المذهب الدارويني في العصر الحاضر
قد يقول الذين يعتقدون بالخلق المستقل، وانفصال وحدة المخلوقات، أن الخالق قد لذ له أن يحدث تلك الحالات التي نلحظها في تكوين العضويات، واضعًا في بعض الصور الأصلية التي خلقها، تراكيب تجانس التراكيب الخاصة ببعض الصور الأخر. غير أن هذا القول لا يدل على شيء، سوى أن يعيد القائلون به الحقيقة الواقعة، متخذين من لغة الطبيعة أسلوبًا غير أسلوبنا، وبلاغة غير بلاغتنا.
***
يقول السيد الأفغاني في «رسالة الدهريين»: «فإن سئل «داروين» عن الأشجار القائمة في غابات الهند والنباتات المتولدة فيها من أزمان بعيدة لا يحددها التاريخ إلَّا ظنًّا، وأصولها تضرب في بقعة واحدة، وفروعها تذهب في هواء واحد، وعروقها تسقى بماء واحد، فما السبب في اختلاف كل منها عن الآخر في بنيته وشكله وأوراقه وطوله وقصره وضخامته ورقته وزهره وطعمه ورائحته وعمره، فأي فاعل خارجي أثر فيها حتى خالف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء؟ أظن أن لا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه.
وإذا قيل له هذه أسماك بحيرة أورال وبحر كسبين مع تشاركها في المأكل والمشرب، وتسابقها في ميدان واحد، نرى فيها اختلافًا نوعيًّا وتباينًا بعيدًا في الألوان والأشكال والأعمال، فما السبب في هذا التباين والتفاوت؟ فلا أراه يلجأ في الجواب إلَّا إلى الحصر «بالتحريك: العجز عن الكلام.
وهكذا لو عرضت عليه الحيوانات المختلفة البنى والصور والقوى والخواص وهي تعيش في منطقة واحدة ولا تسلم حياتها في سائر المناطق، أو الحشرات المتباينة في الخلقة، المتباعدة في التركيب المتولدة في بقعة واحدة، ولا طاقة لها بقطع المسافات البعيدة لتجلو إلى تربة تخالف تربتها، فماذا تكون حجته في علة اختلافها.
بل إذا قيل له أي هادٍ هدى تلك الجراثيم في نقصها وخداجها وأي مرشد أرشدها على مقتضى الحكمة وإيداع كل منها قوة حسية، ونوطها بكل قوة في عضو إزاء وظيفة، وإيفاء عمل حيوي، ما عجز الحكماء عن درك سره، ووقف علماء الفسيولوجيا دون الوصول إلى تحديد منافعه؟ وكيف صارت الضرورة العمياء معلمًا لتلك الجراثيم، وهاديًا خبيرًا لطرق جميع الكمالات الصورية.» ص٢٦ من «رسالة الدهريين».
•••
هذا نموذج من كلام السيد الأفغاني، وكله دليل ناطق وحجة ناهضة على جهله الجهل التام بالمبادئ الأولية التي بنى عليها العلامة «داروين» مذهبه من أصل الأنواع. فإن أول ما أشع في عقل «داروين» من نور الحق كان ما ألفاه من اختلاف صور الأحياء الآهلة بمأهل معين مع تناسق الظروف المحيطة بها تناسقًا ظاهريًّا. وكان الأفضل بالسيد الأفغاني أن يتريث في نقده حتى يطالع شيئًا مما كتب معلم القرن التاسع عشر، في «أسباب التغاير» أو في «التناحر على البقاء» أو في مختلف صور الانتخاب طبيعيًّا ولا شعوريًّا وصناعيًّا، ليعلم على الأقل إن كان اختلاف الصور العضوية يصح أن يتخذ دليلًا على نقض المذهب أو إثباته. على أننا نتحاشى أن نتورط في نقد السيد الأفغاني إلى الكلام في أسباب التغاير. فذلك أمر فرغ منه العلامة «داروين» في كتابه أصل الأنواع.
وكنت أود أن أتكلم بإيجاز في حقيقة الاستيطان، وتوزع بقاع الأرض على الكائنات بمقتضى الخصائص والبيئة، لولا أن العلامة «داروين» قد خص هذا الموضوع الكبير بالفصلين الثاني عشر والثالث عشر من كتابه أصل الأنواع، فكفى كل باحث مئونة التساؤل على الوجه الذي تساءل به السيد الأفغاني.
أما وأن غرضنا من هذا الكتاب ينحصر في الرد على الأفكار التي ذاعت من طريق دكتور «شميل» والسيد الأفغاني، وكان لها تأثير على المذهب في البيئات العلمية في مصر عامة، وفي البيئات الدينية خاصة، فإنا نرجع عن الكلام فيما فصل «داروين» في كتابه أصل الأنواع، ونكتفي بأن نقصر هذا الفصل على الكلام في موقف الداروينيين إزاء نظرائهم الذين يريدون أن يرجعوا بمذهب التطور إلى مبادئ «لامارك» أو إزاء أولئك الذين يقولون بأن نظرية النشوء على قواعد الانتخاب الطبيعي فاسدة، لنسد بذلك نقصًا قد يأخذه علينا بعض الناقدين، لو أنا أخرجنا هذا الكتاب من غير أن نلم فيه بمجمل الآراء الذي ذاعت بعد عهد معلم القرن التاسع عشر.
أما من الوجهة الفلسفية الصرفة، فلا نوجه للسيد الأفغاني، ومن هم على شاكلته، من نقد، أكثر من القول بأن علة أخطائهم راجعة إلى أنهم يحاولون أن يطبقوا وجهة النظر الذاتية على ظاهرات الطبيعة التي يستعصى علينا أن نبلغ منها بنظرة حقة إلَّا إذا انتحينا في بحثها وجهة النظر الموضوعي الصرف.
أما وقد بلغنا من البحث هذا المبلغ، فإنه لا يسعنا أن نمضي فيه من غير أن ننير أمامنا السبيل ببحث في الوراثة هو قاعدة كل بحث تناول مذهب النشوء بعد العلامة «داروين». ثم نعود من بعد ذلك إلى الكلام فيما نحن آخذون به من سبيل في موضوعنا هذا، عامدين في كل ذلك إلى استخلاص زبدة المباحث الحديثة بأسهل طريق مستطاع، غير ناظرين إلى شيء اللهم إلَّا إلى تقرير الحقائق على أنها حقائق ثبتت صحتها على قدر ما في العلم الإنساني في العصر الحاضر من مؤهلات لإثباتها.
مباحث الوراثة في العصر الحديث
ولد «غريغور جوهان فون مندل» في ٢٢ يوليو سنة ١٨٢٢ في بلدة «هينز-ندورف» في سيليزيا النمسوية. وفي عام ١٨٤٤ التحق بوظيفة دينية في بلدة «التبرون». وفي عام ١٨٤٧ صار قسيسًا. ثم أصبح معلمًا في مدرسة «برون» الجامعة يلقن العلوم الطبيعية، وظل في وظيفته تلك من عام ١٨٥٣ إلى عام ١٨٦٨ حيث عين إذ ذاك كاهنًا في الدير الذي كان تابعًا له.
