تمهيد ومقدمات في الفكرة العامة التي من أجلها وضع هذا الكتاب
أشد حالات اليأس، حالة يخلقها فكر غير مستقر، وحيرة في ظلام من الجهل والدعوى.
***
عصر النقد
لم يَحِدْ بي إلى النظر في فكرة دكتور «شميل» التي اتخذ مذهب التطور ذريعة لإثباتها، إلَّا نزعة في النفس إلى تقدير عمل رجالنا، رجال الشقيقتين، مصر وسورية، والتنويه بذكرهم، تخليدًا لمجهوداتهم وتقديرًا لأعمالهم، التي أفنوا فيها زهرة أيامهم، فسهروا ونام الناس، وشقوا بعلمهم في زمان سعد فيه العامة بجهلهم، زمان انطوى فيه كتاب مدنيتنا العربية، تلك المدنية الشرقية البحتة، التي ظلت منارة العالم المتمدين، وكعبة سياسة الشعوب، ومهبط وحي العلم والآداب، ونبع الفلسفة الفياض، طوال القرون الوسطى.
نقل دكتور «شميل» مذهب التطور عن العلَّامة «بخنر» الألماني، وهو فيلسوف مادي، عريق في المادية، أصيل في إنكار ما لا يؤيده الحس. نقله في زمان لم تستعد فيه العقول لاستيعاب تلك الفكرة المرتكزة على ما كشف حتى أواسط القرن الماضي من حقائق العلوم الطبيعية، التي ساق الناس إلى استظهار مكنوناتها نزعة قوية وعزيمة صادقة على اكتناه أسرار الحياة مقتطعة من مشاهدات قيمة واستنتاجات عقول فياضة، ظهرت خلال قرن كامل، بدأه «كاسبار فردريك وولف» العالم الجرماني سنة ١٧٥٩، وأكمل مدرسته الحديثة العلَّامة الفرد «شارلس روبرت داروين» الطبيعي الإنجليزي سنة ١٨٥٩ بنظريته في أصل الأنواع، وكان الفيلسوف الفرنسوي «لامارك» درة عصماء وصلت بين طرفي ذلك العقد؛ إذ فاض على العالم بآيات من كتاب الطبيعة ضمنها مصنفه «فلسفة الحيوان» الذي ظهر عام ١٨٠٩، ذلك إذا قصَّرنا النظر في تدرج العقول في مذهب النِّشُوء على القرن الماضي وأواسط القرن الثامن عشر.
قويت في الشرق نزعة غريبة ترمي دائمًا إلى استصغار عمل النابهين من أبناء الأمم الشرقية. وأنك تستجلي هذه الروح متمشية بين الأدباء والمتعلمين في مصر وسورية وما جاورهما من البلدان التي تلفظ فيها الضاد عامة. وراح الكثيرون يبحثون فيما يمكن أن يكون الباعث على تفشي تلك الروح الغريبة، وظل كثيرون من الكتاب يتابعون البحث وسيظلون كذلك، حتى تنكشف لهم الحقيقة جليةً واضحةً يوم يظهر لهم أن قتل روح التربية الحرة، التي طالما ظهرت آثارها السوأى في عصور الانتقال والنشوء الفكري، هي السبب الأول الباعث على تفشي تلك النزعة، والنزوح عن محجة النظر القويم، وموازنة الحقائق، والصبر على احترام رأي الغير، إلى التنابذ بالأعمال وإن صغرت، والتنازع في التافه الحقير من الأمر، دون التريث في النظر العلمي، أو التعمق في الفكرة الفلسفية.
