتَت صحتها مرارًا بالتجربة منذ عصره. (استخدام أمريكا للأسلحة الذرية على مدينتي هيروشيما ونجازاكي لاحقًا لقَّن العالم درسًا لا يُنسى عما يَعنيه ضرب الكتلة في مقدار ضخم مثل مربَّع سرعة الضوء ).
-
(٢)
مُنِحَت قابلية كلٍّ منهما للتحوُّل إلى الآخر مكانةً مُقدَّسة في معادلة شرودنجر الموجية واتخذت صيغة شائعة في مبدأ التكامل لفون فايتسيكر.١٦ التكامُل في الفيزياء يعني إمكانية وصف ظاهرة واحدة (محكمة التعريف رياضيًّا) بعدة طرق غير مُتوافِقة في ظاهرها — على سبيل المثال باعتبارها موجة أو جسيمًا — وفقًا لاهتمامات المُلاحِظ لها والتجربة التي يُصمِّمها.
-
(٣)
وَفق التفسير النموذجي (تفسير «كوبنهاجن») لفيزياء الكم، لا يُمكن أن يُوصف العالم بالحتمية المُطلقة. من ذلك المنظور، لا يعني مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج أننا لا يُمكن أن نعرف موقع وكمية حركة جسيم تحت ذري فحسب، بل يَعني كذلك أن تلك الجسيمات نفسها ببساطة ليس لها موقع ولا كمية حركة مُحددين (هايزنبرج، ٢٠٠٧ / ١٩٥٨). لكن كيف لنا أن نفهم المادة إذا كان المُستوى الأساسي للعالم الفيزيائي يخلو مِن الموقع وكمية الحركة المُحددين؟ قطعًا باكتشاف مبدأ عدم اليقين، يَنهار التصور النموذجي للمادة؛ باعتبارها تتضمَّن عناصر جامدة ككرات البلياردو لها كمية حركة مُحدَّدة في كل لحظة من الزمن.
-
(٤)
من المعروف جيدًا أيضًا أن الطبيعة غير المحدَّدة للحالات الكمية تستقر إلى حالة معينة في لحظة قياسها. تصف الرياضيات تراكبًا للقياسات المحتملة، يستقرُّ في لحظة القياس إلى حالة واحدة مرصودة.١٧ تُشير تلك الظاهرة التي تُعرف باسم «تقلص الدالة الموجية» إلى أن المُلاحِظ يلعب دورًا تكوينيًّا في «جعل العالم الفيزيائي على صورته التي نراها على المستوى الفيزيائي المرئي بالعين المجرَّدة»؛ باعتباره مجموعة من العناصر المحدَّدة والتي يمكن رصد موقعها بوضوح.١٨ لكن العالم الفيزيائي الذي يُشكله أو يَبنيه الملاحِظون الفرديون (بأي قدر كان) بعيد كل البعد عن العالم المادي الذي تصفه الفيزياء الكلاسيكية.
