إثبات مذهب النشوء بتعاقب الصور الحفرية خلال العصور الجيولوجية
ولما كشفت علوم الجيولوجيا عن بطلان القول بقدم الأنواع رجع متأخرو الماديين إلى القول بالحدوث.
إني إن كنت على تمام الاقتناع بما في المبادئ التي بثثتها في هذا الكتاب «أصل الأنواع» من الحق الثابت، فإني لا أتوقع مطلقًا أن أقنع بها رجالًا من المشتغلين بالعلم الطبيعي قد شحنت أذهانهم بفكرات متكاثرة تناقض وجهة نظري، ظلت ثابتة في عقليتهم زمانًا طويلًا. وإن من الهين أن نخفي جهلنا وراء ستار من المصطلحات مثل «فكرة الخلق»، و«وحدة القصد والنظام» وغير ذلك، ظانين أننا قد نفصح بذلك عن المغمضات، في حين أننا لا نصل من هذه الطريق إلَّا إلى إعادة الاعتراف بالجهل بتعبيرات منوعة.
***
يقول «همبولد»: إن الأنواع التي تعمر الأرض الآن من حيوان ونبات لا تقل عن ٣٢٠٠٠٠ عدًا. ويقول آخرون مثل «كربنتر» وغيره من الباحثين، إنها تبلغ مليونين. فإذا أضفنا إلى ذلك الأنواع التي عمرت الأرض خلال الأعصر الجيولوجية الماضية وانقرضت خلال تتالي الأحقاب، فلا يقل عدد الأنواع التي عمرت الأرض والتي تعمرها في هذا الزمان عن عشرة ملايين. فهل خلقت هذه الأنواع مستقلة بين فترات الزمان المتلاحقة، أن نشأت بالتسلسل تدرجًا بعضها من بعض على مر الدهور؟
إن القائلين بالخلق المستقل لم يقعوا على برهان يؤيدون به رأيهم إلَّا القول بأنهم لم يعرفوا في تقاليد العصور التي وصلت إليهم أخبارها أن نوعًا قد أنتج بالنشوء نوعًا أو تنوعًا آخر، وأنه يبعد على العقل أن يسلم بنظرية تغاير الأنواع.
وزعمهم هذا على بعده عن الحقيقة والنظر الفلسفي العميق مدحوض بنفس استنتاجهم. فإذا سألتهم كيف خلقت الأنواع مستقلة خلال فترات الزمان والمشاهدة تدلنا على نقيض ذلك؟ ثنوا إليك صدورهم ليستخفوا منك.
على أن علم الجيولوجيا ليدل على أن الحيوانات قد تعاقبت في الوجود على سطح هذا السيار. وما قوام علم الجيولوجيا إلا البحث في طبقات الأرض التي يتكون منها سطح هذا السيار وعلاقته بتاريخ الحيوانات والنباتات التي عاشت وانقرضت على مر الأدوار الزمانية المتلاحقة. فإذا تيسر لنا أن نثبت من طريق البحث في طبقات الأرض وتاريخ العضويات التي عمرتها، أن الحيوانات والنباتات قد تعاقبت في الوجود، رجح لدينا القول بأن الأنواع لم تخلق مستقلة منذ البدء، بل تسلسل بعضها من بعض على مر الأزمان، على النقيض مما قضى به السيد الأفغاني في كلمته التي أثبتناها في رأس هذا الفصل.
•••
إن علم الحفريات باعتباره فرعًا من علم الحياة — التكوين العضوي — لا يفترق عن علم الحيوان أو علم النبات شيئًا، باعتبار العلاقة التي نلحظها بين فروع هذه العلوم في مجموعها. ولكن إذا نظرنا في العلاقة التي تقع بين علمي الحفريات وطبقات الأرض، وضح لنا أن الصلة بينهما ذات وجوه عديدة تجعل ارتباط العلمين موثقًا توثيقًا لا يدانيه ترابط أي فرعين من فروع العلوم الحديثة كما اتفق على ذلك كل علماء الحفريات والجيولوجيا والحياة. وأول من وقف على تلك الصلات التي تربط بينهما فئة الباحثين في طبقات الأرض، لا سيما في رتب الصخور المنضدة، وهي تلك الصخور التي تكونت من رواسب بقايا الصخور التي تحاتت على مر الأزمان في أعماق الماء، أو تراكمت في بقاع من اليابسة ذرتها الرياح وحملتها إلى حيث تكونت صخورًا جديدة بتأثير العناصر الطبيعية التي لا تنفك مؤثرة في سطح هذا السيار.
وعلى ذلك كان ارتباط علم الجيولوجيا بالحفريات، على ما قدمنا، ذو أوجه عديدة. منها توافق الأزمان النسبي بين تكون الرواسب الأرضية وحياة العضويات التي عمرت الأرض خلال تكونها. ثم اتصال الأزمان التي ظهرت فيها الحيوانات المنقرضة، بالبحث في تاريخ الطبقات التي عاشت هذه الحيوانات خلال تكونها، ومعرفة الزمن التقريبي الذي وجدت فيه هذه الأحياء في البحث في طبيعة الرواسب التي انطمرت فيها، إلى غير ذلك من الاعتبارات التي تصل بين هذين العلمين صلة كلية. ناهيك باتصاله بكثير من فروع العلوم الأخر كما بينا من قبل.
ولما كان لطبقات الأرض أدوار تكوينية خاضعة لمقتضى الظروف والحالات الطبيعية والتغايرات التي انتابت الأرض، كذلك للحفريات تكوين خاص تابع لنظام الارتقاء التدرجي الذي تبع رقي العضويات في الأزمان الغابرة، متسلسلة في تدرجها من الانحطاط إلى الرقي ومن الغرارة إلى التكوين العضوي والتركيب الآليِّ المناسب لطبيعة ما مر بها من التغايرات الوصفية والأطوار الطبيعية وقفزات الانتقال الفجائية، إلى غير ذلك من الأسباب التي ينسب إليها الطبيعيون سر تحولها ونشوء بعضها من بعض.
قسم علماء الجيولوجيا أزمان تكون الطبقات الأرضية إلى أقسام وأدوار تكوينية، وطبقات مترسبة وغير مترسبة، حسب ما ظهر لهم من طبيعتها التي بحثوها جد البحث، ووصفوها حق الوصف. وهذه التقاسيم في الغالب اجتهادية وضعية اصطلحوا عليها وجعلوها أساسًا لأبحاثهم. ولما رأوا أن الأنواع قد توالى ظهورها على الأرض تدرجًا، وأن كل طبقة من الطبقات قد اختصت بأنواع من العضويات المستحجرة تتقارب في النوعية كلما تقاربت أزمان وجودها، وتتباعد نوعيتها كلما تباعدت أزمانها، قضوا بأن الأنواع متسلسل بعضها من بعض، وأنها لم تخلق طفرة في زمان محدود. وهذه المسألة نقطة الاتصال بين الحفريات والجيولوجيا، ومنها يتفرع البحث في حقيقة الأزمان التي تكونت فيها الرواسب على اختلافها، ومنها ينشا ما يسميه علماء الحفريات «بالعصور الحفرية».
ولما كان الكلام هنا مقصورًا على البحث في النسبة الحقيقية التي تقع بين الزمان الذي تكونت فيه الطبقات، وما وجد خلال تكونها من الأحياء، وكانت قاعدة استدلالنا محصورة في بقايا الحيوانات المستحجرة في باطن الأرض، أراني محتاجًا لذكر التقاسيم الكلية المعتمد عليها الآن في طبقات الأرض.
قسم الباحثون زمان تكون الطبقات إلى أربعة عصور عظمى، لكل عصر منها تكونات خاصة، ولكل تكون رتب رسوبية اصطلحوا عليها. فالعصر الأول تكونت فيه الأراضي الأصلية، أي الأرض التي تكونت على سطح الكرة لدى أول عهدها بتبرد قشرتها، وفيه تكونت الأراضي المحببة والأراضي الورقية. وتلي هذا العصر رسوب الأراضي المتوسطة أو الانتقالية، وهي درجة الانتقال بين العصر الأول والعصر الثاني، وتسمى الطبقات التي تكونت في تلك الفترة بالطبقات الانتقالية أو المتوسطة. ثم بدأ العصر الثاني وفيه تكونت أراضي الحجر الرملي، والطبقات الطباشيرية وغيرها. ثم العصر الثالث وفيه تكونت الأراضي الثلاثية. أما العصر الرابع فهو الذي تكونت فيه الأراضي الطوفانية والنباتية. فكأن العصر الأول هو أعرق العصور الجيولوجية قدمًا، والرابع هو العصر الذي نعيش فيه.
ولقد اختص كل عصر منها بصور أحياء خاصة. فالعصر الأول هو بدء العصور الجيولوجية وفيه ظهرت اللَّافقارية وذوات الفقار الغضروفي أو الغضروفية، والأسماك ونباتات الفحم الحجري. وفي الثاني ظهرت الزواحف. وفي الثالث ذوات الثدي. وفي أوائل الرابع ظهرت القرود وسلالات الإنسان الأول. وإليك البيان:
وليس من الهين أن نعيِّن الزمان الحقيقي الذي ظهرت فيه الحياة فوق هذا السيار بادئ ذي بدء. وكل ما بلغنا إليه من البحث هو القول بأسبقية أحد العالمين، النبات أم الحيوان، على الآخر في الترتيب الزماني. والجيولوجيون لدى تحديدهم الزمان الذي تكونت فيه الطبقات على مر الأدوار الزمانية، والحفريون لدى البحث في معرفة الزمان الذي ظهرت فيه الحياة على الأرض من حيوان ونبات، شرع إزاء هذه المعضلة، لم يخلصوا من شتى الصعاب التي تحوطها، شأنهم في ذلك شأن الباحثين في أصل التكوين العضوي «نشوء الحياة»، فإن كل أبحاثهم في هذا الموضوع قائمة على الفروض المجردة البعيدة عن البرهان المنطقي الذي يصح معه القياس بحيث يكون علمنا بها قاطعًا لا يحتمل الشك ولا تتغلغل إليه الظنون. فإن القياس المنطقي الوحيد الذي يركنون إليه في حل هذه المشكلة، هو قياس التمثيل. ويعرف المناطقة أنه أضعف أنواع القياس. كذلك قد استعصى عليهم أن يتخذوا من صدق المشاهدة دلائل تثبت صحة النظر فيها. وليس أدل على ذلك من الاختلاف والبون الشاسع في تقدير كل من الباحثين لعمر الأرض وزمان وجود الحياة فيها. ذلك على الرغم من أنهم أجمعوا على أن الأرض وما عليها من حيوان ونبات، يرجع تاريخها إلى أزمان بعيدة، موغلة في القدم، بحيث لا يمكن تحديدها إلا قليلًا.
