المعلومات والتواصل في المادة الحية
منذ توضيح الأساس الجزيئي للأنظمة الحية، عرفنا أن جميع العمليات الأولية للحياة محكومة بالمعلومات. إذن يتبيَّن أن مفهوم المعلومات هو مفهوم رئيسي لفهم المادة الحية (كوبرز، ١٩٩٠). الأهم من ذلك هو أنَّ تدفُّق المعلومات على جميع مُستويات النظام الحي يكشف خواصَّ التواصل. هذا يعني أن المعلومات المحفوظة في جينوم الكائن الحي تظهر في عدد لا حصر له من دورات التغذية الراجعة؛ وهي عملية يُعاد من خلالها تقييم المعلومات الجينية على نحو مُستمر بواسطة تفاعلات دائمة مع البيئة الفيزيائية التي تتعرَّض لها. هكذا، فإن الكائن الحي ينبني خطوة بخطوة ليُصبح شبكة مرتبة ترتيبًا هرميًّا ومعقَّدة إلى حدٍّ لا يُضاهى.
السمة الأساسية للمادة الحية هي أنَّ جميع ظواهر الحياة مبنية على المعلومات والتواصُل. بدون التبادُل الدائم للمعلومات على جميع المستويات التنظيمية، سيتعذَّر الإبقاء على أي ترتيب وظيفي في الكائن الحي. وستَتداعى العمليات المكوِّنة للحياة وتدخل إلى دائرة الفوضى إذا لم تَعمل المعلومات والتواصُل على استقرارها بصفة مُستمرة. في هذا الفصل، أود أن أتناول بعض آثار ذلك على فهمنا الفلسفي للواقع.
(١) عن «المعلومات» و«التواصل»
ومن ثَم، إذا أردنا تناول مفهوم التواصُل في المادة الحية بمعناه الأوسع، نحتاج إلى النظر إلى العلاقة بين المعلومات على جانب والفهم المشترك أو الواحد على الجانب الآخر. في الوقت نفسه، سنَحتاج إلى بيان أن مفاهيم مثل «المعلومات» و«التواصل» يمكن تطبيقها على العمليات الطبيعية على نحو ذي معنى. الصعوبات التي قد تُثيرها تلك المهمة الأخيرة بالنسبة لمفهوم المعلومات أقل من التي تثيرها بالنسبة إلى مفهوم التواصل.
المعلومات، كما أشرنا آنفًا، تعني في الأساس «توجيهًا» بمعنى أمر أو خطوة في برنامج حاسوب. هذا بدوره وظيفته فرض شرط انتقائي على العمليات الممكنة التي يمكن أن تحدث في نظام ما. بهذا المعنى بالتحديد، تتلقَّى العمليات الحية «توجيهات» من المعلومات الموجودة في صورة مُشفَّرة داخل الجينات. بمصطلحات الفيزياء، يمثل الجينوم شرطًا فيزيائيًّا مقيدًا محددًا، قيدًا يُقيد مجموعة العمليات الممكنة فيزيائيًّا بحيث لا تخرج عن تلك التي تحدث بالفعل داخل الكائن الحي وتَستهدِف حفظ النظام (كوبرز، ١٩٩٢). من ثَم، لفكرة «التوجيه بالمعلومات» معنى مادي محدَّد، وفي هذا السياق يمكن اعتبار المعلومات قطعًا خاصية موضوعية للمادة الحية.
أما مهمة بيان أن التواصل مفهوم عام فمهمة أصعب. فالمرء ينزع بديهيًّا إلى افتراض أن ذلك المفهوم لا يَنطبِق إلا على تبادل المعلومات بين البشر. ينبع ذلك الافتراض من حقيقة أن فكرة الفهم «المشترك» لا معنى لها خارج نطاق الوعي البشري. لكن يمكن أن يكون ذلك افتراضًا خاطئًا يستند إلى استخدام محدود لمفهوم الفهم. الوصول إلى فهم مُشترك عادة ما يعني الوصول إلى اتفاق. هذا بدوره يُشير ضمنًا إلى أن المرء لا بد أن يفهم الآخر بمعنى أن يستطيع كل من الطرفين إدراك ما يُريد الطرف الآخر أن يقوله له. لكن تحقيق الفهم المشترك لا يفترض بالضرورة أي انعكاسات على طبيعة موضوع عملية التواصل، كما لا يطرح ضمنًا سؤال ما إذا كان محتوى التواصُل صحيحًا أم خاطئًا. بل كل ما يتطلبه هو مجرد تبادل المعلومات؛ أي تبادُل عدد من الرسائل في الاتجاهين؛ لكن دون أن يشترط إدراك أي من الطرفين معنى ما يتلقاه.