•••
يجب أن نعي بادئ ذي بدء، إذا ما أردنا أن نلم بطرف موجز من مذهب مندل في الوراثة، أن كل حيوان أو نبات وجد في هذه الدنيا من طريق التناسل الزوجي، مدين بوجوده إلى اختلاط طبيعتين راجعتين إلى تزاوج أبويه الأولين. ولا يجب أن ننسى أيضًا أن صفة ما من صفات الأبوين، لا بُدَّ من أن تظهر موروثة في نسلهما الأول، وأن الصفة التي تليها في الغلبة، حيث تقصر عن الظهور في أول نسل، تبقى كامنة في تضاعيف الفطرة العضوية. فأسرة ما مثلًا، كان لجدِّها الأول صفة من الصفات الظاهرة فيه، إن خفيت في أولاده، فلا تعود إلى الظهور في أحفاده، وذلك مثبت لحقيقة مذهب «مندل» بما لا يترك مجالًا للريب في توارث الصفات جيلًا بعد جيل على مقتضى قانون ثابت. وقد جرت عادة الباحثين في هذا المذهب أن ينظروا في أي فرد من أفراد الحيوانات والنباتات كأنه مجموعة صفات متوارثة. فهل هم في ذلك محقون؟ إليك بيان ما حدى بهم إلى هذا الاعتقاد.
•••
ولقد صدقت هذه القاعدة على كثير من الأنواع التي تناولها العلماء بالبحث، اللهم إلَّا حالات بلغت من الندرة حدًّا لا يعتد به. وربما تكون راجعة إلى عدم التحقق التام من نسب الأفراد التي تناولتها التجاريب، أو إلى أسباب طبيعية لا تزال نجهلها، كما هي الحال في أغلب مشاهداتنا التي نقع عليها في مثل هذه المباحث الغامضة.
•••
عرفنا من قبل أن أفراد «ج أول» تكون كلها رمادية اللون. فما السبب في ذلك؟ سببه أن الخلايا الجرثومية التي أنتجت أفراد هذا الجيل في الأبوين الأولين كان منها ما يحمل كروموسومات تمثل اللون الرمادي، ومنها ما يمثل الشقرة. وإذ كانت الكروموسومات التي تمثل اللون الرمادي أكثر غلبة من الكروموسومات التي تمثل الشقرة، غلب ظهور اللون الرمادي في هذا الجيل. ذلك في حين أن الكروموسومات التي تمثل الشقرة لا تتلاشى، بل تبقى متنقلة من هذا الجيل إلى الجيل الذي يليه وتتكاثر بعضها من بعض، حتى إذا ما تزوج فردان من «ج أول» كمنت فيهما تلك الصفة، سنحت الفرص لخلايا تغلب فيها الكروموسومات التي تمثل الشقرة لكي تنتج أفرادًا حائزة لتلك الصفة في «ج ثان».
•••
فإذا صرفنا على الحبوب الصفراء الأصلية اسم نافرة؛ أي (ن) وعلى الحبوب الخضراء اسم منفورة أي (من) حصلنا من استنباتها على جيل مولد؛ أي «ج أول» يمكننا أن نشير إليه اصطلاحًا بهذه الحروف (ن) (من) واضعين «من» بين قوسين لنشير بذلك إلى أنه منفور بالنسبة إلى (ن). إن الجيل الأول يكون مشابهًا في الظاهر إلى الأب النافر، غير أنه إذا توالد أنتج (٣ن + ١ من)؛ أي ثلاثة أفراد فيها صفة الأب النافر، وفرد واحد فيه صفة الأب المنفور. في حين أن ثلاثة الأفراد الحائزة لصفة الأب النافر؛ أي أل (٣ن) إذا استولدت أو استنبتت رأينا أنه يمكن فصلها إلى (١ن + ٢ن (من)) بحيث يكون (١ن) نافر صرف؛ أي ينتج عددًا غير محدود من الأجيال الحائزة لصفة الأب النافر، في حين أن الفردين المشار إليهما بحرف (٢ن (من)) إذا استولدا أو استنبتا يعيدان السيرة الأولى؛ أي ينتجان (٣ن + ١ من) وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.
ويمكننا أن نشير إلى هذا الأمر بالشكل الآتي:
* ذكر الفيروز أبادي ص٢٨٨ مجلد ثامن من قاموسه ما نصه: «نَغِل الأديم كفَرِح فهو نَغِلٌ فسد، … في الدباغ، وأنغله، والاسم النُّغلة بالضم، و… الجرح فسد، و… نِيَّتُهُ ساءت، و… قَلبُه عليَ ضَغِنَ، و… بينهم أفسد ونَمَّ، وجوزة نَغِلَة متغيرة رَنِخَة. ونغل المولود ككَرُم نغولة فسد.» فهذا يؤيد أن النغولة في النسل الفساد، وهو قريب من كلمة «هيبردزم» فصُرفت كلمة نغل وأنغال على كلمة «هيبرد» الإنجليزية وزنًا على بطولة وأبطال. ومعنى مادة «هيبردزم» كما أورده أصحاب المعاجم الكبرى في اللغة الإنجليزية الخروج عن الجادَّة والإفراط وتجاوز الحدود. ويطلقها الطبيعيون على التولدات التي تنتج عن تلاقح نوعين من الأنواع تتباعد أنسابهما سواء أكان ذلك في الحيوان أم النبات. وهي تختلف عن المسوخ؛ أي شواذ الخلق التي تنتجها التنوعات أو الأنواع المختلفة المنتسبة إلى جنس بعينه. وتُصرف في مباحث الوراثة على أفراد الجيل الناتج عن تلاقح أفراد يحوز كل من زوجيها — الذكر والأنثى — صفتان إحداهما تنفر الأخرى.
وفي كل هذا تقع إشارة (ن ن) للأفراد النافرة الصرفة المولدة عن الزوج الأول، وإشارة (من من) للأفراد المنفورة الصرفة وإشارة ن (من) للأفراد النافرة المختلطة الطبيعة، أي التي تظهر بصورة الأفراد النافرة وتكمن فيها الصفة المنفورة.
•••
ولقد أجريت تجاريب عديدة لمعرفة الصفات النافرة والصفات المنفورة ومقدار أثرها في الصفات الأخر كطول الشعر، أو نعومة الفرو، فاستبان أن قصر الشعر في «خنازير غينيا» صفة نافرة، وأن طوله صفة منفورة، وأن الصفات «المختلفة» قد تتوراث مستقلة إحداها عن الأخرى، أي إن توارث صفة من الصفات، لا يستلزم توارث الأخرى، ولا أن توارث إحداهما يوجب ضياع الأخرى.
إن الأمثال التي أتينا على ذكرها فيما سبق من الكلام في الإلمام بمذهب مندل، لم يشتغل بها مندل خاصة، بل هي أمثال جاء بها بعض الباحثين من عندياتهم. أما وقد أوجزنا شرح مذهب هذا البحاثة الكبير، فالواجب يقضي علينا بأن نلم بشيء من التجاريب، ونشفعها بمثال من النسب الرياضية التي استبانت له ولغيره في بحث هذا الموضوع الخطير. ولأجل أن نفصل المسألة تفصيلًا وافيًا بغرض الباحث، يجب أن نأتي على طرف موجز فيما يقصد الباحثون في الوراثة من اصطلاح «السلالات الصحيحة» في الأنسال التي لا تتناولها أبحاثهم وتجاريبهم.
