داروين والماديون
كما أن الشبح المنعكس من عدسة زجاجية على حائط، ليس سوى صورة مكبرة من ذلك الشبح الكائن في العدسة، كذلك النظريات الخاصة بهذا العالم، ليست سوى صورة مكبرة من نظريات العقل الإنساني، تسبك عادة على نماذج تستمد في تجاريبنا الذاتية.
***
كان للمذهب الدارويني منقولًا عن العلَّامة «بخنر» في عقول رجال المدرسة المصرية القديمة من الأثر ما حمل الناظرين فيه على الوقوف إزاءه وقفة التريب والشك. ومما لا مشاحة فيه أن اتخاذه مذهب النشوء ذريعة لإثبات المادية ومجاراة دكتور «شميل» له، كان بلا ريب خير وسيلة لاستفزاز رجال الدين في بلد إسلامي، تأصلت فيه كثير من المذاهب العتيقة.
على أن نظرة واحدة في المذهب كافية لأن تبعد عن العقول ما علق بها من أثر القول بدهرية الذين يعتنقون مذهب النشوء، وإن أول ما يعلق بذهن الباحث المتريث من نور الحق واليقين، أن المذهب بعيد عن البحث في أصل الحياة، فلا شأن له بالبحث في التولد الذاتي، ولا في القول بأن الحياة قوة مادية أو غير مادية، أو أنها من المبادئ المفارقة، على قول الأقدمين. ذلك لأن المذهب مقصور على البحث في نشوء بعض العضويات من بعض، بعيد عن البحث في الأصل الذي تستمد منه حياتها. من هنا تزاح أكبر عقبة تقف في سبيل القول بأن المذهب بعيد عن مخاصمة الشرائع المنزلة. كذلك لا يمكن لمنصف أن يحمل مذهب «داروين» في النشوء، تبعة ما سيق إليه بعض الباحثين فيه وتوسعهم في مدلولاته إلى حد القول بالمادية وإنكار الألوهية.
يقول العلَّامة «داروين» في أول الفصل التاسع من كتابه: «أصل الأنواع» ما يلي: «إن في كثير من الغرائز لبواعث على التأمل والاستبصار، حتى إن التفكير في كيفية نشوئها وتطورها، ليزود القارئ بصعاب جُلَّى، قد تكفي في نظره لنقض مذهبي جملة. ومن أجل أن أتابع الكلام فيها، يجب أن أنبه على أني لست بمسوق إلى البحث في أصل القوى العقلية، أكثر مما أجد نفسي في حاجة إلى الكلام في أصل الحياة ذاتها.»
فلسفة النشوء والارتقاء» الذي ترجمه دكتور «شميل» إذ يقول: «على أن «داروين» لم يحصر الأحياء في أصل واحد، وربما كان ذلك لعدم جسارته، لا لسبب آخر. فجعل الحيوان من أربعة أو خمسة أصول أولية مخلوقة من زمان طويل، كل أصل زوج، وكذلك النبات، غير أنه لم يصمت عن ذلك كليًّا، بل قال في آخر كتابه: إن المشابهة وأسبابًا غيرها تدعونا ضرورة إلى الاعتقاد بأن الأحياء أصلها واحد، وأن لا فاصل جوهري بين العالمين، عالم النبات وعالم الحيوان.
غير أنه يحترس مستدركًا على نفسه حيث يقول: إني أرى فيما يظهر لي أن الأحياء التي عاشت على هذه الأرض جميعها من صورة واحدة أولية نفخ الخالق فيها نسمة الحياة، وعلى أن أساس هذه النتيجة المشابهة، فالتسليم بها وعدمه غير جوهريين» ثم يقول بعد ذلك: «فهذا القول غير قياسي، ويجعل المذهب ناقصًا وربما نقضه أيضًا.» وعقب على ذلك بقوله: «لأننا إذا سلمنا بأفعال خلق خصوصية لثمانية أو عشرة أزواج أصلية فما المانع منه إطلاق هذا الخلق على جميع الأحياء. وما الداعي بعد ذلك لتفسير ظهورها على سبيل طبيعي؛ لأنه سيان عند الفيلسوف حصول الفعل الخالق مرة أو مرات. فالتسليم به ولو مرة إحالة المعجزة مقام الناموس الطبيعي. فليس لنا إلا أن نتوسع بمذهب التسلسل الذي وضعه «داروين» حتى آخره، ونجعل العالم العضوي يشتق من صورة واحدة أصلية بسيطة جدًّا، من الكرية أو البيضة.
كيف يسوغ لنا أن نستغرب هذا الأمر الذي نراه كل يوم بأعيننا. أليس الجسم العضوي حتى الأكثر كمالًا كالإنسان يتكون رويدًا رويدًا من كرية واحدة أو البيضة.
على أنني لم أقع في كتاب أصل الأنواع على أن «داروين» قد سلم بخلق أربعة أو خمسة أصول أولية تحولت عنها العضويات. وكل ما وقعت عليه في هذا الصدد فقرتان. الأولى في الفصل الأول حيث يقول: «ولقد أغرق بعض الباحثين في الحدس لدى بحثهم في أن فصائلنا الداجنة متسلسلة عن أصول أولية عديدة، حتى تخطى بهم الإغراق حد التهويش والإيهام. وهم يعتقدون أن كل فصيلة من الفصائل الداجنة ما دامت تتناسل تناسلًا صحيحًا، فلا بدَّ من أن ترجع إلى أصل وحشي عنه تحولت، ولو بلغت فروق بعضها من بعض في الأوصاف العامة غاية ما تبلغ الفروق من حقارة الشأن. وعلى هذه النسبة لزم أن يوجد عشرون أصلًا أوليًّا للأنعام الكبيرة، ومثلها للأغنام والماعز في أوروبا، وكثير غيرها في إنجلترا وحدها. فإذا عرفنا أن إنجلترا لم يتأصل فيها نوع واحد من ذوات الثدي، كما هي الحال في فرنسا والمجر والأندلس، اللهم إلا عددًا قليلًا مما نزح إليها من بلاد جرمانيا، وأن كل مملكة من هذه الممالك يختص بها عدد من تولدات الأنعام الكبيرة والأغنام وغيرها، حق علينا القول بأن كثيرًا من تولدات الأغنام في إنجلترا قد تأصلت في أوروبا بادئ ذي بدء.
إن في النظر إلى الحياة بما يحوطها من مختلف المؤاثرات والقوى نظرة الاعتقاد بأن الله قد نفخها في بضعة صور، أو صورة واحدة بداءة ذي بدء، لَعظمة وجلالًا. وأن هذا السيار إذ ظل مدفوعًا بالجاذبية دائرًا حول فلكه المرسوم، قد هيئ بقوى أنشأت، ولا تزال مجدة في إنشاء تلك الصور غير المتناهية بما فيها من مواضع الجمال وبواعث الروعة والإعجاب.
على أنك إن تأملت من هاتين الفقرتين لوجدت أن كل ما يحق لبخنر أن يأخذ على «داروين» منها حسب معتقده قوله: «بضعة صور». على أن القول بالتولد الذاتي نفسه لا ينافي القول بنشوء بضعة صور أصلية؛ لأن التولد الذاتي إن صح وقوعه في بقعة ما من بقاع الأرض، فلماذا لا يصح أن يقع في أخرى، ما دامت المؤاثرات الطبيعية في كل البقاع التي يحدث فيها تكون متماثلة،؟ وكل ما هو كائن من الفرق بين الرأيين بعيد عن مذهب النشوء؛ لأنه يرجع إلى فكرة خلق الحياة أو تولدها ذاتيًّا، لا إلى نشوء العضويات بعد خلق الصورة الأولى. فالخلاف هنا على الفكرة المادية، لا على النشوء والارتقاء.
على أن أنصار التولد الذاتي لا يزالون في حيرة من القول به. فإنهم لم يثبتوه بتجربة بل يفرضونه فرضًا. ولم يقيموا عليه دليلًا علميًّا ثابتًا. وفي معتقدي أن التولد الذاتي إن صح وقوعه بالتجربة لأوقع الماديين في إشكال آخر أنكى من القول بالخلق الأول؛ لأنهم حتى مع ذلك لا يستطيعون أن يعرفوا سر الحياة وتولدها.
لم يبق أمامنا إلا مسألة التولد الذاتي، التي هي اليوم المحور الذي يدور عليه علم الأحياء. فإنه إذا أمكن أن نبين أن ظهور الأحياء إنما هو نتيجة طبيعية لقوى طبيعية، ظهرنا بمذهب «داروين» على كل ما تضمنه العالم العضوي ولم تخف علينا منه خافية؛ لأنه أمر مقرر اليوم أن الحيوانات والنباتات، حتى أكثرها تركيبًا، مؤلفة جميعها من الصورة العضوية الأولى، أي الكرية فقط، كما يعلم من تكوينها الجنيني.