وفي هذا يقول العلامة «داروين» في الفصل العاشر من كتابه أصل الأنواع ما يلي: «ولا ينبغي أن نغفل عن أن بعض التكونات الأرضية التي نجدها في إنجلترا عبارة عن طبقات رقيقة، قد تبلغ في القارة الأوروبية عدة آلاف من الأقدام ارتفاعًا وفضلًا عن ذلك، فإن الجيولوجيين لعلى اعتقاد بأن بين كل تكون من التكونات المتلاحقة عصور غفل موغلة في التطاول. من هنا نجد أن تلك الصخور المترسبة التي تطاول السحاب ارتفاعًا وتأخذ بالأنظار رهبة وعظمة في بريطانيا، لا تزودنا إلا بفكرة تقريبية ناقصة عن طول الزمان الذي استدبرته في تكونها. وإن نظرة تأمل نلقيها على هذه الحقائق في مجموعها، لتؤثر في العقل تأثيرًا أشبه بالتأثير الذي يتولد فيه، إذا ما أزمع أن يكون فكرة في الأبد أو اللانهاية.»
وجل ما يركن إليه الباحثون في أبحاثهم اليوم هو معرفة الزمان التقريبي، حيث يقدرون النسبة بين زمان تكون الرواسب وتطبيق ذلك على ما يجدونه مطمورًا فيها من صور الأحياء المستحجرة، مستدلين على ذلك بالقياس التقريبي. فهم يقولون بأن الزمان الذي تكونت فيه هذه الطبقات، إن كان بعيدًا، فإن من المتيسر معرفة ما استغرقه تكون بعض الطبقات من الزمان. فإن المؤثرات الطبيعية التي كانت تنتاب الأرض فتغير من معالمها في الزمان الفارط، هي نفس المؤثرات التي تعمل فيها الآن. فإذا أمكننا أن نعرف الزمان الذي اقتضاه تكوين ذراع من الرواسب يقذفها نهر من الأنهار في بحر ملح، أمكننا أن نعرف بالتقريب مقدار الزمان الذي استغرقته هذه المؤثرات في تكوين الوجه البحري من مصر مثلًا، إذا قيس عمق الرواسب فيه بالذراع. من هنا نستطيع أن نعرف الزمان التقريبي الذي عاشت خلاله الأحياء المنطمرة فيها. على أن في ذلك كله مجالًا واسعًا للظن والفروض.
•••
يعتقد الجيولوجيون أن طبقات الأرض الأولى قد تكونت خلال العصر الجيولوجي الأول، كما اصطلح على ذلك الباحثون. وأضافوا إلى ذلك أنها خالية من آثار الحياة، حيث حالت دون وجودها الاضطرابات والأعاصير الطبيعية التي كانت تنتاب الأرض في دور تكونها الأول، وارتفاع درجة الحرارة، وتأثير المواد المصهورة، وحرارة الهواء، وعدم موافقة الحالات الخارجية لوجود الحياة، وهياج العناصر، وضعف أثر الشمس، لتكاثف الغازات والأبخرة في جو الأرض. وظل هذا الرأي سائدًا حتى استكشف الدكتور «دوسن» بقايا حيوان حفري في هذه الطبقات في أمريكا الشمالية. توصل هذا البحاثة إلى استكشاف تلك البقايا مستعينًا على ذلك بالمجهر، حيث ظهرت آثاره، رغم كل الموانع التي تحول دون البحث في هذه الطبقات، كأنها خطوط غير كاملة الاتساق. وبعد أن أذاع الدكتور «دوسن» استكشافه معددًا أوصاف هذا الحيوان، وجدت آثاره في أوروبا، منطمرة في صخور الرتبة عينها. واتفق العلماء على أن أعقات هذا الحيوان الصغير لا تزال موجودة حتى اليوم. وهو أقرب حيوان معروف إلى الغرارة الخلقية الأولى، بعد البروتوزووا؛ أي ذات الخلية.
وعلى الرغم من أن آثار النبات مفقودة في صخور هذه الرتبة فإن «دوسن» وغيره من العلماء يقولون بأن النبات قد ظهرت آثاره قبل الحيوان. يستدلون على ذلك بأن النبات طهر الهواء من حامض الكربون وغيره من المواد التي لا يتيسر ظهور الحياة الحيوانية مع تكاثفها في جو الأرض. وقالوا بأن النباتات التي وجدت في ذلك الزمان كانت من رتبة الحشائش الرخوة التي لا يتسنى حفظها في باطن الصخور. على أن كل الظواهر المستجمعة من البحث العلمي تدل على أن الحيوان قد ظهر أولًا. أما إذا كانت الحياة قد تولدت بداءة في غمر الماء، فلا تأثير لغازات الهواء عليها لأن في غمر الماء توجد كل الحاجات الأولية الصالحة لظهور الحياة المائية.
ويقول بعض الباحثين إن بقايا نباتات بحرية قد وجدت منطمرة في أول مراتب الطبقات الانتقالية، مما يدل على وجود نباتات في أعصر تقدمتها، وكانت بطبيعة الحال أقرب إلى الغرارة منها. على أن استكشاف الزوفيت — أي الحييوينات النباتية — التي تعتبر حلقة الوصل بين الحيوان والنبات، لتؤيد، إلى حد محدود، صحة القول ببدء الحياة في صورة أقرب إلى التكوين النباتي منها إلى التكوين الحيواني.
•••
إن الذين ينكرون كل تسلسل طبيعي في وجود الأحياء لا يأبهون بالبراهين والمشاهدات التي يثبت بها زعماء مذهب النشوء تدرج الكائنات على الأرض وتتابعها في الوجود الزماني. تلك المشاهدات التي تثبت أن علم الحفريات ذا صلة بالبحث في طبقات الأرض، وأن لكلا البحثين أكبر الصلة بإثبات ذلك التدرج.
فلو فرضنا مثلًا أن الأنواع قد ظهرت طفرة أو خلقت ووضعت على سطح الأرض بين فترات زمان محدود مستقلة في الخلق والنوعية، لوجدت آثار الحيوانات العليا كذوات الثدي مثلًا في طبقات العصر الجيولوجي الثاني، أو الحيوانات الفقارية في طبقات العصر الجيولوجي الأول. أما وقد دل البحث على أن كل طبقة من طبقات الأرض تختص بأنواع وصور مخالفة لما تختص به سابقتها أو لاحقتها، كان ذلك دليلًا على تدرج الوجود، وعرفنا من جهة أخرى السبب في أن كل طبقة من الطبقات تختص في كل زمان بظهور أنواع معينة من النباتات والحيوانات تنسب إليها.
من المعترضات الشائعة ضد مذهب «داروين» فقدان الصور التي تربط بين الأنواع خلال الأطوار الزمانية الماضية، سواء أكانت هذه الصور لا تزال تعمر الأرض في زماننا هذا، أم انقرضت في غابر الدهور. فإن مذهب «داروين» يقضي بأن الحيوانات والنباتات قد تدرجت في الوجود متسلسل بعضها من بعض. وتدرج وجود صورها وأنواعها حية على ظهر الأرض، يقضي بوجودها مستحجرة في طبقاتها بحيث نرى التدرج تامًّا والتسلسل بينًا، والحلقات التي تربط بين الصور لا تترك مجالًا للريب في جزئيات التحول في أعضائها وأشكالها الظاهرة أو تراكيبها التشريحية. وأصحاب هذا الاعتراض يأخذون فقدان الصور الوسطى التي تربط بين الأنواع وعدم ظهور جزئيات التحول الحقيقي في شعب النظام العضوي في الحفريات التي وقعوا عليها حتى الآن، دليلًا على أن المذهب غير صحيح، أو على الأقل على أن المذهب أبتر غير كامل في كثير من وجوهه العملية والاستنتاجية.
ولقد قصر «داروين» جزءًا كبيرًا من الفصل السادس من كتابه «أصل الأنواع» على نفي هذا الاعتراض بأدلة منتزعة من المشاهدات الطبيعية، طبقها على كثير من مبادئه التي يؤيد بها مذهبه. أما هذه العجالة ففيها استدراك لبعض الأدلة التي أقامها كثير من زعماء النشوء في أواخر القرن الماضي.