يوجد اختلاف طفيف في النطاق بين «الفهم الناتج عن التأمل» و«الوصول إلى رد فعل منظم». إذا أردنا لوهلة أن نُنحِّي الأشكال البالغة التعقيد من الفهم البشري، وأن نستعمل مفهوم الفهم الذي لا يشمل إلا أهداف تحقيق رد فعل منسق، إذن يسهل علينا أن نرى أن ذلك المفهوم ينطبق على جميع مستويات المادة الحية. لذا علينا أن نُقر أن الجزيئات والخلايا والبكتيريا والنباتات والحيوانات لديها القدرة على التواصُل. في تلك الحالة، يقتصر معنى «التواصل» على التناغم والتنسيق التبادلي للعمليات بواسطة الإشارات الكيميائية والصوتية والبصرية.
(٢) عن «الفهم»
ساقَتْني النقاشات السابقة إلى نهجٍ أسماه بعض فلاسفة العلوم الطبيعانية «الساذجة». نقدهم موجَّه بصفة خاصة إلى فكرة أن المعلومات يمكن أن توجد بصفتها عنصرًا طبيعيًّا، بصفة مستقلَّة عن البشر؛ أي خارج الوسائل المتعدِّدة التي يتواصل بها البشر. يأتي ذلك الاتهام بالطبيعانية من مدارس فلسفية متنوِّعة. رغم ذلك يُجمع النقاد على أن اللغة البشرية يمكن أن تكون حاملةً للمعلومات، وأن استخدام التصنيفات اللغوية لوصف الظواهر الطبيعية ليست إلا مغالطة طبيعانية. بالنسبة لمن يُمثلون ذلك الموقف الفلسفي، فإن أي حديث عن المعلومات والتواصُل في العلوم الطبيعية — بخاصة كما يحدث في علم الأحياء الحديث — ليس إلا على سبيل المجاز، وهو يكشف في النهاية للأسف عن استخدام غير دقيق لمصطلحات مثل «اللغة» و«الفهم».
لنُلقِ نظرة أقرب على ذلك الجدل ونطرح مرة أخرى السؤال عما نفهمه فعلًا من كلمة «الفهم». تشير الطريقة الدائرية التي أطرح بها ذلك السؤال إلى أن المرء بإمكانه أن يدخل في دائرة لا طائل منها في محاولته للتعامل مع مفهوم الفهم. هذا يرجع إلى أنه بصفة عامة يبدو أن المرء لا يمكنه أن يفهم شيئًا معينًا إلا بعد أن يكون قد فهم أشياءً غيره. تعد تلك العبارة المنطقية محورية بالنسبة إلى الهرمنيوطيقا (التأويلية) الفلسفية، التي تُعدُّ مذهب الفهم الإنساني الأشهر والأقوى تأثيرًا (جادامر، ١٩٦٥).
من الواضح أن الفَرضية الهرمنيوطيقية، التي تفيد بأن أي فهم مرتبط بفهم آخر، تشير إلى «شبكة» الفهم الإنساني المتكاملة التي تتضمَّن أي نوع من الفهم. بعبارة أخرى، تفترض أي صورة من صور التواصُل وجود فهم مسبق، يوفر الأساس اللازم الذي ينبني عليه تبادل معلوماتي ذو معنًى. في الواقع، لا يبدو أن المعلومات لها وجود بالمعنى المُطلَق — ولا حتى باعتبارها بنية تركيبية مجرَّدة — إذ إن مجرَّد التعرف على سلسلة من العلامات باعتبارها «معلومات» يفترض معرفة مُسبَقة بالعلامات وتسلسلاتها. بعبارة مُختصَرة، لا وجود للمعلومات إلا بالمعنى النِّسبي؛ أي نسبة إلى معلومات أخرى.
من ثَم، حتى لو تبنَّينا المنظور النظري للمعلومات، لا يبدو أن فيه ما يكسر الدائرة التأويلية، التي تُفيد أنه لا يُمكن للمرء أن يفهم شيئًا إلا إذا كان بالفعل يفهم شيئًا آخر. لكن ذلك المنظور يتعارَض مع مقاصد الهرمنيوطيقا الفلسفية، التي تضع تصورًا يختلف تمامًا عن الدائرة التأويلية. داخل إطار تلك الفلسفة، يُعتَقَد أن الفهم المسبق لأي نوع من الفهم الإنساني يكون متأصِّلًا في مجمل العناصر التي تشكِّل الوجود البشري. الهدف من ذلك التفسير الوجودي هو أن يقود إلى فهم مطلق وحقيقي، لا نسبي، للعالم.