وما مصيبة الشرق إلا فساد الأخلاق. فإنها المقياس الذي يمكن أن يقاس به مبلغ رقي الأمم من حيث الصفات المدنية، كما أن الشرعة الأدبية والوازع النفسي، والمعنى الذي تدركه كل جماعة من الجماعات الإنسانية من معنى الفضيلة، هو الميزان الذي نستطيع به معرفة مقدار ما في طبيعتها من استعداد لقبول الارتقاء، وما انطوت عليه صفاتها الكامنة التي تظهرها الحوادث الكبيرة التي تحوطها في عالم الأعمال الإنسانية. وما كان لنا أن نسوق القول هنا في مثل هذه الحالات، مكتفين من الكلام فيها بالتلميح دون التوضيح، قانعين بأن يستوضح ذو اللب من هذه الإشارات ما لم نجد إلى التعبير عنه سبيلًا، لولا حاجة إلى الإسهاب لم نر بدًّا منها.
•••
إن الطابع الذي وسم به جبين العصر الذي أذاع فيه دكتور «شميل» شرح «بخنر» على المذهب الدارويني في مصر كان شبيهًا كل الشبه بالطابع الذي نراه بارزًا بين صفحات التاريخ في القرون الوسطى. ولولا حماية من القانون وقسط من الحرية الفكرية كسبته مصر الحديثة منذ غزو نابليون وما بعده، لما كان بعدُ «شميل» عن السجون والتعذيب بأكثر من بعد «غليليو» عن محرقة محكمة التفتيش.
كان هذا الطابع المبغوض وأمثاله أكبر برهان يقيمه الذين ينحون على الشرق بقولهم: «إن الشرق شرق، والغرب غرب» غير ناظرين في حقائق التاريخ ونزعات التطور الاجتماعي.
ذاعت للنقد مذاهب وتقلبت الأفكار الإنسانية في حجر الأوهام عصورًا متتابعة، وأحقابًا متتالية، وتشكلت دواليك في صور، هي في الواقع نتاج لفكرة الخضوع لحكم الإجماع الذي ظل شديد الأثر في عقول الجماعات والأفراد طوال الأزمان الأولى. وعزز ذلك الإجماع رأي تقبله الناس، فساقهم إلى الإيمان بأن كل إجماع لا بُدَّ من أن يكون على حق، في حين أن تاريخ العلم والفلسفة، لم يؤيد إلَّا أن كل إجماع لم يكن إلَّا على باطل، قضاء لحكم العقل والضرورة.
ولقد كان لذلك الرأي من الأثر في صد تيار الأفكار الحرة في العالم بقدر ما كانت تتخذ منه معاهد الدين في القرون الوسطى برهانًا تقيمه على أن ما تقوله الحق، ودليلًا على بطلان كل ما انتجت العقول الحرة التي توثبت إلى الحقيقة خلال تلك العصور. ولو صح هذا الرأي لظللنا إلى اليوم نعتقد أن الأرض مركز النظام الكوني على الضد مما قال به غليليو، ولما عرفنا أن السيارات تدور في أفلاك أهليلجية الشمس ثابتة في إحدى محترقيها، كما أدت إلى ذلك مباحث كوبرنيكوس، ولطفقنا نعتقد كما اعتقد أفلاطون ومشايعوه من قبل بأن الهندسة والفلك ليس لهما من أثر في الإنتاج المادي، وأن فائدتهما مقصورة على رياضة النفس والعقل على النظر في المعقولات الغيبية والتغلغل في صميم ما بعد الطبيعة، على النقيض مما قضى به فرنسيس باكون. ولو كان كل إجماع صحيحًا كما يقول أصحاب الثبات على القديم، لتهدم بناء الرقي المدني والعلمي، ولعدمت العقول نعمة التفكير والبحث فيما يقع حفافيها من مظاهر الحركة الاجتماعية والاقتصادية، ولبقي الاجتماع الإنساني ثابتًا لا تغير يعتريه ولا تطور ينتابه، ولخرج الإنسان بثباته على حالة واحدة عند سنة الكون العامة، تلك السنة التي تسوق الكائنات إلى غايات من التغاير ونهايات من النشوء والارتقاء لا حد لها ولا ثبات، إلَّا بمقدار ما يكون فيها من الفائدة مصروفة إلى ناحية خاصة وقصد خاص.