إن نظرة واحدة في هذا الاعتراض، غير معززة بالبحث، ولا مقرونة بالتنقيب، تحمل الباحث على الاعتقاد بأن مذهب النشوء فاسد من أساسه. غير أن الباحث إذا استعمق في الدرس وجد أن الجيولوجيين والحفريين وعلماء التاريخ الطبيعي والحياة، قد اتفقت مباحثهم على الإيمان بوجود حلقات تربط بين كثير من الأنواع الحية، وحلقات تربط بين أنواع حية وأنواع منقرضة منذ أزمان موغلة في القدم، بحيث إنك إذا أتيت في بعض الحالات المشاهدة بكل الحلقات التي تربط بين نوعين معينين، ووضعت الحلقة بجانب الأخرى، لاعتقدت اعتقادًا لا يوهنه الشك في أن طرفي هذه السلسلة متصلان في النسب الطبيعي، متدرج أحدهما عن الآخر، ولألفيت أن صور هذه السلسلة تتقارب أشكالها كلما تقاربت أزمان بعض الحلقات من بعض، وتتباين كلما تباعدت أزمانها، بحيث نجد أن طرفي السلسلة مختلفان كل الاختلاف، وإن كانت حلقاتها متقاربة في التركيب والشكل على النمط الذي مر ذكره. فإذا وعينا بعد ذلك أن النواميس الطبيعية واحدة لم تتغير، ولن تتغير، على مدى الأزمان، ثبت لدينا أن ما يصدق على قليل من الأنواع قد يصدق على غيرها قياسًا، مع اختلاف في الكم لا في الكيف. وتلك مسألة منطقية إذا استطعنا تأييدها بالمشاهدات الطبيعية، ثبت لدينا أن مذهب النشوء صحيح.
على أن الذين يؤمنون بصحة هذا الاعتراض لم يستطيعوا أن يأتوا ببرهان واحد على أن صور الأحياء المنقرضة برمتها قد يمكن حفظها سالمة في باطن الصخور. فإن المحتفظ به منها قليل مقيسًا بما عفت آثاره على مر الأدوار الزمانية الغابرة، والقسم الذي يعثر به من بقايا الحفريات هو الذي وافقته الظروف الطبيعية، والحالات التي أحاطت به لدى انطماره وتحوله من الحالة العضوية إلى الحالة المعدنية، كما سبق القول فيه. وإذن فكثير من صور الأحياء الآلية أو بالأحرى الحلقات قد تلاشت بتأثير الأعاصير الطبيعية التي وقعت تحت سلطانها، سواء أعند انطمارها أم بعد الانطمار. وربما ساعدت خصائص الكائنات العضوية على بقائها أو فنائها. فإن كثيرًا من الحيوانات من الصعب حفظها في باطن الصخور لمرونة تركيبها العضوي. ومن النادر أيضًا حفظ هيكل بأكمله. فإن الجسم لا يؤمن عليه من فعل التحتت بفعل الحرارة الشديدة أو طبيعة عناصر الأرض التي ينطمر فيها، فقد تكون هذه العناصر عاملًا على تحتت الجسم المنطمر فيها لدى أضعف هزة يسببها انفجار بركان أو زلازل أو غير ذلك. والدليل على ذلك أن أكثر الحفريات التي يعثر عليها، إما أن تكون أصدافًا أو قشورًا كلسية أو عظامًا تامة أو غير تامة، وبعض أسنان أو جماجم أو أرجل أو أظلاف أو بعض أجزاء من الجسم متناثرة هنا وهناك. أما الهياكل التامة التي عثر عليها فقليلة جدًّا في متاحف التاريخ الطبيعي، مقيسة بما وجد من هذه الأجزاء. والبحث في الحفريات، واتخاذه دليلًا على صحة مذهب «داروين» قائم على هذه البقايا، والتنقيب مقصور على معرفة نسبة بعض هذه الحفريات لبعض، وتبعيتها لمراتب الموجودات، أنواعًا كانت أم تنوعات، أم فصائل، أم أجناس، إلى غير ذلك من المراتب المعول عليها في تقسيم العضويات.
ولم يوجد من الحفريات كامل التركيب إلَّا المموث — أجداد الفيلة الحالية — وبعض من أنواع ذي القرن، التي كانت تقطن في سالف العصور مجاهل سيبيريا، وبعض مناطق من الأقطار الشمالية القصوى، وقليل من العناكب والحشرات، وكان انطمارها في الجليد سببًا في حفظها من مضاعفات الفناء والتحتت، وعلى الأخص لأن الأرض في تلك البقاع غير معرضة للزلازل أو غيرها من الأعاصير الطبيعية التي تقع في البقاع التي تسامتها الشمس، كمنطقة خط الاستواء مثلًا. أضف إلى ذلك أن طبيعة الجليد ذاته قد حفظت أجسامها من التعفن والانحلال، وقد يوجد المموث بجلده وشعره وأحشائه، غير متعفنة، وقد مر عليها ألوف من السنين وهي منطمرة في جوف هذه القبور الجليدية. ولا مرية في أن انطمارها كان في فصل الصيف، حيث تذيب الحرارة في بعض البقاع طبقة الجليد المتكونة على سطح الأرض أو الماء، فتسقط هذه الحيوانات خلال روحاتها أو غدواتها في تلك الفرجات التي تذيبها الحرارة، فتبقى ثمة الألوف من الأعوام كنزًا علميًّا نفيسًا يجني ثماره أبناء القرن التاسع عشر.
قال «داروين»: «إن الشطر الأعظم من مجموعتنا الحفرية وصور الأحياء المستحجرة غير كامل، بل هو جزء صغيرة بالنسبة لما هو مختفٍ في باطن الأرض. وما عثر عليه من بقايا الحيوانات المنقرضة ليس إلا نتيجة البحث في بقاع محدودة. على أن تعدد صور العضويات الحفرية واختلافها، يثبت من جهة أخرى كثرتها وانتشارها في بقاع الأرض كافة. ويفيد ذلك أن الأحياء التي عضدتها الأرض فيما سلف من الأزمان لا يحصيها العد.» وقال في الفصل السادس من كتابه أصل الأنواع في فقدان الصور الوسطى وندرتها: «وكان الأجدر بي أن أرجئ بحث هذه المسألة إلى ما سنكتبه في الملاحظات الجيولوجية ونقائضها، لولا أن دفع هذا الاعتراض ينحصر في الاعتقاد بأن الملاحظات الجيولوجية التي تؤيد مذهب النشوء على حالٍ من الاضطراب والنقص قل أن تسبق إلى حدس الباحثين. فطبقات الأرض على أنها دار عاديات بعيد على الوهم أن يصور فرط عظمها، فإن الصور المحفوظة فيها ناقصة مشوهة، ولم تطمر فيها إلا خلال فترات متباعدة من الزمان.» وأيد الدكتور «فجنر» ذلك الرأي حيث قال: إذا تذكرنا أن ثلثي الأرض أو ثلاثة أخماسها تحجبها البحار، وأن قسمًا كبيرًا من الثلث الباقي تغطيه الجبال الشاهقة، علمنا أنه تمنعنا عن الأبحاث العلمية موانع طبيعية.
وما كان لينبغي لنا أن نترك هذه الفرصة تمر دون أن نأتي على ذكر مجموعة من البراهين أتى عليها العلامة «داروين» في أول الفصل العاشر من كتابه أصل الأنواع دفع بها ذلك المعترض. فقد أثبت بالدليل والمشاهدة أن الحلقات الوسطى كانت موجودة خلال زمنٍ ما من الأزمان. وأظهر كيف أن بقاءها في الطبيعة متعذر وأن العثور عليها أشد تعذرًا. ونحن نأتي هنا على هذه القطعة بما فيها من البراهين معتذرين عن ما فيها من الإطناب بما فيها من دامغ الحجة قال: «عددت في الفصل السادس من هذا الكتاب «أصل الأنواع» الاعتراضات ذوات الشأن التي قد تناوئ نظرياتي التي بثثتها في ثبت كتابي هذا. ومن بين تلك الاعتراضات تدابر الأنواع وعدم ظهورها بمظهر الترابط بعضها ببعض بحلقات وسطى. ومن الظاهر أن هذا الاعتراض صعوبة بينة.
ولقد أبديت أسبابًا عزوت إليها فقدان تلك الحلقات عادة في هذا الزمان، بَيْدَ أن وجودها في هذا العصر أمر يسوق إليه كثير من الأسباب، وجود قارات مترامية الأطراف متواصلة البقاع، تتدرج فيها الحالات الطبيعية تدرجًا منظمًا في التباين والاختلاف، من أبعد تلك الأسباب خطرًا، وأشدها أثرًا.
ولشد ما بذلت جهدي لكي أظهر أن حياة كل نوع من الأنواع تعود في أكثر الأمر إلى وجود صور عضوية بلغت تمام التمايز بعضها عن بعض، أكثر من عودتها إلى طبيعة المناخ، لاستدل بذلك على أن الحالات التي تتحكم في حياة الأنواع التحكم كله، لا تمضي ممعنة في سبيل التدرج في خطًى غير محسة من الوجود والزوال، تدرج الحرارة أو الرطوبة مثلًا.
كذلك لم آل جهدًا في سبيل إظهار أن التنوعات الوسطى، إذ تتكون عادة من جموع أقل عددًا من جموع الصور التي تصل بينها، غالب ما تقمع في معمعة التناحر على البقاء، ومن ثم تنقرض في درج ما يطرأ على أوصافها من التغاير وما ينتابها من التهذيب.
أما السبب الأول والباعث الأقوى الذي يؤثر في الطبيعة فلا يترك فيها من الحلقات الوسطى عددًا كافيًا نستبينه ذائعًا في نواحي النظام العضوي، فيرجع إلى الانتخاب الطبيعي نفسه، ذلك المؤثر الذي يستحدث من التنوعات دواليك على مر الأيام ما تمعن في سبيل التسود على صورها الأولى التي تكون قد نتجت عنها وتطورت. ومما لا مشاحة فيه أنه بقدر ما كان شأن هذه المؤثرات من الشدة والقسوة في إحداث الانقراض، كان عدد التنوعات التي عاشت على مر ما خلى من القرون، وتتالى من الأجيال، وأن شدته لتبين لنا أن عددها كان عظيمًا.
إذا كان الواقع كما ذكرنا فلماذا لا نقع في كل تكون من تكونات الأرض، وفي كل طبقة من طبقاتها المتراصة، على تلك الصور الوسطى تملأ نواحيها وشعبها؟ والحقيقة أن علم الجيولوجيا لا يحبونا بتلك السلسلة المنظومة من الصور العضوية. والراجح أن يكون هذا الاعتراض أنكى ما يقوم في وجه التطور من عواصف الأفكار الحديثة. ومعتقدي أن الإبانة عن دفع هذا الاعتراض مقصورة على ذلك النقص البين الذي يتخلل ما وقفنا عليه من خبايا الموسوعة الجيولوجية.