ونظرة واحدة في هذه المسألة تظهرنا على أن معتقد «بخنر» غير صحيح؛ لأن الأجسام الحية إن تكونت من خلية فهي إنما تتكون من خلية حية فيها القدرة على الانقسام والتغاير، فما هو ذلك السر المودع فيها الذي يسوقها إلى التحول والدور في تلك السلسلة المنظومة من النشوء والتعضن حتى تصير حيوانًا أو نباتًا؟
إن من أكبر التصورات الباطلة ما يقال لي دون إظهار أية صعوبة تحول دون ذلك القول، بأنه إن أمكنك أن تبرهن على كيفية التولد الذاتي في الأجسام التي لا حياة فيها، أمكنك أن تبرهن على كيفية التولد الذاتي في الأجسام الحية. فنواة الخلية الحية ليست شيئًا كيماويًّا عويص التركيب، وفي الإمكان إعادة تركبيها ثانيًا إذا حللت. ولكنها لا تكون نواة حية.» ثم قال «أنهم — الطبيعيون الماديون — يتجاهلون ذلك كله. يتجاهلون القوة المدبرة الخفية التي تستطيع الخلية الحية بفضل تأثيرها، من الدور في سلسلة من التحولات، يستحيل إيضاحها بأية طريقة كيماوية أو ميكانيكية.
ذلك ما بلغ إليه الرأي المادي من الأدلة على مادية الحياة. ولا جرم أن الرأي الذي يبثه «داروين» في آخر كتابه لثابت حتى اليوم، حيث إن الماديين لم يقيموا البرهان العلمي على تولد الحي من غير الحي.
ولا يستطيع أحد من الذين استعمقوا في دراسة كتاب «أصل الأنواع» أن يقول إن العلَّامة «داروين» كان منكرًا للألوهية. وغاية ما يذهب إليه ذلك الرجل الكبير أن تفسير بعض حقائق الكون حسب الرأي الذائع فيها بين فئات من رجال العلم واللاهوت، لا تنطبق على الواقع المشاهد. ولا يدلك على هذا مثل كلماته التي أثبتها في آخر الفصل الخامس من كتابه: «أصل الأنواع» ص٣٠٩ من الطبعة العربية الأولى، إذ قال بعد أن أفرغ جعبة بحثه في تسلسل الخيل من أصل وحشيٍّ عام يربطها ببقية الأنواع التي تقاربها في الطبيعة نسبًا، قال: «فإذا اعتقد معتقد بأن أنواع جنس الخيل قد خلقت مستقلة منذ البدء، لما تيسر أن يثبت اعتقاده إلَّا بالقول بأن هذه الأنواع قد خلق كل منها وفيه نزعة إلى التغاير، سواء أكان بتأثير الإيلاف أم بتأثير الطبيعة الخالصة، حتى يعلل ظهور تلك الخطوط اللونية في هذه الأنواع بمثل ما يراه في الأنواع الأخر، أو يركن إلى الاعتقاد بأن هذه النزعة لا بُدَّ من يتضاعف فعلها لدى نقلة أنواع ما يغيرها مما يقطن بقاعًا مختلفة من الكرة الأرضية، حتى تحدث أنغالًا تشابه في تغاير ألوانها وتخططها أنواعًا أخر من الجنس عينه، مغايرة بذلك لصفات آبائها. وما هذا الزعم إلا تبديل غير ثابت بثابت، أو على الأقل غير معروف بمعروف. فهم يشوهون صبغة الله وخلقه. وما قول الكونيين القدماء بأن صور الحيوانات المستحجرة في بعض الصخور، لم تخلق إلا عبثًا لمحاولة تشبيه باطن الأرض بأحياء البحار، بأبعد من قول القائلين بالخلق المستقل في الزمان الحاضر، منزلة في السقوط والاتضاع»
وليس من الهين أن نتنكب في هذا المقام مقارنة نضعها بين العين والمنظار المقرب للأشباح — تلسكوب — فإننا لنعلم حق العلم بأن هذه الآلة لم تصل إلى ما هي عليه من الكمال، إلا بعد أن أفنى كثير ممن نعدهم زهرة العقول البشرية جهودهم في سبيل تحسينه. ونحن بالطبع مسوقون إلى القول بأن العين قد تكونت بطريقة مشابهة لتلك الطريقة. ولكن ألا يكون هذا القول محض اعتبار تصوري؟ وهل لنا أن تخطر بعقولنا خطرة من الظن بأن الخالق العظيم يدبر الكائنات بقوة عقلية مشابهة لقوة الإنسان؟ فإذا لم يكن بد مما ليس منه بد، وانسقنا إلى مقارنة العين بآلة مبصرة، انبغى لنا أن نخلق بقوة الوهم صورة طبقات متراكمة من أنسجة مشفة بين بعضها وبعض مادة سائلة، ومن وراء ذلك جهاز عصبي كاشف للضوء حساس له، ثم نفرض من بعد هذا كله أن كل جزءٍ من أجزاء هذه الطبقات ماضٍ في سبيل التغاير من حيث ثقله النوعي وكثافته، مستمر فيه ببطء عظيم، متجهة تلك الأجزاء نحو التمايز بالانفصال بعضها عن بعض إلى طبقات مستقلة يختلف ثقلها النوعي كما تختلف كثافتها، ثم تأخذ أوضاعًا في أبعاد متناسبة، في حين أن سطح هذه الطبقات يكون ممعنًا في سبيل التغاير من حيث الصورة والشكل.
ثم نقول: إن من وراء كل ذلك قوة نمثلها لأنفسنا باصطلاحات نضعها كالانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح، ملاحظة بعين المجاز كل تحسين أو تهذيب وصفي يطرأ على تلك الطبقات المشفة ماضية، حين تأثر هذه الطبقات بمختلف الظروف التي تحوطها، في الاحتفاظ بكل شكل من أشكال التغاير، أيًّا كانت وسيلته ومهما كانت درجته، متى كان من شأنه الكشف عن الأشباح بصورة أكثر دقة. ومن ثم نفرض أن كل حالة تتمشى فيها تلك الآلة نحو الكمال قد تتكرر مليونًا من المرات، تبقى في كل مرة منها محتفظة بكيانها ثم تزول، بعد أن يجد في التراكيب العضوية غيرها أقرب إلى الكمال رحمًا. فإن التغاير في الأجسام الحية ينتج ارتقاء ضئيلًا يتضاعف أثره جيلًا بعد جيل إلى ما لا نهاية له، في حين أن الانتخاب الطبيعي يكون إذ ذاك مجدًّا دائبًا على الاحتفاظ بكل تهذيب يحدث بعين لا تأخذها سنة وهمة لا يعرفها الكلال. ثم دع تلك القوة تؤثر في همودها وسكونها تأثيرها الدائم مليونًا من السنين، متخذة خلال كل سنة ملايين في أفراد العضويات موضعًا تبرز فيه نتائجها، أفلا نعتقد بعد هذا أن آلة مبصرة حية، من المستطاع أن تكون قد استحدثت على مر الأزمان، بحيث تكون نسبة الفرق بينها وبين العدسة الزجاجية، كنسبة الفرق بين تدبير القوة الخالقة العظيمة، وبين الصناعات البشرية؟
ولست أدري كيف تخدش المبادئ التي يؤيدها هذا الكتاب الإحساس الديني عند أي شخص كان. وإنه لكافٍ لكي نظهر مقدار ما في هذا الأثر الذهني من سرعة الزوال، أن نتذكر أن أعظم استكشاف علمي وصل إليه العقل البشري، وأعني به ناموس جاذبية الثقل، قد نبذه «لبنتز» وأشهر عليه الحرب بحجة أنه «هادم لكل القواعد التي يرتكز عليها الدين الطبيعي أصلًا والدين المنزل استنتاجًا» وكتب إليَّ أحد مشهوري اللاهوتيين يقول: «إنني تدرجت في الدرس إلى أن بلغت حدًّا قنعت عنده بأن في الاعتقاد بأن الله قد خلق بضعة صور أولية خصت بالقدرة على النشوء الذاتي والتغاير إلى صور أخرى أكثر ارتقاء وأقرب إلى الضرورة، لا وجهًا من الروعة والجلال، بقدر ما في الاعتقاد بأنه احتاج إلى دورات متفرقة من الخلق المستقل، ليسد الفراغ الذي تحدثه سننه التي بثها في تضاعيف الطبيعة».