وليس في مستطاعنا أن نماشي روح العصر الذي نعيش فيه، ونروض أنفسنا وعقولنا على الحرية في إبداء الرأي والتفكير، إلَّا بأن ننسل عن طريقة التقليد التي ما فتئنا عليها عاكفين حتى اليوم، مجاراة للروح السائدة أو الإجماع كما يقولون.
إن الفترة التي يجتازها العالم الآن فترة نشوء وانتقال. والعصر الذي نعيش فيه عصر تطور عام تناولت آثاره كل شيء، حتى الثابت من علوم الفلك والهندسة، بل المعتقدات السائدة في الجاذبية التي كشف عنها «نيوتن»؛ إذ ظفرت نظرية النسبية التي وضعها العلَّامة المفرد «إنشتين» بأكثر ما أجمع الناس على أنه ثابت ثبوت الأوليات الرياضية، فقوضت من أركان معتقداتهم حتى حدى بهم ذلك إلى الإكباب على العلوم والمعارف الإنسانية يكتبونها بما يملي عليهم وحي النسبية في هذا الزمان. كذلك الحال في العلم الاجتماعي والاقتصاد. فإن الحركات التي نحس بها بارزة في حياة الجماعات في أوروبا، مهد المدنية الحاضرة، ومهبط وحي الأفكار والآراء الحديثة، ليست إلَّا نتاجًا لتطور أفكار اختمرت في رءوس الجماعات، وشعر بالحاجة إلى وضعها موضع التنفيذ أكبر مجموع من الطبقات المنتقاة التي تمثل مدنية القرن العشرين.
كان ذلك في أوروبا نتاج لضرب من النشوء بطيء الأثر في عقول الناس، تابعت الأفكار خطاه البطيئة المتوازنة خلال عصور طويلة حتى كان الناتج في هذا العصر موازيًّا لمقدار الجهود التي صرفتها العقول الفردة والجماعات في سبيل غاية مثالية تجلت للشعوب في صور عديدة. فإنك إن تأملت من تاريخ الفكر الأوروبي منذ عصر النهضة العلمية في القرن الخامس عشر لوقعت في كل عصر من العصور التي تمر بها على مثال تملك من تلك الشعوب قيادها وتسلم زمامها. مثال، كان يعتقد كل شعب وكل جماعة بأنه الغاية التي من أجلها يعمل ويعيش. فمن مثال في الفن إلى آخر في العلم إلى ثالث في السياسة أو رابع في القومية أو الوطنية. وتلك أمثال كان فيها من قوة الأثر النافع في الشعوب بقدر ما كانت تتحرر من الأغراض المادية وتبعد عن الجدل السفسطي والكلام.
أما إذا نظرت في حالنا في مصر، وكثير من أمم الشرق، فإنك تجد الأمر على نقيض ذلك. نبذنا القديم الذي كان من الواجب إذا ما أزمعنا القيام بنهضة علمية أو أدبية أن نبني عليه، شأن كل الشعوب التي بنت على أولياتها أساس نهضاتها الاجتماعية، وتركنا أخلاقنا القومية، وطرحنا كل طريقة نظامية للتفكير، وأخذنا في التقليد، ومضينا ننقل آداب المدنية الحديثة وأفكارها وآثارها، فلم نتخذ من ضوابط الرقي والنشوء سبيلًا نكوِّن به طابعًا خاصًّا لطريقة من التفكير تلائم العقل الشرقي في تقبله لآثار الغرب، فلا نحن احتفظنا بطابعنا الأصلي، ولا نحن حاولنا وضع مقياس جديد نتخذه هاديًا في حركة الانقلاب التي يتطاير غبارها في نواحي العالم ويكاد يخنقنا دخانها، ولم نتلمس طريقًا نخرج به من ثائرة الأفكار الحديثة بنسق يلائم طبائعنا، أو يتفق على الأقل وآثار الوراثة التي خرج منها الشعب المصري بمزيج من مختلف صفات الشعوب التي توالي على مصر حكمها منذ قرون طويلة. بل إننا لم نتمثل في حركة من حركاتنا التي سقنا بأنفسنا فيها مثالًا نضرب في مجالي الرقي نحو البلوغ إليه، فلم نتقيد بشيء يحد من شهواتنا أو يضبط نزعاتنا الهوجاء، فتخالطت المقاصد وتشابكت حلقات الفوضى، وقامت في مصر قيامة الجدل الكلامي مقرونة بكل ما يبعث عليها من تفريط في تحدي الأمثال العليا من الفضائل المدنية، وإفراط في النزوح عن اتباع ما تقضي به شريعة الآداب.
