ماذا ينقص نظريات المعلومات؟
حتى تلك اللحظة، تَعجز نظريات المعلومات التي تُحاول معالجة المسائل المتعلقة بالحالة الوجودية لمحتوى المعلومات وفاعليته (قدرته على التأثير) — كما يتمثَّل في الأفكار والمعاني والإشارات والأفعال المقصودة وما إلى ذلك — عن إيجاد حلٍّ لمُعضلة جوهرية؛ كيف لذلك المحتوى المتمثِّل أن يُنتِج آثارًا مادية؟ وقد كان لذلك نتائج ظهرت في العديد من المنظورات المتشكِّكة التي إما تفيد أن المحتوى في الأساس نسبي وكلي (لا ينفصل عن السياق) ولا يستند إلى أساس ثابت؛ أو أنه ظاهرة تابعة ليس لها فاعلية سوى ارتباطها الاعتباطي بالخواص الفيزيائية للإشارات التي توصله. في هذا الفصل، أدفع بأن سبب المعضلات البادية التي تجعل ذلك المفهوم جدليًّا هو أننا انطلَقنا في مداولاتنا بشأنه من الافتراض الخاطئ القائل بأنه كي يكون لمُحتوى المعلومات أي آثار فِعلية على أرض الواقع، لا بد أن يكون له خواصُّ واقعية ملموسة؛ ومن ثَم يجب أن يكون مُناظرًا لشيء له وجود فعلي بشكل أو بآخر. على النقيض، سأبين أن ذلك الافتراض غير صحيح وأنه هو منشأ تلك الأفكار المتشككة المنافية للمنطق.
الخاصية الجوهرية لمحتوى المعلومات التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار هي نقيض ذلك؛ أي غيابه. لكن كيف يُمكن لغياب شيء ما أن يكون له آثار سببية محدَّدة؟ يقدم لنا تحليل كلود شانون للمعلومات من ناحية القيد على الإنتروبيا (التنوع المحتمل) للعلامات أو الإشارات (شانون، ١٩٤٨؛ شانون وويفر، ١٩٤٩) مفتاحًا مهمًّا لحلِّ ذلك اللغز. بعبارة أخرى، تَعتمِد القدرة على الإخبار بالمعلومات على علاقة تلك المعلومات بشيء معين قُصِد عدم إنتاجه. لكن ذلك التغيُّر في إنتروبيا شانون لوسط فيزيائي يكون تغيرًا فيزيائيًّا بالضرورة، وهذا لا بد أنه نتيجة لشغلٍ بُذِل عليه من مصدر خارجي. إضافة إلى ذلك، خلافًا لشانون، حتى إذا لم يحدث تغيُّر في إنتروبيا شانون عندما يكون حدوثه ممكنًا، يكون عدم التغير ذلك مُخبرًا بمعلومات لأنه يُشير إلى غياب صورة محدَّدة من صور التأثير الخارجي. تَعتمِد كلتا الحالتَين على مؤثر محتمل من مصدر خارجي يؤثر على شكل الوسط السيميائي. تلك العوامل الخارجية المُحدَّدة التي تفرض قيودًا محتملة على الإشارة هي أساس القُدرة على الإحالة التي تميز المعلومات. علاوة على ذلك، سأدفع بأن القدرة على تفسير الإحالة المُتضمنة في القيود المفروضة على الإشارة تَعتمِد على الاقتران بين عملية توليد الإشارة المعتمدة على السياق ومصدر خارجي مُحدَّد لتلك القيود له علاقة بإيجاد تلك العملية التفسيرية واستمرارها. علاقة الاقتران تلك مصدرها عملية ديناميكية حرارية قائمة بذاتها وغير مُتوازنة كالتي تميز الكائنات الحية. تلك العملية قادرة على تفسير شيء ما باعتباره معلومات حول شيء آخر؛ لأنها تكون بالضرورة مُستجيبة للعلاقة المحدَّدة بين الديناميات الداخلية والظروف الخارجية ومُعتمِدة على تلك العلاقة. القيود التي تظهر في ركائز مادية مُعيَّنة، وتكون مُرتبطة بطريقة ما باستمرار تلك الحالة غير المستقرَّة وبالظروف غير الجوهرية فيها أو الظروف الغائبة التي لها دور في استمرارها، قد تكون «مهمَّة» لأجل بقائها. عدم القدرة على شرح تلك العلاقة بين الإخبار بالمعلومات والغياب هو ما أفضى بالجهود السابقة لاختزال المعلومات في ركيزة مادية قابِلة للقياس (في مفهوم شانون للمعلومات) أو معاملتها باعتبارها ظاهرة بدائية غير مادية (في التفسيرات المختلفة للفينومينولوجيا) إلى نتائج غير منطقية.
(١) تمهيد
كثيرًا ما يُقال إننا نعيش في «عصر المعلومات»، ومع أننا نستخدم مفهوم المعلومات يوميًّا تقريبًا دون التباس، ونصنع آلات (حواسيب) وأنظمة شبكات لنقلها وتحليلها وتخزينها، أعتقد أننا لا نزال غير مُدركين لماهيتها إدراكًا كاملًا. انتشار مفهوم المعلومات في شتى المجالات في عصرنا الحالي هو إحدى نتائج اختراع الحواسيب والأجهزة ذات الصلة وإتقانها حد الكمال وشيوعها. في حياتنا اليومية، تُعدُّ المعلومات ضرورة وسلعة. فنحن نقيس دوريًّا السَّعة المعلوماتية لأجهزة تخزين البيانات المصنوعة من السيليكون أو المغناطيس أو الليزر، ونجد أنفسنا نحرس المعلومات ونُشاركها ونبيعها. توغلت أهمية فهم المعلومات وإدارتها إلى مجالات الحياة اليومية الأكثر اعتيادية وتقنية. في الآونة الأخيرة، وضع علماء علم الأحياء الجزيئي خريطة تفصيلية للمعلومات الجزيئية «المُتضمَنة» في الجينوم البشري، وأثمر الدمج بين تقنيات الحاسوب وعلم الأحياء الجزيئي عن مجال جديد بالكلية، أطلِق عليه اسم المعلوماتية الحيوية، والذي يَعِد بتقنيات طبية جديدة ومخاطر غير مسبوقة تُهدِّد الخصوصية. حتى المستخدمين المنزليين للاتصال عبر الإنترنت مقيدون بسعة النطاق المعلوماتية للشبكات السلكية واللاسلكية التي يَعتمدون عليها للاتصال بالعالم الخارجي.
غير أني أعتقد أننا نبني حاليًّا على مجموعة من الافتراضات عن المعلومات القادرة بالكاد على تتبُّع أبسط سماتها الفيزيائية والمنطقية، لكنها غير قادرة على فهم طابعها التمثيلي أو تبعاتها العملية. منذ أكثر من نصف قرنٍ عرَفنا كيف نقيس قُدرة أي وسط اتصال على إيصال المعلومات، مع ذلك لا نستطيع تفسير العلاقة بين ذلك وبين المحتوى الذي قد تُمثِّله تلك الإشارة أو لا تمثِّله. تلك مَواطن قصور مهمَّة تُعيق التقدم في عدد كبير من المساعي، بدءًا من دراسة العمليات الحيوية الأساسية وانتهاءً بتحليل الاقتصاد العالمي.
إحدى الحقائق المزعجة هي أنه رغم مركزية مفهوم المعلومات في حياتنا اليومية، فإننا لا نملك تفسيرًا فيزيائيًّا واضحًا لكيف يكون لمعلومات عن مفهوم مجرد تبعات مادية وخيمة في بعض الأحيان. تأمَّل مفهوم «الوطنية» مثلًا. رغم حقيقة أنه لا يوجد عنصر أو عملية مادية معينة مُكوِّنة لمحتوى تلك الكلمة، ولا يتضمَّن أي شيء متأصِّل في صوت الكلمة أو إنتاج الدماغ لها أكثر من مقدار ضئيل من الطاقة؛ فقد يُساهم استخدامها في إطلاق كميات كبيرة من الطاقة الجامحة لتدمير الحياة وهدم المباني (كما يحدث في الحروب). لنا في ذلك دليل على أننا نجهل للأسف أحد المبادئ السببية الأساسية في الكون وأننا في حاجة ماسة إلى نظرية تفسره.