أما اعتراضهم — القائلون بالخلق المستقل — بأن العلم لم يلق بشيء من نور البيان على ماهية الحياة فمعترض مفلول لا وزن له. إذ مَنْ منهم في مستطاعه أن يبين لنا عن أصل جاذبية الثقل وماهيتها؟ في حين لا يستنكف أحد من العلماء أن يمضي في مباحثه مسترشدًا بالنتائج التي تترتب على ذلك العنصر الغامض المبهم الذي يسمونه الجاذبية، على الرغم من أن «لبنتز» قد اتهم «نيوتن» من قبل بأنه يدخل صفات خفية ومعجزات غامضة في ثنايا الفلسفة.
وجاء في ص٦٥٩ ف ١٥ من «أصل الأنواع»: «إني إن كنت على تمام الاقتناع بما في المبادئ التي بثثتها في هذا الكتاب من الحق الثابت، فإني لا أتوقع مطلقًا أن أقنع بها رجالًا من المشتغلين بالعلم الطبيعي قد شحنت أذهانهم بفكرات متكاثرة تناقض وجهة نظري، وظلت ثابتة في عقليتهم زمانًا طويلًا. وإن من الهين أن نخفي جهلنا وراء ستار من المصطلحات مثل «فكرة الخلق»، و«وحدة القصد والنظام». ظانين أننا بهذا قد نفصح عن المغمضات، في حين أننا لا نصل من هذه الطريق إلا إلى إعادة الاعتراف بالجهل بتعبيرات أخرى.»
هنالك مؤلفون من ذوي الشهرة وبعد الصيت مقتنعون بالرأي القائل بأن الأنواع قد خلقت مستقلة. أما عقليتي فأكثر التئامًا مع المضي مع ما نعرف من القوانين والسنن التي بثها الخالق في المادة، والاعتقاد بأن نشوء سكان هذه الأرض وانقراضهم في الحاضر والماضي، يرجع إلى نواميس جزئية، مثل النواميس التي تحكم في توليد الأفراد وموتهم. وإني كلما نظرت في الأحياء نظرة القانع بأنها أعقاب متسلسلة عن بضعة عضويات عاشت قبل ترسب أول طبقة من الطبقات الكمبرية، شعرت بأن نظرتي هذه أكثر إجلالًا، وأبعث على التأمل، وأدل على العظمة.
الفرض الضروري في العلم والفلسفة
يعتد الماديون المنكرون للقوة المدبرة لهذا الكون بعقليتهم أكثر مما في مستطاعهم أن يثبتوا لها. فهنالك أشياء يستحيل على العلم الطبيعي أو الفكر نفسه أن يصل إليها، أهمها الماهيات. خذ مثلًا ماهية الحرارة أو الكهرباء. فإنهم لا يستطيعون أن يقولوا فيها أنها أكثر من قوة طبيعية. على أن كلمة «قوة» و«مادة» تلك الأشياء التي يعتبرونها من الأوليات الضرورية، وإنها لكذلك من حيث ظاهراتها المحسوسة، لا تؤدي إلى العقل إلا معاني خفية غامضة، إذا نظر إليها من ناحية ماهياتها. كذلك تجد أن في ثنايا الطبيعة من الغوامض ما تلزمنا فلسفة الإطلاق فرض وجوده ضرورة. فالأثير مثلًا مادة مفروضة لا يستطيع فوسيقي أن ينكر وجودها، إذ تنهار مع إنكاره لها أركانًا من علمه بالطبيعة. في حين أنه لم ير الأثير ولم يقع تحت حسه، بل أنه لم يتناوله بتجربة تثبت وجوده. وكذلك الحال في الحياة إذا نظرت فيها من ناحية الماهية. فإني لا أستطيع أن أعرف مهما قلبت صفحات الماديين ما هو الفرق الحقيقي بين القول بخلقها، وبين القول بأنها تولدت ذاتيًّا، ما دمنا لم نعرف ماهيتها ولا حقيقتها؛ لأن كلا الأمرين يُلزم العقل بأن يفرض أن في الطبيعة قوة مبهمة غامضة. فالقائلون بالخلق يقولون بأن قوة مدبرة بثَّتها في المادة، والقائلون بالتولد الذاتي لا يتزحزحون خطوة واحدة عن معارضيهم أصحاب الخلق؛ لأنهم بقولهم هذا إنما يضيفون إلى القوى الغامضة المبهمة التي يفرضونها في الطبيعة «قوة» من قواتهم الخفية، يسمونها الحياة. لا يعنينا في هذا البحث أن نعرف بأن الحياة قد وجدت بداءة ذي بدء في صورة خلية حيوانية أم نباتية، ولا يعنينا أن نعرف إن كان التولد الذاتي لا يزال يحدث حتى اليوم، أم أنه حدث في أزمان خالية مرة أو مرتين ثم لم يتكرر لتغير الظروف الطبيعية. لا يهمنا شيء من هذا. بل يهمنا أن نعرف ونسلم بأن الحياة حقيقة لا نعرف منها إلا ظاهراتها.
لا يريد الطبيعيون الماديون أن يسلموا بخلق البزرة الحية الأولى التي نشأت منها العضويات؛ لأنهم «إن سلَّموا بها مرة لزموا التسليم بخلقها مرة أخرى استنتاجًا.» إذن فخوفهم من التسليم بخلق الحياة غير راجع إلى اقتناعهم بأنها تولدت ذاتيًّا. بل أنهم يقولون بالتولد الذاتي فرارًا من عدم مقدرتهم على التوفيق بين القول بالخلق، والقول بماديتهم التي تنكر على العقل التسليم بشيء يأتي من غير طريق الحواس، وتنكر على الطبيعة خضوعها لقوة أخرى، قد نعتقد بوجودها كفرض ضروري يحفظ على العقل ألفته، وأن عجزنا عن التدليل عليها، عجزهم عن التدليل على قواهم الكثر التي يعتقدون بوجودها اعتقادًا إلزاميًّا، ولا يستطيعون إقامة الدليل العلمي المحض على وجودها.
على أن الحواس التي يفقد الإنسان بفقدانها كل ذاتية عقلية فيه، ناقصة، لا تؤدى إلينا من الإدراك إلَّا ما يقوم مقام الفرض الصرف في كثير من الحالات. فقد عدد الأستاذ «بيتي كروزيار» ستة حقائق يجب علينا الاعتقاد بصحتها، في حين أن العلم يعجز عن معرفتها وإثبات وجودها بطرقه الموضوعة. والغالب أن السبب في ذلك راجع إلى عجز الإنسان عند إدراك الماهيات. ولنعدد هذه الحقائق كما أوردها هذا الأستاذ العظيم، دليلًا على قصور المعرفة الإنسانية وما تعتمد عليه من الحواس، وبرهانًا على أن الفرض الضروري أساس من أسس العلم الطبيعي، كما هو دعامة من دعامات التأمل الفلسفي.
-
المعتقد الأول: الاعتقاد في وجود عالم خارج عن حيزنا.
خذ مثلًا التكأة التي تكتب عليها. كيف تعرف أنها خارجة عن حيزك؟ إذا نظرت إليها أو لمستها أو وقعت تحت حسك بحال من الأحوال، فكل ما في مستطاعك أن تعرف منها ليس سوى مدركات حواس مختلفة موجودة فيك، وليست خارجة عن حيزك. لا في لونها أو صورتها، بل أيضًا في صلابتها وقوتها. والدليل على ذلك أن فقد أعصاب البصر يمنع عليك أن تراها. وأن فقد أعصاب اللمس يمنع عليك أن تحس بها. وأن فقد الحواس جميعها يمنع عليك أن تدرك أنها موجودة البتة. ذلك في حين أنه وإن لم يكن في مستطاعك أن تعرف من وجود تلك التكأة علميًّا إلا إحساسات كائنة في حيزك، إلا أن تركيب عقلك قد وضع على نظام يحملك على الاعتقاد بأنها كائنة في حيز خارج عنك. فإذا اعتقدت بما يخالف ذلك، وأخذت تؤدي عملك بما يوحي إليك به اعتقادك هذا، كان ذلك دليلًا على أن ميزان العقل قد اختل وتفككت ألفته.
-
المعتقد الثاني: وجود ذلك الشيء الذي ندعوه العقل في ذوات من البشر غير
ذواتنا.
كيف أستطيع أن أعرف أن صديقي الذي يماشيني يحوز شيئًا أدعوه العقل؟ إني لا أستطيع أن أراه أو أحس به أو أتناوله بتجربة اتخذ مجهر الطبيب أو مشرط الجراح أو مجهزات الكيماوي أداة لها. فإذا كان معتقدي في عقل صاحبي يعود إلى مقدار ما أستطيع أن أعرف منه علميًّا، لما استطعت أن أعتقد في وجوده مطلقًا؛ لأن مفخرة العلم ادعاؤه بأن كل مستنتجاته من المستطاع أن توضع تحت حكم الحواس. فإن وجود العقل في صاحبي كوجود «واجب الوجود»، كلاهما اعتقاد إلزامي. إننا لا نستطيع أن نعرفه من طريق العلم، وفي الوقت ذاته ملزمون بالاعتقاد به، كأحد الفروض الضرورية الجوهرية التي يقوم عليها أكبر جزء من معرفتنا ومعتقدنا.