ولكل أمة من الأمم طريقة للتفكير وسنن خاص بها في الاجتماع، هو في الواقع نتيجة لسلسلة من تغاير الأفكار وتلقيح الأجيال بعضها بعضًا بأمثال عليا، ونشوء النظامات بحسب الحاجة إليها، وشعور الجماعات بذاتيتها كلما ضربت في أصول الرقي وتمشت في سبيل النشوء. ولقد مضينا ننقل عن تلك الأمم آثارها الأدبية ومنتجاتها الفلسفية التي أخرجتها العقول هنالك خلال خطى النشوء المنظوم الذي سيقت فيه هذه الشعوب سوقًا لا طفرة فيه، وأمعنا في النقل غير ناظرين لغاية ولا متوخين قصدًا معينًا، حتى أحدثت الفوضى في النقل جوًّا غريبًا من التناقض والقلق، وصورًا من الفكر مهوشة غير متماسكة ولا متواصلة. وما سبب ذلك في الحقيقة إلَّا أننا عدمنا ضوابط خاصة للتفكير، وفقدنا كل أثر لذوق علمي عام، أو كما يقولون، لجو علمي أدبي يتذوق المؤلفات والمترجمات التي تنقل إليه، ويحكم عليها بنسبة حالة خاصة تتشكل فيها عقلية الأمة، بحيث تكوِّن طابعًا لعصر معين تبرز فيه جماعات مستقلة في أفكارها، وتجمع بينها فكرات خاصة ومشاعر خاصة، وميول تصرفها إلى ناحية من النظر الأدبي أو التفكير الفلسفي، فتتكون لنا مدارس في الأدب وأخرى في العلم، وغيرها في الفلسفة. أما إذا بلغنا ذلك الحد القصي من الرقي، فعند ذلك يحق لنا أن نقول: إننا نماشي روح العصر، وإننا بدأنا نهضتنا العلمية الحديثة.
ترجع هذه الفوضى التي نراها ذائعة في كل طرف من أطراف المجتمع المصري إلى أسباب أخصها أننا حاولنا التخلص من القديم تخلصًا تامًّا بدل أن نتخذه أساسًا لبناء الحديث، ولم نستخلص من مجموعة الأفكار التي نقلناها حتى اليوم عن أوروبا الحديثة مبدأ أو مبادئ نتخذها قاعدة لطريقة تفكير خاصة بنا تلائم حالتنا الاجتماعية وميولنا ومشاربنا. كذلك لا نستطيع أن نطرح القديم آمنين شر الفوضى العلمية والأدبية، إلَّا بأن تجعل تقويض الآثار الأولى التي ورثناها عن آبائنا نتيجة لذيوع آراء ومذاهب حديثة وفكرات جديدة ننتحي بها منحى خاصًّا، ونتبع بها طريقًا مرسومًا، بحيث تملأ من رءوسنا الفراغ الذي يتركه تهدم القديم بما فيه من أفكار ومذاهب ومعتقدات.
كذلك لم نعن بنقل المذاهب. وأقل ما في ذلك من الدلالة، أننا لم ننتج بعد من الباحثين مَنْ يصرفون كل همهم ويوجهون جهودهم، نحو دراسة مذهب خاص في العلم أو الفلسفة أو التاريخ، أو غير ذلك، فيخرجون فيه فكرة ناضجة، يصح أن تكون حجرًا جديدًا، نشيده فوق ماضينا، ونكوِّن به لمستقبلنا.