ولقد احتفظ «جوهانسن» بالناتج من كل من التسع عشرة صنفًا التي اختارها ففصل بين نتاج بعضها وبعض بحيث استطاع أن يفرق بين مجموع التنوعات محتفظًا بتسعة عشرة سلالة صحيحة. فلما أن تابع دراسة كل من هذه السلالات استبان له أن لكل منها متوسط خاص في حجم الحبة الواحدة ونسبة معينة في اختلاف المقاس، وأن مقدار قابلية التغاير في كل من السلالات كبيرة، حتى إنه قد يتعذر على أي باحث مهما أوتي من بسطة العلم وقوة الفراسة، أن يعرف بأي السلالات يلحق أية حبة من حبات هذا الفول، إذا ما عمد إلى بحثها منفردة بذاتها؛ لأن الاختلافات الواقعة بين حبات كل سلالة بعينها كانت أبين أثرًا من الاختلافات التي كانت واقعة في متوسط الحجم بين سلالتين متفرقتين. فكان متوسط الوزن يختلف بين ٣٥١ و٦٤١ ملليجرامًا ونسبة اختلاف المقاس بين ٦٤ و١٠٩ ملليمترًا، ولقد فرز «جوهانسن» حبات كل سلالة صحيحة على حدتها بحيث جعل كلًّا منها أقسامًا كل قسم منها متساوٍ في حجم حباته، وزرع كل قسم منها بمفرده ثم وزن الناتج من كل قسم منها ليحقق ما إذا كان التغاير الذي يلحق الحجم في حبات كل «سلالة صحيحة» متوارثًا أو غير متوارث. فكانت نتيجة أبحاثه في السلالة (ب) وهي التي قسم حباتها بحسب أحجامها كما يأتي:
متوسط حجم الحبوب الأصلية | متوسط حجم الحبوب الناتجة |
---|---|
٣٥٠–٤٠٠ ملليجرامًا | ٥٧٢ ملليجرامًا |
٤٥٠–٥٠٠ ملليجرامًا | ٥٣٥ ملليجرامًا |
٥٠٠–٥٥٠ ملليجرامًا | ٥٧٠ ملليجرامًا |
٥٥٠–٦٠٠ ملليجرامًا | ٥٦٥ ملليجرامًا |
٦٠٠–٦٥٠ ملليجرامًا | ٥٦٦ ملليجرامًا |
٦٥٠–٧٠٠ ملليجرامًا | ٥٥٥ ملليجرامًا |
وهذه النتيجة تدل واضح الدلالة على أن حجم الحبوب في «السلالات الصحيحة» غير متوارث. لأن هذه الأرقام تدلنا على أن الناتج من أصغر الحبوب حجمًا كان مساويًا في الوزن تمامًا للناتج من أكبرها حجمًا. ولقد صدقت هذه القاعدة على كل التجاريب التي أجراها «جوهانسن» في السلالات التسعة عشرة التي اختارها. وفضلًا عن ذلك فإن تجاريب أخر تناولت أوصافًا عدا هذه فلم تَعْدُ الواقع في غيرها. فثبت إذ ذاك لهذا الباحث أن صفات الأب لا تساق إلى الظهور في نسله، بل إن الأنسال على الضد من ذلك قد ظهرت في كل الحالات مسوقة إلى الاحتفاظ بمتوسط صفات «سلالتها الصحيحة» التي تتبعها وأصولها. وجرب كثير من الباحثين في عضويات مختلفة فكانت النتيجة واحدة وجاءت مؤيدة للحقائق التي ذكرناها آنفًا، والظاهر أن هذه القاعدة مقصورة على الأعقاب التي ينتجها عادة أب معين.
أما الأسباب التي تحدث تغايرات جُلَّى في «السلالات الصحيحة» فالسواد الغالب من الباحثين يرجعونها إلى تأثير البيئة واختلاف حالاتها، وإلى موضع الحبة نفسها من ساق النبت ذاته، وإلى الزمان الذي تتكون فيه، مضافًا إلى ذلك الظروف الطبيعية التي تحيط بالنبات خلال نمائه طوال أيام عمره، إلى غير ذلك من الأسباب. ونستبين من ذلك أن الفروق التي تظهر بين بعض أفراد «السلالات الصحيحة» وبعض، ترجع إلى طبيعة الصفات المكتسبة التي يغلب على ظن الباحثين أنها غير وراثية.
إن البحث في السلالات الصحيحة ووقوف الباحثين على الكثير من قواعد الوراثة فيها قد غير معتقد العلماء في الوراثة عامة. كان الاعتقاد السائد من قبل أن وقوع التباين والتغاير قاعدة عامة تخضع لها الكائنات العضوية في كل حالة من الحالات، وأن البقاء على حالة واحدة، أو بالأحرى ثبات الصور العضوية على صفات معينة، أمر مخالف للسنن الطبيعية العامة. وظل هذا الاعتقاد سائدًا في الأذهان مطبقًا على كل ناحية من نواحي الأبحاث الطبيعية، حتى بان للناس أن السلالات الصحيحة في الواقع ثابتة، وإن كان ثباتها على صفات بعينها غامضًا لدى النظر فيها لأول وهلة، وأن التغاير لا يقع على أفرادها إلَّا كشذوذ عن قاعدة طبيعية سداها الثبات التام. غير أن النظر الصحيح يحملنا على القول بأن وقوع هذا الشذوذ يدل على وجود عنصر طبيعي آخر في السلالات الصحيحة يجب أن يرجع في أصله إلى سنة طبيعية قد تخفى علينا حقائقها في العصر الحاضر؛ لأن كلمة «مصادفة» و«شاذ» اصطلاحان مجازيان يعبران عن عجزنا عن معرفة تلك الأسرار الخفية التي تخضع لها الكائنات العضوية في حالتي ثباتها وتغايرها. ولعمرك كيف يسلم العقل بأن الشذوذ عن قاعدة لا يرجع إلى سبب خفي يهوش، إذا ما تهيأت له فرص التأثير في طبائع الكائنات، تأثير القاعدة الأساسية، أو التي نظن أنها أساسية. هذه الأسباب تسوقنا إلى الاعتقاد بأن الشواذ في قواعد الوراثة الخاصة بالسلالات الصحيحة تدل على أن سرًّا خفيًّا يؤثر فيها تأثيرًا قد يرجع إليه قسط من التغاير الوصفي الذي لحق الكائنات العضوية خلال كل الأدوار الجيولوجية التي عمرت فيها العضويات سطح الكرة الأرضية.
كذلك ساد الاعتقاد من قبل بأن صفات العضويات قد تظل على حالة من التغاير مستمرة، وأن الانتخاب في مستطاعه أن يستحدث في أي طرف من أطراف النظام العضوي تغايرات وصفية في كل جزء من أجزائه بشكل غير قابل للتناهي، أو كما يقولون إلى حدٍ غير محدود. وهذه النظرية ذاتها هي التي اعتمد عليها العلامة «داروين» من قبل وبنى عليها أساس نظريته التي علل بها تغاير الحيوانات والنباتات تحت تأثير الإيلاف. ولكن ظهر فيما بعد أن الانتخاب العام قد أدى إلى نتائج تضاد الاعتقاد بالتغايرات غير المحدودة، حيث ظهر من استنبات بعض الأنواع المزروعة وغيرها أن استعدادها للتغاير محدود إلى حدٍ بعيد.
يجب أن نعي بداءة ذي بدءٍ ما يحدث في تولدات دواجننا، حيوانًا كانت أم نباتًا، من التغايرات العرضية والتباينات الفردية، وأن نسبة ما يطرأ على الحيوانات والنباتات من التغاير بتأثير الطبيعة الخالصة، أقل مما يطرأ عليها بمؤثرات الإيلاف. كذلك لا يغرب عن أفهامنا ما للملكات الوراثية من القوة والأثر البين. ولا جرم أن النظام العضوي يقبل التشكل إلى حد ما بتأثير الإيلاف، غير أن الإنسان بقوته المفردة لا يستطيع أن يكسب الدواجن من طريق مباشر، ما نلحظه فيها من قابلية التغاير، كما أبان عن ذلك «هوكر» و«أساجراي». كذلك ليس في مكنته أن يحدث التنوعات ولا أن يمنع حدوثها، بل هو قادر على أن يحتفظ بها ويضاعف عدد ما قد ينتج منها لا غير.