-
المعتقد الثالث: الاعتقاد في تفوق العقل على المادة، والشجاعة على حب الملاذ.
كيف ندرك أن العقل متفوق على المادة، وأن العواطف العقلية أزكى طبيعة من العواطف الحسية أو حب الذات؟ كيف ندرك أن الشجاعة وكرامة الأخلاق وتضحية النفس، أصفى طبيعة من حب الملاذ والخشونة والحسيات بضروبها؟ إن خلايا المخ التي تنشأ من نشاطها وحركتها تلك الانفعالات والخصائص المختلفة، كلها تماثل المادة، ولا تدرك، كالمادة، شيئًا من هذه الانفعالات. ونعرف من جهة أخرى وبقدر ما يسمح لنا به العلم الحقيقي، أن هذه الخلايا متشابهة في المرتبة والقدر. ومع كل هذا نجد أنفسنا مسوقين إلى الاعتقاد بأن هنالك فرقًا في المرتبة واقعًا بين الانفعالات المتشاكلة، ولولا هذا الاعتقاد لأصبحت العلوم والمجادلات الأدبية برمتها سخرية وتضليل. وهنالك تتعطل المصالح العظمى في حياة الإنسان، كالتفريق بين درجات الفضيلة والرذيلة، والمدح والذم، والشرف والإسفاف، أو أنها تصبح على الأقل أشياء غير واقعة أو مضادة للبديهة.
-
المعتقد الرابع: الاعتقاد في بقاء القوة. أي في حقيقة أن كمية القوة الموجودة في
الكون ثابتة لا تزيد ولا تنقص.
يقول العلَّامة «هربرت سبنسر» كبير مفكري العلماء في القرن الماضي، إن هذا الاعتقاد أساس كل العلوم الحديثة، وأنه النبع الخفي الذي نستمد منه كل النواميس الطبيعية. يقول «سبنسر»: إن كل النواميس الطبيعية الأخر ليست سوى توابع تعود إلى هذه الحقيقة العظمى. وكل الاستنتاج العلمي «يفرض» أن القوة ثابتة، لأنها إذا لم تكن كذلك أصبحت أدوات قياس الأبعاد، التي هي في ذاتها عبارة عن قياس القوة الجاذبة، وكل أدواتنا الأخرى التي نحقق بها استنتاجاتنا العلمية، متغايرة بين يوم وآخر، أو بين ساعة وأخرى، وبذلك تصبح كل المعارف الطبيعية غير ممكنة. لذلك كان مبدأ بقاء القوة، ولو لم نستطع أن نثبته علميًّا، اعتقادًا إلزاميًّا. والعلَّامة «سبنسر» يعتقد أن هذا الفرض، وإن كان أساس العلم، إلَّا أن العلم يعجز عن إدراكه. وهذا مثال حق يثبت قاعدة أن كثيرًا مما لا يمكن أن يدركه العلم الطبيعي، يجب أن يعتقد في وجوده. إذ لولا هذا الأمر، لتحلل ذلك الهيكل النظامي الذي ترتكز عليه معرفتنا.
-
المعتقد الخامس: الاعتقاد في أن المادة توجد بوجود قوتي الجذب والدفع. وهذه مسألة
أخرى تحقق لدينا أن من الحقائق ما لا يفقهه العلم مع استحالة عدم
الاعتقاد به.
أما أن قوتي الجذب والدفع حقيقة طبيعية؛ فذلك ما لا سبيل إلى إدحاضه. فإننا إذا أخذنا جسمًا صلبًا وأردنا أن نفصل بعض أجزائه عن بعض فإنه يقاوم مجهوداتنا. وكذلك يقاومنا إذا أردنا أن نضغط أجزاءه، مثبتًا بذلك أنه إنما يتركب من دقائق تتجاذب وتتدافع في آن واحد. وإلى هذه الحقيقة تعود ظاهرة التفاعل وعدم التفاعل في العلم الطبيعي، بل وفي أجزاء الطبيعة برمتها. ومع كل هذا فإن هذه الحقيقة تعدو الإدراك العلمي في تعليل كيف أن دقيقة واحدة تجذب أخرى في حين أنها تدفعها وتقاومها. وفي ذلك يقول «سبنسر»: «إننا لا نستطيع أن نأتي بقطعة من المادة يظهر فيها أن جزء يجذب آخر في حين أنه يدفعه. ومع هذا، فإن الاعتقاد بذلك إلزامي ضروري.»
-
المعتقد السادس: الاعتقاد في السببية العلمية.
وهو عبارة عن الاعتقاد في أن كل نتيجة لا بُدَّ لها من سبب يناظرها في القيمة. وهو اعتقاد في حقيقة نساق إلى اليقين بها، ولا يمكن معرفتها من طريق علمي.
لا يوجد في مجرد تتابع وقوع الظاهرات ما يسوقنا إلى الاعتقاد باتصالها اتصال العلة بالمعلول. وكل ما في مستطاعنا أن نرى، أن هنالك سلسلة من سوابق ولواحق. ومع ذلك نجد أنفسنا مسوقين إلى الاعتقاد في تلك الحلقات غير المرئية من السببيات التي تربط بعض الأشياء ببعض، ذلك الاعتقاد الذي يحفظ علينا ألفة العقل ونظامه. والسبب في أن حقيقة السببية العلمية لا يقتدر العلم على الوصول إلى الكشف عن ماهيتها، راجع إلى أنها ليست سوى مظهرًا من مظاهر بقاء القوة. وما دام بقاء القوة لا يمكن معرفته من طريق العلم، فيتبع ذلك أن يمتنع على العلم معرفة ماهية السببية. فإننا عندما نقول: إن نتيجة ما يجب أن يكون لها سبب، فإنما ننسى أن القوة التي يتكون منها ذلك السبب لا بُدَّ من أن تكون قد استمدت من ناحية أخرى، أي إن لها سببًا عنه نتجت. فإن نتيجة ما مثلًا قد تقع تحت حسنا، وقد نمثل لها بعدد أربعة. فإننا حينذاك نعتقد أيضًا أن اثنين واثنين أو ثلاثة وواحد لا بُدَّ من أن تتقدم وجودها. وهكذا نتابع البحث عن الأسباب حتى نصل إليها، وعندها نقول: وصلنا إلى السبب. أما الاعتقاد بأن الأربعة يمكن وجودها من غير وجود اثنين واثنين أو ما يساويهما وجودًا سابقًا على الأربعة، فاعتقاد بأن القوة قد حدثت بعد العدم، وفي ذلك نكران لحقيقة بقاء القوة.
ثم يقول بعد ذلك العلَّامة «كروزيار» ردًّا على «كونت» في إنكاره واجب الوجود: «فإذا كانت القواعد الأولية التي تقوم عليها مدركاتنا ومعارفنا المنظومة يجب أن يعتقد بها ولو لم يكن في مستطاع العلم أن يعرفها، فإن أقوى برهان يقيمه «كونت» في وجه الاعتقاد بوجود الله، إذ يقول بأنه لا يمكن إثباته بالعلم، ينهار من وهن أساسه.»
•••
كذلك لم يظهر لنا القائلون بأن مذهب النشوء مثبت للمادية مشيد لأركانها، هادم للألوهية وما بعد الطبيعة، بأي وجه من وجوه التدليل، أواصر تلك الرابطة التي تربط النشوء بالرأي المادي المنكر لوجود الله. فإن مذهب النشوء لا يبحث إلَّا في تلك القوانين الثانوية الجزئية التي تحكم في وجود الأفراد وتثبت تسلسل بعضها من بعض متحولة في حلقات من النشوء التدرجي. لذلك نرى أن المذهب بعيد عن البحث في الماهيات. ولذلك نجد أنه بعد جهد ما يستطاع عن الكلام في أصل الحياة وهل هي مادية، أم هي من تلك الأسرار التي يستحيل على العقل الإنساني والعلم أن يصل إلى معرفة ماهيتها. على أنك إن حققت رأي الماديين في الحياة وأصلها ألفيت أن مجهوداتهم كلها محصورة في الكشف عن السنن الطبيعية التي أنشأت الحياة فوق الأرض، لا في البحث في ما هي الحياة؟ ولا جرم أن للحياة ماهية خفية، فهي لغز في الطبيعة، يضاف إلى بقية الألغاز التي يقف عندها الماديون والإلهيون معًا، تحوطهم الحيرة، وتأخذ بلبهم روعة الجلال والعظمة المنبثة في أطراف هذا الكون.