-
(٥)
كانت نظرية المجال الكمي نتيجة ثانوية لاحقة للأبحاث في مجال الفيزياء الكمية. من منظور نظرية المجال، يُعبر عن الجُسيمات تحت الذرية بوصفها «تموضعات» للمجال الكمي عند موقع وزمن محدَّدين. هكذا يزعم الفيزيائي الفرنسي برنار ديسبانيا أنه لم يَعُد من الدقة فهم الأشياء باعتبارها أشياءً؛ بل يجب النظر إليها باعتبارها «خواصَّ» لمجال؛ أو طرق يُمكن أن يتجسَّد بها المجال في موقع وزمن محدَّدين. خطر لديسبانيا مثالًا فرنسيًّا: ما كنا نعتقد أنه جُسيمات كمية تبين أنه لا يُشبه برج إيفل نفسه بقدر ما يشبه بعض السمات الموجودة في برج إيفل (أو المرصودة فيه) مثل الارتفاع أو الحجم أو الشكل. لذا لا بد أن نسأل: ما هو محلُّ تلك السمات؟ وَفق كتاب ديسبانيا المُثير للجدل «بحثًا عن الحقيقة» (ديسبانيا، ١٩٨٣)، الإجابة الوحيدة المُمكنة هي أن متجه الحالة الكمية يُعبِّر عن خصائص حقيقة أساسية دفينة ما. لما كنا نعلم تمثيلاته بالنسبة لنا — نعلم كيف يكون حاله عند القياس — ولأنَّ الفيزياء الكمية تمنعنا من الحديث عن «كيف يكون في الواقع» وهو غير مَقيس، يتحدَّث ديسبانيا عنه باعتباره «واقعًا محجوبًا» (ديسبانيا، ١٩٩٥). رؤيته هي نوع من الواقعية عن بُعد؛ لا يسعنا أن نقول إن الواقع هو «إما هذا أو ذاك»؛ إذ إن ملاحظاتنا وما نُلاحظه متداخلان؛ بيد أنه يسعنا القول إن العالم كما نلاحظه هو تمثيل لما هو واقعي؛ فالواقع يتَّخذ هذا الشكل أو ذاك «عندما» نُلاحظه. لكن للأسف، بالنسبة إلى النظريات التقليدية عن المادة، ذلك «الواقع المحجوب» لا يُمكن تصنيفه بأنه عقلي ولا مادي؛ إذ إنه يفوق أساسًا التمايز بين العقل والمادة.١٩
-
(٦)
أخيرًا، تُقوض الدراسات الأخيرة عن اللاموضعية المنظورات المادية الكلاسيكية عن المادة. في مجموعة من التجارب، صمَّمها بدايةً ألان أسبيكت ليبرهن مخالفة متباينات بيل، يُطلَق فوتونان مترابطان في اتجاهين معاكسين. قياس اللف المغزلي لأحد الجسيمين يحدد (يصنع؟) فورًا اتجاه اللف المغزلي للآخر. بيد أنه، باعتبار المسافات، التي تتجاوز ١٠ كيلومترات في التجارب الحالية، «لا يُمكن» تبادُل أي رسالة بين الجسيمَين إلا عند سرعةٍ تتجاوَز سرعة الضوء، وهو مُستحيل. يزعم البعض أن التجارب تبرهن إمكان أن يفوق الفعل عن بُعدٍ سرعة الضوء، بينما يصرُّ آخرون على أنه من المُمكن أن تظل الجسيمات التي تفصلها مسافات تتصرَّف باعتبارها كيانًا واحدًا (جريب ورودريجيز الابن، ١٩٩٩؛ مودلين، ٢٠٠٢). في الحالتَين، تفرض علينا التجارب منظورًا للعالم الفيزيائي يقع خارج نطاق التصور المنطقي للمادة.
(٣) نحو رؤية علمية جديدة للعالم
يكشف القسمان السابقان عن بعض المُعضِلات التي تواجه أي نظرية للمادة في الوقت الحالي. فقد استبدلت الدارسة التجريبية الممحَّصة للعالم الطبيعي بالمفاهيم الكلاسيكية للمادة الرؤية الشديدة الغرابة للعالم التي تُقدمها الفيزياء المعاصرة. انطلق الفيزيائيون من مفهوم المادة وعالم الخبرة العادية. لكن لما اختبروا ذلك المفهوم في ضوء المنهج العلمي، وبالأخص في ضوء الشروط الشَّكلية للرياضيات، خلصوا إلى نتائج تضع جميع المفاهيم السابقة للمادة في دائرة الشك. يشعر المرء أنه في نهاية المطاف تشير افتراضات الفلاسفة وبيانات العلماء في اتجاه واحد مذهل. المكون الأساسي للواقع الفيزيائي برمته ليس «مادة أولية» أو ذرات صغيرة من «شيء ما». تُشير نظرية النسبية في علم الكون والأطروحات المُكمِّلة لها في الفيزياء الكمية إلى أن الواقع هجين من «المادة–الطاقة». وتُشير نظرية المجال الكمي ونظرية الأوتار (إذا صمَدَت بصفتها نظرية فيزيائية، وهو ما يبدو الآن مستبعدًا) إلى فكرة أكثر تطرفًا وهي أن ذلك الواقع هو أقرب إلى الطاقة منه إلى المادة. كلا النتيجتَين كافيتان لتخطئة المادية في صورتها التي سادَت في أول ٣٠٠ عام من عمر العلم الحديث.