«ولقد أخطأ بعض الكتاب فهم المقصود من «الانتخاب الطبيعي»؛ بل اعترضوا عليه. وظن البعض الآخر أنه السبب الذي ينتج الاستعداد للتغاير مع أن تأثيره مقصور على حفظ التغايرات التي تظهر في العضويات وتكون مفيدة لها في حالات حياتها.
من هذا يظهر جليًّا أن «داروين» يجعل ظهور أثر الانتخاب في الكائنات مرهون على ظهور التغايرات في صفات الصور الحية. غير أنه لم يبحث في الكيفية التي تظهر بها هذه التغايرات، وذلك ما بحثه «دي فريس» فوجد أنها تظهر فجأة بين فترات الزمان. ولكن كلًّا من «داروين» و«دي فريس» على جهل تام بحقيقة تلك السنة الخفية التي تسوق إلى ظهور التغاير في العضويات، سواء أكانت محدودة أم غير محدودة، تدرجية أو فجائية.
مما سبق نعرف أن نظرية السلالات الصحيحة التي أدت إلى البحث فيها نظريات «مندل»، ذات قيمة كبيرة من الوجهة العملية والعلمية. على أن اختلاف الرأي وغموض أوجه التدليل في كثير من مباحث الوراثة تحدث في العقل حالة شاذة تدفعه دائمًا إلى التفكير والاستعماق في التأمل.
الخلاف حول مذهب «داروين»
إن نظرية «داروين» في النشوء بالانتخاب الطبيعي قد تناوحت من حولها عواصف الفكر منذ أن ولدت حتى اليوم. فلا رجال العلم تقبلوها بقبول حسن، ولا رجال الدين عرفوا لها قيمتها الحقيقية، كنظرية علمية، أخص ما تدل عليه من الأشياء أن لذلك النظام الشامل الذي وصفه العلامة «داروين» أتم وصف وأمتعه، عقلًا مدبرًا أو إرادة حرة وضعت تلك القوانين التامة التي تحكم في نشوء صور الأنواع وتطورها، وتركتها تصرف عالم الحياة بما سبق به العلم القديم.
ولقد بلغت حملة دكتور «باتسون» على نظرية النشوء غاية ما يمكن أن تبلغ حملة علمية من التأثير على مذهب قلب وجه العلم والفلسفة في ثلاثة أرباع قرن من الزمان. فإن دعوة ذلك الباحث قد امتدت إلى نواحٍ من أوروبا، وكانت على أشدها في ولايات أمريكا المتحدة وكندا، حتى إن ولاية «كانساس» قد أصدرت قانونًا يحرم على جامعاتها تدريس مذهب النشوء وبثه في عقول طلابها.
أما إذا أردنا أن نناقش تلك المزاعم التي يروجها «باتسون» والذين يشايعونه في الرأي، فإن آمن سبيل إلى ذلك، هو أن نرجع إلى كتاب أصل الأنواع لندرس فيه تلك النظرية الفذة التي وضعها العلامة «داروين» في أواسط القرن الفارط.
شرح «داروين» في الفصل الأول من كتابه «أصل الأنواع» الأسباب التي تسوق إلى تغاير الأنواع الداجنة والنباتات المزروعة وقابليتها للتغاير واستعدادها للتطور. وتناول في الفصل الثاني مسألة تغاير الأنواع تحت تأثير الطبيعة، وأشار إلى أن «الأصوليين» الذين يقولون بأن لكل نوع أصل مخلوق عنه تكاثر وذاع، يعترفون اعترافًا حقًّا بطبيعة توابع الأنواع والتنوعات ولا يعتبرونها إلَّا صورًا مشتقة بالتغاير عن الصورة الأصلية، وأن وضع فروق تفصل بين توابع الأنواع والأنواع غير مستطاع في الواقع؛ لأن الصورة التي يعتبرها باحث نوعًا قد يعتبرها غيره تنوعًا أو نويعًا.
ولقد صرح العلامة «داروين» بأن اصطلاح «التغاير» اصطلاح غامض بعيد عن الدقة والضبط في التعبير عن حقائق العالم الطبيعي فإنه قد يعني به شذوذ خلقي، أو انحراف عن الجادة الطبيعية التي تكون للصور القياسية. وقد يدل على مجرد تغاير غير ذي أثر كبير في الفصل بين صور العضويات. وقد يدل على فروق تكفي في نظر بعض الباحثين أن تفصل فصلًا تامًا بين الصور في النوعية.
على أنه لم يقف عند هذا الحد، بل أبدى رأيًا في أن تلك الشواذ التي قد تظهر في الدواجن من المستطاع أن تستحيل تدرجًا إلى تنوعات صحيحة الأوصاف، بقبولها تلك الخواص التي جعلتها في حيز المسوخ الشاذة وبتوارثها عددًا من الأجيال. غير أنه لم يجعل ذلك الاحتمال أساسًا من الأسس التي بنى عليها مذهبه العظيم. بل رجع إلى صورة أخرى من صور التغاير التدرجي، وهذا عنده من أكبر مقومات مذهبه. فقال بأن تلك التغايرات التافهة التدرجية التي تطرأ على صور العضويات قد تستحيل تدرجًا وعلى مر أزمان طويلة متباعدة، إلى فروق وانحرافات تفصل بين التنوعات الأولية، ثم تزداد فتفصل بين التنوعات الصحيحة، فإذا زادت عن ذلك أصبحت فاصلًا بين توابع الأنواع والأنواع.
وفي الفصل الثالث تكلم في «التناحر على البقاء» الذي هو رهن على ازدياد عدد أفراد الأنواع زيادة رياضية بمقتضى التناسل، وأبان فيه عن أن كل فرد من الأفراد امتاز بشيء من الصفات التي تجعله قادرًا على أن يقهر غيره في معمعة ذلك التناحر، يكون أصلح للبقاء. ومن أجل أن يجعل لنتيجة هذا القانون الطبيعي أثرًا مستقلًّا عن مقدماته وضع له اصطلاح «الانتخاب الطبيعي».
أما الفصل الرابع فقصره على التوسع في شرح الانتخاب الطبيعي، وأبان فيه عن حقيقة كبيرة إذ قال بأنه من أجل أن يقع تغاير ذو بال على نوع من الأنواع المبدئية الآخذة في أسباب التكون، فإن أي تنوع من تنوعاته متى تكوَّن، فلا بدَّ من أن يمضي خاضعًا لقبول تغايرات لا تخرج عن طبيعة التغايرات المفيدة التي كونته أول مرة، وأنه لا بُدَّ من أن يساق في سبيل من التغاير تحفظ عليه تلك الصفات التي حققت غلبته على غيره من التنوعات لدى أول تكونه. وهذا الفرض ضروري للاحتفاظ بفكرة كاملة في صحة نظرية «داروين» في النشوء.