قال الماديون: انتصرت المادة عندما كشف «غليليو» عن دوران الأرض حول الشمس. وقالوا بذلك لما عرفت حركة الأجرام وضبطها، وقالوا بذلك القول عينه عندما علل «داروين» أصل الأنواع بالنشوء، وهم اليوم يقولون بذلك استنادًا على رأي الأستاذ «إنشتين» في النسبية. قالوا بذلك، ولا مشاحة في أنهم سيرددون صدى ذلك القول مرات عديدة، ولكن ترد يدهم لمثل هذه الأشياء ليس بمغنيهم عن البحث في الماهيات شيئًا. فلو أنهم عرفوا ماهية شيء ما في العالم، وأثبتوا أن تلك الماهية لا تعود إلى أصل غامض منه تستمد، لأغناهم ذلك وحده عن تلك الآلاف المؤلفة من المجلدات التي حاولوا أن يثبتوا فيها مادية الكون والحياة. من هنا نجد أن القول بأن النشوء مثبت للمادية نتيجة لسلسلة ادعاءات من نوع واحد، لم يثبت واحد منها، ولم يقم دليل على أن العقل البشري في متجهه الحديث، سائر نحو الأغراض التي تحققها، أو على الأقل تحقق شيئًا منها.
إنا لا ننكر مطلقًا أن مذهب النشوء والارتقاء قد استكشف، كما استكشف مذهب الجاذبية وغيره من المذاهب، كثيرًا من السنن التي يعود إليها عديد من الظاهرات الجزئية التي تقع تحت حسنًا. ومن هنا ينشأ الخلاف البين بين الماديين والإلهيين. ذلك لأن الماديين يريدون أن يقولوا أن استكشاف هذه النزر اليسير من السنن الجزئية التي تعود إليها الظاهرات، كافٍ لتعليل الكون في مجموعه، والإلهيون يقولون بأن حقيقة الكون ومرجعه، لا يعلله استكشاف بضعة سنن، لا يزال علم الإنسان بها ناقصًا نقصًا فاضحًا.
الإرادات والأسباب
لقد ذاعت الفكرة المادية في العصور الحديثة وظهرت بارزة قوية، عندما أذاع الفيلسوف «أوغست كونت» رأيه في الإرادات والأسباب، حيث قال: «بأن الإنسان إذا عجز عن تعليل ظاهرات الكون ومعرفة أسبابها الطبيعية، عزاها إلى قوى شبيهة بقواه البشرية.»
ومما لا مشاحة فيه أن نظرية «كونت» هذه تنطبق تمام الانطباق على الحالة التي يحار فيها الفكر ويعجز عن بلوغ الأسباب التي تعود إليها الظاهرات. وبعد هذه النظرية عند مغمضات الكلام الفلسفي، جعلها شديدة الأثر في أذهان الناس. ومما جعلها أشد تأثيرًا في العقول وأبعد منعة عن مجال النقد، أنه ما من استكشاف إلَّا وأيدها، إذ به يعرف الناس سببًا طبيعيًّا جديدًا تعود إليه ظاهرات كانوا من قبل ينسبونها إلى إرادات مثل إراداتهم، لا إلى قوانين وسنن طبيعية بعيدة عما كانوا يعتقدون به كل البعد.
ولا أزال أذكر حادثة وقعت لي عندما كنت مكبًّا على دراسة رأي «كونت» هذا سنة ١٩١٤، فإن علماء الأزهر في ذلك الحين أقاموا صلاة استسقاء يستدرُّون بها ماء السماء ليحيي الأرض بعد موتها. فكان ذلك برهان جديد عندي على صحة نظرية «كونت» هذه، وقلت في نفسي حقيقة إذا عجز الإنسان عن معرفة الأسباب الطبيعية عزى الظاهرات إلى قوى مشابهة لقوته الحيوانية.
ولو نظرت في تاريخ النزاع الذي تطاير شرره واستعرت ناره بين اللاهوت والعلم في عصور النصرانية، لوقعت في كل صفحة من صفحاته على مثال يؤيد نظرية «كونت». فقد كف الناس عن القول بأن المذنبات نذر إلهية عندما عرفوا أسباب ظهورها وعللوا وجودها. وكفوا عن القول بأن الصواعق نتيجة غضب إلهي عندما عرفوا حقيقة الكهربائية الجوية، وعندما استكشف «فرنكلين» مانعته المشهورة. ورجعوا عن القول بأن الجنون والمس عائد إلى أعمال السحرة والمشعوذين وأنصار الشيطان عندما دلهم الطب على أسبابها العصبية. ورفضوا الاعتقاد بأن اللغات منشؤها بابل عندما وضعت قواعد مقارنة اللغات. وفي كل مثال من هذه الأمثال، وكثير غيرها، دليل يؤيد سنة «كونت». فإذا عرفت كيف تعلل لنا هذه السنة انتقال العقل البشري وتخطيه حواجز القرون الأولى من عبادة الأصنام والتكثير، إلى التثليث والتوحيد، صح عندك أن هذه السنة ثابتة لا مبدل لها، وانهار أمامها عندك كل معتقد، وتفككت بها كل صلة لك بالماضي.
غير أن فلسفة «كونت» لم تلبث إلَّا قليلًا حتى هدأت من حولها ثائرة التعصب، وأخذت العقول تقلبها على أكف النقد. وهنالك عثر العقل البشري مرة أخرى على ضالته، عثر على الأسباب الحقيقية التي من أجلها استأصل في تضاعيفه الشك إزاء قدرته على تعليل الكون، وهنالك في نقد العلَّامة «كروزيار» وقعت على ما يناقض سنة «كونت» بل على ما يمحو أثرها ويذهب بمنعتها التي اعتزت بها زمانًا.
يقول «كروزيار»: «أما صحة قانون «كونت» فمما لا أشك فيه. غير أني رأيت بعد قليل أن كل مبادئي العلمية تناقض النتائج التي يلوح لنا أن هذا القانون قد يسوق إليها.» ولا جرم أننا نعتمد الآن على رأي هذا العلَّامة الكبير في الكشف عما انطوى عليه قانون «كونت» من المناقضة للواقع، والبعد عما يزعم هذا الفيلسوف الكبير أن سنته مؤدية إليه.
•••
لما استكشف خريستوف كولمب الأرض الجديدة وعاد إلى بلاد إسبانيا من رحلته الأولى، أقيمت له وليمة تكريم حضرها الملك والملكة وأعيان مملكة إسبانيا إذ ذاك وعلماؤها ورجال الدين فيها، فأخذهم الحسد، ودبت في قلوبهم الغيرة، فابتدره أحدهم بقوله: «إنك لم تعمل من شيء خارق للعادة، وكل منا كان في مستطاعه أن يستقل سفينًا تذهب به الرياح إلى الشاطئ الآخر من المحيط.» فأسرها كولمب في نفسه. وبينما هم جلوس حول المائدة تناول بيضة دجاجة وقال لهم: إن مَنْ يستطيع أن يجعل هذه البيضة تقف على أحد قطبيها كان أعظم ممن استكشف العالم الجديد. فتناول كل من الجلوس بيضة وعبثًا حاولوا ذلك، حتى إذا أعيتهم الحيل تناول كولمب بيضة ودق أحد قطبيها ووضعها أمامه على المائدة فاستوت عليه. فقال أحد الحضور: «كل منا كان في مستطاعه ذلك» وإذ ذاك قال كولمب كلمته الساذجة الكبيرة: «ولكنك لم تفعل يا سيدي.» وهذا المثل التاريخي العظيم، على خلوه من زيف القول وعنت الجدل والكلام السفسطي، كان أكبر عظة للناس.
كذلك يقول العلَّامة «كروزيار» إن برهانه الذي يقيمه على فساد سنة «كونت» ساذج خلو من السفسطة والفروض الجدلية، عقلي في مبناه، علمي في قوامه، فعسى أن لا تسوق الناس سذاجة الدليل، وإن كان عظيمًا مقنعًا في ذاته، إلى النظر إليه بعين مدخولة بالاحتقار لفرط سذاجته وقربه من البدهيات، وغالب ما تكون البرهنة على البدهيات من أكبر المعضلات.
•••
إن الاعتقاد في إرادات أو ذوات عاقلة، لم يكن إلا تصور باطل نخفي وراءه جهلنا بالأسباب الطبيعية. أما الآن وكل المتعلمين من أبناء المدنية الحديثة يعتقدون بأن كل الحوادث العالمية والظاهرات الطبيعية لا بُدَّ من أن تعود إلى سبب طبيعي، وأنه من المستطاع تعليلها تعليلًا علميًّا مبناه العلم الطبيعي، فلم يبق ثمة من فراغ يسده الاعتقاد في وجود الله، ولم يبق من سبب يسوقنا إلى الإيمان به.