انظر في كل ما نقل من المؤلفات الأوروبية إلى اللغة العربية خلال العشرين عامًّا الفارطة، فلا تخرج عن أمرين: إما مؤلفات أولية ينتفع بها المبتدئون في العلوم الأدبية أو الاقتصادية، وإما نتف مترجمة عن مذاهب بعض المشهورين من كُتَّابِ القرن الماضي.
أدت بنا هذه الحال إلى أسوأ ما تكون عليه حال أمة تطمع أن تتوازن خطواتها في شوطها الذي تريد أن تقطعه نحو الارتقاء في أخص معانيه. عرفنا أسماء ولم نعرف مذاهب، وأكببنا كل الإكباب على تعرف بعض الأفكار التي ذاعت في بعض العصور، ولكننا لم ندرس علاقة هذه الأفكار بغيرها ولم نتعرف أثرها في تاريخ التطور الفكري في آخر القرن التاسع عشر، الذي أسلم إلى القرن العشرين نتاج العقول التي توثبت إلى العلم والحقيقة خلال خمسة وعشرين قرنًا من الزمان.
ولا مشاحة في أن هذه الحال تنهي بأية جماعة، مهما كان فيها من قوة الذكاء والفهم، إلى الفوضى التي لا تقع إلَّا على مثال منها، كلما قلبنا وجوه الرأي في منزلة مجموعنا من حيث القدرة على التفكير والإنتاج العقلي مقيسًا بأي مجموع في أية أمة من الأمم المتحضرة.
يرجع ذلك إلى ضياع الشخصيات أكثر منه إلى أي شيء آخر. فالشخصيات المعنوية مفقودة بتمامها في مصر. فلا مدارس من المؤلفين وَالْكُتَّابِ يقومون ببث الأفكار والمذاهب ويدافعون عنها، ولا جماعات تمثل الرأي السائد في فروع العلم والآداب والفنون، ولا تشجيع من طبقات خاصة متميزة ذات طابع موسوم، يظهر بارزًا في طبقات المجتمع، بل ولا دليل على أننا سائرون نحو الأغراض الأولية التي تسوق إلى تكوين الشخصيات المعنوية.
يقول بعض الذين يتجشمون مئونة التفكير في حالنا الحاضرة أن ذلك راجع إلى قلة المتعلمين وإلى حالة التعليم ذاته. ومما لا ريبة فيه أن ذلك خطأ محض. ذلك لأن هؤلاء لا يفرقون بين التعليم أو عدد المتعلمين، وبين الجهة التي يجب أن ينصرف فيها المتعلمون. كذلك لا يفصلون بين التعليم وبين الاشتغال بالعلم. وأنا لعلى يقين بأن في مصر اليوم من المتعلمين بعض فئات في مستطاعها أن تكوِّن جوًّا علميًّا خاصًّا بها، وتخلق نزعة صحيحة إلى البحث والاستكشاف. خذ لذلك مثلًا فئة الأطباء. فإن مصر على كثرة ما فيها من نوابغ الأطباء في هذا العصر لم ينشأ فيها بعد معهدًا للبحث الطبي، ولم ينقطع واحد منهم لخدمة العلم نفسه. وعلى كثرة ما أنفق وما سينفق على تافه مظاهر الحياة، لم يفكر مصري في تكوين معهد للبحث العلمي. وإنك إن وجدت النافقين من مالهم لأعوزك أن تجد الرجال الذين ينقطعون لخدمة العلم حبًّا في العلم، لا لشيء غيره. وفضلًا عن ذلك فإن في مصر من فئات المتعلمين مَنْ في مستطاعهم أن يكونوا جماعة علمية عامة، شبيهة بما نراه في البلدان الأخر. ولكنهم لا يفعلون. والسبب في ذلك أن المتعلمين في مصر، لا يزالون يعتقدون أن العلم من الكماليات لا من الضروريات. لذلك تجد أن توجيههم قد سيق إلى ناحية أعطت العلم لونًا حائلًا. إذن فالمسألة ليست مسألة تعليم ومتعلمين، بل مسألة توجيه واعتقاد بضرورة العلم لذاته. أما إذا بلغنا ذلك المبلغ فلا جدال في أننا إذ ذاك تبرز شخصياتنا المعنوية، ويخرج منا المؤلفون، وتتكون الأجواء العلمية والفنية التي تكوِّن نتاجًا لتوجيه الأمة توجيهًا خاصًّا نحو غاية مثالية تنصرف إلى العلم متحدية كل سبيل قيم يسلم بها إلى تلك الغاية.