من هنا نساق إلى الاعتقاد بأننا في مثل هذه الحالات نعجز عن معرفة الأصل الأول الذي نشأ عنه نوعان أو أكثر من الأنواع، حتى ولو تسنى لنا أن نقارن بين تركيب ذلك الأصل وبين أعقابه المهذبة، ما لم يكن بين أيدينا سلسلة منظومة من الحلقات الوسطى.
كذلك تجيز نظرية التطور أن أحدى صورتين حيتين قد تنشأ عن الأخرى نشوء الحصان عن التابير مثلًا. ولا بدَّ في هذه الحال من أن تكون قد وجدت حلقات وسطى ربطت بينهما. ولكن هذه الحال تستدعي أن تبقى إحدى الصورتين أزمانًا متطاولة من غير أن ينتابها تغاير أو تباين ما، بينا تكون أعقابها قد مضت في التغاير إلى حدٍ بعيد. أما مبدأ المنافسة والجلاد بين العضويات، كل ندٍّ منها إزاء ندِّه، وكل نتاج منها إزاء منتجه، فيقضي بأن يكون حدوث تلك الحالة في الطبيعة أمرًا نادرًا. ذلك لأننا نلقي في كل الحالات أن الصور المستحدثة التي حبتها الطبيعة بقسط من التهذيب ونزر من الارتقاء، تساق دائمًا إلى التسود على الصور العتيقة غير المهذبة الصفات.
أما نظرية الانتخاب الطبيعي فتقضي بأن كل الأنواع الحية لا بُدَّ من أن يكون قد مضى عليها زمان كانت فيه متصلة بالأصول الأولية التي نشأ عنها كل جنس بعينه، بمباينات لا تزيد عن تلك التي نراها بين التنوعات الطبيعية والتنوعات المؤلفة التابعة لنوع بعينه في الزمان الحاضر، وأن هذه الأصول الأولية، وقد أصبحت منقرضة في هذا الوقت، كانت في دور من نشوئها وتطورها متصلة بمثل ذلك بصورة أخرى أبعد منها قدمًا وأكثر إيغالًا في الزمان. وهكذا تعود دواليك كلما رجعت إلى الأزمان الماضية، وكلما أمعنت في البحث إلى أصل أوليٍّ نشأت عنه كل مرتبة من المراتب. ومن هنا يتضح لنا أن عدد الحلقات الوسطى كان عظيمًا، وأنه من المحقق، إذ صحت نظريتي هذه، أنها قد عمرت الأرض في زمن ما من الأزمان.»
•••
على أن القول بالخلق المستقل لم يقم عليه دليل تجريبي أو مشاهدة طبيعية أو برهان منطقي، يثبت أن كل نوع من الأنواع قد خلق بشكله المعروف فوق الأرض بين فترات الزمان، أو يدل على أن ما يظهر على الأنواع من الكفاءة التامة لما يحيط بها من أعاصير الحياة الطبيعية واستيطانها، كان لخلقها الأول لزامًا. وماذا يقول مؤيدو هذا القول في تشابه الأنواع الحية وتقارب صورها من صور الحفريات التي يعثر عليها في ذات البقعة التي تقطنها؟ وبماذا يعللون انقراض الصور العضوية؟ اللهم إلا أن يلجئوا إلى القول بما قال به زعماء نظرية النشوء من تفوق بعض الصور على بعض وارتقائها وتغلب الصور ذوات الصفات العليا على غيرها مما يقاربها نسبًا، أو على أنواع أخر تشتبك بينهما حلقات الانتفاع في بقعة محدودة من البقاع. وليظهر زعماء الخلق المستقل السبب في مشابهة الأنواع الحية في أستراليا للأنواع المنقرضة فيها! وليعللوا كيف أن كلها من ذوات الكيس التي اختصت بها هذه البقاع دون غيرها. أو لماذا خصت تلك الجزر بهذه المرتبة واختصت هذه المرتبة بها. وماذا يقولون في الانتخاب الطبيعي وبقية ضروب الانتخاب، وفي التناحر على البقاء، وبقاء الأصلح؟ أينكرون هذه السنن وهي ثابتة بالاختبار والمشاهدة؟ وماذا يقولون في سنة تبادل النسب في حالات التغاير أو في الاستيطان واختصاص كل إقليم بأنواع خاصة؟ وبماذا ينفون مؤثرات الوراثة والرجعى والتلاقح والتوالد إلى غير ذلك من السنن الثابتة؟ كل هذه النواميس تؤيد نظرية النشوء. على أنه لم يبق أمام الباحثين في أواخر القرن الماضي من اعتراض على مذهب النشوء سوى اعتراضات تشريحية في تسلسل الإنسان من صورة أحط من صورته الحاضرة توصل كثير من مشرحي الانجليز إلى دفعها في أوائل القرن الحاضر.
•••
اختلف علماء الحيوان في تحديد عدد أنواعه، كما اختلف النباتيون في تحديد عدد أنواع النبات. وعلى الرغم من هذا توصل العلماء إلى تقسيم المملكة الحيوانية إلى أقسام عظمى لا يخرج عن دائرتها نوع من الأنواع التي تعيش اليوم في عالمنا الأرضي. وإتمامًا للفائدة نأتي على ذكر هذه الأقسام الأربعة كما وضعها «أغاسيز»، ثم نعقب عليها بذكر التقاسيم التي وضعت من بعد ذلك حسب الترتيب الموضوع في التاريخ الطبيعي «لهرمزوورث» ليقف الباحثون على تطور علم الحيوان الوضعي في القرن الماضي وأوائل القرن الحالي. والعمدة الآن في ترتيب عالم الحيوان على ترتيب تاريخ «هرمزوورث» الطبيعي، وما أتينا على تقسيم «أغاسيز» إلا ليتخذ قاعدة للمقارنة بين الوضعين لتظهر الفروق بينهما. ومسألة ترتيب الحيوانات من أكبر مباحث التاريخ الطبيعي التي تثبت التدرج التام وتعاقب الحيوانات على الأرض، ذكرناها تقريبًا لنقط الموضوع من أذهان الباحثين.
(١) مختصر تقسيم أغاسيز
- القسم الأول: الحيوانات الشعاعية النباتية. وهي كائنات حية تشبه النبات في بنائه، مثل المرجان، وهي مشععة. ويعتبرها بعض علماء الحيوان حلقة الوصل بين الحيوان والنبات.
- القسم الثاني: الحيوانات الرخوة أو الهلامية. وتسمى عنده بالقشرية أيضًا؛ لأنها غالبًا ما تكون محفوظة داخل غلاف عظمي، ودمها غير أحمر.
- القسم الثالث: الحيوانات المفصلية؛ أي معدومة العظام، ومنها الحيوانات الحلقية ودمها غير أحمر. وأطلق عليها العلماء اسم المفصلية والحلقية؛ لأن جسمها يتكون من حلقات بعضها فوق بعض.
- القسم الرابع: الحيوانات الفقارية؛ أي ذوات العظام والدم الأحمر، ومنها الإنسان، وبقية الحيوانات ذوات الفقار العظمي، وسميت بالفقارية نسبة إلى أخص صفاتها، وهي وجود سلسلة الفقار فيها.
فالحيوانات الفقارية أرقى المملكة الحيوانية عند أغاسيز، وذلك عند «هرمز وورث» وأرقى ذوات الفقار الحيوانات الثديية أو اللبونة. ولم توجد هذه الحيوانات إلا في الطبقات العليا من الأراضي الثلاثية، وتكاثرت خلال تكون طبقات العصر الثالث متدرجة في الوجود تدرجًا طبيعيًّا مرتقية أنواعها وصفاتها على مر الدهور، حتى اكتسبت تلك الصفات التي تمايزت بها أنواعها، وتباينت تنوعاتها، وتكونت رتبها وفصائلها، مما يثبت خضوعها لآثار النشوء العام، منتهية عند آخر السلسلة بالإنسان صاحب الفكر والروية والإحساس الكامل.
ومما ستراه في تقسيم «هرمز وورث» ترى أنه خالف أغاسيز في الابتداء بأدنى الحيوانات والانتهاء بأرقاها، إذ بدأ تقسيمه بالوترية — ذوات الفقار — وانتهى بذوات الخلية. وهذا التقسيم أقرب تقسيم روعيت فيه آخر نظريات النشوء المأخوذ بها اليوم في دراسة علم الحيوان، فهو أصح التقاسيم المعول عليها الآن.