من أوجه عدة، نحن في موقف يشبه موقف علماء الفيزياء في بداية القرن التاسع عشر، في أوج العصر الصناعي (الذي كان يتَّسم بتطور ثوري في الآلات الذاتية الطاقة للنقل والصناعة وقياس الوقت وغيرها)، الذين كان تصوُّرهم عن الطاقة لا يزال محصورًا في المواد الأثيرية مثل «السيال الحراري» و«الفلوجيستون» و«القوة الخالقة» التي كان يُعتقَد بأنها تنتقل من مكان إلى آخر وتحرك الآلات والكائنات. بالمثل فإنَّنا نتعامل مع المعلومات بمفهومها الدَّارج على أنها شيء مادي، فنَصِفها مثلًا بأنها تُنقَل وتباع وتُخزَّن. استغرق تطور المفهوم العام للطاقة عدة عقود كي يتَّضح، مع أن استغلال الطاقة كان سمة مميزة لتلك الحقبة. وفي نهاية المطاف اتَّضح المفهوم حين أدركنا أن الطاقة ليست مادة، بل عامل ديناميكي ثابت يتحوَّل ويُحفَظ أثناء عمليات التغير المستحَثة. وتلاشت التصورات التي تعتبر الطاقة أثيرًا يَستعصي على الوصف أو مادة مُميزة وحل محلها تفسير ديناميكي قائم على العلاقات. في ذلك الإطار الجديد، خضع العديد من الظواهر التي كانت من قبل غامضة لتحليل دقيق، وصارَت أساسًا لعدد هائل من التقنيات الجديدة.
بالمثل، أدفع بأننا إذا أردنا أن نصوغ فهمًا علميًّا كاملًا للمعلومات، فعلينا أن نكفَّ عن اعتبارها أداة أو سلعة ما، ولو على سبيل المجاز. وكي نفهم الوظيفة التمثيلية الضمنية التي تميز المعلومات عن غيرها من العلاقات الفيزيائية البَحتة، سيتعيَّن علينا أن نجد طريقة محدَّدة لتمييز خاصيتها المميزة غير الجوهرية — محتواها المرجعي — وبيان كيف يُمكن أن تكون مؤثرة سببيًّا على الرغم من غيابها المادي. مثَّل تلك الحالةَ الوجودية المبهَمة لتلك العلاقة استخدامُ برينتانو لمُصطلح بليغ وإن كان مبهمًا وهو «اللاوجود» في وصفه للظواهر العقلية.
تتَّسم كل ظاهرة عقلية بما أسماه أصحاب المذهب السكولاتي في العصور الوسطى اللاوجود القَصدي (أو العقلي) لعنصر ما، وما نُسمِّيه نحن على نحو مُلبس نوعًا ما إشارة إلى محتوًى ما، أو تعلقًا بعنصر ما (ليس المقصود بالعنصر هنا شيئًا ماديًّا) أو الموضوعية المحايثة (الخبرة الذاتية لعنصر ما).
ذلك اللاوجود القصدي هو سمة تُميِّز الظواهر العقلية دون سواها. إذ لا يبدو موجودًا على الإطلاق في غيرها من الظواهر المادية. إذن يُمكن أن نُعرِّف الظواهر العقلية بأنها تلك الظواهر التي تنطوي على عنصر قصدي داخلي.
كما سأناقش فيما يلي، فإن ربط المهندس المعلومات بخفض نسبة عدم اليقين أو العشوائية في الإشارة، والتصور الفينومينولوجي القريب للحدس للمعلومات باعتبارها علاقة «تَعلق» غير قابلة للاختزال «موجودة بالفعل دائمًا»، كلاهما يعتبران تلك العلاقة بشيء ليس له وجود ملموس أمرًا مسلمًا به. الأول يَعتبرها من المسلَّمات، ثم يخرجها من اعتباره عند التعامل مع خواص الوسط المعلوماتي القابلة للقياس. والثاني يتعامل معها باعتبارها سمة أساسية لم تَخضع للتحليل، ويتجاهل كونها مادية وفاعلة بالضرورة كي يركز على سماتها الجوهرية. لا يقدم أي من التوصيفين معايير تميز بوضوح بين العلاقات المادية أو المنطقية البحتة والعلاقات التي تتضمَّن معلومات.
مفهوم المعلومات هو مفهوم محوري مُوحَّد في العلوم. ويلعب أدوارًا جوهرية في علم الفيزياء والحوسبة ونظرية التحكُّم وعلم الأحياء وعلم الأعصاب الإدراكي وبالطبع العلوم الاجتماعية. لكن كلًّا من تلك المجالات يُوظفه توظيفًا مختلفًا نوعًا ما، إلى حد أن جوانبه الأوثق صلة بكل مجال تكاد لا تتداخَل على الإطلاق. والأدهى هو أن التعريف التِّقني الأدق المستخدم في هندسة الاتصالات ونظرية الحوسَبة والفيزياء الكمية يَتجاهل تمامًا السمات التي تُميِّز المعلومات عن غيرها من العلاقات السبَبية. يُهدِّد ذلك الاختلاط بعدم بلوَرَة مفهوم المعلومات وجعله مبهمًا إلى حدِّ أنه لا يُقدم أي تجليات عن التمايز المادِّي بين العلاقات الحسِّية الخارجية والعقلية، أو يأذن بتحويله إلى ثنائية منهجية من نوع ما.
في النهاية، وقَع مفهوم المعلومات ضحية مأزق فلسفي له تاريخ طويل ومثير للجدل؛ وهو مسألة تحديد الحالة الوجودية لتمثيلات أفكارنا أو مُحتواها. تتلخَّص المشكلة الكامنة وراء تعريفات المعلومات في سؤال بسيط: كيف يُمكن أن يكون لمحتوى إشارة أو فكرة (أي معناها أو ما تُحيل إليه أو ما تتعلَّق به) فاعلية سببية في العالم الواقعي إذا كان يُعرَّف بأنه غير متأصِّل في العنصر المادي أو العمَلية المادية التي تُمثله؟ بعبارة أخرى، تُوجد معضلة ضمنية في العلاقات التمثيلية. إذ لا يُعدُّ محتوى علامة أو إشارة سمةً متأصلة في مكونها المادي أيًّا كان. بل العكس هو الصحيح. فكي يُعدَّ شيء ما معلوماتٍ بالمعنى التقليدي، فلا بدَّ أن يكون مُتمايزًا عن الإشارة أو العلامة (الوسط المادي) التي تنقلها. سأُشير إلى ذلك باسم «مشكلة المحتوى الغائب». يرجع أصل المعضلات التقليدية عن طبيعة الأفكار والمعاني إلى تلك الحقيقة البسيطة الجلية.
غالبًا ما كانت تلك العلاقة تُوصف باعتبارها تناظرًا بين علامة أو فكرة في الذهن وشيء آخر، شيء غير موجود. لكن كما أشار عدد كبير من النقَّاد، ذلك التفسير المعقول في ظاهره يفشل في تحديد أي خواص تُميز تلك العلاقة عن غيرها من العلاقات الفيزيائية البحتة. فلنأخُذ مثالًا تقليديًّا وهو مثال الختم الشَّمعي الذي تتركه بصمة خاتم في الشمع. خارج الذهن الذي يُفسر معناه، يكون الشمع شمعًا ليس إلا، والخاتم ليس إلا مَعدِنًا مصوغًا، والتقاؤهما وقتما كان الشمع لا يزال دافئًا وطيِّعًا ليس إلا حدثًا فيزيائيًّا أحدث خلاله أحد العنصرَين تغيُّرًا في الآخر حين تلامسا. لا يوجد في تلك الحقائق ما يُميزها عن أي تفاعل مادي آخر. وما يجعل الختم الشمعي علامة تحمل معلومات هو شيء إضافي. إذ لا بد من شخص يُفسِّره. للأسف، تلك الإجابة الواضحة هي إجابة دائرية في نهاية المطاف. فما يرد في العقل المُفسِّر هو نفسه المراد تفسيره. العملية التي نُسمِّيها تفسيرًا هي توليد لعلامات عقلية تُفسِّر علامات خارجية. هذا يضعنا أمام مشكلة واحدة سواء داخل العقل أو خارجه. وهي مسألة معرفة كيف لمحتوى ليس له وجود مادي أن يكون مُتأصِّلًا في العلامة والعملية التفسيرية بطريقة ما، وهي مسألة مُبهَمة في العمليات العصبية بقدر ما هي مبهمة في العالم المادي خارج أدمغتنا.