ماذا نستنتج إذن؟ أزعم أن الدرس المستفاد له جانبان. فمن جانب، إن أولئك المفكرين الذين يسعَون إلى التخلُّص من مفهوم المادة بالكلية مُخطئون. فالمعضلات لا تُحلُّ بتجاهل الطبيعة الغامضة للعناصر والجُسيمات في الفيزياء. المثاليون الذين يهجرون الدراسة العلمية للعالم الفيزيائي ويتجهون إلى العقلية أو الروحانية إنما «يحلون» المعضلة بتجاهل المجالات التي ستكون الأوفر ثمارًا إذا دُرِسَت. فنحن محاطون بالعناصر الفيزيائية على أي حال. والأشياء التي نَلمسها ونتلاعب بها ليست من نسج خيالنا؛ إنما يُقاوم «وجودها الفج» باستمرار مشيئتنا وآمالنا، على عكس أفكارنا. لا يوجد أي دليل على أن جميع العناصر هي كائنات مفكرة أو مدركة مثلنا؛ من ثَم ينبغي أن نعتبرها مُغايرة لنا، نعتبرها عناصر فيزيائية غير عاقلة (على نقيض مبدأ وعي المادة). يدفع الالتزام بذلك المرءَ إلى البرنامج البحثي للعلوم المعاصرة.
على الجانب الآخر، في تتبُّعنا لمشروع العلم، نكتشف أن جميع المفاهيم البسيطة للمادة لا تتوافق مع نتائج الفيزياء؛ أو مع متطلبات الفلسفة المنهجية كما رأينا أيضًا. لا يوجد «مادة أولية» هي العنصر الذي يتكوَّن منه كل ما سواها. بل كلما أوغل المرء في تتبُّع التفسيرات، كشفت المادية نفسها في العناصر الصلبة المحيطة بنا (أو فيما وراءها). بداية من الملاحظة المتكررة كثيرًا بأن العنصر الصلب الذي يلمسه المرء هو في الواقع مُكوَّن في أغلبه من الفراغ، يجد المرء نفسه في مواجهة عالم فيزيائيٍّ يفوق غرابة ما يُمكن أن يُقابله قط في تاريخ الفلسفة.
أرى أننا يجب أن نسلك طريق العلوم الطبيعية ذلك إلى آخره. لن يُساعدنا اختصار الطريق باللجوء إلى التفسيرات الميتافيزيقية؛ فجميع تلك الطرق المُختصرة ستنتهي إلى قُصورِ فهمٍ أكبر مما بدأنا به. بالمثل، رفض الاعتراف بالمُشكلات الفلسفية المعقَّدة التي يُثيرها العلم المعاصر يُوهن الفهم البشري أيضًا. ولن يُتيح صياغة نظرية ما بعدَ مادية وافية عن العالم الطبيعي سوى تعاون بين العلماء والفلاسفة.
المراجع
-
Ananthamurthy, S. et al., eds. (2005), Landscape of Matter: Conference Proceedings on the Concept of Matter, Bangalore, India: Bangalore University Prasaranga Press.
-
Aristotle (1933), Metaphysics, trans. H. Tredennick, vol. XVII–XVIII, Loeb Classical Library Series, Cambridge, MA: Harvard University Press.
-
Aristotle (1934), Physics, trans. P. H. Wicksteed and F. M. Cornford, vol. IV–V, Loeb Classical Library Series, Cambridge, MA: Harvard University Press.
-
Barad, K. (2007), Meeting the Universe Halfway: Quantum Physics and the Entanglement of Matter and Meaning, Durham, NC: Duke University Press.
-
Bedau, M. (1997), Weak emergence, Philosophical Perspectives, vol. 11: Mind, Causation and World, Atascadero, CA: Ridgeview.
-
Beierwaltes, W. (1972), Platonismus und Idealismus, Frankfurt am Main: V. Klostermann.