والعلَّامة «كروزيار» لا ينكر أن الاعتقاد بالله إذا ارتكز على ضرورة العثور على بيان مما بعد الطبيعة يفصح به عن حقيقة الظاهرات الطبيعية، التي لا يمكن تعليلها بغير استدرار وحي ما وراء الطبيعة، يصبح اعتقادًا غامضًا محوطًا بالريبة في نظر العقليين والطبيعيين معًا، بل هو على يقين من أن هذا الاعتقاد يمسي عرضة للزوال أمام أضعف البراهين الطبيعية. غير أنه يرى أن موضع الضعف في تدليل كونت، ومن تابعه في الرأي، ينحصر في اعتقادهم بأنه لا يوجد في العالم من شيء يحتاج إلى التعليل أكثر من وصل الحلقات المتفرقة في سلسلة الظاهرات الطبيعية التي يتكون منها العالم في مجموعه بعضها ببعض، في حين أن الحقيقة أن السلسلة في مجموعها ككل متواصل الأسباب، غير ممزق الوحدات لم يستكشف سببها الأول.
ليس يكفي في نظر العلَّامة «كروزيار» أن تعلل لنا الأسباب الطبيعية كيف ينشأ الإنسان من أبويه وكيف نشأت القرون الأولى من قبله، بل الواجب أن يكشف لنا الطبيعيون عن علة الوجود الإنساني أصلًا في هذه الحياة الدنيا!
ولا يكفي عنده أن يعرف الطبيعيون كيف أنشأت سنن التطور والارتقاء الأحجار والأشجار والأزهار والحيوان والإنسان، بل يجب، لكي يصلوا إلى دليل ينقع غلة الباحثين في أصل الوجود، أن يعللوا ببراهينهم الطبيعية لماذا خصت الجواهر الفردة التي تتكون منها هذه الأشياء بخاصيتي الجذب والدفع، ولم تخص بصفة أخرى؟
ولقد مثل العلَّامة «كروزيار» لهذه الحالة بمدفع يطلق بالكهرباء. ولا مندوحة للعقل الإنساني، في مدارج الرقي المدني الأول، من أن ينسب كل حلقة من حلقات هذه الظاهرة إلى إرادة خفية غير معروفة، ما دام اتصال الحلقات المختلفة في نظام المدفع العام لم يستطع الوصول إلى معرفته وعلته، حتى يسكن العقل إلى تعليل الظاهرة التي تقع تحت اختباره. ولكن إذا ارتقت العقلية الإنسانية إلى الحد الذي تستطيع عنده تعليل الاتصال بين الأجزاء المختلفة بأسباب طبيعية، لم يبق هنالك من حاجة لتدخل قوة مفروضة غير مرئية ولا معروفة، لتعليل الظاهرة في تواصل حلقاتها، ولم يتسع المجال للاعتقاد بها. ولكنا مع عدم احتياجنا في تلك الحال إلى الركون للقول بإرادة غير مرئية لتعليل كل حلقة من حلقات الظاهرة الطبيعية، فإننا مع هذا نرى أنفسنا مسوقين إلى الاعتقاد بوجود إرادة عاقلة مدبرة حكيمة، يرجع إليها وجود الآلة في مجموعها.
في حالة من الحالات، كانت المعرفة الإنسانية بوجوه الاتصال بين الظاهرات المختلفة ضئيلة إلى حد مست الحاجة عنده إلى فرض مجموع من مختلف الآلهة يرجع إلى كل منهم السبب في وجود كل حلقة من حلقات الظاهرة منفصلة عن المجموع. ولما ضربت الإنسانية بقدمها الثابت في سبيل العلم الطبيعي، قلت الآلهة عندها، ولم يبق منها إلَّا النزر اليسير معللًا بها بعض الظاهرات التي كانت أسبابها لا تزال رهن التحقيق العلمي، ومضت الإنسانية بعد ذلك ممعنة في الكشف عن كثير من حقائق الكون، حتى استقر اعتقادها في النهاية على إله واحد، اقتصرت إرادته على التدخل في بعض الظاهرات دون بعض، وبطرق موسومة بطابع العلم والحكمة.
يقول الطبيعيون اليوم بأن الظاهرات الطبيعية المختلفة يمكن تعليلها بأسباب طبيعية، أو هي قابلة لأن يكشف عن أصلها بالعلم الطبيعي. فهل هذه الفكرة، إن صحت، تغنينا عن الاعتقاد بوجود الله؟ على الضد في ذلك يعتقد العلَّامة «كروزيار» أن هذه الفكرة لا تغني عن الاعتقاد بالله شيئًا، وأن كل أثرها محصور في أنها تضعه — سبحانه وتعالى — وراء عالم الظواهر لا غير. تبعده عن التدخل المباشر في حدوث وجوه الاتصال بين الظاهرات الجزئية، وتجعله مرجع الكليات العامة، مرجع القصد والنظام، وعلة الكون في مجموعه.
قبل أن يستكشف قانون جاذبية الثقل اعتقد «كبلر» أن حفظ السيارات في أفلاكها راجع إلى أرواح موكلة بها. أي إنه نسب السبب الطبيعي إلى إرادة مثل إرادته، عندما أعوزه السبب الذي تعود إليه الحركة. فلما عرفت جاذبية الثقل سكن العقل البشري إليها، ولم يحاول مرة أخرى تعليل حركة الأجرام. ولكن ألا يحتاج العقل إلى البحث عن سبب ترجع إليه جاذبية الثقل وأثرها في نظام الكون؟
ينكر «كونت» والماديون أو هم يتناسون على الأقل، أن الحلقات المتتابعة التي تتكون منها سلسلة الظاهرات الكونية، إن كان من المستطاع تعليلها بالأسباب الطبيعية، فإن السلسلة كمجموع ووحدة غير محللة ولا منفصلة الأجزاء قد ظلت في الماضي والحاضر، وستظل في المستقبل، محتاجة إلى تعليل، وسبب، إليه تعود ومنه تنشأ. ولما كانت هذه الحقيقة ذاتها غير مستطاع أن تصل إليها الأسباب الطبيعية بتعليل، كان لا مندوحة لنا بحكم قانون «كونت» نفسه من إرجاعها إلى حكم إرادة حرة أو إله عاقل حكيم.
أما إذا حاول الماديون أن يقولوا بأننا لسنا مرغمين على الاعتقاد بوجود الله مع هذا، ظهر قولهم بعيدًا عن الحكمة؛ لأنك إن لم تعتقد في وجود الله لتعلل الكون في مجموعه، نقضت حجر الزاوية من قانون «كونت» الذي سلمنا مع الطبيعيين بأنه حقيقة ثابتة، ولتفككت مع نكراننا لوجود واجب الوجود كل ألفة للعقل، وهو الأداة الوحيدة التي تستطيع بها الذوات الفانية البحث وراء الحقيقة، كما أنه مرجع اليقين والاعتقاد.
إن كل ما استكشفه الإنسان من الأشياء التي تكون مدنيته وعلمه، ليست سوى سنن ترجع إليها الظاهرات، لا علل أصلية. ولهذا نرغم على أن نعود بعلة الكون إلى إله عاقل حكيم، ما دمنا لا نستطيع، وليس في مستطاعنا، أن نعرف للكون علة أخرى.
وأما البحث في ماهية العلة التي يعود إليها الكون وصفاتها، فمسألة اختلف فيها وفتح باب الجدل على مصراعيه، وكان الخلاف راجعًا إلى مقدار ما عرف كل من الباحثين من حقائق المعلول ذاته، أي من الكون.
•••
لقد تابع العلَّامة «كروزيار» نقد سنة «كونت» على اعتبار أنه منكر لوجود الله. والحقيقة على نقيض ذلك. فإن «كونت» إن كان لا يعتقد في علة العلل، وكل براهينه تسوق إلى هذه النتيجة، فإنه لم يبلغ في كلامه حد إنكارها إنكارًا مطلقًا، بل على الضد من ذلك يقول إنك إن لم تجد بدًّا من أن تكوِّن نظرية فرضية في حقيقة علة الكون، وذلك عنده خرق كبير، فإن نظرية فرضية مبناها وجود عقل مدرك مدبر، أرجح من إنكار وجوده. ولكن معتقدك، في نظر «كونت» لا يصبح أكثر من فرض.