(٢) معاني المعلومات
هذا ويوجد إبهام مُشكِل في معنى مصطلح «المعلومات» من شأنه أن يشوش التحليل. إذ يُستخدم ذلك المصطلح في الحديث عن عدد من الأنواع المختلفة من العلاقات وعادة بالتبادل دون تمييز بينها. فيُمكن أن يُشير إلى سمات الإشارة أو العلامة نفسها، بصرف النظر عن أي معنًى أو دلالة، كما هو المحتوى المعلوماتي للبتات (الأرقام الثنائية) لملف الحاسوب الذي يُشفِّر ذلك الفصل. يُطلق على ذلك أحيانًا المعلومات التركيبية. وقد يراد به ما تُشير إليه تلك البتَّات، مثل الأفكار التي أنشد إيصالها. ويُسمَّى هذا أحيانًا المعلومات الدلالية. ويُمكن أن يُراد به الجوانب الجديدة بالنسبة لك من تلك الأفكار، عزيزي القارئ، أي الأفكار غير المكرَّرة بالنسبة إليك كما تكون بالنِّسبة إلى الخبراء في هذا المجال. ويُسمَّى هذا أحيانًا المعلومات التداولية (البراجماتية). في الوقت الحالي، ساد المعنى الأول، على الأغلب نتيجةً لاعتيادنا في الوقت المعاصر على الحوسبة واعتمادنا عليها.
كُتِب ذلك المستند على عدة حواسيب، وأثناء كتابته تبادَلتُ مُسودات منه مع زملاء لي عن طريق إرسال تلك المعلومات عبر الإنترنت. لكن ما الذي أُرسل على وجه التحديد؟ الإجابة هي: سلسلة من قيم الجهد الكهربي المرتفعة والمنخفضة، والتي تشبه كثيرًا شفرة مورس، مرتبة في مجموعات من ثمانية آحاد وأصفار تُمثل معًا حروفًا أو أرقامًا أو عمليات تختص بها. كلا الحاسوبَين في طرفَي العملية مُعدَّان لتشفير وفك تشفير تلك السلسلة من التغير في الجهد الكهربي بالطريقة نفسها. بالنِّسبة إلى المُستَخدِم، يحدث ذلك بعيدًا عن نظره. فكل ما نراه نحن المستخدمين هو مجموعة من الأحرف المرتبة على الشاشة. من الواضح من المصطلحات التي أورَدناها آنفًا أنه يسعنا القول إن المعلومات التركيبية تُتَبادل في كلا الاتجاهين، في شكل عدد من الإشارات المميزة، ويُؤمَّل أن تُوصِّل تلك الإشارات معلومات دلالية وتداولية كذلك.
في تقنيات الحاسوب الحالية، يُمكن ترجمة الجهد الكهربائي السريع التذبذب الذي هو أساس العمليات الحاسوبية من وإلى أنماط من التجاويف الدقيقة المحفورة على أسطوانة بلاستيكية أو من وإلى نمط مُعدَّل مغناطيسيًّا من جسيمات الحديد الموجودة على سطح قرص صلب دوار. لكن ماذا لو صادَفنا في صخرة نمطًا من التجاويف المحفُورة أو ذرات الحديد المُمغنَطة ينتج تلقائيًّا يُناظر بالضبط تلك الأنماط؟ فهل سيُمثِّلان المعلومات نفسها؟ صحيح أنه يمكن وصفهما بأنهما معلومات تركيبية مُتطابقة، لكنَّ كليهما على الأرجح لن يُوصِّلا معلومات دلالية مُتطابقة. وهل يُمكن اعتبارها معلومات من الأساس إذا كانت ناتجة عن عملية عشوائية؟ في الواقع، أجل. فالتفاعلات الكيميائية الناتجة عن جزيئات مجهولة في عينة من الماء الذي يَخضع لاختبار تلوث، أو موجات الراديو التي تصل إلى الأرض من نجم منفجر، مثالان نموذجيان لأنواع الإشارات التي يستطيع العلماء استخدامها باعتبارها معلومات. الأنماط التي نصنَعُها عن قصد لإيصال فكرة، وتلك التي نَكتشفُها في الطبيعة، كلاهما يمكن أن يُخبرَ بمعلومات. أخيرًا، يُوضِّح ذلك أن أيَّ شيء تقريبًا يمكن أن يعتبر معلومات بالمعنى التركيبي؛ لأنه ليس إلا تقييمًا لإمكانية الإخبار بمعلومات.
يتوافَق ذلك المفهوم الأساسي عن المعلومات مع نظرية المعلومات المعاصرة، التي أسماها مُكتشفها كلود شانون (١٩٤٨) في الأصل «النظرية الرياضية للاتصال». كما سنرى، تعريف شانون أكثر تحديدًا من ذلك، لكنه في مضمونه يُبين لنا لماذا يمكن اعتبار أي تمايز فيزيائي معلومات «ممكنة»، سواء كان من صنع البشر أم نتاج عملية طبيعية غير عاقلة. فهو يحدد خواصَّ العمَلية أو المادة الفيزيائية اللازمة كي تصير وسطًا لنقل المعلومات أو تخزينها. إذن من هذا المنطلق، حين نَستخدِم مُصطلح «المعلومات» للإشارة إلى الإشارات التي تنتقل عبر سلك، أو العلامات المدونة بالحبر على ورقة، أو الترتيب المادي للعناصر في مسرح جريمة، فإننا نستخدم نوعًا من الاختزال اللفظي. فدون تلك الخواص المادية لا وجود للمعلومات، لكنَّنا فعليًّا نشير إلى ما هو أكثر من النمط المادي؛ إلى شيء غير موجود تشير إليه تلك الخواص الموجودة.
يُساعدنا التعرف على خواص العمَليات المادية، التي تُعدُّ شروطًا لازمة لشيء ما كي يتمكن من تقديم معلومات، على فهم منظومة العلوم الطبيعية. الملاحظة والتجربة العلميَّتان موجهتان لمهمة استكشافِ أنماط الأشياء بهدف اكتشاف معلومات عن كيفية حصولها على خواصِّها تلك. يمكن كذلك أن تحمل العناصر أو الأحداث المادية نفسُها معلومات جديدة مع كل تغيُّر في الأداة التفسيرية. ترجع اللانهائية تلك إلى أن الظواهر الطبيعية عادة ما تنطوي على إمكانٍ معلوماتي يفوق بكثيرٍ القُدرة على التفسير. بالنِّسبة إلى محقق بارع في حوزته أحدث الأدوات لتحليل المواد واختبار الحمض النووي، يُمكن أن يصبح كل شيء موجود في مسرح جريمة مصدرًا للمعلومات. لكن القدرة على تحديد أي الخواص الفيزيائية التي يُحتمل أن تُفيد في تقديم معلومات لا يساعدنا على فهم كيف يمكن أن تكون تلك المعلومات متعلقة بشيء آخر.