إضافة إلى ذلك؛ لأنَّنا نستخدم اللغة لفَهم العالم، تنظر المدرسة الهرمنيوطيقية إلى اللغة باعتبارها بوابة لدخولنا على وجودنا. عبَّر الفيلسوف هانس جيورج جادامير (١٩٦٥، صفحة ٤٥٠) عن ذلك بعبارته التي يُكثِر اقتباسها: «اللغة هي الوسيط الذي يُمكن به فهم الوجود». بعض فلاسفة المدرسة الهرمنيوطيقية البارزين يُنزلون الحوار منزلةً خاصة، إلا أن مفهومهم عن الفهم يظلُّ مُفتقدًا للموضوعية والنسبية اللذَين يُميزان التصور الناقد للفهم البشَري. على النقيض، صارت الرؤية الكونية التي تَستند في ادِّعائها بأنها صحيحة وحقيقية فقط على رسوخ الفهم في الوجود البشَري هي السائدة وأصبحت هي المعيار المطلق للفهم بجميع أنواعه.
إذن على عكس الرؤية الكونية النِّسبية التي يقدمها لنا العلم الحديث، يسعى التأويل الفلسفي إلى الترويج لأصولية الفهم التي تركز بشدة على التراث الفلسفي للفهم المطلق. هذا ولو كانت اللغة البشرية تُعتبر مطلبًا لجميع أنواع الفهم، تصير اللغة البشرية هي المرجع الأساسي لعلاقتنا بالعالم.
تبدو فرضية ذلك الفصل، الذي يَهدف إلى تفسير اللغة تفسيرًا طبيعانيًّا يَسمح لنا بالحديث عن «لغة الجينات»، مُتعارضة كليًّا مع ذلك الموقف. وفقًا للتفسير الطبيعاني، الذي يتبناه علماء أحياء آخرون، اللغة هي مبدأ طبيعي لتنظيم الأنظمة المعقَّدة — بعبارة مانفريد آيجن (١٩٧٩، صفحة ١٨١) — «يُمكن تحليله بالمعنى المجرَّد، أي دون الرجوع إلى الوجود البشري.» من وجهة نظر الهرمنيوطيقا الفلسفية، ذلك الاستخدام لكلمة «اللغة» غير مقبول البتَّة. من ذلك المنظور، يُشبِه علماء الأحياء الذين يُفكرون ويتحدثون بتلك الطريقة عن وجود «لغة جزيئية» سائقين يَنطلقون بسرعة جنونية في الاتجاه العكسي من الطريق السريع، مُتجاهلين جميع اللافتات الإرشادية التي تقدمها اللغة البشرية بصفة طبيعية لفهم العالم.
(٣) «لغة» الجينات
يبدو أنه توجد أدلة مدهشة تدعم الرؤية الطبيعانية للغة في ترتيب المعلومات الجينية الذي يشبه اللغة. وعليه كما هو معروف جيدًا، الأبجدية الجينية مرتبة في وحدات معلوماتية من رتب أعلى، تؤدي في عملية الكتابة الجينية وظائف الكلمات والجُمل وغيرها. ومثل اللغة البشَرية، للمعلومات الجينية بِنية هرَمية، تتكشَّف في آلية تغذية راجعة معقَّدة؛ وهي عملية تُوضِّح جميع خواص عمَلية التواصُل بين الجينوم وسياقه الفيزيائي.
بالطبع يسقط التشابه إذا ما حاولنا أن نستخدم اللغة بكل ما فيها من ثراء مقياسًا لبنية الجينوم «الشبيهة باللغة». لكن من وجهة نظر تطوُّرية، يوجد أساس قوي للتأكيد على أن «اللغة» ظاهرة طبيعية قطعًا، نشأت في اللغة الجزيئية للجينوم، وخلال التطور، وجدت أقدر صورها على التعبير حتى يومِنا هذا في اللغة البشرية (كوبرز، ١٩٩٥). بالنسبة لعلماء علم الأحياء التطوري، فإن مسألة ما إذا كانت توجد لغات أدنى رتبة من اللغة البشرية محسومة؛ أما المشكلة فتَكمُن في تحديد الظروف العامة التي تنشأ فيها البنى اللغوية وتتطور.