كذلك يخطئ الذين يقولون بأن لثراء الأمم أثرًا في نشر العلم، وتوجيه الجماعات التي نزلت من حب العلم منزلة مصر، إلى المثاليات العليا. ولو كان للثراء أثر في ذلك، فإنه لا يحدث في الجماعات من حدث إلَّا بعد أن تولي الجماعات وجهها شطر غاية من العلم، أو قصد من الفلسفة أو الأدب أو الفن، لا يصدها عن ذلك صاد، ولا يحولها عن غايتها مانع، مهما كان أثره في حالة الأمم اجتماعيًّا وسياسيًّا.
انظر في عصر النهضة العلمية في إيطاليا، ووجه النظر إلى الحالة التي كانت عليها تلك البلاد قبل سقوط القسطنطينية بقليل في يد محمد الفاتح. فإن الحروب الداخلية والخلافات التي مزقت وحدة إيطاليا شر ممزق، وأفسحت المجال لأخبث ضروب الانقسامات القومية، قد جرت إلى ثلاث حالات معينة؛ الأولى: قيام الأمراء المستبدين والحكام الذين جردوا الشعب من كل حقوقه الأساسية خدمة لأغراضهم الشخصية. والثانية: انصراف الأمراء إلى العمل على توسيع بعض المدن وزيادة رفاهيتها وعظمتها على حساب المدن الأخر التي حرمت كل حقوقها السياسية وأصبحت خاضعة لحكم المدن العظيمة، بأقسى ما ظهر به الاستبداد في أخبث ضروبه وألأم ألوانه. والثالثة: استخدام الجنود المأجورة، والقواد المأجورين، الذين لم تهزهم نحو إيطاليا عاطفة وطنية، بل كان كل همهم محصورًا في خدمة مصالحهم الذاتية.
تلك حالات جرت إيطاليا إلى الفوضى والسقوط المدني والسياسي. ولكن المهاجرين الذين أموا تلك البلاد بعد عام ١٤٥٣ لم يلبثوا الآن قليلًا حتى أزهر بعد نزوحهم العلم، وبدأت النهضة العلمية تتكون وتنمو، فوضعت حدًّا فاصلًا بين الحالة التي كانت قائمة في إيطاليا وبين الحالة التي وجهت فيها الأفكار وتمشت العقول. لم يؤثر على هذا التوجيه في مبدأ أمره ثراء ولا نظام مدني ولا سياسي، ولا وحدة ولا انفصام عرى الروابط الاجتماعية. بل إن تلك الحركة الفاصلة في تاريخ العقل البشري لم تحتج من مجهود أكثر من أن يوجه عدد من علماء القسطنطينية الذين هاجروا إلى إيطاليا نظر فئة خاصة من ذلك الشعب توجيهًا خاصًّا مضى يضرب بعده في سبيل النهوض العلمي، فكان من أثر ذلك قيام هذه المدنية، مدنية القرن العشرين، بما فيها من الروعة والعظمة، وبما فيها من الآثار والمنتجات العلمية والفنية.