ويمضي العلامة «داروين» بعد هذا في كتابه القيم ليتوسع في تقرير نظريته في الانتخاب الجنسي، وهو عبارة عن جلاد يقع بين الذكور في سبيل الاستحواذ على الإناث، فقال بأن الذكور إذا تغايرت في صفاتها الزوجية الثانوية، وقد أورد أدلة كثيرة ومشاهدات قيمة على أنها تتغاير، فإن أشد الذكور غلبة وأحسنها شكلًا وأجملها منظرًا تفوز بالحصول على الإناث ومن ثم تورث صفاتها للأجيال الآتية، ومن هذا الطريق تحتفظ الطبيعة بالأعضاء الخاصة والصفات العامة التي أهلت بالآباء إلى الغلبة بادئ الأمر. ومن ثم يمضي مظهرًا أن تنوعًا من التنوعات إن نشأ وتكوَّن، فإنه كلما ازداد إمعانًا في الانحراف عن صفات أصوله الأولية، ازدادت فرص الحياة تأييدًا لبقائه وانتشاره؛ لأنه بذلك يتمكن من أن يحتل في نظام الطبيعة مركزًا تختلف عناصره عن مركز أصوله الأولى، إذ يتمكن من أن يتزود بطعام يختلف قليلًا عن الطعام الذي تتزود به أصوله، وبذا تتعطل معمعة التناحر بينهما.
أما الفصل الخامس من كتاب أصل الأنواع، فعلى ما يخيل إلى كل من استعمق في دراسة هذا الكتاب القيم، أثمن ما أخرج «داروين» من الآثار العلمية؛ لأنه في الواقع عبارة عن محصل ما وقع عليه من صور التغاير. ولقد حاول فيه أن يستقرئ «سنن التغاير» وفيه ينكر إنكارًا جازمًا بأنه ينسب حدوث أوجه التغاير لمجرد المصادفة: وقرر بأن قابلية التغاير راجعة إلى تأثير الحالات الطبيعية التي تتعرض العضويات لقواسرها خلال عدة أجيال متعاقبة. قال في ص٢٦١، ٢٦٢ من الطبعة العربية: «لقد تكلمنا في الفصول الأولى من هذا الكتاب في التغايرات وأثبتنا أنها كثيرة متعددة الصور متنوعة الأشكال في الكائنات العضوية إذ تحدث بتأثير الإيلاف، وأنها أقل حدوثًا وتشكلًا إذ تنشأ بتأثير الطبيعة المطلقة، وغالبًا ما نسبنا حدوثها للمصادفة العمياء. على أن كلمة «مصادفة» هنا اصطلاح خطأ محض، يدل على اعترافنا بالجهل المطلق وقصورنا عن معرفة السبب في حدوث كل تغاير معين يطرأ على الأحياء. ويعتقد بعض المؤلفين أنه بقدر ما يكون في النظام التناسلي من الاستعداد لإنتاج التغايرات الفردية والانحرافات التركيبية غير ذوات الشأن، تكون مشابهة الأبناء للآباء. غير أن التغايرات والشواذ الخلقية وكثرتها إذ تنشأ بالإيلاف، وقلتها إذ تحدث بتأثير الطبيعة المطلقة، والأنواع التي يكثر انتشارها وتتسع مآهلها، إذ تكون أكثر تغايرًا من الأنواع المحدودة المآهل، جماع هذه الاعتبارات تسوقنا إلى القول باتصال التغايرات وحدوثها بمؤثرات حالات الحياة التي خضع لسلطانها كل نوع من الأنواع خلال أجيال متلاحقة. وبينا في الفصل الأول أن لفعل حالات الحياة طريقين: مباشرًا بتأثيرها في النظام العضوي برمته، أو في بعض أجزائه دون بعض. وغير مباشر بتأثيرها في النظام التناسلي. وأن لذلك طريقتين أولاهما طبيعة الكائن العضوي ذاته وهو العامل ذو الأثر الأول. وثانيهما طبيعة الحالات المحيطة بالكائنات. وأن ظروف الحالات وتأثيرها المباشر إما أن تسوق إلى ثمرات من التغاير محدودة أو غير محدودة، وأن النظام العضوي إذ يمضي في التغاير إلى غير حد بتأثير تلك الظروف يصبح قابلًا للتشكل والتنويع، وينشأ فيه استعداد للتغاير كثير التقلب غير ذي قياس مألوف، وإذ يمضي في التغاير إلى حد محدود تضحى العضويات بطبيعتها قادرة على إثمار مختلف التغايرات حيث تخضع لتأثير حالات خاصة، وأن كل الأفراد أو جلها تتهذب صفاتها على نمط واحد.»
- (١)
أن الاستعمال في الحيوانات المؤلفة قد زاد بعض الأعضاء قوة وحجمًا، وأن الإغفال قد أضمر البعض الآخر، وأن أمثال هذه التغايرات الوصفية قد تورث في الأعقاب.
- (٢)
أن الأنواع من الممكن أن تتطبع لتعيش تحت تأثير مناخات تختلف تمام الاختلاف عن تلك التي نشأت فيها أولًا، وأن هذا قد يرجع إلى الانتخاب الطبيعي إذ يمضي في الاحتفاظ بأكثر التنوعات غلبة، تلك التنوعات التي تختص غالبًا بتراكيب فطرية مختلفة. غير أن للعادات «الموروثة» بعض التأثير؛ لأن كل الكتب التي تتكلم في الزراعة والاستنبات تحض على الاحتياط والحذر في نقل حيوانات من إقليم لآخر. وأنه ليس من المحتمل أن يكون الإنسان الأول قد نجح في انتخاب عدة أنسال ذوات تراكيب عضوية تتكافأ وطبيعة الأقاليم الخاصة التي يعيش فيها. لهذا لا بُدَّ من أن يكون التطبع وتوارث نتائجه قد لعب دورًا ذا شأن في تغاير العضويات.
- (٣)
عندما تحدث انحرافات تركيبية ضئيلة في جزء من الجسم مستجمعة بتأثير الانتخاب الطبيعي، فإن أجزاء أخر من الجسم لا بُدَّ من أن يلحق بها التغاير الوصفي. وقد صرف «داروين» على هذه القاعدة اصطلاح «التغاير المتبادل». وبذلك تمضي الأجزاء المتجانسة نازعة إلى التدامج، كبتلات زهرة مثلًا. وكذلك تؤثر الأجزاء الصلبة في صورة ما الأجزاء اللينة اللدنة وهكذا.
- (٤)
إذا كان فيض الغذاء على جزء أو عضو ما زائدًا عن الحاجة، فإنه قلما يفيض على جزء آخر. وقد صرف «داروين» على هذه القاعدة اصطلاح «قانون المعاوضة» أو «سنة التوازن في النماء». وشرحها في قوله: إذا اتفق أن تركيبًا من التراكيب ذوات الفائدة قد أصبح بتأثير تغاير الحالات المحيطة بالعضويات أقل فائدة من قبل، فإن ضموره يصبح أمرًا مرغوبًا فيه من جانب الطبيعة؛ لأن ذلك يفيد الفرد إذ يوفر عليه كمية من الغذاء كانت لا بُدَّ من أن يستهلكها في بناء تركيب غير ذي فائدة.