(٣) تحديد موضع المعلومات في عملية معالجة المعلومات
يساعد تحليل شانون للخواص المنطقية التي تُحدِّد السعة المعلوماتية لوسط مادي على فهم مفهوم المعلومات في نظرية الحوسَبة. بالمعنى الأعم، تَعتمد إمكانية أداء العمليات الحوسبية على القدرة على تعيين قيمة مرجعية إلى سِمَة ما لعملية مادية وتخصيص عملية منطقية محددة لتغير مادي في تلك السِّمة بالنسبة إلى غيرها من السمات التي عُيِّن لكلٍّ منها مرجع أيضًا. بهذا المعنى، يُمكن أن نعتبر حتى العمليات الميكانيكية الاعتباطية (أو غيرها من العمليات الفيزيائية) حواسيب مُحتملة. ومثلما يمكن أن يبتكر المرء نظام تشفير يستطيع ترجمة تسلسل اعتباطي من الإشارات إلى جملة إنجليزية، يمكن الربط بين عملية فيزيائية اعتباطية وعملية التعامل مع رمز ما (تعيين مرجع له أو تغيير مرجعه). بالطبع بعض العمليات الفيزيائية والأجهزة الميكانيكية (أو الإلكترونية أو الكمية) أفضل من غيرها لهذا الغرض، لا سيَّما حين نَنشد المرونة في عمليات التخصيص أو الربط الممكنة. تعد علاقة التخصيص — تعيين المرجع — هذه ضرورية للتمييز بين الحوسَبة وغيرها من العمليات الفيزيائية الأخرى. جميع العمليات الفيزيائية هي عمليات حوسَبية مُمكنة، لكن لا يُوجد عملية فيزيائية حوسَبية في جوهرها.
بهذا المعنى العام، يُمكننا وصف العمليات العقلية بأنها عمليات حوسبية. لكن ما يفتقر إليه ذلك التشبيه على وجه التحديد هو علاقة التخصيص التي تُميز الفكر عن الحوسبة. فلا يوجد كائن مصغر مُنفصِل عن عملية الحوسبة يُعين المراجع إلى الحالات الفيزيائية المتمايزة للديناميكيات العصبية ذات الصلة. تُوصف الحوسبة عمومًا من حيث المفهوم التركيبي للمعلومات، لكنَّها تُشير ضمنًا إلى وجود مفهوم دلالي وإن كانت عاجزة عن تفسيره. في بعض الأحيان، يفترض أن ذلك التخصيص المرجعي يُمكن أن يوفره شيء يكافئ التجسيد الروبوتي، بحيث تَنطبق قيود العالم المادي على معطيات الحوسبة ونواتجها. لكن يمكن النظر إلى ذلك باعتباره امتدادًا للآلية الفيزيائية (المادية) التي تقوم عليها الحوسَبة لتشمل الأحداث السببية التي تقع «خارج» حدٍّ فاصل اعتباطي يفصل «آلة الحوسبة» عن البيئة المادية.
لا يكون وصف العلاقات المادية والعقلية بمُصطلحات الحوسبة مُلغزًا إلا في حال تجاهل افتراض وجود تعيين أو اعتباره يحدث جوهريًّا. فتكون النتيجة إما اختزالًا إقصائيًّا أو روحانية شاملة مُبهمة، على الترتيب. في الحالتَين، إذا اعتُبِر أي حدث فيزيائي عملية حوسبية واعتُبِر العقل مجرد حاسوب له غرض خاص، فستتلاشي معضلة العقل والجسد. لكن ثمة تبعات مقلقة لاختزال مفهوم المعلومات إلى معناها التركيبي فحسب. ففي كون معلوماتي بصورة متَّسقة، لن يكون هناك وجود للمعنى أو الغاية أو القيمة أو الفاعلية. في مثل ذلك الكون المعلوماتي، تظلُّ شبكات السببية المعلوماتية آلية بشكل أعمى كما هي في أي كون لابلاسي آخر.
هربًا من تلك النظرة الاختزالية لكون معلوماتي يُحوسبنا بطريقة آلية عمياء، لجأ العديد إلى فيزياء الكم لإرخاء قيود الحتمية الآلية، في النقاشات المتعلِّقة بالوعي وكذلك المتعلقة بالعمليات المعلوماتية. فالأحداث الكمية تبدو قابلة للإرجاء حتى لحظة رصدها، والعناصر الكمية يمكن أن تكون مستقلة ومترابطة في آنٍ واحد. وعليه فإن مفاهيم السببية والمعلومات عن تلك السببية تبدو مُترابطة على نحو معقَّد في ذلك المستوى من القياس.
على سبيل المثال، في التفسير السائد (وإن لم يكن الوحيد) لميكانيكا الكم، الأحداث التي تقع في العالم على المستوى الكمِّي لا تصير حقيقية (أي، يُمكن إخضاعها للتحليل التقليدي) إلا في لحظة قياسها. قبل حُدوث ذلك التدخل، لا تكون لها حالة واحدة واضحة، بل نطاق احتمالات. يجسِّد ذلك معضلة قطة شرودنجر الشهيرة، التي يعتمد فيها موت قطة داخل صندوق مغلق على حالة كمية لم تُقَسْ بعد. يفترض ذلك التفسير أن كلتا الحالتين المنظورتَين تكونان موجودتَين في الوقت نفسه حتى لحظة قياس الحدث الكمي لاحقًا (أي، حتى يَرصده مُلاحِظ). وعليه، تُعامَل معلومات القياس المتعلقة بتلك الحالة الكمية باعتبارها عاملًا سببيًّا أساسيًّا للانتقال من اللاحتمية الكمية إلى الحتمية التقليدية. بالمثل، تتَشارك ظاهرة كمية غريبة أخرى، وهي ظاهرة التشابُك الكمي، سماتٍ أخرى مع علاقة التناظر المتعلِّقة بالمعلومات. بعبارة مبسَّطة، هي تنطوي على تناظر ظاهري لحظي لتبعات القياس في جُسيمات منفصلة وغير مُتفاعلة. إذن، يُمكن القول بأن ذلك مثال على علاقة تمثيلية في جوهرها.
تلك ظواهر مُنافية للحدس، تُشكِّك في تصوراتنا المعتادة عن السببية، لكن هل تفسر مفاهيم المعلومات ذات الرتب الأعلى من رتبة المعلومات التركيبية؟ للأسف هي لا تحل فعليًّا معضلة المحتوى الغائب. في العالم الكمي، تشبه تلك الخواص (على سبيل المثال التراكب والتداخل) العلاقات التناظرية-التخصيصية. لذا قد نميل لاعتبارها علاقة إحالة متأصلة في العلاقة الفيزيائية الكمية. لكن الارتباط الفيزيائي ليس تعلُّقًا. فبينما تعد قياسات الجزيئات التي تؤثر على قياسات جسميات أخرى طرفًا في علاقة تناظرية، لا يعني ذلك أن إحداهما «متعلقة» بالأخرى، إلا بالنسبة للمُلاحِظ الذي يفسرها من الخارج. التعلق غير موجود في الفجوات بين الأحداث الكمية غير المُحددة (التي لم تُرصَد بعد) مثلما هو غير موجود بين تروس ساعة؛ لأنه ليس سمة جوهرية فيها. إذن لا تتعامل الحوسبة الكلاسيكية والكمية إلا مع المفهوم التركيبي للمعلومات. لا يُوجد في جوهر العمليات الحوسبية ما يميزها عن أيٍّ من العمليات الفيزيائية الأخرى، ولا يوجد في السمات الفيزيائية الكمية أو التقليدية التي يُتلاعَب بها في العمليات الحوسبية ما يجعلها متعلقة بسمات أخرى للعالم الطبيعي.
(٤) هل المعلومات فيزيائية؟
الربط بين المعلومات وشبكة العمليات السبَبية في الكون، سواء كانت مُحدِّدة أو إحصائية في جوهرها، صحيح بوجهٍ ما، لكن ثمة أمرًا ناقصًا أيضًا. نحن نفترض شيئًا إضافيًّا حين نمنح شيئًا ما وصف المعلومات، ذلك الذي نفترضه هو حتمًا ليس جزءًا من العمليات والأنماط الفيزيائية التي نعتبر أنها مُخبِرة بمعلومات (وإن لم تكن هي المُكوِّنة لمحتوى تلك المعلومات).