ويعلل العلَّامة «كروزيار» سبب هذا التناقض في آراء «كونت» بين مبنى مبادئه المنطقية التي يرجع إليها معتقده من جهة، وبين اعترافه بعلة الكون من جهة أخرى، بأن «كونت» بينما كان يشعر بأنه لا ضرورة للاعتقاد بوجود الله ليعلل من طريق الإنكار وجوه الاتصال بين الحلقات المنفصلة في سلسلة الظاهرات الطبيعية في الكون، فإنه لم يستطع أن يخرج بنفسه وعقله عن النتائج التي يؤدي إليها قانونه في الإرادات والأسباب، إذ يجر المتأمل منه حتمًا إلى القول بأن الكون كوحدة، يجب أن يرجع إلى سبب، وأن هذا السبب بمقتضى قانونه نفسه، يجب أن يكون علة مريدة مدركة. ويعتقد العلَّامة «كروزيار» فوق هذا أنه ما من سبب جر «كونت» إلى إنكار الألوهية، إلَّا معتقده بأنه لا يمكن التدليل عليها من طريق العلم. وهذا ما نقضه «كروزيار» كما رأينا من قبل. فإذا أضفت إلى ذلك أن «كونت» قد وضع للناس صنمًا يدينون به سماه «الإنسانية» عرفت كيف اقتادته خطواته إلى إنكار العلة التي يرجع إليها الكون في مجموعة، لا في وجوه اتصال الحلقات التي تكون ظاهرة.
تلك هي براهين العلَّامة «كروزيار» التي صدعت أدلة «كونت» في أواخر القرن الماضي، وتركت المادية حيث كانت من قبل «كونت»، وحيث وقفت سفينتها بين متناوح رياح الفكر تتقاذف بها أنواؤه.
موقف الماديين والإلهيين
يحاول الماديون أن يتخذوا من علمهم بالطبيعة برهانًا يقيمونه على القول بمادية الكون. غير أنهم كلما مضوا في سبيل العلم حوطهم علمهم بمناطق من الحيرة وساقهم إلى منازل من الغموض، لم يجدوا من سبيل إلى إزاحتها إلا بالركون إلى العقل يستخلصون منه مشابهات يعللون بها ما لم يستطع علمهم الوصول إلى إقامة الدليل العلمي عليه.
يتلخص الآن موقف الماديين والإلهيين في شيء واحد. يقول الماديون: إن العالم مادة في مادة. وقوة في قوة. مادة صماء. وقوة عمياء. لا قصد وراءها، ولا عقل يدبرها، ولا إرادة تحكم نسبها، وتسيرها، ولا علة مريدة تعود إليها. ويحاولون جهد ما يستطيعون أن يقنعوا أنفسهم بأن اكتشافهم حلقات الاتصال بين ظاهرات الطبيعة كافٍ لإثبات زعمهم هذا، وأنه مغنيهم عن تعليل مجموع الكون وماهياته.
ويقول الإلهيون: إن المادة والقوة أشياء مبهمة في الطبيعة، بل معجزات أمام العقل البشري. وإننا إن استكشفنا حلقات الاتصال بين الظاهرات الطبيعية فإنما ذلك إدراك لبضعة نظم جزئية ثانوية، لا تعلل الكون في مجموعه. وإن المعجزات لواقعة في الطبيعة بالفعل. فليست المعجزة كما يقول عامة الناس هي خرق نظام الطبيعة الأبدي الثابت، كلا. إنما المعجزة بمعناها العلمي هي ما يعجز العقل البشري والعلم الإنساني عند تعليله بالسنن التي تضبط الظاهرات. فقوتا الجذب والدفع مثلًا، قوتان غامضان مبهمتان، يعجز العقل عن إدراكهما إدراكًا علميًّا. ومع ذلك فإنك إن فرضت عدم وجودهما، تفككت مع فرضك هذا ألفة العقل ونظامه. كذلك الماهيات برمتها. فإذا تساءلت مثلًا ما هي الجاذبية؟ وما هي الكهرباء؟ وما هي الحرارة؟ وما هو البعد الرابع في النسبية؟ عجزت عن الجواب وحصرت عن الكلام. وذلك في معتقدي معنى المعجزة. فالإنسان محوط بمعجزات، مروع بماهيات خفية غامضة تكتنفها ظلمة من كل ناحياتها.
ولقد تعلق الماديون بذيول مادتهم حتى أرهقتهم وأذلتهم واستعبدتهم استعبادًا. وأشد ما يكون الاستعباد أثرًا في النفس إذا قام على المعتقد. فهم يعتقدون أنهم عللوا الكون. في حين أنهم لم يعرفوا من علته شيئًا. ولم يحد بنا إلى الإفاضة في هذا البحث إلا نزعة الماديين إلى القول بأن مذهب النشوء قد أثبت المادية وضرب القول بالألوهية في صميمه. وهم إذ يقولون ذلك القول ينسون أو يتناسون أنهم لم يعرفوا ماهية الحياة. ويتغافلون عن أن قولهم هذا مثبت من جهة أخرى أن جاذبية نيوتن، وكيمياء لافوازييه، ونظام لابلاس، وكونيات هولباخ، إنما كانت تعلل مادية الكون تعليلًا ناقصًا، وكان ينقصهم النشوء لتتم عللهم المادية. كما أن قولهم اليوم بأن نسبية «إنشتين» قد عللت مادية الكون، دليل جديد على أن النشوء لم يتم تعليل مادية الكون كما ادعوا من قبل. وسيقولون هذا القول عينه، كلما وقعوا على حلقة من تلك الحلقات التي تربط بين الظاهرات، وما هم في كل ذلك من تعليل الكون في كثير ولا قليل.
من هنا لم أجد مندوحة عن متابعة الكلام في براهين العلَّامة «كروزيار» التي يقيمها على وجود الله. وأنا لعلى يقين من أن تلك المباحث سوف تثبت في عقول كثير ممن يعتدون اليوم بيننا بالرأي المادي، في حين أن ذلك الرأي نفسه قد أخذ يتحطم في أوروبا، مهد نشأته، ومهبط وحيه.
كما أن الشبح المنعكس من عدسة زجاجية على حائط، ليس سوى صورة مكبرة من ذلك الشبح الكائن في العدسة، كذلك النظريات الخاصة بهذا العالم، ليست سوى صور مكبرة من نظريات العقل الإنساني، تسبك عادة على نماذج تستمد من تجاريبنا الذاتية.
الاعتقاد بالله والسببية العلمية
لقد حاول كثير من جهابذة أهل النظر وعظماء الفلاسفة ومتنطسي العلماء أن يصلوا إلى إدراك الذات المدبرة لهذا الكون بطريقة غير هذه الطريقة فأعيوا، ولو أنهم غالب ما حدسوا أنهم وصلوا إلى الحق. بينا ترى إذا ما أنعمت النظر فيما أتوا به، أنهم لم يصلوا إلَّا إلى ظواهر لا تغني عن الحق شيئًا. فإنهم لم يتبعوا سوى طريقين: ففي الطريق الأول تجدهم وقد أدركوا العلة الأولى من طريق المشابهات المستمدة من الخصائص الإنسانية، وقد حوطوا تلك الخصائص بصفات يبعد أن تكون لنفر من بني الإنسان. وفي الطريق الثانية تلفيهم وقد جعلوها مدركًا مجردًا مقيسًا بقسم من الطبيعة البشرية دنيء، منحط، غير محدود.
خذ لذلك مثلًا «اسبينوزا»، فإنه لأبعد الفلاسفة عن الاعتقاد بأن الخالق مكون على نموذج عقله، ومضى في فلسفته متخيلًا أنه قد اجتاز تلك العقبة الكئود، بأن جعل الخالق عبارة عن امتداد وفكر. غير أن دكتور «مارتينو» لم يلبث أن نقض فكرة «اسبنيوزا» هذه متسائلًا: «من أين أتت له فكرة الامتداد إلا من النظر في حالات جسمه الطبيعية، ومن أين أتى له أن الله فكر إلا من خصائص عقله.» ذلك لأن الامتداد والفكر ليسا سوى شيئين هما أخص ما تتصف به الأجسام والعقول.