-
Beierwaltes, W. (1985), Denken des Einen: Studien zur neuplatonischen Philosophie und ihrer Wirkungsgeschichte, Frankfurt am Main: V. Klostermann.
-
Beierwaltes, W., von Balthasar, H. Urs, and Haas, A. M. (1974), Grundfragen der Mystik, Einsiedeln: Johannes Verlag.
-
Burbidge, J. W. (1996), Real Process: How Logic and Chemistry Combine in Hegel’s Philosophy of Nature, Toronto: University of Toronto Press.
-
Bøgh Andersen, P. et al., eds. (2000), Downward Causation: Minds, Bodies and Matter, Aarhus and Oakville, CT: Aarhus University Press.
-
Capra, F. (1984), The Tao of Physics: An Exploration of the Parallels between Modern Physics and Eastern Mysticism, New York: Bantam Books.
-
Chandler, J., Mason, G., and van de Vijver, G., eds. (2000), Closure: Emergent Organizations and their Dynamics, Annals of the New York Academy of Science Series, vol. 901, New York: New York Academy of Sciences.
-
Clayton, P. (2000), The Problem of God in Modern Thought, Grand Rapids: Eerdmans.
-
Clayton, P. (2004), Mind and Emergence, Oxford: Oxford University Press.
-
Crick, F. (1994), The Astonishing Hypothesis: The Scientific Search for the Soul, New York: Scribner.
-
Descartes, R. (1968-1969), The Philosophical Works of Descartes, trans. E. S. Haldane and G. R. T. Ross, Cambridge: Cambridge University Press.
-
d’Espagnat, B. (1983), In Search of Reality, New York: Springer-Verlag.
-
d’Espagnat, B. (1995), Veiled Reality: An Analysis of Present-Day Quantum Mechanical Concepts, Reading, MA: Addison-Wesley.
-
d’Espagnat, B. (2006), On Physics and Philosophy, Princeton, NJ: Princeton University Press.
-
Derrida, J. (1995a), On the Name, ed. T. Dutoit, Stanford: Stanford University Press.
-
Derrida, J. (1995b), The Gift of Death, trans. D. Wills. Chicago, IL: University of Chicago Press.
-
Derrida, J. (1967/1998), Of Grammatology, trans. G. C. Spivak, Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press.
-
Freudenthal, G. B. (1995), Aristotle’s Theory of Material Substance: Heat and Pneuma, Form and Soul, Oxford: Clarendon Press.
-
Friedmann, G. (1962), Leibniz et Spinoza, 2nd ed. Paris: Gallimard.
-
Gerhardt, C. I. (1849–1863), Die mathematischen Schriften von G. W. Leibniz, Berlin: Weidmann.
-
Gerhardt, C. I. (1875–1890), Die philosophischen Schriften von G. W. Leibniz, 7 vols. Berlin: Weidmann, Excerpts available in English in Leibniz, G. W., Philosophical Essays, trans. R. Ariew and D. Garber (1989), Indianapolis: Hackett.
-
Gill, M. L. (1989), Aristotle on Substance: The Paradox of Unity, Princeton: Princeton University Press.
-
Grib, A. A., and Rodrigues, Jr. W. A. (1999), Nonlocality in Quantum Physics, New York: Kluwer Academic.
-
Griffin, D. R. (2001), Reenchantment without Supernaturalism: A Process Philosophy of Religion. Ithaca, NY: Cornell University Press.
-
Hegel, G. F. W. (1974), Hegel’s Lectures on the History of Philosophy, trans. E. S. Haldane and F. H. Simson, New York: The Humanities Press.
-
Heisenberg, W. (1958/2007), Physics and Philosophy: The Revolution in Modern Science, New York: Harper Perennial.
-
Hitchcock, J. L. (1982), Atoms, Snowflakes and God: The Convergence of Science and Religion, San Francisco: Alchemy Books.
-
Houlgate, S., ed. (1998), Hegel and the Philosophy of Nature. Albany, NY: State University of New York Press.