يتطلَّب البحث عن رابط بين المعلومات والسبَبية الفيزيائية المادية في العموم تحديد جانب مرتبط بالمعلومات يُمكن قياسه فيزيائيًّا. وهو أمر لازم لحل المسائل الهندسية التي تتضمن نظم معلومات ولمعالجة المشكلات العِلمية المتعلِّقة بتقييم العمليات المعلوماتية التي تحدث في الأنظمة الطبيعية. قدَّم كلود شانون الباحث في مختبرات «بيل لابس» أول حلٍّ جدِّي لتلك العقبات العملية في أربعينيات القرن العشرين (شانون وويفر، ١٩٤٩). برهنت «النظرية الرياضية للاتصال» التي وضَعها على أنه يُمكن قياس قدرة وسط اتصال على نقل المعلومات أو تخزينها بدقة، وأنه حتى تصحيح الأخطاء المعلوماتية يُمكن إجراؤه دون أي إحالة إلى المحتوى المعلوماتي. كان ذلك حجر الأساس لجميع تقنيات المعلومات الحديثة، لكنه وضعنا أمام نظرية معلومات مختزلة، أُقصيَ منها المحتوى والإحالة والدلالة باعتبارها بلا أهمية.
صمد المنهج الإحصائي الذي قدَّمه كلود شانون لتحليل الإشارة وقدرتها على حمل المعلومات في وجه الزمن من ناحية الحساب العملي لمقدار المعلومات الذي يُتوقَّع أن يُخزنه وسط معيَّن أو ينقله إلى آلية ترجمة. للأسف، لأن ذلك التحليل يُقصي أي إشارة إلى مسائل تعريف المحتوى أو الدلالة، نتجت عنه استخدامات أخرى للمُصطَلح الذي طالما اجتهدنا لوضع تعريف له والذي غالبًا ما يكون مصدرًا للتضليل من الناحية النظرية. بتجاهله لمسائل الإحالة والدلالة، استطاع شانون تقديم قياس واضح لا يحتاج إلى التأويل لما يُمكن تسميتُه قُدرة أو سعة التحمل المعلوماتي (تمييزًا لها عن المعلومات نفسها). بجانب أن ذلك القياس يصلح لعمليات الاتصال التي من صنع البشر، هو يُشير أيضًا إلى إمكانية أن يوفر أي نمط فيزيائي مُتمايز معلومات، كالأنماط المتمايزة التي قد تُكتَشَف من التجارب العلمية أو التحقيق الجنائي. لأجل ذلك، كان على ذلك القياس أن يتجنَّب أن يحمل أي شيء يُفسر كيف يُمكن أن تكون المعلومات متعلِّقة بشيء ما. ولتجنُّبه لذلك سبب وجيه. باختلاف المُفسرين أو الأدوات العلمية، يُمكن أن يُوفر النمط الفيزيائي المتمايز الواحد معلومات عن عدَّة أمور مختلفة، أو قد يكون غير ذي صِلة أو لا يُضيف معلومات. تعلق الشيء بشيء آخر وكيفية نشأة علاقة التعلُّق بينهما يعتمدان صراحة على عوامل خارجية؛ ومن ثَم لا يُمكن إرجاعهما إلى أي خواص جوهرية.
حسب تعريفها، المعلومات هي شيء مُرتبط بشيء آخر، لكن في الاستخدام الدارج يُمكن أن يُشير المصطلح إلى ما يُفهَم أو ما يُوصِّل ذلك الفهم. لو كانت تُشير فحسب إلى المعنى الأخير، كما في مفهوم شانون، إذن فتعلُّقها ودلالتها هما إمكانات مُفترَضة لكنها تُتجاهل مؤقتًا. الخطر الناتج عن عدم الإفصاح صراحة عن ذلك الاستبعاد للسياق التأويلي هو أن المرء يُمكن أن يُعامل العلامة باعتبارها ذات دلالة في ذاتها، دون اعتبار لأيِّ شيء آخر، ومن ثَم سيُؤدِّي ذلك إلى اختزال القصدية إلى الفيزياء المجرَّدة، أو يُتصوَّر أن التمايزات الفيزيائية هي نفسها مُخبرة بمعلومات على نحو مُتأصِّل فيها، لا بعد خضوعها للتحليل؛ أي عند تفسيرها.
يتجاهل تصوُّر شانون عن المعلومات بالكلية مسألة ما «تتعلق» به المعلومات، أو حتى ما إذا كان لها ما تتعلَّق به من الأساس، لكن تحليله يوفر مفتاحًا مهمًّا للتعامل مع مشكلة المحتوى الغائب؛ وذلك ببيانه على وجه التحديد أن ذلك الغياب يُمكن أن يكون له وظيفة في الأساس. وهو مفتاح يقدمه توصيف شانون لجانب السلب في المعلومات (مقدار عدم اليقين الذي يُسلَب عند تلقِّي الإشارة). قياس شانون للمعلومات الممكنة التي تنقلها رسالة معينة عبر قناة اتصال مُعينة يعتمد على مجموعة الإشارات التي كان من الممكن تلقيها لكنها لم تَصِل. بعبارة أدق، يُعرِّف شانون المعلومات بأنها مقدار عدم اليقين الذي يزيله استقبال إشارة معيَّنة. لذا، يتطلَّب قياس المعلومات مقارنة الإشارات المُحتملة المختلفة التي كان يمكن بثُّها بالإشارة التي بُثَّت فعليًّا. ربما أهم إسهام لهذا التحليل هو اعتباره بأن قياس تنوع الإشارات المحتملة يُناظر رياضيًّا قياس إنتروبيا نظام فيزيائي ما، مثل غاز خامل. وامتثالًا لنصيحة عالم الرياضيات جون فون نيومان، قرر شانون أن يسمي تنوع الحالات المُمكنة ذلك «إنتروبيا» وسط الإشارة (أو «القناة»، كما وصَفها، مستخدمًا نموذج قناة اتصال بين مُرسل لرسالة ومستقبلها). ذلك القرار، على غرار قرار تعريف السعة المعلوماتية باعتبار علاقتها بقيود الإشارة، قاد إلى العديد من الجدالات المتخبطة حول الجوانب المادية المُرتبطة بالمعلومات. لكن تلك الاستعارات هي أيضًا تلميحات مهمة لتوسيع نطاق مفهوم المعلومات كي يَشمل مرةً أخرى السمات التي تعيَّن إقصاؤها من ذلك التحليل الهندسي.
(٥) نوعان من الإنتروبيا
بتعريف المعلومات تعريفًا سلبيًّا من حيث تنوُّع الاحتِمالات لما كان يُمكن أن يقع، وجَّهنا شانون، دون قصد منه، إلى الخاصية الفيزيائية المهمَّة في وسط الإشارة أو العلامة التي تمنحنا القدرة على التوصُّل إلى مُتعلَّقه، وهي أيضًا خاصية سلبية. السبيل الوحيد إلى فهم ذلك الرابط هو ببساطة إدراك أن الوسط التمثيلي، أيًّا كانت الهيئة التي يتَّخذها، هو وسط فيزيائي بالضرورة. هو شيء موجود اعتُبِر أنه مُتعلِّق بشيء ليس له وجود مباشر. انخفاض إنتروبيا الإشارة يمكن أن يحمل معلومات؛ لأنه يعكس آثار شغل فيزيائي بُذِل على وسط الإشارة الفيزيائي؛ ومن ثَم فهو يَعكس قابلية ذلك الوسط للخضوع للمؤثِّرات الخارجية. وفقًا للديناميكا الحرارية (بولتزمان، ١٨٦٦)، فإن أيَّ تغير في حالة نظام فيزيائي لا يحدث بصورة طبيعية يُحدث حتمًا انخفاضًا موضعيًّا في الإنتروبيا الفيزيائية الخاصة به (سأصف ذلك بأنه «إنتروبيا بولتزمان» لتمييزها عن إنتروبيا شانون) الناتج عن الشُّغل المبذول على ذلك النظام من الخارج. وفقًا لشانون، فإنَّ سعة أو قدرة إشارة على حمل المعلومات تتناسَب مع عدم رجحان حالتِها الفيزيائية الحالية (كلما ابتعدت الإشارة عن الحالة المتوقَّعة لها، ازدادت المعلومات التي تحملها). لكن الوسط المعلوماتي هو وسط فيزيائي، ووجود نظام فيزيائي في حالة غير مُحتملة يعكس تأثيرات شغل فيزيائي بُذِل عليه سابقًا، فأدى إلى اضطرابه بعد أن كان في حالة أو حالات محتملة أكثر. هكذا، تُمثِّل معلومات شانون، المتُضمَّنة في قيود الإشارة، ضمنيًّا ذلك الشغل. من تلك الحيثية، تُعد إنتروبيا شانون وثيقة الصلة بإنتروبيا بولتزمان. التغير في إنتروبيا بولتزمان للوسط هو صراحة أساس مرجعية الإشارة؛ لأنَّ ذلك بالضرورة انعكاس لتأثير خارجي ما (ديكون، ٢٠٠٧، ٢٠٠٨).