- (٥)
التراكيب المزدوجة والأثرية، وكذلك التراكيب الدنيئة التكوين والنظام جماعها قابل للتغاير. أما الأعضاء المزدوجة فيقصد بها تلك الأعضاء المتشابهة التركيب المختلفة الخصائص والتي يتكرر وجودها في سلسلة متتابعة الحلقات. وأمثال هذه الأعضاء تكون في غالب أجزائها دنيئة التكوين منحطة الصفات، أي إنها لم تكن قد تعضنت بعد، ولذا تستعمل للقيام بوظائف كثيرة، حتى إن الانحرافات الضئيلة التي تقع في ناحية من نواحيها لا يعني الانتخاب الطبيعي باستجماعها. وكذلك الأعضاء الأثرية تكون قابلة للتغاير، لأنها إذ تكون قد كفت عن أن تكون ذات نفع، تصبح الانحرافات التي تطرأ عليها والتي تخرجها عن القياس العام غير ذات تأثير في حياة الكائن الذي يتصف بها.
- (٦) إذ نما جزء من الأجزاء في نوع من الأنواع نماء غير مألوف مقيسًا بنمائه في أنواع أخر، فإن ذلك الجزء يكون غرضًا للتغايرات ذوات الأثر البين. ولهذا نجد أن الصفات الزوجية الثانوية التي تتخذ عند الباحثين دعامة للتفريق بين الأنواع، هي أكثر الصفات قبولًا للتغايرات الجُلَّى من حيث النماء والظهور في أفراد النوع الواحد. كذلك الصمامات التي نراها في النوع المسمى بيرجوما Pyrgoma من الحلزون المعدوم الذنيب، تختلف اختلافًا ظاهرًا عن الصمامات القياسية في بقية أنواع الحلزون المعدوم الذنيب، في حين أن ترتيب صفائح الصمامات وعددها تتباين تباينًا كبيرًا في تنوعات نوع «البيرجوما» وسلالاته المختلفة.
- (٧) الصفات النوعية أكثر قبولًا للتغاير من الصفات الجنسية. وهذا هو السبب في أن الصفات الزوجية الثانوية Secondery Sexual Charaeters، كما أبنا من قبل، تكون على أتم ما يكون قابلية للتغاير.
- (٨)
الأنواع المعينة غالب ما تظهر متشحة بتغايرات متجانسة، حتى إن تنوعًا تابعًا لنوع بعينه قد يتصف بصفات خاصة بنوع آخر متصل به في النسب، أو ترجع في صفاتها إلى صفات أصل من الأصول الأولية. وقد ضرب «داروين» للرجعى إلى صفات الأصول الأولى مثلًا بأنسال الحمام الداجن إذ تنتج أفرادًا إردوازية اللون لها خطان يقطعان الجناح أسودا اللون كصفات «الكولمباليفيا» أي حمام الصخور، الأصلية تمامًا. وغير ذلك.
- (١)
توارث مؤثرات الاستعمال والإغفال، وبالأحرى مؤثرات العادة، وهذا الناموس هو بعينه ما وضعه العلامة «لامارك» الفرنسوي واتخذه الدعامة الوحيدة في سبيل تغاير الأنواع.
- (٢)
قابلية التغاير لحد غير محدود في كل اتجاه من الاتجاهات التي تتمشى فيها العضويات متطورة، على قاعدة أن كل تغاير فردي إنما يبدأ ضئيلًا غير محسٍّ، وأن تأثير المناخ هو الذي يجعل نظام الأنواع العضوي مرنًا قابلًا للتشكل بسهولة.
كان رجوع الباحثين في النشوء إلى الفكرة القائلة بأن في العضويات نزعة إلى التطور يزكيها استعداد فطري للتغاير غير المحدود، نتاجًا لحملة العلامة ويزمان على مذهب لامارك. أما المعترض الذي وجه ضد هذه الفكرة فالقول بأنها فكرة فيها كثير من مطاوعات المرونة، كما أنه من الهين التشكك فيها. فعلى مقتضى هذه الفكرة لم يكن من الضروري أن تفرض أن العضويات في مستطاعها أن تتغاير في كل متجه من اتجاهات التطور، بل إن نسل أي فرد من الأفراد يستطيع أن يمضي متغايرًا في نفس الطريق التي سلكها آباؤه في مباينتهم للصفات القياسية التي تكون لنوعهم الأصلي. ومن الظاهر الجلي أننا إذا مضينا قانعين بصحة هذا الفرض أصبح في مكنتنا أن نفسر السبب في كل تغاير ظاهر يطرأ على الأحياء. فإننا إذ نعتقد أن كل تغاير إنما يتكون من استجماع عدة تغايرات مفيدة، تعين علينا أن نفرض استتباعًا لذلك أن كل تغاير لا بُدَّ من أن يكون قد لعب دورًا ذا شأن في تزويد الأفراد التي اتصفت به بفرص البقاء.
كان من عادة بعض الباحثين منذ ثلاثين حجة خلون، أن يعمدوا إلى الضرب في مجال الظن والتخمين إذا ما نظروا في النفع الذي تنتجه التراكيب، من غير أن يحاولوا أن يقيسوا مقدار ما في ظنونهم من حق بتجربة أو مشاهدة. غير أن هذا النهج كان مخالفًا بطبيعة الحال لرأي فئة أخرى كانت تمضي بأبحاثها في طريقة لا بُدَّ من أن تسلم بهم إلى محك من النقد التجريبي يقربهم من حقائق الموضوع الذي هم عاكفون على دراسته، حتى لقد أدت بهم طبيعة الحال إلى مناهضة نظرية استجماع التغايرات الضئيلة المفيدة تدرجًا في طبائع العضويات. غير أنه على الرغم مما وجه إلى هذه النظرية من النقد مسوقًا بأقلام باحثين من المدرسة الداروينية القديمة، فإن تلك العاصفة لم تمر من غير أن تنجلي من بعض نواحيها عن حقائق نذكر بعضًا منها.
غير أن أنكى اعتراض كان يحول دون قبول الرأي في قابلية التغاير غير المحدود، هو تلك المباحث العميقة التي تناولت ما يسميه الباحثون في الوراثة «بالسلالات الصحيحة» أو«النقية». ويدل هذا الاصطلاح على التجاريب التي كانت تتناول نسل أب بعينه لمعرفة مقدار استعداده لقبول التغاير الوراثي. ولدى الباحثين ثلاث وسائل يمكن أن تنتج من طريقها سلالة صحيحة:
- الأولى: بإمكان تلقيح بويضات حيوان أو نبات خنثى تلقيحًا ذاتيًّا Self- fertillsation.
- الثانية: بتربية نسل أنثى تتناسل عذريًّا Parthenogenetically.
- الثالثة: بأسر نسل «بروتوزون» Protozoon (أي حييوين) بعينه، في إمكانه أن يتكاثر بلا تلقيح من طريق الانقسام.
وليست ندرة حدوث التغايرات الفجائية الكبيرة هي الصعوبة الوحيدة التي تصادفنا إذا ما أزمعنا نعتقد بأن هذه التغايرات وحدها كافية لأن تعلل لنا النشوء والارتقاء. وقلَّما ينكر طبيعي أن التباينات التي تقع بين الأنواع المتقاربة الأنساب المتدانية اللُّحمة تعطينا فكرة تقريبية تكاد تكون تامة في تدرج الخطى التطورية. فإذا قارنَّا بين هذه التباينات وبين التغايرات الفجائية، فإنا لا محالة نؤخَذ بما نقع عليه من الحقائق إذ نجد أن الفرق بينهما كبير.
ليست هذه كل الصعاب التي تصادفنا إذا ما أردنا أن نمضي قانعين بأن التغايرات الفجائية هي المؤثر الوحيد في النشوء والارتقاء.
- أولًا: تضام مفصلين بحيث يحدث التضام أصابع قصيرة جذمورية: Brachydactyly.
- ثانيًا: فقدان الشفافية في عدسات العين: Congenital Cataract.