(٢) تقسيم مملكة الحيوان بمقتضى نظريات النشوء والارتقاء عن كتاب التاريخ الطبيعي تأليف هرمز وورث
(٢-١) مملكة الحيوان Kingdom Animalia
قسم (أ) الحيوانات المركبة ذوات الخلايا. Division (A) Compound Animals Metazoa
المُمَيْلَكَة الأولى: ذوات الفقار أو الفقارية | Subkingdom I. Backboned animals vertebarta |
مراتب المُمَيْلَكَة الأولى | Classes of subkingdom I. |
(١) ذوات الثدي أو الثديية | Mammals: Mammalis |
(٢) الطيور | Birds: Aves |
(٣) الزواحف | Reptibes: Rebtibia |
(٤) الأمفيبية: كالسمندل والضفدع | Salamanders & Frogs: Amphibea |
(٥) الأسماك | Fishes: Pisces |
(٦) حلقية الفم كثعبان البحر | Lampreys & hagfishes: Cyclostoma |
المُمَيْلَكَة الثانية: ذوات الوتر الرأسي | Subkingdom II Lancelets: Cephelochordata |
المُمَيْلَكَة الثالثة: النصف وترية | Subkingdom III Balanogiossus: Hemichordata |
المُمَيْلَكَة الرابعة: وترية الذنب | Subkingdom IV: Sea Squirts or Asoidians: Uroohordata |
ويطلق على هذه المميلكات الأربعة اسم الوترية ترجمة والكرداتية Chordata تعريبًا. |
المُمَيْلَكَة الخامسة: الشوكية شوكة البشرة | Subkingdom V: Sea Urohins & Starfishes: Echinodermata |
مراتب المُمَيْلَكَة الخامسة | Classes of Subkingdom V |
(١) النجمية، ومنها السمك النجمي أو صليب البحر | Starfishes: Asteroidea |
(٢) الحيات | Brittle stars: Ophiuroidea |
(٣) قنافذ البحر | Sea Urchins: Echionidea |
(٤) الخرطومية | Sea Curcumbers: Hoiothuroidea |
(٥) السوسنية، سواسن البحر | Sea lilies: Crinoidea |
المُمَيْلَكَة السادسة: مفصلية الأرجل | Subkingdom VI: jointed animals: Arthropoda |
مراتب المُمَيْلَكَة السادسة | Classes of Subkingdom VI |
(١) الصدفية: الأصداف والمحار | Lobsters & Baruacles: Crustacea |
(٢) كثيرة الأرجل | Centipedes: Myriapoda |
(٣) الحشرات | Insects: Insecta |
(٤) العناكب | Spiders & Scorpions: Arachnida |
المُمَيْلَكَة السابعة: قصيرة الأرجل | Subkingdom VII: Lamp-shells: Brachiopoda |
المُمَيْلَكَة الثامنة: الجمهور | Subkingdom VIII: Sea Mats: Polyzoa |
المُمَيْلَكَة التاسعة: الديدان العلقية | Subkingdom IX: Worms & Leeches: Annelida |
مراتب المُمَيْلَكَة التاسعة | Classes of Subkingdom IX |
(١) ذوات الأرجل الشعرية | Worms & Serpulas: Choetopoda |
(٢) العلق | Leeches: Hirudinea |
(٣) القنفذية | Gephyrean Worms: Echiuroidea |
(٤) غير محققة المرتبة: | Of uneertain rank |
– المحجمية أو ذوات المحاجم Sipunouloidea | |
– البريابوليديا Priapuloidea | |
– الفورونيديا Phoronidea | |
المُمَيْلَكَة العاشرة: الحيوانات الرخوة | Subkingdom X: Shelled animals: Mollusca |
مراتب المُمَيْلَكَة العاشرة | Classes of Subkingdom X |
(١) ذوات الأرجل الرأسية | Nautilus & Cattlefislies: Cephalopoda |
(٢) ذوات الأرجل البطنية | Whelks & Limpets: Gastropoda |
(٣) البلاكوفورا | Chitons: Placophora |
(٤) ذوات الأرجل الزورقية | Tooth shells: Scaphopida |
(٥) مسطحة الخيشوم أو صفيحية الخيشوم ذوات الصامتين | Bivalve: Lambellibranchiata |
لا أريد أن تمر هذه الفرصة دون أن أنبه على اعترافي بما أمدني به صديقي الأستاذ الدكتور/أحمد بك عيسى من المساعدة في تحقيق الكثير من هذه الأعلام. | |
المُمَيْلَكَة الحادية عشرة: الحييونيات الدوارة | Subkingdom XI: Wheel animacules: Rotifera |
المُمَيْلَكَة الثانية عشرة: الديدان الخيطية | Subkingdom XII: Thread Worms: Nemathelminthes |
مراتب المُمَيْلَكَة الثانية عشرة | Classes of Subkingdom XII |
(١) الديدان المستديرة | Round worms: Nematoda |
(٢) الديدان الخيطية الشكل | Thread shaped worms: Nematomorpha |
(٣) شوكية الرأس | Spiny-headed worms: Acanthocepha |
المُمَيْلَكَة الثالثة عشرة | Subkingdom XIII: Nemertean worms: Nemertia |
المُمَيْلَكَة الرابعة عشرة: الديدان المفرطحة | Subkingdom XIV: Flat worms & Flukes: Platyhelminthes |
مراتب المُمَيْلَكَة الرابعة عشرة | Classes of Subkingdom XIV |
(١) البوقية أو الأنبوبية | Tubellarians: tubellaria |
(٢) الثقبية أو الشبيهة بالثقب | Trematodes: Trematoda |
(٣) السستورية | Liver Flukes: Cestoda |
المُمَيْلَكَة الخامسة عشرة: مجوفة الأمعاء | Subkingdom XV: Cuelenterata |
مراتب المُمَيْلَكَة الخامسة عشرة | Classes of Subkingdom XV |
(١) القريصية أو قريص الماء | Polypes: Hydromedusae |
(٢) الأسماك الهلامية | Jellyfishes: Acalephœ |
(٣) الحيوانات الشعاعية | Corals & Sea anemones: Actinozoa |
(٤) ذوات القواطع | Beroc & etc: Ctenophora |
المُمَيْلَكَة السادسة عشرة: الإسفنجية | Subkingdom XVI: sponges: poriferæ |
مراتب المُمَيْلَكَة السادسة عشرة | Classes of Subkingdom XVI |
(١) الإسفنج الكلسي أو الجيري | Lime sponges: Calcarea |
(٢) التراكسونية أو ذوات الأشعة الثلاث | Glass sponges: Triaxonidea |
(٣) الديموسفنجية أو الإسفنج العادي | Ordinary sponges: Demospongiae |
ويطلق على هذه المملكات الاثني عشر اسم اللافقارية Invertebrata. |
قسم (ب) ذوات الخلية Division (B) One celled animals: Protozoa
مراتب ذوات الخلية | Classes of Protozoa |
---|---|
(١) الأميبا | Amoeha & Foraminiferae: Gymnomyxia |
(٢) النقيعية | Ordinrry Animalcules: Infuseria |
(٣) الأسبوروزووا، طفيليات الدم أو الحيوانات البزرية* | Bloodparasites: Sporozoa |
وقف بنا البحث عند حفريات العصر الجيولوجي الأول. فإذا انتقلنا إلى حفريات العصر الجيولوجي الثاني، الذي تكوَّنت خلاله الأراضي الثانية والانتقالية والسلورية، نجد أن معظمها بقايا حيوانات ونباتات بحرية، إذ كان البحر يغشى معظم سطح الكرة؛ ولذا لا يوجد في تكوُّنات ذلك العصر من أنواع الحيوان ما عاش فوق اليابسة أو في المياه العذبة. وفي هذا العصر ظهرت المساكن الأخطبوطية الأولى.
وظهر بعد المساكن الأخطبوطية، وما عاصرها بقليل، أنواع أخر من الحيوانات الرخوة لها بعض صفات ما تقدمها من الأنواع، وتمتاز بصفات جديدة تفضل بها غيرها غلبة ونوعية. وتلك مشاهدات تدل على أن أصل الحياة كان في الماء وأن البحر كان يسكنه كثير من الحيوانات الدنيا في ذلك العهد؛ ولذا نرى أن أكثر الحفريات التي وجدت منطمرة في الطبقات السلورية والإردوازية لم تكن إلَّا أصدافًا ومساكن أخطبوطية، تتبع المرتبة الخامسة من الحيوانات الشعاعية حسب تقسيم «أغاسيز»، وأعلى رتبة من ذوات الخلية. وذلك يدل على انحطاط رتبتها في سلم الارتقاء، وأن العالم الحي عامة كان ذات صفات نوعية دنيا.
وأخذت أنواع الحيوان والنبات من بعد ذلك في الارتقاء، والباحث في الحفريات لا بُدَّ من أن ينتهي إلى نتيجة ذات شأن كبير تثبت مذهب النشوء بما لا يترك للريب مجالًا. يعرف الباحث أن الأنواع الحفرية كلَّما تباعدت أزمان بعضها من بعض كان التمييز بينها ممكنًا وكلما تقاربت أزمانها اختلطت أنواعها وأجناسها وتدانت صور النوع الواحد وصوره الأصلية المتسلسل عنها، ويعرف أن قلة عدد ما يعثر على بقاياه من الأنواع التي عمرت الأرض خلال العصور الأولى دليل على انحطاط تلك الأنواع، وأن كثرتها وتخالطها في العصر الثالث وأوائل العصر الرابع دليل على ارتقائها.
ووجد بعد ذلك في صخور ذلك العصر، وفي طبقة تالية آثار حيوانات ونباتات أكثر تركيبًا في بنيتها وطبيعتها وخصائصها من سابقتها التي كانت تعيش أثناء تكون الأراضي السلورية. فنباتاتها معدومة الزهر، ومنها أنواع لا تزال باقية حتى اليوم في بلاد الصين واليابان، ولها بها بعض الشبه، وإن كانت قد حدثت فيها فروق نوعية. أما الحيوانات فكانت كثيرة مختلطة منها المشععة والأسماك الصغيرة.