لكن العلاقة أبعد من مجرَّد كونها أثر شغل فيزيائي لتغيير وسط إشارة. مع أن علاقتها تلك بالشغل هي علاقة جوهرية، يُمكن إيصال المعلومات المرجعية عن طريق تأثير الشغل وكذلك عن طريق وجود دليل على عدم بذل أي شغل (ديكون، ٢٠٠٧، ٢٠٠٨). ومن ثَم يمكن أن يخبر عدم ورود معلومات جديدة بأن شيئًا مُتوقَّعًا حدوثه لم يحدث بعد. هذا يُبيِّن أن معلومات شانون والمعلومات المرجعية ليسا سيان. مجددًا، سبب ذلك هو أنَّ قيد الإشارة ليس شيئًا «من صميم» وسط الإشارة، إنما هو علاقة بين حالتها الفعلية والمحتملة في أي لحظة. يعدُّ انخفاض القابلية للتباين قيدًا، والقيد في تلك الحالة ليس سمة جوهرية بل سمة نسبية بين علاقتَين. وهي تُحدَّد بناءً على ما هو غائب. إذن، ضمنيًّا، أي نظام فيزيائي يبدو خاضعًا لقيدٍ يكون على حالته تلك نتيجة لمؤثرات خارجية؛ في المقابل، لو كان وسط العلامة لا يبدو خاضعًا لقيد أو لا يتغير من حالة مستقرة ما، فإنه يمكن الاستدلال من ذلك على عدم بذل مُؤثر خارجي لشغل عليه. تجسد العلاقة بين الأشكال الحاضرة والغائبة لوسط علامات مدى قابلية ذلك الوسيط للتأثُّر بالمؤثِّرات الخارجية، سواء حدث أي تفاعُل أو لم يحدث. وجدير بالذِّكر أن ذلك أيضًا يعني أن احتمالية التغيُّر نتيجة لشغل، لا نتيجة لتأثيره الفعلي، هي سِمة الإشارة التي تَعتمِد عليها المرجعية. هذا ما يَسمح بأن يكون الغياب في ذاته، غياب التغير، أو الوجود في حالة مُرجِّحة، مخبرًا بالمعلومات.
فلنأخذ الخطأ المطبعي في مخطوطة مثالًا. يُمكن اعتباره انخفاضًا في معلومات مرجعية لأنه يعكس ثَغرة في القيد الذي تفرضه اللغة والذي يعدُّ ضروريًّا لإيصال الرسالة المرادة، وهو يعطي كذلك معلومات عن كفاءة الكاتب، معلومات قد تكون مُفيدة بالنسبة إلى رب عملٍ يُفكِّر في توظيفه. أو فلنأخُذ مثالًا آخر لفني يُشخِّص طبيعة مُشكلة في أحد أجهزة الفيديو بملاحظته لكيفية تشوُّش الصورة. ما يُعتبر إشارة وما يُعتبر تشويشًا ليس سمة جوهرية في وسط العلامة؛ لأنه يتحدَّد نسبةً إلى المرجع. لكن في كلتا الحالتَين، الانحراف عن الحالة المتوقعة أو المتنبَّأ بها يُعتبر إشارة لسبب لم يكن ليلاحظ لولا حدوثه. بالمثل، إذا لم تظهر أي تأثيرات لمُؤثِّر خارجي على علامة — على سبيل المثال، ضبط جهاز إنذار من السرقة كي يتعرَّف على الحركة — يُمكن أن تقدم معلومات تُفيد بأنَّ حدثًا مُمكنًا (حادث اقتحام للمنزل) لم يقع. أو تصور رسالة شكر لم تُرسل، أو إقرارًا ضريبيًّا لم يُسلَّم في الموعد المحدد. في تلك الحالة، حتى غياب الاتصال هو بمثابة اتصال يَحمل دلالة وله تبعات قوية.
لكن في كل الحالات، تَعتمد قدرة وسيلة معلوماتية ما على الإحالة على التأثير الفيزيائي الذي غيَّر — أو كان يُمكن أن يغير — حالة وسط قابل للتأثر بمؤثرات خارجية. يخبرنا ذلك بأن العلاقة بين إنتروبيا شانون وإنتروبيا بولتزمان ليسَت مجرَّد تشابه أو تناظر وصفي. بل إنها أساس القدرة على الإحالة.
(٦) الداروينية والتفسير
حتى تلك النقطة في تحليلنا، افترَضنا أن العلاقات الموصوفة تضمَّنت علامات وإشارات، وأنها ليست مجرد أحداث فيزيائية مختارة عشوائيًّا. لكن في الواقع، لا تُفرِّق أي من المعايير التي ذكرناها حتى الآن بين الأحداث والعناصر التي تخبر بمعلومات، وتلك التي لا تخبر بمعلومات. إنما هي «مُتطلبات» يلزم وجودها في شيء كي يكون مخبرًا بمعلومات عن شيء آخر، لكنها هي نفسها ليست بمعلومات. يصف شانون الشروط اللازم وجودها في شيء كي يكون لديه القدرة على الإخبار بمعلومات؛ أي تقديم تصوُّر تركيبي. حتى الربط بين المعلومات والتأثير الفيزيائي، الذي هو أحد المتطلبات اللازمة للقُدرة على الإحالة، مثل معيار شانون، يعد سمة لازمة، وإن كانت غير كافية، للإحالة: أي التصور الدلالي للمعلومات. لكن بالطبع ليس أي تغير في الإنتروبيا يكون علاقة إحالة. أي تمايز فيزيائي «يمكن» ترجمته إلى معلومات عن شيء آخر — سواء كان ذلك حالة الوحل الذي يلطخ حذاء شخص ما أو وجود إشعاع خلفية الكون الميكروي وانتظامه — إلا أن تلك لا تعد سمة جوهرية، بل أمرًا يَعتمد كليًّا على كيفية تفسيره. تلك العلاقة الاعتمادية اللاحقة لا تنفي لزوم تلك السمات. بل تُبيِّن فحسب عدم كفايتها. لكن كما رأينا، تعتمد قدرة وسط المعلومات على الإحالة على قدرته على الاستجابة للتغير الفيزيائي.
يصير أيُّ تمايز فيزيائي مخبرًا بالمعلومات حين يُؤدي دورًا تنظيميًّا أو ضابطًا في عملية ديناميكية. يَعتمد إمكان الإخبار بالمعلومات على معايير شانون–بولتزمان التي ناقشناها للتو، لكن ذلك الإمكان لا يتحقَّق إلا حين يؤثر على عملية ديناميكية مُنظَّمة بشكل معين. ومع أننا كثيرًا ما نتحدَّث عن تلك العمَلية باعتبارها عملية تفسيرية، مُستحضرين افتراضات من علم النفس الشعبي، فإنها تظلُّ مجرد افتراضات تنتظر أن تؤكدها نظرية علمية عن نوع التنظيم الديناميكي الكافي لتكوين تلك العملية. ويصير ذلك النهج أو القياس مُلغزًا حين نحاول تطبيقه على مجالات أخرى مثل علم الأحياء الجزيئي، حيث لا يمكن استخدام فكرة الكائن المصغر الذي يفسر المعلومات في الدماغ.
قدَّم جريجوري بيتسون رؤية كاشِفة مُهمَّة تتعلق بشروط التفسير في قول مأثور عنه يكثر اقتباسه يختص بتوصيف المعلومات: المعلومات هي «اختلاف يُحدِث اختلافًا» (بيتسون، ١٩٧٢). لا عجب إذن أن تَحمل تلك العبارة أيضًا وصفًا وافيًا للشغل الميكانيكي أو الديناميكي الحراري. تَعكِس تلك العبارة ضمنًا مفهوم إمكان استخدام المعلومات لتغيير الأشياء. ومن تلك الحيثية، يكون لها القدرة على التحكم في الشغل. لذا حين ندمج تلك الفكرة عن الأساس الفيزيائي للتفسير مع معيار بولتزمان للقُدرة على الإحالة يصبح لدينا: «وسط قابل للتعديل بواسطة شغل فيزيائي، يُستخدَم لتعديل حالة نظام ديناميكي آخر نتيجة لحساسية ذلك النظام للتغيرات التي تطرأ على ذلك الوسط، وقدرته التفاضلية على بذل شغل يَتناسب مع ذلك التغير».