-
Jolley, N. (1993), Leibniz: Truth, knowledge and metaphysic,. In The Renaissance and Seventeenth-century Rationalism, ed. G. H. R. Parkinson, Routledge History of Philosophy vol. 4, London: Routledge, 353–388.
-
Joos, E. (2006), The emergence of classicality from quantum theory, In The Re-emergence of Emergence: The Emergentist Hypothesis from Science to Religion, eds. P. Clayton and P. Davies, Oxford: Oxford University Press, 53–78.
-
Josslyn, C. (2000), Levels of control and closure in complex semiotic systems, In Closure: Emergent Organizations and their Dynamics, Annals of the New York Academy of Science Series, vol. 901, eds. J. Chandler, G. Mason, and G. van de Vijver, New York: New York Academy of Sciences, 67–74.
-
Leibniz, G. W. (1989), Philosophical Essays, trans. R. Ariew and D. Garber, Indianapolis: Hackett.
-
Leibniz, G. W. (1992), Discourse on Metaphysics and the Monadology, trans. G. R. Montgomery, Buffalo, NY: Prometheus Books.
-
Lemke, J. (2000), Opening up closure: Semiotics across scales, In Closure: Emergent Organizations and their Dynamics, Annals of the New York Academy of Science Series, vol. 901, eds. J. Chandler, G. Mason and G. van de Vijver, New York: New York Academy of Sciences, 101–111.
-
Maudlin, T. (2002), Quantum Non-Locality and Relativity: Metaphysical Intimations of Modern Physics, Malden, MA: Blackwell Publishers.
-
Palsson, B. Ø. (2006), Systems Biology: Properties of Reconstructed Networks, Cambridge: Cambridge University Press.
-
Plato (1965), Timaeus, trans. H. D. P. Lee, Harmondsworth: Penguin.
-
Plato (2000), Republic, ed. G. R. F. Ferrari, trans. T. Griffith. Cambridge: Cambridge University Press.
-
Russell, L. J. (1981), The correspondence between Leibniz and De Volder, In Leibniz: Metaphysics and Philosophy of Science, ed. R. S. Woolhouse, Oxford: Oxford University Press.
-
Russell, R. J., et al., eds. (2000), Quantum Mechanics: Scientific Perspectives on Divine Action, Vatican: Vatican Observatory Press.
-
Russell, R. J., et al., eds. (2008), Scientific Perspectives on Divine Action. Twenty Years of Challenge and Progress, Vatican: Vatican Observatory Press.
-
Schroeder, G. (1998), The Science of God: The Convergence of Scientific and Biblical Wisdom, New York: Broadway Books, Stapp, H. P. (2004), Mind, Matter, and Quantum Mechanics, Berlin: Springer.
-
Stojanow, J. (2001), On the Absolute Rational Will: II On the Absolute Material Entelechy, accessed June 23, 2008 (www.jgora.dialog.net.pl/OnTheAbsoluteRationalWill/OnTheAbsoluteEntelechy.htm#14).
-
von Weizsacker, C. F. (1976), Zum Weltbild der Physik, 12th ed. Stuttgart: S. Hirzel; trans. in Weizsa¨cker, The World View of Physics, trans. by Marjorie Grene (1952), Chicago, IL: University of Chicago Press.
-
von Weizsacker, C. F. (1980), The Unity of Nature, trans. F. J. Zucker, New York: Farrar Straus Giroux.
-
Weinberg, J. R. (1977), Ockham, Descartes and Hume: Self-Knowledge, Substance and Causality, Madison, WI: The University of Wisconsin Press.
-
Weinberg, S. (1994), Dreams of a Final Theory: The Scientists Search for the Ultimate Laws of Nature, New York: Vintage Books.
-
Whitehead, A. N. (1978), Process and Reality, corrected ed, eds. D. R. Griffin and D. Sherburne, New York: Macmillan.
-
Zeilinger, A. (2004), Why the quantum? “It” from “bit”? A participatory universe? Three far-reaching challenges from John Archibald Wheeler and their relation to experiment, In Science and Ultimate Reality: Quantum Theory, Cosmology and Complexity, eds. J. Barrow, P. Davies and C. Harper, Jr., Cambridge: Cambridge University Press, 201–220.