- ثالثًا: تضخم بشرة الراحتين وباطن القدمين: Tylosis plantaris And Palmaris.
- رابعًا: قابلية البشرة للتهيج من أسباب تافهة: Epidermolysis bullosa.
- خامسًا: فقدان الشعر كلية في الطفل عند ولادته: Hypotrichosis Congentia famigiaris.
ولا مرية مطلقًا في أننا نبهر بنور هذه الحقائق من جهتيها، سواء أخذت من جهة وضوحها، أم من جهة خصائصها الباثولوجية. على أن الأثر الذي تتركه هذه الحقائق لا محالة يتضاعف إذا نحن مضينا ننظر في حالات أخرى.
•••
تختلف هذه الأنواع بعضها عن بعض اختلافًا يسيرًا في كثير من صفاتها بحيث يتعذر علينا أن نحصيها، غير أنها لا تختلف اختلافًا بينًا يأخذ بالأنظار لأول وهلة. أما السلالات المتغايرة أي الآخذة في سبيل التغاير فإنا نجدها من جهة أخرى متشابهة جهد المشابهة في كثير من مفصلات تراكيبها، في حين أنها تتباين جهد التباين في بعض صفاتها.
ومع أن هذا العلامة الكبير قد انتهى من بحثه إلى هذه النتيجة فإنه حاول أن يقنع نفسه وأن يقنع غيره من الباحثين بأن التغايرات النوعية هي في طبيعتها وقوامها لا تختلف عن التغايرات الفجائية الجُلَّى. ولقد عمد في ذلك إلى البحث عن مجانسات يقع عليها بين التغايرات الفجائية التي قد يعثر عليها في «الدروسوفيلا» وبين صفات أنواع أخر. ولقد أجمع كثير من الباحثين على الاعتقاد بأنه أخفق فيما حاوله كل إخفاق، إذ أبانوا عن أنه لم يفلح إلا في الحصول على ملابسات من المشابهة، ومن أجل أن يصل إلى ذلك اضطر إلى البحث في صفوف كثير من الأجناس المختلفة والأسَيْرات والرتيبات. بل تطرف بعض ناقديه إلى القول بأنه لو فرض وأفلح فيما حاول — مع أنه لم يفلح — فإن تعذر قبول الرأي القائل بأن التغايرات الفجائية هي السبب في النشوء، ليزيد ويتضاعف أثره؛ لأن هذه التغايرات الفجائية لا تحدث إلا نادرًا كما هي الحال في الطبيعة تمامًا. فإذا كانت الأنواع المتقاربة الأنساب يباين بعضها بعضًا في مئات من الصفات الضئيلة المستقل بعضها عن بعض تمام الاستقلال، وجب أن ينشأ كل من هذه الصفات المتباينة كتغاير فجائي مستقل عن بقية التغايرات الظاهرة في تضاعيف النوع. وعلى هذا يترتب أن فردًا من الأفراد حائز لتغايرين فجائيين لا غير، ويظهر كل منهما في حالة من ألف، لا يكون حظه من البقاء إلا بنسبة واحد من مليون.
وهنالك اعتراض آخر يحول دون التسليم بمزاعم الذين يريدون أن يعتبروا التغايرات الفجائية في منزلة واحدة من حيث الأثر مع الانحرافات النوعية. فقد أبان العلامة «باتسون» أن كل الأفراد التي تتصف بتغايرات فجائية جُلَّى من أنواع «الدروسوفيلا» مهما كان فيها من بالغ الأثر يمكن أن تتلاقح ونوعها الأصلي، ويكون تلاقحها بالغًا منتهى الخصب والقدرة على الإنتاج، وأنه لم يقع على غير حالة واحدة كان فيها التلاقح النوعي في «الدروسوفيلا» غير منتج، بحيث كانت الأنغال عقيمة تمامًا.
ولسوف أعود إلى الكلام في عقم الأنواع متلاقحة فيما بعد، غير أن الصعوبة الناشئة عن أن الأنواع تختلف اختلافًا كثيرًا بعضها عن بعض في صفات كثيرة قد سلم بها داروين، كما اعترف بها «دي فريس». غير أن «داروين» إذ كان يعتقد بأن التغايرات التي يتخذها الانتخاب الطبيعي سنادة لإبراز نتائجه يجب أن تكون ذات طبيعة تسوق بها إلى تكرر الظهور دراكًا في فترات متقاربة، كان من الظاهر أن يستتبع هذا الاعتقاد أن نفرض ضرورة بأن الانتخاب الطبيعي ينبغي أن يؤيد أول الأمر تكرار ظهور صفة من الصفات، ثم غيرها، وبالأحرى عددًا من الصفات المباينة التي تفرق بين الأنواع، وأن هذه الصفات تظهر معًا في وقت واحد. ومن ثمَّ حاول «داروين» أن يظهر أن استجماع صفة من الصفات أو تكرار ظهورها، يستلزمه تغير صفات غيرها، إما من طريق تبادل النسب في النماء، وإما من طريق آخر سماه بالضغط المتعادل.
على أن النتائج التي وصل إليها هذان الباحثان لتكفي وحدها لكي تكون سببًا ترفض به الاعتقاد بأن تغايرات «الأونوثيرا» الفجائية كافية لأن تلقي بشيء من نور اليقين على قضية أصل الأنواع والتنوعات. فإذا رفضنا الاعتقاد بالتغاير الفجائي واتخاذه سببًا في تكوين الأنواع بالنشوء فهل يجوز لنا أن نرجع إلى نظرية الاستعمال والإغفال لنتخذها لتكوين الأنواع بالنشوء أساسًا؟ فإذا رجعنا إلى ذلك وقع في روعنا أن نتساءل بداءة ذي بدء عما إذا كانت تأثيرات الاستعمال والإغفال قد تورث بأية كيفية وإلى أية درجة؟
•••
تفضي بنا هذه الأبحاث إلى الكلام عن توارث الصفات المكتسبة.
رأى العلماء منذ عهد بعيد أن مسألة انتقال الصفات المكتسبة بالوراثة من الأب والأم إلى الأولاد قد تكون أسهل حلًّا بالتجاريب الفسيولوجية منها بالعمليات الجراحية كبتر اليد أو الرجل مثلًا. وقد تأيد هذا الحدس حديثًا على أسلوب مدهش بتجاريب أجراها عالمان انكليزيان من كبار علماء الفسيولوجيا في المصل وتأثيره وهما «جايز وسميث» فوضعا سلاحًا جديدًا في أيدي علماء الحيوان وجهزاهم بوسائل كيماوية تعين درجة القرابة بين أنواع الحيوان المختلفة. ونسبتها الصحيحة بعضها من بعض.
عرف منذ زمان طويل أن حقن حيوان من ذوات الفقار ببروتيد أخذ من حيوان آخر يوثر تأثيرًا فسيولوجيًّا عظيمًا. وعلى هذا المبدأ بنى العالمان المذكوران تجاربهما. وكان العلامة «بوردت» قد أبان منذ خمس وعشرين سنة أنه إذا حقن دم خنزير عينيًا مرارًا بالكرات الحمراء من دم أرنب فإن الخنزير يكتسب شيئًا فشيئًا القدرة على إتلاف هذه الكريات. وأبان أيضًا أنه إذا حضر مصل من هذه الخنازير ووضع مع الكريات الحمراء من دم أرنب في أنبوبة زجاج فإنه يحلها، في حين أن المصل المأخوذ من خنازير أخرى لا يؤثر في هذه الكريات أو يكون تأثيره قليلًا.