في نهاية القرن التاسع عشر، أقر فريدريش ميسشر مكتشف الأحماض النووية أهمية ظاهرة «اللغة» الطبيعية بالنِّسبة إلى تفسير المادة الحية وكان أول من عبر عنها بوضوح بديع. بسؤاله كيف يُمكن لمادة مثل الحمض النووي أن تنتج ذلك التنوع الهائل من البنى الجينية، عقد مقارنة بينها وبين مبادئ الكيمياء الفراغية. دفع ميسشر بأنه مثلما تستطيع مجموعة متنوعة من الوحدات الجزيئية الصغيرة أن تُكوِّن جزيئات ضخمة لا متناهية التعقيد ومتشابهة كثيرًا كيميائيًّا، لكن لها بِنًى مختلفة تمامًا في الفراغ ثلاثي الأبعاد، تستطيع الأحماض النووية إنتاج ذلك التنوُّع الهائل من البِنى الجينية. قاد ذلك النهج الفكري ميسشر إلى استنتاج أن الأحماض النووية حتمًا قادرة على «التعبير عن ثراء الوراثة وتنوعها، كما يُمكن التعبير عن الكلمات والأفكار بجميع اللغات بعدد أحرف الأبجدية الذي يَتراوح بين ٢٤ و٣٠ حرفًا» (ميسشر، ١٨٩٧، صفحة ١١٦). من الواضح أن ميسشر كان يرى أن المادة الحية «حركة لغوية» لا «آلة محكمة». لكن «الحركة اللغوية» للمادة الحية ليست نظامًا ذا قواعد جامدة، بل نظام ديناميكي.
إذن هل ذلك مجرد حديث مجازي؟ قد يتساءل مُراقب يتابع أطراف الجدل من بعيد عن محل الجدل، بل قد يَعتقد أنه ليس إلا نزاعًا بين الفلاسفة على معاني الكلمات. مراقبنا ذلك سيُشير حتمًا إلى حقيقة أننا لا ننفك ننزع الكلمات من سياقها الأصلي ونضعها في سياق آخر، لذا فإنَّ أي نقاش حول عالم الطبيعة لا مفرَّ سيُوظف المجاز على الأقل بدرجة معينة.
لمَ لا نَنظر إذن إلى مصطلحات مثل «المعلومات» و«التواصُل» و«اللغة» في علم الأحياء على حقيقتها؛ أي باعتبارها وسيلة ملائمة ومَرِنة للغاية لوصف ظواهر الحياة؟ ألا تبرر النجاحات الحديثة المُذهلة التي تحقَّقت من التقاء مجالَي التكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المعلومات استخدام تلك المفاهيم في علم الأحياء؟ بناء الحواسيب الحيوية، وتطوير الخوارزميات الجينية، ومحاكاة العمَليات الإدراكية في الشبكات العصبية، وربط الخلايا العصبية بالرقاقات الحاسوبية، وتوليد المعلومات الجينية في آلات التطور، لم يكن كل ذلك ليُتصَّور لولا الأساسيات المستمدة من نظرية المعلومات للمادة الحية التي يوفرها علم الأحياء.
لكن الأسئلة السابقة لا يُمكن حلها بالحُجج البسيطة. يرجع ذلك في المقام الأول إلى أن «المعلومات» و«التواصُل» و«اللغة» هي مُصطلحات محمَّلة بمفاهيم أخرى مثل «المعنى» و«القيمة» و«الحقيقة» وغيرها. وهنا نأتي إلى لبِّ النقاش الفعلي. يبدو أن الظواهر المرتبطة بالمعنى، كما هو معبر عنه في البُعد الدلالي للمعلومات، تتفلَّت من جميع محاولات تفسيرها على أساس طبيعاني؛ ومن ثَم تستعصي على الوصف العلمي.
قديمًا كانت العلوم الإنسانية تَحتكر الحق في تفسير الظواهر المتعلِّقة بالمعنى؛ وبخاصة تخصصاتها الهرمنيوطيقية. فوضعت المعنى، وكذلك فهم المعنى، أساسًا لمنهجيتها؛ قد يكون أحد دوافع ذلك هو وضع خطٍّ فاصل بينها وبين العلوم الطبيعية. أيًّا كانت الأسباب، سلكت العلوم الإنسانية طريقها الخاص منذ وقت طويل، ولم ترَ ضرورة في الخضوع لمنهج التحليل السببي العِلمي؛ ومن ثَم ظلَّت محافظة على استقلالها لوقت طويل.