ولقد عثر الباحثون في درج البحث على كثير من الحلقات التي تربط بين بعض الأنواع وبعض. وذلك في طور ظهور الزواحف فإنها كانت كثيرة كبيرة الأحجام غريبة الخلقة والتكوين ذوات جثث ضخمة، وكانت تجمع بين صفات نوعين مختلفين من الأنواع مثل التماسيح والضفادع — أي المقعدات — فقد وجد نوع من الزواحف له رأس تمساح وبدن ضفدع. ومما ذكره سير «أفررد هوم» آثار حيوان حفري له تنوعات كثيرة اعتبرها العلماء حلقة تربط الزواحف بالأسماك. ويطلق عليها اسم «الاختوساوروس» وإليك وصفه عن دائرة المعارف: «اسمه كلمة يونانية مركبة من «اختيس» ومعناها سمكة و«سافروس» ومعناها ضب. وهي اسم لنوع من الزواحف البحرية الكبيرة من الكائنات الحفرية له جسم سمكة ورأس ضب، وخرطوم أشبه بخرطوم الدلفين، وأسنان كأسنان التمساح ومجازيف كمجازيف الحوت البحري. وسلسلته الفقرية كسلسلة السمك. وهو ذو جسم هائل وطبيعة كطبيعة الأسماك البحرية. وما وجد من العظام والحراشف مع آثاره يستدل به على أنه كان يقتات بالأسماك. وكبر عينه يدل على أنه كان ذا نظر حاد في الظلام، وهو يتنفس الهواء. ولذا كان يطلب فريسته بالقرب من سطح المياه. وهذه الزواحف الغريبة كانت بمنزلة حلقات تربط الزواحف بالأسماك. وقد ذهب البعض إلى أنه كان لها كبعض الأسماك خياشيم ورثات وذلك في بعض أوقات من حياتها على الأقل. وهو أجناس كثيرة» ا.ﻫ. ويستدل من صفاته على تعدد تنوعاته لشدة ما تراه من التقارب بينه وبين حيوانات بحرية لا تزال تسكن بحار عالمنا هذا. فهو يشترك والتماسيح في أسنانه، والأسماك في عمودها الفقاري، والحيتان في كثير من أوصافها الأخر …
وعثر في بقايا ذلك الزمان أيضًا على كثير من الزواحف ذوات الأجنحة المغشاة ومناقير كالطير. وعاصر هذه نوع من الحيوان لا يدخل في الزواحف ولا يلحق بالطيور، فاعتبره الباحثون حلقة وصل تربط بينهما. وكشف عن بقايا هذه الحيوان في جنوب أمريكا في أواخر القرن الماضي. أما أقدم بقايا طير حفري فوجدت فيما يلي ذلك بقليل. ويطلق على ذلك الطير الحفري اسم «الأرخيوبتريك»، وهو لا يختلف عن الطير في شكل قدميه وساقيه. أما جناحاه، فإنهما إن كانا مشابهين لأجنحة الطيور، إلَّا أنهما يختلفان عنها في بعض الجزئيات، وعلى الأخص في مؤخر عظم الجناح إذ ينتهي بأصابع تشابه أصابع القدمين، دليلًا على أن أسلافه كانت تمشي على أربع في عصورها الأولى. وذيله مكون من فقار واحدٍ مقسم تقسيمًا عجيبًا وينبت الريش في جانبيه. ورأسه أنسل لا ريش فيه، وعيناه واسعتان كبيرتان، وكذلك فمه. وله منقار يشبه منقار الطيور الحالية، ولكنه يمتاز عنها بأسنان صغيرة حادة متناظرة في كلا الفكين، وله بعض صفات الزواحف. وكان هذا العصر مبدأ تذليل الحيوان للهواء.
•••
•••
ولقد تدلنا المباحث الجيولوجية على أنه مضى على الأرض حين من الدهر — هو في الغالب فجر العصر الجيولوجي الثاني — لم تكن تأهل فيه بشيء من ذوات الفقار أرقى في سلم النشوء العضوي من الزواحف، فلم تكن لتقف على أثر للطيور أو ذوات الثدي. وفي أواسط ذلك العصر الجيولوجي عثر الباحثون في الصخور التي تكونت خلال ذلك العهد على آثار هياكل غير تامة ظن في الغالب أنها هياكل ذوات الثدي الأولى، ووقفوا على آثار أول طير حفري — الأرخيوبتريك — الذي مر بنا وصفه في أول الطبقات الجورية، ثم تكاثرت من بعد ذلك هياكل ذوات الثدي الأولى في تلك الطبقات، على الضد من ندرتها وعدم تميز هياكلها تميزًا تامًا فيما سبقها من الطبقات.
وقد يجد بعض الباحثين في تقدم ظهور هياكل ذوات الثدي في أول طبقات العصر الثاني على ظهور الطيور في الطبقات الجورية التي تليها برهانًا يحاولون به نفي الدليل الذي ينتزعه زعماء مذهب النشوء من تسلسل الصور خلال تكون طبقات الأرض. فذوات الثدي أرقى مرتبة من الطيور، وتقدم ظهورها في طبقات لم يسبق وجود اثر للطيور فيها، أمر يسوق إلى الشك بطبيعة الحال. ولكن إذا عرفنا أن لهياكل المقول بأنها من ذوات الثدي والتي عثر عليها في أول طبقات العصر الثاني، لم تكن كاملة تامة، بل كانت قطعًا متفرقة من هياكل مضت الأعاصير ببقيتها، غلب على ظن الباحثين أنها من ذوات الثدي الحقيقية. ثم فقدان الهياكل الكاملة التي يصح أن يقضى من طريق البحث فيها إن كانت من ذوات الثدي أم من غيرها من الزواحف، وإفساح المجال للظنون في هذا البحث والحكم على تلك الهياكل أهي من ذوات الثدي أم غير ذلك، كل هذه الاعتبارات تزعزع ذلك الاعتراض وتذهب بكثير من قوته. ورغم هذا فإن الطيور وذوات الثدي سلسلتين مختلفتين من سلاسل النشوء العضوي، وهاتان السلسلتان لا تلتقيان إلا عن نقطة واحدة هي رجوعهما في خطى النشوء إلى أصل من الزواحف يعود كل منهما إليه. فمما لا شك فيه أن الطيور تعود في نشوئها إلى فئة من الزواحف تأصلت عنها. وبرهاننا على ذلك كثير من الظاهرات التركبية والصلات المتبادلة بين الطيور والزواحف. تلك الصلات التي يجب أن نفرد لها بضعة أسطر لنظهر القارئ على حقيقة الرابطة التي تربط بين العالمين — عالم الزواحف وعالم الطير — من وجهة طبيعية صرفة، ومن طريق المشاهدات العامة التي يمكن لكل باحث أن يراها جلية في تركيب كل منهما.
(٣) التماثل التركيبي بين الزواحف والطيور
وفضلًا عن هذا فإنه بعد أن يبدأ دور الاختلاف الفعلي بين الجنينين، تجد أن بعض أعضاء من الطير كالقلب مثلًا، تنهج في النماء نهجًا يقارب نهج النشوء التكويني الذي يتبعه نماء القلب في أجنة الزواحف.
وهكذا إذا تابعت البحث في حالات الانقلاب الجنيني في الطيور والزواحف، لم تر بدًّا من القول بأن الطيور متسلسلة عن الزواحف بصفة مباشرة.
•••
ولنرجع إلى موضوعنا الأول. فقد وجد في حفريات الأراضي المتوسطة، وما تبعها من طبقات الأراضي الثنائية، فضلًا عما ذكرنا من قبل، بقايا ضباب وزواحف عظيمة الأحجام كبيرة الأبدان. وعضويات من ذوات الثدي. وقد أتى المقتطف في مجلده الثامن على طرف منها ننقله هنا إتمامًا لفائدة البحث، قال الكاتب: «ومن الحيوانات التي عاشت أيام تكون هذه الرتبة — الأراضي المتوسطة والثنائية — حيوانات من ذوات الكيس مثل الحيوانات التي تربى أجنتها في كيس تحت بطنها كالكنكرو والأبصوم العائشين في أستراليا وأمريكا في زماننا هذا. ودليلنا على ذلك وجود أسنان وأفكاك حيوانات صغيرة من جنس هذه الحيوانات مدفونة في طبقات تلك الصخور. وهي آثار أقدم الحيوانات المعروفة من ذوات الثدي التي عاشت على الأرض، وكان ابتداء الزمان الذي وجدت ذوات الثدي فيه أوائل الدور الثاني من الأدوار الجيولوجية. ا.ﻫ.»
على أن أقدم حيوان ثديي على رواية دائرة المعارف هو ما سموه «بالميكروسيت» وهي لفظة يونانية معناها «الحيوان الصغير المفترس». وعقب على ذلك كاتب الدائرة بقوله: «ولكنه إن كان أول الحيوانات الثديية المعروفة، فلا ينبغي أن نستنتج من ذلك أن رتبة الحيوانات الثديية لم تخلق قبل تكون الأراضي الثانية السفلي، فإنه ربما وجد منها شيء في الأراضي السابقة؛ لأن علماء الجيولوجيا طالما زعموا أن الزمن الثالث يتميز عن سواه بالحيوانات الثديية. ثم اكتشفت هذه الحيوانات في الأراضي الثانية السفلي ولذلك لا يمكن أن يوضع لخلق الحيوانات المتتابع على وجه الأرض قواعد راهنة.»
لهذا كانت آراء العلماء في ترتيب أنواع الحيوانات وتنوعاتها وفصائلها وحلقاتها اصطلاحية اجتهادية، لفقدان كثير من القياسات الصحيحة التي تمكنهم من وضع قواعد في ترتيب أجناس الحيوان تصح نتائجها بما يطابق الواقع تمام الانطباق. ولهذه المسألة رغم ذلك علاقة بغموض تاريخ العضويات ونشوئها خلال العصور التي تكونت فيها الطبقات. إلا أن امتياز الطبقات كل منها بكائنات تختلف في صفاتها وطبائعها عما تحويه طبقة أخرى، كان ذا أثر كبير في تقريب نظرية تتابع العضويات وتدرجها من الأذهان، وبدء عصر جديد في علم الحياة والحيوان والنبات.
•••
أما ما سبق القول فيه عن الحلقات التي تربط بعض الأنواع ببعض وتوجد بينها كالزواحف والطير مثلًا، فإننا نرى أن الحيوانات كانت تتباين وتتكاثر أنواعها وتنوعاتها بفضل قوانين وسنن طبيعية لم يكشف عن بعضها إلَّا في أواسط القرن الماضي. غير أنه ليس من الهين أن تجزم بأن تلك الأسباب التي يعزي إليها تغاير الأنواع كافية لنشوء بعض الأنواع من بعض. ذلك لأننا نجهل كثيرًا من الحقائق الطبيعية التي لا نستطيع بدون الكشف عن خباياها أن تحكم حكمًا مقطوعًا بصحة في مسألة نحن أحوج ما نكون فيها إلى المشاهد والاختبار. فنحن إن آمنا بتسلسل الأنواع فذلك لا يقوم دليلًا على أن الأسباب التي يعزو إليها علماء الحياة في الأعصر الأخيرة نشوء الأنواع تكفي وحدها لإحداث ذلك التسلسل. ولا يزال أمامنا كثير من العقبات واجب علينا أن نذللها قبل أن نؤمن بأن تلك الأسباب قد أحدثت هذا التسلسل المنظوم، وذلك التدرج التام الذي نلحظه في ترتيب الصور العضوية.