أما طريقة تجربتهما فإنهما جاءا بشيء من هذا المصل وحقنا به أول مرة أرنب حامل فولدت أرانب عيونها ناقصة. وأهم وجوه هذا النقص أن عدسيتها مظلمة أو سائلة كثر ذلك أم قل. أما الأرنب الأم فلم تتأثر عيناها. ولعل سبب ذلك أن الدم الذي يتوارد إلى عيون الحيوانات البالغة قليل فلا يبلغها شيء من المصل «الحساس» أو أن العدسية فيها لا تتأثر بهذه الكميات القليلة من المصل بخلاف عدسيات الحيوانات وهي لا تزال أجنة.
وقال الأستاذ «مكبريد» في مقال قيم:
وقد وجد العالم «كامرر» أنه إذا اعتاد السمندل الأسود المعيشة في مكان حار رطب فإن أنثاه تلد أولادًا ثلاثة ثم أربعة وهي تولد قبل أن تمتص خياشيمها. وإذا ربيت أولادها وبلغت أشدها فإن إناثها تلد كل منها أكثر من أربعة كل مرة وهي تولد بخياشيم كالسمك وتعيش في الماء أولًا. أي إن طباع السمندل الأسود تتغير إذا رُبِّيَ في مكان حار رطب وتصير مثل السمندل الأصفر، ويورث نسله هذه الطباع.
والذين لا يقولون بوارثة الصفات المكتسبة يدعون أن ما صار إليه السمندل الأسود حينما عاش في مكان حار رطب إنما هو من قبيل الرجوع إلى الأصل؛ لأن الأصل فيه المعيشة في الماء حين ولادته. ولكن يرد عليهم بأنه إن كان الأصل فيه المعيشة في الماء حين ولادته كما يدعون فاكتسابه صفات جديدة حينما يعيش في أماكن جافة باردة واستمرارها في نسله دليل على أن الصفات المكتسبة تنتقل بالوراثة. وقد نفى «كامرر» دعواهم الرجوع إلى الأصل بأن جعل السمندل الأصفر مثل أولاد السمندل الأسود. فإنه رباه في أماكن باردة جافة فجعلت الأنثى تلد أولادًا قلالًا والأنثى من النسل الثالث صارت تلد ثلاثة أو أربعة فقط كل مرة، وخياشيمها صغيرة أثرية وهي قادرة على المعيشة في البر حال ولادتها وهذا يمنع أن يكون ما حدث للسمندل الأسود رجوعًا إلى الأصل لأن كلا من السمندل الأصفر والأسود يصير مثل الآخر في طباعه.
وقد وجد «كامرر» أنه إذا أقامت الضفادع القابلة في مكان حارٍ جاف الهواء وكان على مقربة منها بركة ماء تستطيع النزول إليها حينما تريد فإنها تعيش هناك وتصير تتزاوج في الماء ويصير حبل بيوضها يزلق عن الذكر ويغور في الماء وتصفر بيوضها وتصير شبيهة ببيوض الضفادع العادية وتولد الدعاميص منها ولها خياشيم ظاهرة، ولكن يكون لكل دعموص خيشومان فقط واحد على كل جانب. ولو شقت بيضة الضفدع القابلة قبل أن تعتاد التزاوج في الماء لوجد في جنينها خيشوم واحد. وإذا تكرر إقامة هذه الضفادع قرب الماء فالنسل الثلاث منها يولد ولكل دعموص منه ثلاثة خياشيم على كل جانب كغيره من دعاميص الضفادع العادية. والذكور من أجنته يتولد في أصابعها مادة قرنية كما في الضفادع العادية وتكبر هذه المادة نسلًا بعد نسل إلى النسل الخامس فتبلغ حدها حينئذ ولا تزيد عليه.
والأمثلة المتقدمة تدل دلالة قاطعة على أن الصفات المكتسبة تنتقل بالوراثة حسب الظاهر. ولكن يظهر لنا بأقل تأمل أنها لا تثبت في النسل الذي تنتقل إليه إلَّا إذا بقي معرضًا للفواعل الطبيعية التي سببته. فإذا قطعنا ذنب هرة فلا تلد هررًا بلا أذناب. ولكن إذا حدث حادث طبيعي منع نمو ذنب الهرة واستمر، فإنه تنشأ هرر بلا أذناب كهرر جزيرة «مان» في البلاد الإنجليزية. وعليه فالذي ينتقل بالوراثة هو البناء الحيوي الذي يتأثر من الفواعل الطبيعية ويغير بنية الحيوان والنبات ليطابق تلك الفواعل، كالمكان البارد الجاف والمكان الحار الرطب اللذين أثرا في السمندل، والقرب من الماء والبعد عنه اللذين أثرا في الضفادع. أي إن الصفات المكتسبة تكون موروثة إذا نتجت عن فواعل طبيعية تؤثر في الجراثيم المكونة لا الخلايا التي يتكون الجسم منها، وإلا فلا ينتقل بالوراثة. ثم إذا انتقلت الصفات المكتسبة بالإرث وتوالت في أعقاب كثيرة رسخت في البنية. وعلى هذه الكيفية تولدت الأجناس والأنواع والتنوعات.
•••
في سنة ١٩٢٣ زار العلامة «كامرر» إنجلترا ونزل في ضيافة جماعة التاريخ الطبيعي في جامعة كمبردج، وألقى على أعضاء جماعة «لينيوس» خطابًا حضره كل ناقديه ومعارضي مذهبه. فعرض عليهم ضفدعًا ذكرًا انتابه التغاير الوصفي بالطرق العملية، وكذلك عرض عليهم أمثالًا تظهر صفة من الصفات المكتسبة التي أصبحت متوارثة. أما الأستاذ «باتسون» فقد قبل بعد مناقشات طويلة آراء «كامرر» كما سلم بثبات نظريته وآمن بصحة النتائج التي وصل إليها وعرضها على السامعين في محاضرته وفي كتبه ومقالاته العديدة. أما الصعوبة الوحيدة التي ظلت تعترض نتائج «كامرر» فكانت خاصة بتفسير النواميس التي ترجع إليها هذه الظاهرات، وقام العلامة «باتسون» بتوجيه ثلاثة معترضات لم يجد العلامة «كامرر» من صعوبة في دفعها.
من هذه الأبحاث ومن كثير غيرها نجد أن النظرية التي بنى عليها العلامة «داروين»، معلم القرن التاسع عشر، معتقده في تغاير الأنواع وتطورها بالنشوء لا تزال ثابتة كما كانت لدى أول عهد الناس بها، وأنها قاومت حتى الآن كل النظريات الأخرى كنظرية التغاير الفجائي أو قواعد مندل الوراثية أو مذهب ويزمان في البلاسما الجرثومية. ولقد أظهرنا في سياق هذا الفصل أن العلامة «داروين» يعتقد أن تأثير حالات الحياة أو بالأحرى تأثير البيئة هو السبب في إحداث قابلية التغاير في تضاعيف الأحياء وأن البيئة تؤثر من طريقين اثنين؛ الأول: من طريق غير مباشر يجعلها النظام العضوي قابلًا للتشكل. والثاني: مباشر بتغاير العادات التي يتبعها تغاير التركيب وتوارث ذلك.
وعلى هذا نقضي بحق بأننا حتى اليوم إنما نستسقي مبادئ النشوء عن «داروين» لا عن غيره، وأن ليس لنا بغير ما وضع معلم القرن التاسع عشر لدرس النشوء من معين.