ذلك تعريف معقَّد، مع ذلك يعوزه التفصيل فيما يتعلَّق بطبيعة تلك البنية الدينامية، وبهذا لا يزال تنقُصه عدة جوانب مهمَّة. تتعلَّق تلك الجوانب بمقدار أهمية المعلومات ومفهوم الوظيفة، اللذَين يَنبع منهما الجانب المعياري للمعلومات؛ أي التصور التداولي للمعلومات. لكن قبل أن نُحاول معالجة جوانب القصور تلك، نحتاج إلى تفصيل المتطلبات اللازم وجودها في نظام كي يكون لديه القدرة على تمييز حالة إشارة معينة وبذل شغل يتناسب معها. ذلك أن تلك المتطلبات ستُوفر في النهاية أساسًا لتلك السمات الإضافية، والأساس الذي ينبني عليه إمكان القدرة على الإحالة إلى شيء محدَّد.
إحدى القواعد الأساسية للديناميكا الحرارية هي أنه كي يستطيع نظام ما أن يَبذل شغلًا، لا بد أن يكون في حالة عدم توازن. إذن، أي تفسير مُكتمل لمكونات عملية تفسيرية لا بد أن يتضمن دورًا محوريًّا للعمليات الديناميكية غير المتوازنة. لكن ظروف عدم التوازن هي في الأصل مُؤقَّتة وهادمة لذاتها. كي تستمرَّ عملية غير متوازنة، لا بد لها أن تَعتمِد على ظروف بيئية داعمة (على سبيل المثال، مصدر للطاقة الحرة والمواد الخام) كي تعوض ذلك الانهدام التلقائي. من هذا الجانب، مثل وسط الإشارة لا بدَّ أن تقبل الاستجابة للمؤثرات الخارجية: على سبيل المثال أن تُوضع في سياق ديناميكي حراري أكبر. هكذا فإن وجود نظام يحافظ على حالة عدم توازن مُستمرة قادر على أن يبذل شغلًا يتناسب مع مصدر معلومات يستلزم وجود ظروف بيئية تعززه.
ذلك مهم لبناء عملية تفسيرية لسببَين إضافيَين. الأول هو أن قابلية نظام مُفَسِّر للتأثر بالسياق ليس مجرد حساسيته للمؤثرات الخارجية في المُطلَق، كما في حالة وسط المعلومات. إنما يتطلب استمرار نظام ديناميكي حراري غير مُتوازن تناظرًا بالغ الدقة بين التنظيم الديناميكي للنظام والظروف الخارجية الداعمة له. بعبارة أخرى، لا بدَّ أن يُوجد تطابق وصفي أو شكلي حتمي بين النظام والسياق. ثانيًا، كي يستمرَّ نظام ديناميكي حراري غير متوازن، لا بد أن يحتفظ بشيء من التماثل الذاتي؛ ومن ثَم أن يكون مُقيدًا. لا بد أن تكون له هوية موحَّدة بالمعنى العام على الأقل.
أحد السبل أيضًا لمعالجة مشكلة المعيارية الموجودة ضمنًا في المفهوم البراجماتي للمعلومات هو فهم أن ديناميات عدم التوازن جزء ضروري من العملية القادرة على توليد معلومات. مثلت المعيارية بشتى جوانبها مشكلة جادة تُواجه نظريات الإحالة التي تعتمد على التخصيص أو التناظر. على غرار بيكهارد (١٩٩٨، ٢٠٠٠، ٢٠٠٣)، سأذهب إلى أن المعيارية التي تحدد الخطأ التمثيلي هي خاصية ناشئة عن العلاقة النِّسبية بين علاقة الإحالة في نظرية شانون–بولتزمان وتنظيم العمليات غير المتوازنة التي تفسرها. ذلك يلزم من الاعتماد الجوهري على ظروف بيئية معيَّنة لازمة لاستمرار ذلك النظام الديناميكي. طالما أن تفسيرَ إشارة معينًا يُساهم بفاعلية في تحقيق ذلك الغرض، ومن ثَم يُساعد على حفظ ذلك الارتباط، إذن فستستمرُّ أيضًا تلك الاستجابة التفسيرية المحدَّدة إلى تلك الحالة المحدَّدة لوسط الإشارة. بالطبع العكس مُمكن أيضًا؛ ومن ثَم يُمكن وقوع أخطاء في التفسير.
لكن حتى في أبسط الحالات يفترض ذلك وجود عملية غير متوازنة مُنظمة وفقًا لظروف البيئة الداعمة وبعض سمات تلك البيئة التي تميل إلى الارتباط بتلك الظروف. حينئذٍ تكون نشأة مثل تلك العلاقة الراسخة هي نقطة تحول علاقة فيزيائية عارضة إلى علاقة معلوماتية. على الأرجح، ذلك التناظُر بين علاقة إحالة محدَّدة وتعديل ديناميكي محدَّد في القدرة على بذل الشغل لا يمكن تحقيقه تلقائيًّا إلا بعملية تطورية. لا عجب إذن أن يشير ذلك التحليل إلى أن توليد المعلومات بمعناه الشامل هو خاصية منبثقة من الحياة. بالطبع، ذلك لا يُقصي الطرق التي لا حصر لها لتوليد المعلومات ومعالجتها، بطريقة غير مباشرة، بالنسبة إلى العمليات الحية. لكن تلك الطرق أيضًا لا بد أن تجسد تلك المعايير الأساسية نفسها على الأقل. من هذا المُنطلَق فإن التصور التركيبي (شانون) والتصور الدلالي (شانون–بولتزمان) للمعلومات كلاهما يعتمدان في نهاية المطاف على التصور التداولي (شانون–بولتزمان–داروين) (ديكون، ٢٠٠٧، ٢٠٠٨). هكذا، يُمكن فهم عملية التطور في صورتها الأعم، باعتبارها المصدر الخالق الضروري للمعلومات. إذا لم تُوجد ديناميكية تطورية، فلا وجود للمعلومات بمفهومها الشامل.
(٧) تطور المعلومات
يحتاج ادعاء أن التطوُّر نفسه عملية خلقٍ للمعلومات إلى تفصيلٍ كي يَكتمِل ذلك التحليل. يوجد تشابُه آخر غريب — وإن لم يكن مُفاجئًا لو أعَدنا النظر فيما سبق — بين تحديد شانون للسَّعة المعلوماتية وتحديد التطور للصلاحية. كلاهما يَنطوي على علاقة بين تنوُّع مُمكن ومتحقِّق. يعتمد الانتخاب الطبيعي على خلقِ أشكال مُتنوِّعة (أنماط وراثية وأنماط ظاهرية) غير مرتبطة وظيفيًّا (أي عشوائية) يتبعه خفض لذلك التنوع نتيجة للموت أو الفشل التكاثري. في تحليلنا لعلاقة شانون–بولتزمان، بيَّنا أن قُدرة وسط إشارة على الإحالة هي نتيجة الطريقة التي تُخفِّض بها العوامل الخارجية تنوعها الممكن (الإنتروبيا). في عملية الانتخاب الطبيعي، تلعب ظروف البيئة التي تُحابي تكاثُر واستمرار بعض الأنواع دون غيرها دورًا مُماثلًا. من هذا المنطلق، نشعر أن لدينا ما يُبرِّر الادِّعاء بأن السمات الموجودة في أي تخليق للكائنات هي تكيُّفات على بعض تلك الظروف (أو مرتبطة بها ارتباطًا إيجابيًّا). يُمكن القول مجازًا بأنها «متعلِّقة» بتلك الظروف.