يتضح مما تقدم أن الحيوانات والنباتات قد نشأت متدرجة في حلقات من النشوء والتطور العضوي، وأن الطبيعة تنتخب منها ما يكون أصلح للبقاء، وتفنى كل الصور غير القادرة على التناحر، فتنقرض ليسد فراغها صور جديدة تلائم طبائعها وبنيتها طبيعة الحالات التي تحيط بها، وأن القوى الحيوية التي أثرت في عضويات العصور الأولى لا تنفك ماضية في تأثيرها حتى الوقت الحاضر. ولذا يقتضي القول بارتباط المبدأ الحيوي العام في العالم العضوي متشابكة حلقاته بين ضروب الكائنات الحية كافة. على أن الأنواع لا ينبغي أن تظهر في كل أدوار حياتها آخذة في التقدم والارتقاء وتغاير الصفات ذلك لأن كثيرًا من الأنواع قد تقف دون التغاير، وفي مثل هذه الحال تصبح غير قابلة لكسب صفات جديدة. ويعرض ذلك للأنواع غالبًا لدى ظهور صور جديدة أرقى منها تركيبًا وأمعن في الغلبة، بمثل ما عرض للأسماك لدى ظهور الزواحف، أو للزواحف عند تكاثر الطير، أو للطير لدى ظهور ذوات الثدي. فإنها أخذت في التناقص العددي وتولاها الوهن والانحطاط، فذهب الانقراض بكثير من صورها التي نجد بقاياها مستحجرة في باطن الصخور، وما لم يظفر به الانقراض في الزمان الماضي، لا محالة ظافر به في المستقبل، استنادًا على ما قدمنا من الاعتبارات. وهذا هو السبب الوحيد في وجود أنواع حفرية عديدة من نوع واحد في طبقتين مختلفتين من طبقات الأرض. وعلى ذلك كان وجود نوعين حفريين مختلفين في طبقة واحدة برهان مؤيد لمذهب النشوء وقهر بعض الأنواع بعضًا في معمعة التناحر على البقاء، وأن تتابع صور واحدة في طبقات متعددة من طبقات الأرض لا ينفي مذهب النشوء، كما يذهب إليه المؤيدون لمذهب الخلق المستقل.
•••
وبعد أن أحاط الباحثون بالحفريات علمًا، ووقفوا على الصلة التي تربط بعض فروع العلوم ببعض، كاتصال علم الجيولوجيا بما هو منطمر في الطبقات من صور العضويات المستحجرة، واتصال تلك الحفريات بمذهب النشوء، وما هو كائن بين هذا المذهب وبين علوم الحياة والحيوان والنبات واللغات والاجتماع وكثير من العلوم الأخر من الاتصال، وأمعنوا في دراسة ذلك بقدر ما وصلت إليه استطاعتهم حتى تسنى لهم أن يستجمعوا المواد الأولية التي بها أمكن الاستدلال على صحة المذهب. فوجدوا أن الصور سواء أكانت حفرية، أم حية تعمر الأرض في الزمان الحاضر، قد تعاقبت في الوجود الزماني متدرجة في أسباب الارتقاء. فلما فحصوا طبقات الأرض التي تحوي دفائن الحيوانات والنباتات المنقرضة، ظهر لهم أن بقايا هذه الحفريات تتقارب إلى الكمال كلما قرب عهد وجودها من آخر التكونات الثلاثية. ومن ثم عرفوا بالمشاهدة أن الحفريات كلما بعد زمانها كان الاختلاف بينها وبين الكائنات الحية اليوم كبيرًا، وكلما قرب زمانها كان الاختلاف بينها وبين الكائنات الحية ضئيلًا. وتبعًا لهذه السنة وضع لعلم الحفريات فرع جديد يعرف الآن في المصطلح العلمي بعلم العصور الحفرية.
وتعرف العصور الحفرية من أن الصخور التي تكونت في العصور الأولى من تاريخ الأرض لا تحوي إلا أصدافًا بحرية وعظام بعض الأسماك التي تباين الأنواع الحالية مباينة تامة. وعقب هذا الدور ظهور الزواحف ثم الطيور ثم ذوات الثدي، التي لم يكن يوجد لها من أثر في الطبقات التي وجدت فيها الأصداف والأسماك والحيوانات ذوات الكساء الكلسي، ولم توجد إلَّا في الصخور التي تلت هذه الرتبة مباشرة. ثم يتضح لنا من البحث في بقايا الطبقة التي تلت هذه أن الأسماك كانت قد تكاثرت واختلطت أنواعها وتعددت أشكالها. أما الطبقة التي تليها فوجد بها بقايا بعض الحيوانات ذوات الأرجل، وفي التي عقبتها بقايا حيوان أرقى من الأسماك مرتبة، ثم وجدت آثار الزواحف العظيمة، ثم الزواحف ذوات الأجنحة الغشائية، وهي تشبه أجنحة الخفافيش وتحلق في الهواء، ثم حيوان يعتبرونه الآن حلقة الوصل بين الطيور والزواحف، فكان نصفه يماثل الطير والنصف الآخر يماثل الزواحف، فلم يكن بزاحفة ولم يكن طيرًا، ثم حيوان آخر يمثل طيرًا كامل الصورة لم يزل عليه ريشه وهو «الأرخيوبتريك» الذي مر ذكره. كذلك قد وجدت في هذه الصخور بقايا كثير من الحيوانات الأخر، ويشبه أحدها آكل النمل الذي يعيش اليوم. ووجد فيما بعد ذلك بقليل حيوان يشابه فصيلة ذات الكيس التي سبق الكلام فيها، ثم حيوانات ثديية كاملة الأوصاف.
وعلل العلماء تناقص الزواحف وإمعانها في سبيل الانقراض بأن حيوانات أرقى منها مرتبة لا بُدَّ من أن تكون قد تغلبت عليها وقهرتها في معمعة التناحر على البقاء، ثم أمعنت الطبيعة في محاربتها حتى انقرض أكثرها. ثم أخذت الصور التي تغلبت على الزواحف في النماء والتكاثر — وهي من ذوات الثدي — فعظمت غلبتها وتم سلطانها. ووجد في العصر الأخير من العصور الحفرية — وهو الدور الذي تغلبت فيه ذوات الثدي على الزواحف — عظام القردة الأولى. فكأن القردة أرقى السلسلة الحيوانية المعروفة حتى اليوم في حفريات الأزمان الأولى. ولقد عثر في كهف من كهوف «جبال البرنييه» بفرنسا على صورة إنسان مستحجرة تقارب في الوصف التشريحي بعض القرود الراقية في عصرنا بعض الشبه. وذهب بعض الطبيعيين إلى أن عمرها لا يقل عن عشرين ألف سنة. وهذا التقدير إن كان كبيرًا، فإنه من المحقق أن تاريخها يرجع إلى أزمان أبعد من ذلك قدمًا.
ومما يؤيد مذهب النشوء، فضلًا عن تعاقب الأنواع وتدرجها في الطبقات متعاقبة، توارث الصور العضوية الصفة بعد الصفة، وتشارك التنوعات والفصائل المستجدة في الطبيعة في الأوصاف العامة، وانتقال الأوصاف إلى الأجناس التي تتوارث جموعها صفة ما من صفات أصولها الأولية. وليس من المحتمل، بل إنه مما ينافي بديهة العقل، أن يكون هذا التناسق الطبيعي التام في وجود العضويات وتتابعها في طبقات الأرض، عبثًا في صور الكائنات لا نستطيع تعليله تعليلًا علميًّا.
•••
لنا بعد ذلك كلمة وجيزة في فقدان الصور التي تربط بعض الأنواع ببعض وعدم تقاربها في العصور الجيولوجية.
نرى أن أكثر ما يكون التداني بين الأنواع التي تتقارب أزمان بعضها من بعض، لأن التشابه أكثر ما يكون بين الأنواع المتقاربة في الوجود الزماني، مما هو بين الأنواع التي تتباعد أزمانها. غير أن حلقات هذه السلسلة لا تظهر غالبًا بحيث ترتبط فيها الأنواع ارتباطًا يزيل كل شك، وينفي كل ريبة، في تسلسل بعضها من بعض، فتظهر كل الحلقات التي تربط المموث أو المستودون مثلًا بفيلة آسيا وأفريقيا في هذا الزمان. ولقد اتخذ معارضو مذهب النشوء فقدان الصور التي تربط بين الأنواع، سواء أكانت هذه الأنواع قد انقرضت أم لا تزال تعمر اليوم طرفًا غير مطروق من أطراف الأرض، لا يظهر معه معنى النشوء وظهور الصور متسلسلة في الوجود متتابعة في الزمان على سطح الكرة، وتوارث الخصائص خلفًا عن سلف.