ثم انظر إلى مصر نفسها في عصر المماليك. وتأمل قليلًا من الحالة الاجتماعية التي ظلت سائدة في مصر خلال ذلك الحكم الأسود. وارجع بنظرك كرة إلى حقوق الشعب وكيف ضاعت في نظام القطائع الذي ظل طوال حكم المماليك مفقدًا لهذا الشعب كل شخصية سياسية، ثم قارن من بعد ذلك المؤلفات العلمية والأدبية التي ظهرت خلال حكم هؤلاء المستبدين، بمؤلفات أي عصر آخر من العصور التي أزهرت فيها المدنية وعم الثراء طبقات الشعب ولم يك محصورًا في يد أرستوقراطية ظالمة كما كانت الحال في عصر المماليك، تجد أن تلك الآلاف المؤلفة من منتجات ذلك العصر في الآداب والفنون والعلوم، التي كانت ذائعة في ذلك العهد، لم تكن نتاجًا لثراء طبقات الشعب، ولا لحريتها، ولا لامتيازاتها السياسية، بل نتاجًا لتوجيه خاص سببه في الواقع أن المثال الذي كانت تتطلع إليه الأمة من السيادة في حقوقها السياسية لم يضع بتة كما يدعي بعض الْكُتَّاب، ولم تمت في نفسية هذا الشعب عاطفة التطلع إلى مثال ما، فانصرفت إلى العلم لما أعوزتها السيادة في ميادين السياسة. وكذلك الحال في كل عاطفة مثالية في الشعوب، قلما تموت أو تموت معها المدنية التي يمثلها كل شعب بذاته. فإن العرب بعد أن فتحوا العالم في ثمانين عامًا، وتمت لهم الغلبة على الدنيا في القرن الثامن من الميلاد، وأرضوا في أنفسهم مثال العظمة العالمية، انصرفت فيهم هذه الحاسة إلى مثال من الفن ظهر متجليًا في مدهشات الهندسة العربية وفن البناء العربي. ولم يخرج الأمر عن ذلك في أوروبا في القرون الوسطى. فإن تعصب الفئات الدينية لم يلبث أن يزول وتمحى آثاره حتى انصرفت عاطفة المثال عندهم من التعصب للدين إلى التصوير الفني والبناء والموسيقى. من ذلك تجد أن العاطفة المثالية لن تموت في الشعوب، ولكنها تضعف وتكمن حينًا، لتظهر، إذا ما وجهت تارة أخرى، منصرفة إلى ناحية خاصة وقصد خاص، تشعر الأمم بأنه ضروري لا كمالي.
•••
امتاز كل عصر من عصور التطور التي تقلبت فيها المدنية الإنسانية، مدنية الحيوان الناطق، بروح تمشت فيه أصبحت الطابع الذي يوسم به ذلك العصر. فللمدنية اليونانية طابع، وللرومانية آخر، وللعربية ثالث. وللقرون الوسطى روحها الكنسية التي تدخلت في كل شيء حتى في الحياة المنزلية. وكذلك الحال في أربعة القرون الفارطة، منذ أن بزغ فجر القرن السادس عشر حتى اليوم، نرى أن لكل دورة زمانية من دوراتها روحًا خاصة. ولكن أظهر ما كان فيها من الآثار ازدياد حركة الفكر. فإن هذه القرون الأربعة إذا قيست بما سبقها من العصور، كانت في نظرنا أحقابًا متطاولة إذا قسنا حركة الفكر فيها بحركته في العصور الأخر. ذلك لأن حياة الأفراد والأمم لا تقدر بطول السنين وتعاقب الأعوام، وإنما تقاس في الحقيقة بمقدار ما فيها من الحركة وأوجه النشاط، والإنتاج العقلي والمادي التي يقوم بها كل فرد من الأفراد بصفته وحدة في مجموع أمة عليه لها واجبات، ويحمل قبلها مسئولية، تحدد دائمًا بمقدار ما تحتمل حساسية كل فرد من تقدير تلك المسئولية، والشعور بالواجب، بصفته ذاتًا مستقلة أولًا، وبصفته عضوًا من كُلٍّ اجتماعي ثانيًا.