ومن ثَم فإن مسألة إلى أي مدى يُمكن توظيف مفهوم المعلومات ليست على الإطلاق خلافًا حول محتوى كلمة أو إلى أيِّ مدى يُمكن توظيفها. سيكون من الأصدق النظر إلى هذا السؤال باعتباره النقطة المحورية التي تلتقي عندها الجدالات الفلسفية حول وحدة المعرفة؛ وهي جدالات رسَمت العلاقة بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية لما يزيد عن مائة عام. دائمًا ما كانت العلوم الحيوية، التي تقف عند مُفترق الطرق بين هذين التيارين الفكريَّين، أولَ العالقين في مُنتصَف المعركة الدائرة بينهما. ذلك أن التفسير المبني على نظرية المعلومات للمادة الحية الذي يتضمَّن توضيحًا يشبه القوانين يُثير بالضرورة أسئلة عن المعنى؛ ومن ثَم عن الجانب الدلالي للمعلومات (كوبرز، ١٩٩٦). بالإضافة إلى ذلك، يقود إدخال الجانب الدلالي للمعلومات بدوره إلى جوانب مدهشة للمادة الحية تبدو مستندة إلى التصميم وإلى الغاية، والتي تبدو أنها تُوسِّع نطاق التفسير العلمي التقليدي. إذن هل التفسيرات الفيزيائية — ومعها المنهج البحثي الاختزالي لعلم الأحياء بالكامل — محكومة بالانهيار عند الجانب الدلالي للمعلومات؟
(٤) البُعد الدلالي للمعلومات
يُوحي نقاشُنا حتى تلك النقطة بأنَّ المعلومات الدلالية هي معلومات «ذات قيمة». لكن قيمة المعلومات ليست مقدارًا مطلقًا؛ بل لا يُمكن لأحد أن يحكم عليها سوى مُستقبِلها. ومن ثَم تَعتمِد المعلومات الدلالية بصفة أساسية على حالة المُستقبِل. وتلك الحالة تحددها معرفته السابقة وتحيزاته وتوقُّعاته ونحو ذلك. باختصار، مقياس تقييم المُستقبِل هو نتيجة مسار محدد وفريد تاريخيًّا من الخبرات. لعلنا نُصرُّ على طرح السؤال: هل تصير الجوانب الخاصة والفردية للواقع موضوعًا يبحث فيه علمٌ قائم على القوانين العامة والمفاهيم العالمية؟ حتى أرسطو تطرق إلى ذلك السؤال المُهم. وكانت إجابته بالنَّفي القاطع. فبالنسبة إليه — باعتباره عالمَ منطق — لا يُمكن استخلاص اكتشافات عامة من أمور ذات طبيعة فردية بالضرورة؛ لأنَّ منطق هاتين السِّمَتين — العام والخاص — يجعلهما مُتنافيَين. ظل هذا الرأي سائدًا حتى عصرنا هذا، وترك بصمة عميقة على فَهمِنا المُعاصر لماهية العلم ووظيفته.
تلك الظروف تجعلنا ننظر إلى إنجاز الفيلسوف إرنست كاسيرير بنظرة أكثر إعجابًا. خالف كاسيرير التراث الأرسطي؛ إذ حاوَل سد الفجوة المزعومة بين العام والخاص (كاسيرير، ١٩١٠). فذهب إلى أن الظواهر الخاصَّة، لا تصير خاصة لأنها لا تخضع للقواعد العامة، بل لأنها تُكوِّن علاقة خاصة — أي فريدة — معها. قد تبدو تأمُّلات كاسيرير مدفوعة برؤية كاشفة لفون جوته (١٩٨١، صفحة ٤٣٣): «العام والخاص يجتمعان؛ فالخاص هو العام كما يبدو في ظروف مختلفة».
وفقًا لكاسيرير، ما يُكسب ظاهرة ما تفرُّدها هو التركيبة الفريدة من الجوانب العامة الموجودة فيها. وتلك فكرة مُثيرة للاهتمام. إذ تُوضِّح استحالة وضع نظرية شاملة للمعلومات الدلالية، مع أن الجوانب العامة لعلم الدلالة يُمكن وصفها بوضوح. هذه الجوانب في حد ذاتها قد لا تَسع الظاهرة محل البحث بصفة كلية. لكن تداخلها على نحو فريد يسمح للسمات الخاصة للظاهرة بأن تتجلَّى. بعبارة أخرى، الخواص الفريدة للمعلومات الدلالية تنشأ من تراكبات جوانبها العامة. من هذا المنطلق، تتضمَّن الجوانب المكونة للمعلومات الدلالية، على سبيل المثال لا الحصر، حداثتها وأهميتها التداولية وتعقيدها (كوبرز، ١٩٩٦).