وينحصر الرد على هذا الاعتراض في أن الطبقات الصخرية التي انطمرت فيها أحياء الأزمان الأولى وتحجرت فيها هياكلها على مر الأزمان قد تكونت من حتات صخور أخرى وأجزاء من الرمل وغيره كانت قد تكونت من قبل صخورًا ثم تحاتت. ففقدان الصور التي تربط الأنواع لا ينقص من نظريات النشوء التي أثبتتها المشاهدات العلمية والتجاريب؛ لأن الحلقات ذاتها لا يمكن أن تكون قد بقيت وحفظت هياكلها في حين أن الصخور التي انطمرت فيها قد تحاتت عند تحللها. وعلى الرغم من ذلك فقد وجدت حلقات تربط بين عوالم مختلفة تمام الاختلاف، مثل «الأرخيوبتريك» الذي يربط بين الطيور والزواحف. ووجدت في أوروبا آثار حيوان من الزواحف وصفه العلامة «هكسلي» فقال: «إنه كان يمشي قفزًا كبعض الطيور، وكان له ساقان وأسنان كالزواحف وعنق غير طويل.» ووجدت آثار كثير من الحيوانات التي يعتبرها العلماء حلقات تربط بين الأنواع المختلفة. فوجدوا آثار أصول الخيل عندما كان لها خمسة أصابع وجثة لا تزيد في الحجم على جثة الكلب العادي ومن ثم تقلبت في أطوار النشوء حتى كان منها الخيل الحالية. ورغم كل هذا فإن الحلقات التي تصل بين الأنواع قد يعتبرها كثير من العلماء أنواعًا قائمة بذاتها من جهة، ويعدونها حلقات وسطى من جهة أخرى؛ أي إن كل نوع من هذه الأنواع يعتبر نوعًا بالنسبة لصفاته الخاصة ولتوابعه التي تتحول عنه بالنشوء، وحلقة وصل تربط بين النوعين اللذين يصل بينهما.
ذكرنا من قبل أن تحتت الصخور قد أفقدنا كثيرًا من الصور التي نستطيع أن نتخذها برهانًا على تسلسل الأنواع. على أن هذا التحتت لا يمكن أن يتخذ وحده سببًا في فقدان تلك الصور الشتى التي لا نجد محيصًا عن الاعتقاد بأنها كانت موجودة خلال زمن من الأزمان ثم انقرضت. وخليق بنا أن لا نغفل عن أن الاضطرابات الأرضية والزلازل وطغيان الماء والأعاصير الطبيعية التي كانت تنتاب الأرض حينًا بعد حين، وتحول الأرض من يابس إلى بحر، ومن بحر إلى يابسة، كانت من أبلغ تلك المؤثرات التي ذهبت بقايا كثير من هذه الصور. فالصور التي غمرها البحر وقذف بها في طياته لا يمكن معرفتها، والبقاع التي صارت أرضًا بعد أن كانت بحرًا لا يوجد فيها صور جديرة باعتبار الباحثين، اللهم إلَّا بعض أصداف وبقايا أسماك شائعة في كثير من بقاع الأرض.
ولقد اتخذ كثير من معارضي مذهب النشوء فقدان الحلقة التي تصل ذوات الفقار باللَّافقارية سببًا من الأسباب التي تناقض هذا المذهب. والحقيقة أن فقدان هذه الحلقة كان مدعاة لتوارد الشبهات والريب على كثير من الباحثين، فإن انتظام الكائنات العضوية، سواء أكانت منقرضة أم باقية، في سلسلة يختلف طرفاها جد الاختلاف وتتشابه حلقاتها المتتابعة كلما قربت أحداهما من الأخرى، وتختلف كلما تباعدت أزمانها، لمن أقوي الدلائل على صحة مذهب النشوء. ذلك في حين أن فقدان تلك الحلقات يتخذ دليلًا ضد المذهب لا له. ولكن اليوم لا ينكر أحد من الباحثين وجود كثير من هذه الحلقات تربط بين كثير من الحشرات والهوام والحيوانات المفصلية، عدى حلقات أخرى تربط بعض ذوات الفقار ببعض، كما وجد ذلك في ذوات الثدي. وما زال العلماء يوالون أبحاثهم حتى أيقنوا بأن بين الحيوانات الدنيا حيوانات لها هيكل غضروفي يشابه العظم وليس عظمًا، وهنالك وجدوا الحلقة التي تربط بين ذوات الفقار واللافقارية، وسموا هذه الحيوانات بذوات الهيكل الغضروفي. ولكن أبحاثهم لم تتم حتى قام الأستاذ «باتن» من كلية «دارتموث» بأمريكا ونشر المطولات مثبتًا أن الحيوان المسمى «استرا كودرم» هو الحلقة التي تصل بين ذوات الفقار واللافقارية. وقد نشرت المقتطف عام ١٩١٣ مقالًا للأستاذ المذكور في هذا البحث ننقل منه طرفًا إثباتًا لما ذكرنا قال: «بعد أن نشر «داروين» كتابه «أصل الأنواع» حاول العلماء أن يبينوا كيفية نشوء الحيوانات الفقارية من الحيوانات العديمة الفقار، فكان لهم في ذلك مذاهب متعددة، إلا أنهم اضطروا إلى أن يفرضوا أنواعًا خيالية من الحيوان تصل بين ذوات الفقار وعديمتها. ولكنهم لم يتمكنوا من حل هذه المسألة ولا من تقريب حلها، وقد بطلت الآن كل مذاهبهم وآرائهم من هذا القبيل. غير أن بعض ما كانوا يفرضونه ويجيزونه من باب التوسع قد التبس بالحقائق في أذهان البعض، فلا يزالون يعتقدون صحته إلى يومنا هذا.
ولما أخفقت مساعيهم في هذا الوجه عدلوا عن البحث في أشكال الأعضاء وتركيبها ومقابلة بعضها ببعض لمعرفة كيفية نشوئها، لا سيما وأنه كان قد قام في نفوسهم أن الحيوان الذي نشأت منه ذوات الفقار الأولى، كان صغيرًا رخو القوام لا يحتمل أن يترك أثرًا متحجرًا، فوجهوا همهم إلى البحث في الخلايا الحيوانية وإجراء التجاريب التي من شأنها أن تحدث تغييرًا في النوع الواحد من الحيوان.
إلا أنهم أغفلوا أمر الحيوانات المفصلية — وهي الحشرات والحيوانات القشرية والعناكب — في أبحاثهم هذه، ولم يوفوها حقها من البحث والنظر فيها، مع أنها أرقى الحيوانات العديمة الفقار.»
ثم قال الكاتب: «ومعلوم أن العناكب التي تعيش على اليابسة الآن نشأت من عناكب مائية كانت تعرف بعقارب البحر وعاشت قبل ظهور الحيوانات الفقارية بعصور طويلة جدًّا وبقيت حتى ظهور ذوات الفقار الأولى. ولما كانت عقارب البحر آخذة بالتلاشي وذوات الفقار آخذة بالازدياد ظهرت أنواع من الحيوان تعرف ﺑ «الاستراكودرم»؛ أي ذوات الجلد الصوفي. ولم يعرف شيء كثير عن «الاستراكودرم» فكانت بعض أنواعها تعد في ذوات الفقار، وبعضها تعد في عديمتها، وكان البعض منها أيضًا يشبه عقارب البحر في الظاهر. وأخيرًا أثبت «هكسلي» و«لانكستر» وغيرهما من العلماء أنها جنس من السمك. فنسي عند ذلك أمرها حتى إن كثيرين من علماء الحيوان أمسوا وهم يجهلون وجودها جملة.
ومن الغريب أن لا يفطن أحدٌ إلى أن «الاسترا كودرم» يمكن أن تكون من ذوات الفقار التي ظهرت أولًا، أو أن ذوات الفقار الأولى نشأت منها. فإنها تختلف عن السمك وعهد ظهورها قديم جدًّا. والسبب الأكبر لغفول العلماء عن هذا الأمر ما كانوا يعتقدون به من أن ذوات الفقار الأولى لم تكن ذات هيكل قوي من العظام أو من القشر، أي إنها كانت مثل القرش — كلب البحر — أما «الاسترا كودرم» فكان لها درع قشري. فإما أن يكون علماء ذلك العصر وهموا في بعض الحقائق التي بنوا حكمهم عليها، أو أنهم غلطوا في استنتاج الحكم مما عرفوه. وهنا نتساءل: ألا يمكن أن تكون «الاسترا كودرم» نوعًا من الحيوان متوسط بين السمك وعقرب البحر؟ فإنها تشبه الاثنين وكان ظهورها في العهد الذي نشأت فيه ذوات الفقار من عديمته. وإن كانت من الأنواع التي تدرج فيها الحيوان حتى أصبح ذا فقار أيمكن تعليل الشبه بين العناكب كما هي اليوم وبين الحيوانات الفقارية بنشوء الاثنين عن أصل واحد؟ ا.ﻫ.»
ولقد عدد الأستاذ «باتن» بعد ذلك البراهين القاطعة على صحة مذهبه إذ قابل بين هذا النوع والأنواع ذوات الفقار القريبة منه وأثبت تحول بعضها عن بعض بأدلة اقتطعها من صفاتها الجنسية، وهي الدعامة التي بنى عليها علماء الحيوان أبحاثهم في إثبات تحول الأنواع على مر الأزمان. وبذلك تتقوض دعائم الاعتراض الذي يبنيه المعارضون للنشوء على فقدان الحلقات التي تربط بين بعض الأنواع وبعض، ولا سيما الحلقة التي تربط ذوات الفقار باللافقارية.
ولا مشاحة في أن أول ما نبه الأذهان إلى القول بمذهب النشوء ما ألفاه الباحثون من تدرج صور الحيوانات والنباتات على هذا الترتيب المحكم، ومعرفة أن السبب في مشابهة الحيوانات الحالية لما انقرض خلال العصور الغابرة، نتيجة تسلسلها بعضها عن بعض خلال تكون طبقات الأرض، وأن حيوانات كل زمن من الأزمان قد ورثت صفات الصور التي سبقتها في الوجود. ولا تزال هذه ماضية في تأثيرها المتتابع كما كانت في الزمان الخالية.
فهل خلقت الأنواع مستقلة؟ وهل كشفت علوم الجيولوجيا عن بطلان القول بقدم الأنواع، أي بتسلسلها، كما يقول السيد الأفغاني في رسالته؟ ذلك ما نترك الحكم فيه للقارئ الخبير.