إن الروح التي تمشت في تلك القرون الأربعة، هي روح الفكر الحر، حتى امتاز القرن السادس عشر بأنه عصر النهضة العلمية، وتبعه القرن السابع عشر، فكان عصر النظر في الفلسفة الأدبية التي أحيت كثيرًا من دارس العلوم والآداب القديمة. وكان القرن الثامن عشر عصر المادية. أما القرن التاسع عشر، فعصر النقد العلمي والفلسفي. عصر تمشت فيه روح النقد دليلًا على أن العقل الإنساني قد بلغ من التطور حدًّا نبذ عنده الجري وراء التقاليد، تلك التقاليد التي لم تحتكم في العادات المدنية وحدها، بل تعدت إلى التقليد الفكري الذي طالما تابع الناس فيه فكرة آبائهم، حتى في الآداب والعلوم والفلسفة. فعصر النقد إذن عصر الرقي الحقيقي. وهو في الواقع نتاج لتجاريب القرون التي سبقته. وثمرة لخطوب الأولين التي جنى ثمارها أبناء هذا العصر، كوراثة للتطور الداخلي غير المحس، الذي غير من طبائع الناس وتطبعهم، فبدل من أخلاقهم وآدابهم ومعتقداتهم ومشاعرهم، حتى أصبح الناتج موازيًا لمقدار الجهود التي بذلها الفكر الإنساني منذ بزغ فجر المدنية على سطح هذا السيار فأينعت ثمارها، وأضاء الفكر نواحي هذه الأرض، فأصبحت المنارة الوضاءة الفياضة بأشعة الفكر الخالد، وكانت من قبل نقطة من الكون حزينة مجرودة صماء.
دورة النقد الحر دليل على الحياة الفكرية السليمة. وما السكون والتقليد إلا دليل الموت والاعتلال. وهو برهان في الحقيقة على دنو الجماعات من الحالات الفطرية الأولى، بل دليل على الروح الوحشية التي تحول وطالما حالت بين الناس وبين المتعة بثمار الفكر الحر خلال قرون عديدة توثبت فيها عقول فذة لم تلبث أن تضيء حتى أخمدت جذوتها نزعة إلى التعصب واستبداد احتكرت به معاهد الكنيسة حركة الفكر، فقيدتها بقيود من التعصب، وأحاطتها بهالة من التهوش والفوضى.
ولقد يعجب الناس للعنوان الذي وسمت به هذا البحث إذ أعقده في نقد آراء شميل؛ لأن ذلك لم يألفه الناس. غير أنني أكتفي هنا بالقول بأني في نقد هذا العلَّامة أماشي روح العصر الذي أعيش فيه، أماشيها مجبرًا لا مختارًا، لأنها أصبحت جزءًا من طبيعتي وقسمًا من فكري. يعجب الناس من كلمة النقد وجعلها عنوانًا لفصل أعقده للنظر في رأي أول ناشر لجرثومة الرأي المادي الإلحادي في مصر. ذلك لأنهم يعرفون من معنى النقد ما لا يتفق مع حقيقة ما يؤديه هذا الاصطلاح في بلاد غير مصر، بعد جوها عند الاعتلال ورجحت فيها الأحلام. وما النقد في الحقيقة إلا الموازنة بين فكرتين، أو الحكم بين رأيين. وإني مع احترامي رأي الدكتور «شميل» ونزعته الفلسفية، وهو رأي مادي صرف، يسوقني الفكر إلى نواحي من النظر أرى أنني أختلف فيها وإياه، تحدو بي إلى النظر في رأيه نظرًا لا يحملني مطلقًا على أن أنزل في قدره، أو أحط من كرامته، وهي كرامة السابقين إلى الجهر بالرأي والحرية الصحيحة في إبداء ما يجول بالخاطر الفياض.
قد تعجب فئات من الناس من كلمة النقد، لأنهم ألفوا خلال هذا الدور النشوئي الذي تجتازه العقلية المصرية، أن يتمشى النقد في مزالق يتطوح من فوقها الناقدون إلى النيل من كرامة نظرائهم، نيلًا قد يتعدى حدود الأدب المرضي والموعظة الحسنة. وكفى بذلك دليلًا على أن ما يفهم من معنى النقد في مصر، أمر يبرأ منه الناقدون، ويعافه الفكر الحر الذي خلص من آثار التقاليد التي كانت الطابع البارز في جبين النقد خلال الأزمان الخالية.