في مطلع خمسينيات القرن العشرين، حاول الفيلسوفان وعالِما المنطق يهوشوا بار-هيلل وردولف كارناب (١٩٥٣) تحديد كَم أو مقدار المعنى الموجود في تعبير لُغوي من حيث قيمة ما يحمله من معلومات جديدة. كانت تلك الفِكرة امتدادًا مباشرًا لمفهومٍ تطوَّر في إطار نظرية المعلومات التي وضَعها شانون؛ حيث يكون المحتوى المعلوماتي لرسالةٍ ما مقترنًا بمقدار التنبُّؤ بها؛ كلَّما قلَّ مقدار التنبؤ برسالةٍ ما، زادَ الجديد الذي تأتي به؛ ومن ثَم ازداد مُحتواها المعلوماتي. يُعالج ذلك النهج حقيقة أن إحدى مَهامِّ اللغة المُهمة هي إزالة عدم اليقين أو نفيه. لكن الأمثلة التي طرحها بار-هيلل وكارناب لم تخرج عن نطاق لغة اصطناعية.
ثمَّة نهج أكثر فعالية لقياس الجوانب الدلالية للمعلومات وهو النهج الذي يستند إلى أهميتها التداولية. وصف دونالد ماكاي (١٩٦٩) ذلك النهج وصفًا مثاليًّا في كتابه «المعلومات والآلية والدلالة». يُشير الجانب التداولي للمعلومات إلى فعل أو أفعال المُتلقِّي التي تقودُه إليها المعلومات، أو التي تنتج عنها.
لقد أمضيتُ وقتًا طويلًا أُركِّز جهودي على منهج جديد، يهدف إلى بحث تعقيد المعلومات الدلالية (كوبرز، ١٩٩٦). على عكس المناهج الموصوفة سابقًا، لا يَسعى ذلك النهج إلى جعل معنى المعلومات قابلًا للقياس المباشر. بل يَهدف إلى وصف الظروف الأعم التي تعد جوهر المعلومات الدلالية. ما يجعل الأبحاث من ذلك النوع مُهمَّة هو أنها تمنح نظرة أعم على مسألة منشأ المعلومات؛ ومن ثَم على تبعات المشكلات الأساسية الكبيرة في علم الأحياء، مثل منشأ الحياة وتطوُّرها (كوبرز، ٢٠٠٠أ).
(٥) كيف تنشأ المعلومات؟
لنتأمَّل العلاقة بين المعلومات الدلالية والتعقيد بمزيد من التفصيل. كما سبَق أن ذكرنا، المعلومات دائمًا ما تكون مُرتبطة بكيان يتلقَّاها ويُقيِّمها. ذلك يعني بدوره أن التقييم يفترض وجود معلومات أخرى تستند إليها عملية تلقِّي المعلومات الداخلة ومعالجتها. لكن ما مقدار المعلومات اللازم لفَهم عنصرٍ معلوماتي وارد، بالمعنى السابق ذكره؟ يُعبر ذلك السؤال عن النسخة الكمية من الافتراضية الهرمنيوطيقية، التي تُفيد بأن الشخص لا يمكن أن يفهم معلومة إلا بعد أن يكون قد فهم معلومة أخرى.
للوهلة الأولى، قد يبدو ذلك سؤالًا يستحيل إيجاد إجابة له؛ إذ يشمل مفهوم الفهم، الذي كما رأينا يصعب فهمُه هو نفسه، فما بالك بقياسه كمًّا. لكنه على غير المتوقَّع، سؤال يمكن إجابته، على الأقل إذا تقيَّدنا بالحد الأدنى من شروط الفهم. أهم تلك الشروط هو مجرد تسجيل المُستقبِل للمعلومات المطلوب فهمها. إذا كانت المعلومات المعنية تحمل معنًى — أي كانت معلومات على أعلى درجة من التعقيد — فلا بدَّ أن يُسجل مُستقبلها تسلسل علاماتها كاملًا قبل أن يتسنى له بدء عمليه الفهم. هكذا، حتى عملية التسجيل تنطوي على معلومات على مستوى من التعقيد (الخوارزمي) مساوٍ لتسلسل العلامات المطلوب فهمه.
ذلك الاستنتاج المدهش مرتبط بحقيقة أن المعلومات التي تحمل معنًى لا يُمكن أن تنضغط دون أن يحدث تغيُّر أو حتى انتقاص من معناها. صحيح أنه يُمكن اختزال محتوى رسالة على غرار البرقية أو عنوان خبر في صحيفة صغيرة؛ لكنَّ ذلك ينطوي دائمًا على فقد شيء من المعلومات. هذا يَنطبق على أيِّ معلومات ذات معنًى، سواء كانت قصيدةً ملحميةً عظيمةً أو مجرَّد تقرير الطقس لليوم. من الناحية التقنية، يعني ذلك أنه لا توجد خوارزميات — أي برامج حاسوب — يُمكنها أن تَستنبِط من أجزاء مختارة اعتباطيًّا من الرسالة باقي محتواها. لكن إذا كانت لا توجد خوارزميات قادرة على توليد المعنى، فسيَعني ذلك أنه لا يمكن أن تنشأ معلومات من العدم. من ثَم، كي نفهَم معلومة على درجة معينة من التعقيد، يلزم أن يكون لدينا خلفية معلوماتية على نفس الدرجة من التعقيد على الأقل. تلك هي الإجابة المرجوَّة للسؤال المتعلِّق بمقدار المعلومات اللازم لفَهم معلومة أخرى. في النهاية، هي تُشير ضمنًا إلى أنه لا يوجد «آلات معلوماتية أبدية الحركة» يُمكنها أن تُولد معلومات ذات معنًى من العدم (كوبرز، ١٩٩٦).