لكن توجد اختلافات عميقة، ضرورية لتفسير سبب توليد تلك العمَلية لمعلومات جديدة. أولًا، التنوع المبدئي ليس تنوعًا في الإشارة، بل مجرَّد أشكال مُختلفة من ركيزة غير فاعلة. أما التنوع الذي يخضع للتأثير المُقيِّد للانتخاب الطبيعي فيتضمَّن تنوعًا في العمليات والبِنى المتصلة بالنظام المُفَسِّر نفسه. ثانيًا، ديناميات عدم التوازُن لدى الكائنات التي تتنافَس فيما بينها لاستخراج الموارد أو مُصادرتها هي مصدَر الشُّغل الذي هو أساس ذلك الانخفاض في العدد الكُلي «الإنتروبيا». ثالثًا، يتولَّد التنوع الذي يخضع للانتخاب من جديد في كل جيل نتيجة ما يُعتبَر في اصطلاح شانون تشويشًا (أي، الطفرات وعمليات إعادة التركيب) يدخل على الإشارة (أي الإرث الجيني). إذن ما يُعتبَر تقطعًا في الإشارة الجينية، والصفات الفيزيائية العارضة يُمكن أن يصبح معلومات طالما تنتج عنه أشكال متنوعة من العمَلية التفسيرية–التكيفية التي تحدُث كي تُجسِّد التشابهات التنبُّئية المترابطة بين ديناميات التفسير والظروف الداعمة التي تجعل ذلك التفسير ممكنًا. قُدرة العملية الداروينية على توليد معلومات جديدة عن العلاقة الاعتمادية بين الكائن الحي–البيئة (والمُفسِّر–السياق على نطاق أوسع) هي أبلغ دليل على أن المعلومات وليدة التفاعُل بينهما. التحول الثوري للتشويش إلى معلومات هو البرهان الأقوى على أن الذي يجعل شيئًا ما معلومات ليس متأصلًا أو جوهريًّا في أيٍّ مِن سماتِ وسطِ إيصال المعلومات نفسه. بل هو منهجي ومعتمد على علاقات مع غيره، ويعتمد في كل مُستوى من التحليل على علاقة بشيء غير حاضر.
(٨) الاستنتاجات
«اللاوجود القصدي» لمُحتوى فكرة، والدلالة المُتصَوَّرة لحدث عارض، وما يَعنيه قياس تقوم به أداة علمية، وقراءة الطالع من الأنماط الموجودة على أوراق الشاي، وغيرها، هي كلها أمور ليس لها وجود فعلي. من هذا المنطلق، ثمة شيء من الصحة في المفهوم المُشتق من الفلسفة الديكارتية الذي يُفيد بأنَّ محتوى الذهن لا امتداد له، بينما العمليات العقلية التي تحقق ذلك المحتوى لها امتداد. لكن القول بأن ذلك المحتوى الغائب لا امتداد له ليس مطلق الصحة. غياب الإشارة (أي انخفاض الإنتروبيا) التي تُعدُّ أساس السَّعة المعلوماتية لشانون، والشغل غير الموجود الذي كان أو لم يكن أساسًا لما تُحيل إليه تلك الإشارة، والخيارات التفسيرية (تبايُنات السمات في الكائنات) المنتَخَبَة في عملية تطورية، كلها لها امتداد سالب بمعنى أنها تُشير إلى غياب شيء واضح ومحدد. بعبارة أخرى، مثل الفراغ داخل حاوية، تلك الغيابات تكون مفيدة نتيجة للطريقة التي يمكن لما هو موجود تمثيلها بها.
النزعة شبه السائدة لإرجاع الظواهر القصدية إلى العالم غير المتجسِّد هي انعكاس لتلك السمة السالبة الجوهرية، لكن المُعضلات الظاهرة الناتجة عن ذلك فيما يتعلَّق بالفاعلية المادية للمحتوى المعلوماتي هي نتيجة تفسير خاطئ لتلك السمة السالبة باعتبارها حقيقية لكن في عالم مُنفصِل غير متجسِّد. التحول الحديث إلى التخلي عن جميع اعتبارات القصدية في تعريفات المعلومات، كما صار المفهوم يستخدَم في العلوم، في مقابل التركيز المطلق على السمات المادية–المنطقية لتمايزات الإشارة، جرَّد التصور من قيمته المميزة وقاد إلى اختزال علاقات المعلومات إلى علاقات تمايز فيزيائي. نتيجة لذلك، غالبًا ما تُعامَل السمة الأساسية والتي لا يُمكن إنكارها لوجودنا باعتبارها ظاهرة ثانوية. حتى الجهود الأخيرة لإعادة صياغة القصدية من حيثية تجسُّدها، يخلق ثنائية غامضة على غرار نظرية الوجهين. لكن تجنُّب معالجة مشكلة «اللاوجود» على ذلك النحو يضمن أن تظلَّ مشكلة فاعلية المعلومات في العالم الواقعي بلا تفسير.
مثل العديد من «المشكلات الصعبة» في الفلسفة، أعتقد أن تلك المشكلة أيضًا تبدو نتيجة لطرح النوع الخاطئ من الأسئلة. الحديث عن الإدراك فيما يخصُّ العقل–الدماغ — بما يُشير إلى هوية ميتافيزيقية أولية — أو الحديث عن العقل باعتباره برنامج تشغيل الدماغ — بما يُشير إلى إمكانية اختزال المحتوى الذِّهني إلى علاقات تركيبية تتجسد في الآليات العصبية وتتعيَّن فيها — كلاهما يتجاهَلان النقطة المهمة. المحتوى الذي يشكل العقل ليس موجودًا «في» الدماغ، ولا هو «متجسد» في العمليات العصبية داخل الجسم والتي تتفاعل مع العالم الخارجي. بل هو، بمعنًى محدد ودقيق، ما يُحدد أي النسخ المختلفة من عمليات إرسال الإشارات العصبية لا «يقع»، وأيها سيُساعد بطريقة متوارية وغير مباشرة في تعزيز وترسيخ أنماط النشاط العصبي الحاصلة. يميز المحتوى المعلوماتي بين صيرورة العلامات ومجرد التمايز الفيزيائي. وهو له تأثير على الأحداث الواقعية نتيجة لكونه يفتقد إلى الحضور على نحو دقيق للغاية. ومن ثَم فإن محاولات نسب صفة شبه جوهرية للمعلومات أو اختزالها في خصائص فيزيائية محدَّدة محكومة بالفشل؛ إذ تتجاهَل في الأساس خاصيتها الجوهرية الأميز.
المراجع
-
Bateson, G. (1972), Steps to an Ecology of Mind: Collected Essays in Anthropology, Psychiatry, Evolution and Epistemology, Chicago, IL: University of Chicago Press.
-
Bickhard, M. H. (1998), Levels of representationality, Journal of Experimental and Theoretical Artificial Intelligence, 10(2): 179–215.
-
Bickhard, M. H. (2000), Autonomy, function and representation, Communication and Cognition: Artificial Intelligence, 17(3-4): 111–131.
-
Bickhard, M. H. (2003), The biological emergence of representation, In Emergence and Reduction: Proceedings of the 29th Annual Symposium of the Jean Piaget Society, eds T. Brown and L. Smith. Hillsdale, NJ: Erlbaum, 105–131.
-
Boltzmann, L. (1866), The Second Law of Thermodynamics, Reprinted in Ludwig Boltzmann: Theoretical Physics and Philosophical Problems, Selected Writings, ed. B. McGuinness, trans. P. Foulkes (1974), Dordrecht: Reidel Publishing Co., 13–32.
-
Brentano, F. (1874), Psychology From an Empirical Standpoint, London: Routledge & Kegan Paul, 88-89.
-
Deacon, T. (2007), Shannon-Boltzmann-Darwin: Redefining information, Part 1, Cognitive Semiotics, 1: 123–148.
-
Deacon, T. (2008), Shannon-Boltzmann-Darwin: Redefining information, Part 2, Cognitive Semiotics, 2: 167–194.
-
Shannon, C. (1948), A mathematical theory of communication, Bell System Technical Journal, 27: 279–423, 623–656.
-
Shannon, C., and Weaver, W. (1949), The Mathematical Theory of Communication, Urbana, IL: University of Illinois Press.