خاتمة

«فوست»، ذلك البطل الذي تمثله الشاعر «جوته»، نابغة نوابغ القرن التاسع عشر، رجل باع نفسه للشيطان. غير أنه لم يبع نفسه رخيصة ولم يبذلها للغواية بثمن بخس، بل بذلها من طريق العلم والدرس، والتغلغل في طيات الطبيعة باحثًا وراء أسرارها منقبًا في خفاياها. لذلك يقول جوته عن لسانه في أول كتابه الخالد: «وا أسفاه! لقد استعمقتُ في درس الفلسفة والشرائع والطب، وفي أعماق اللاهوت تردَّيتُ، وانثنيتُ أدرس بشهوة ذوي الشهوة، وأبحث بعناية ذوي العناية، وها أنا ذا في النهاية لم أفز من نتائج درسي وبحثي بطائل، اللهم إلا لعنة اليقين بأني لست بأعقل في يومي مما كنت في أمسي.»

ولست أدري أتنتظرني في المستقبل لعنة فوست، أم أن القدر قد هيأ لي أن أنعم يومًا بقبس من نور الحق يفيض على قلبي المضطرم ووجداني الثائر بما ينير ظلمتهما ويذهب ببعض ما تكاثر فيهما من هموم الزمان؟ والحق أن الإكباب على درس مذهب النشوء الحديث والاستعماق في لُجَّات الأفكار المتناوحة من حوله، لن يسلم بالباحث فيه إلا إلى أحد طريقين: فإما إلى لعنة تشابه لعنة فوست. وإما إلى يقين ثابت ترتاح له نفس جدت باحثة وراء الحقيقة. غير أني والحق يقال لم أفز من الحقيقة بطائل، وما أنا اليوم إلَّا قريب الاندفاع إلى الهوة التي ابتلعت من قبل فوست في مخيلة جوته العظيم.

أيغنيني عن البحث وراء الحقيقة أن أعلم كيف نشأت الأحجار والعناصر، وكيف تطورت النباتات منتهية في أعلى القمة بذوات الفلقتين، وكيف نسلت الحيوانات من جوف الطبيعة منتهية بذوات الفقار، أو كيف تأصلت الحياة فوق الأرض في صورة خلية حية انتهت سرى انقلاباتها بالحيوان الناطق، ما دمت أنا على جهل تام بالسبب الذي وجد من أجله الإنسان أصلًا في هذه الحياة الدنيا؟

أما وأن ليس لنا في هذه الحياة سوى طريقين: طريق الهوى، وطريق الرشاد، وكلاهما يُسلم إلى الفناء المحتوم الذي لا نعرف وراءه غاية، فالواجب أن لا نبذل أنفسنا في هذه الحياة رخيصة، فتذهب بددًا. لندرس ونستعمق في الدرس، ولنسائل الطبيعة الخالدة علها تفيض علينا بشيء من أسرارها الخفية العميقة، حتى نبذل النفس غالية، ولو كما بذلها من قبل فوست للشيطان.

برقين في ٢٤ يونيو سنة ١٩٢٦

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