تلك الإجابة هي نتاج محاولات دءوبة لجعل مفهوم المعلومات نسبيًّا. وذلك استمرار لتطورٍ ميَّز تقدُّم الفيزياء في القرن الماضي؛ ألا وهو الانتقال من المُطلَق إلى النِّسبي. بدأ ذلك بالتخلي عن المفاهيم الأساسية التي كانت مفهومة بالمعنى المطلق — أفكار مثل «المكان» و«الزمان» و«العنصر» — وأدَّى منذ ذلك الحين إلى آثار معروفة جيدًا وواسعة التأثير على أساسيات الفيزياء. لا يُمكن الجزم في الوقت الراهن بما إذا كانت النسبنة المستمرة لمفهوم المعلومات ستُؤدِّي يومًا ما إلى ثورة مُماثلة في الفكر البيولوجي. يرجع هذا على الأغلب إلى حقيقة أن النتائج حتى الآن مُستمدة من البُعد الدلالي للغة البشرية، وليس من الواضح بعدُ إلى أيِّ مدًى يُمكن تطبيقها على «لغة الجينات». لهذا السبب، لا بد أن تظل تساؤلات مثل ما إذا كان التطور هو بمثابة آلة أبدية الحركة قائمة.
على الأقل من المُؤكَّد أننا لا بدَّ أن نتخلى عن فكرة أننا سنَقدِر يومًا ما على بناء آلات ذكية تُولد تلقائيًّا معلومات ذات معنًى من العدم وتزيدها تعقيدًا باستمرار. إذا كانت المعلومات تُشير دائمًا إلى معلومات أخرى، فهل توليد المعلومات بالمعنى الأصلي مُمكن أساسًا؟ أم هل العمليات التي تنشأ عنها في الطبيعة أو في المجتمع ليسَت إلا عمليات تحوُّل؛ أي ترجمة وإعادة تقييم للمعلومات، في مساحة معلوماتية ذات أبعاد هائلة؛ بحيث تبدو النتيجة دائمًا جديدة وفريدة؟ مثل تلك الأسئلة تأخُذنا إلى جبهة الأبحاث الأساسية، حيث تظلُّ الأسئلة تُثار واحدًا تلو الآخر، وحيث لدينا فرص عديدة للتكهُّنات لكن دون أي إجابات حقيقية.
(٦) عالم البِنى المجردة
أخيرًا، أودُّ أن أعود قليلًا إلى السؤال الذي بدأنا به: هل تنطبق فكرة «المعلومات» و«التواصل» و«اللغة» على عالم البِنى المادية؟ رأينا كيف تصعب إجابة ذلك على أساس فلسفي. لكن من المُحتمل أيضًا أن تكون صياغة السؤال خاطئة. إذ يبدو أن حلًّا مُدهشًا في طريقه إلينا؛ حلًّا مدفوعًا بالتطورات العِلمية الحالية. في العقود القليلة الأخيرة، عند ملتقى العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، ظهر تخصُّص عِلمي جديد أُطلق عليه اسم «العلوم البنيوية» (كوبرز، ٢٠٠٠ب). بالإضافة إلى نظرية المعلومات، شمل تخصُّصات مُهمَّة مثل السيبرنيطيقا (علم التحكُّم الآلي) ونظرية الألعاب ونظرية الأنظمة ونظرية التعقيد، ونظرية الشبكات، ومنهجية التآزُر والسيميائيات. موضوع العلوم البِنيوية هو بنية الواقع؛ فهي تعبر عن بنية الواقع وتبحثها وتصفها بطريقة مجرَّدة. وذلك سواء كانت تلك البِنى تنشأ في نظام طبيعي أو اصطناعي، حي أو غير حي. من بين تلك البِنى، يُمكن التعامل مع «المعلومات» و«التواصُل» و«اللغة» داخل العلوم البِنيوية باعتبارها بِنًى مجرَّدة، دون التطرق إلى مسألة طبيعتها الفِعلية. بالنظر إلى الواقع من ناحية بِناه المجرَّدة فحسب، دون التمييز بين عناصر «الطبيعة» و«الثقافة»، سنرى أنَّ تلك العلوم البِنيوية تَبني جسرًا بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية؛ ومن ثَم لها أهمية كبيرة في توحيد العلوم (كوبرز، ٢٠٠٠ب).
في الفلسفة، الرؤية الكونية البِنيوية ليسَت بالجديدة. ففي إطار الفلسفة البِنيوية الفرنسية، عبر جيل دلوز بالمَجاز اللُّغوي إلى أبعد نقطة حين قال إن «جميع البنى الموجودة هي بنى لغوية … والعناصر نفسها لها بِنًى فقط، بمعنى أنها تُجري حوارًا صامتًا، بلغة العلامات» (دلوز، ٢٠٠٢، صفحة ٢٣٩). إذا نظرنا له من ذلك المنظور، نجد أن القول المأثور عن جادامير «اللغة هي كائن يُمكن فهمه» (جادامير، ١٩٦٥، صفحة ٤٥٠) يتخذ معنًى جديدًا بالكلية؛ هي «كائن» لا يُمكن فهمه إلا حين تكون له بالفعل بنية لغوية. في بحثه لتلك النتيجة المباشرة، الفيلسوف هانس بلومنبرج (٢٠٠٠) أثناء مُراجعة واسعة للتاريخ الثقافي الحديث، بيَّن أن المجاز اللغوي جعل «قراءة» العالم (أي فهمه) مُمكنة، وقد بيَّن أيضًا كيفية ذلك. لكن نسبية الفهم بجميع أنواعه تعني بالضرورة أن المادة «المقروءة» يعاد تفسيرها مرارًا وتكرارًا، وأننا بمرور الزمن تَصير لدينا طرق أدق لتحديد أي «القراءات» خاطئة. بهذا نصل خطوة بخطوة إلى فهم أقل تحيزًا للواقع المحيط بنا.
المراجع
-
Bar-Hillel, Y., and Carnap, R. (1953), Semantic information, British Journal for the Philosophy of Science, 4: 147.
-
Blumenberg, H. (2000), Die Lesbarkeit der Welt, Frankfurt/Main: Suhrkamp.
-
Cassirer, E. (1910), Substanzbegriff und Funktionsbegriff, Berlin: Bruno Cassirer.
-
Deleuze, G. (2002), À quoi reconnaît-on le structuralisme? In L’Île Déserte et Autres Textes, ed. D. Lapoujade, Paris: Minuit, 238–269.
-
Eigen, M. (1979), Sprache und Lernen auf molekularer Ebene, In Der Mensch und seine Sprache, eds A. Peisl and A. Mohler, Frankfurt/Main: Propyläen Verlag, 181–218.
-
Gadamer, H.-G. (1965), Wahrheit und Methode, 2nd ed., Tubingen: J. B. C. Mohr.
-
Küppers, B.-O. (1990), Information and the Origin of Life, Cambridge, MA: The MIT Press.
-
Küppers, B.-O. (1992), Understanding complexity, In Emergence or Reduction? eds A. Beckermann, H. Flohr and J. Kim, Berlin: de Gruyter, 241–256 [reprinted in Chaos and Complexity, eds R. J. Russell, N. Murphy and A. R. Peacocke (1995), Vatican City State: Vatican Observatory Publications, 93–105].
-
Küppers, B.-O. (1995), The context-dependence of biological information, In Information, New Questions to a Multidisciplinary Concept, eds K. Kornwachs and K. Jacoby. Berlin: Akademie Verlag, 135–145.
-
Küppers, B.-O. (1996), Der semantische Aspekt von Information und seine evolutionsbiologische Bedeutung, Nova Acta Leopoldina, 294: 195–219.
-
Küppers, B.-O. (2000a), The world of biological complexity: Origin and evolution of life, In Many Worlds, ed. S. J. Dick, Pennsylvania: Templeton Foundation Press, 31–43.
-
Küppers, B.-O. (2000b), Die Strukturwissenschaften als Bindeglied zwischen Natur- und Geisteswissenschaften, In Die Einheit der Wirklichkeit, ed. B.-O. Küppers. Munich: Fink Verlag, 89–105.
-
MacKay, D. M. (1969), Information, Mechanism and Meaning, Cambridge, MA: The MIT Press.
-
Miescher, F. (1897), Die histochemischen und physiologischen Arbeiten, Bd. I. Leipzig: F. C. W. Vogel.
-
von Goethe, J. W. (1981), Werke, Hamburger edition vol. 12, Munchen: C. H. Beck.