خذ بعد ذلك «هربرت سبنسر»؛ فإنه على الرغم من قيامه في وجه القائلين بالناسوتية، وعجزه عن إنكار الخالق وعلة العلل، أخذ يدير وجهه يمنة ويسرة ليقع على شيء يعلل به الكون ويعزو إليه النظام العالمي بحيث يكون بعيدًا عن كل شك وريبة، فاقتادته خطواته إلى القول بأن هنالك «قوة خفية» تدبر الكون، ظانًا أنه قد تخطى المصاعب واجتاز العقبات التي وقعت في سبيل غيره من الفلاسفة الطبيعيين. على أنك لو نظرت نظرة تأمل في فكرة «سبنسر» لألفيت أنه لم يتقدم على مَنْ سبقه من المفكرين خطوة واحدة. فكما أن الخالق عند «اسبينوزا» لم يكن إلا شبحًا إنسانيًّا تمثله في المكان — امتداد وفكر — كذلك كان الخالق عند «سبنسر» عبارة عن تمثل صرفٍ لفكرة غير معينة، هي فكرة القوة، وهي فكرة مستمدة من أحط خصائص الذاتية البشرية: خاصية إدراك الحس. وأنت مهما قلبت وجوه الرأي وأمعنت في النظر فإنك تجد دائمًا أن فكرة القوة، كما ثبت من قبل، مستمدة من قسم من ذاتيتنا، أي من إدراك الحس. ف «سبنسر» بدلًا من أن يجعل الخالق بعيدًا جهد البعد عن الذاتية البشرية، كما كان يعتقد، إذ به يتمثله على نموذج مستمد من أحط خصائص الإنسان. على أن «سبنسر» بعد أن حمل على «الناسوتية» لأنها تزود الخالق بأرقى الخصائص الإنسانية، مستقلًا ذلك بجانب الله، رجع فزلت قدمه فيما زلت فيه قدم غيره من الفلاسفة الذين تقدموه، فزود الخالق بخصائص مستمدة من أحط الصفات التي يشارك فيها الإنسان أدنى الحيوانات، بدلًا من أن يتركه مزودًا بأرقى الخصائص الإنسانية. ومن الظاهر، بناء على ذلك، أنه في كل المباحث التي تتعلق بالنظر في أصل الأشياء، لا يجب مطلقًا أن نتساءل عما إذا كنا نصور «علة الكون» على نسق مستمد من ذاتيتنا؛ لأن تصوير العلة على نسق الذاتية البشرية أمر لا يمكن أن تنصرف عنه ذات فانية، بل الواجب أن نتساءل دائمًا عما إذا كنا نصورها على نسق مستمد من نظريات سطحية، أم نصورها على نموذج مرجعه الوسعة في النظر، والألفة التامة الموافقة لنظام العقل الإنساني.
فإذا كنا لا نستطيع أن ندرك من علة الكون إلا نموذجًا يرجع تصويره إلى تجاريبنا الذاتية، فمن الظاهر أن اعتقادنا في وجود إرادة عاقلة أي علة خالقة، وعدم اعتقادنا، يرجع إلى ما ندرك من فكرة السببية. وما دام فهمنا للسببية عائد إلى ما ندرك منها حسب تجاريبنا العلمية، أي إنها تنحصر في القياس على السوابق الطبيعية الظاهرة أجلى ظهور، فمن الجلي أننا لا نرضي في عقليتنا فكرة التسلسل السببي إلَّا بالاعتقاد في أن الأشياء لا بُدَّ أن تكون قد نشأت بعضها من بعض متدرجة في سلسلة منظومة خلال «الزمان» وهذا أمر يلزمنا الاعتقاد حتمًا بوجود إرادة عاقلة مخبوءة وراء عالم الظواهر الطبيعية ظلت مؤثرة في الماضي والحاضر وستظل كذلك في المستقبل.
غير أننا إذا اعتقدنا بأن السببية الحقيقية تشمل في مدلولها فكرة الإرادة، فمن الظاهر أننا إذا أردنا أن نحتفظ بألفة العقل البشري، تلك الألفة الصحيحة التي لا يمكن أن نتخذ غيرها دعامة للبحث وراء الحقيقة، فمن المحتوم علينا أن نعتقد في إرادة عاقلة حرة نتخذها علة للأشياء، أو بعبارة أخرى، أن نعتقد في خالق. وعلى ذلك نلزم القول بأنه كما يكون رأينا في السببية، يكون معتقدنا الديني.
أما إذا أردنا أن نصل إلى نتيجة جلية واضحة في بحثنا هذا، فيجب أن نظهر أولًا أن العلة الوحيدة التي في مستطاعنا أن نتناولها بمعرفة يقينية وبحث اختباري هي إرادتنا الذاتية، وقدرتها على تحريك أعضاء الجسم، والأجسام التي تقع تحت سلطانها. وما فعل الإرادة الإنسانية في الواقع إلا الانتقال من حركة عقلية إلى فعل طبيعي. أي الانتقال من العقل إلى المادة. وما دامت معرفتنا للسببية من طريق الاختبار مقصورة على ذلك، فمن الواضح الجلي، أننا إذا تركنا وبداهتنا الفطرية لزمنا أن نعود بالكون، كما فعلت كل الأديان، إلى فعل عقل عظيم نعرفه باسم بارئ الأشياء. فإذا ما فعلنا ذلك نكون قد أعطينا العقل البشري تلك الألفة التي يتطلبها الاعتقاد الصحيح.
غير أن هذه النتيجة على ما فيها من السذاجة وقربها من أحكام العقل الأولية لا يتركها العلم من غير أن يتحداها بسلطانه. يتدخل العلم في هذه النتيجة ويهمس في الضمائر والعقول، بأن تلك الحركة العقلية التي تسببها الإرادة، والتي نتصور أنها الفكرة الوحيدة في السببية، ليست، إذا ما بحثت من أساسها، سببية حقيقية، ولا تزيد عن كونها ظاهرة عقلية أو عرض من أعراض السببية الحقيقية. وما السببية لدى العلم، إلا تلك الاهتزازات التي تتناول نشاط دقائق المخ، ومراكز الحس العصبية. وعلى ذلك يكون مضمون السببية الصحيحة عند العلم، ليس الانتقال من الحركة العقلية إلى الفعل الطبيعي، بل الانتقال من سابقة طبيعية إلى لاحقة طبيعية، أي من مقدمة طبيعية إلى نتيجة مثلها، ولا تتعدى مطلقًا حكم السنن التي تتصرف فيها وتنتجها.
يقول العلم: إن الحركة العقلية التي ندعوها الإرادة، لست سوى عَرَضٍ يلازم اهتزازات دقائق المخ المادية، وليس لها من أثر في إحداث الأفعال أكثر من أي عرض آخر.
فإذا كانت نظريتنا في الكون، ليست سوى استعراض صرف للنظريات التي تخلقها عقولنا، وإذا كان تكوين عقولنا يدل على أن الإرادة ليست السببية الحقيقية، وأنها ليست إلا عرضًا من أعراض السببية الحقيقية، فظاهر أن الاعتقاد في عقل مدبر أو إرادة ترد إليها العلة في وجود الكون، يتحطم على صخور العقل البشري ويتفرق بددًا، وتحل محله عندنا تلك النظرة المادية التي تسوقنا إلى القول بأنه ليس في العالم إلا سلاسل من السوابق الطبيعية، ونتائج متلاحقة. تتبع إحداها الأخرى، على تتالي الأحقاب، وخلال تواتر الزمان، كما كانت، وكما هي كائنة، وكما ستكون.
على أننا إذا أردنا أن نرد على هؤلاء الماديين، فليس من قصدنا أن ندفع براهينهم وحججهم التي يستندون إليها برهانًا ببرهان وحجة بحجة، ولكنا سنظهر أن الماديين إنما ينظرون في العالم من بين أقدامهم، وأنهم بذلك يتبدلون من ألفة العقل والحقيقة، بعماء صرف وفوضى لا نهاية لها.
•••
ينصرف الناس في كل ما يتناولونه بالكلام والبحث وهم على شعور تام بأن كل واحد منهم إنما يملك شيئًا يقال له: القوة المدركة، وأن لهم شيئًا يقال له: حس الجمال والموسيقى وما إليها من الخصائص، كما أنهم يملكون ذلك الشيء المبهم الذي يسمونه الإرادة. فإذا سقت مباحثك مقتنعًا بأن الإرادة ليس لها وجود حقيقي، وأنها ليست سوى عرض من أعراض اهتزازات دقائق المخ، لم يبق أمامك من شيء آخر إلا أن تنكر مع إنكارك الإرادة كل وجود حقيقي لكل الخصائص العقلية التي للإنسان. وعلى نفس الحجج التي يستند إليها الماديون في إنكار الإرادة، تستطيع أن تستند في إنكار كل القوى المدركة والملكات الأخرى.
تستطيع أن تقول مثلًا، بأن القوى المدركة برمتها إنما هي عرض لاهتزازات دقائق ما في مادة المخ، وبذلك لا يكون لها وجود حقيقي البتة. وكذلك الحال إذا نظرت في الجمال، يمكنك أن تعتبره كمجرد وهم أو خيال، وليس بحقيقة ثابتة خالدة. تستطيع أن تقول إن الجمال عبارة عن مجرد تنسيق للمادة في صور معينة لا يلبث أن يزول أثره إذا نظرت فيه من عدسة المجهر. وهكذا الموسيقى. في قدرتك أن تدعي أنها عبارة عن مجرد اهتزازات مادية موقعة على أنسجة مادية، وليس لها وجود حقيقي. وكذلك إذا نظرت من تلك الناحية في حب العظمة والشجاعة والفضيلة والشرف، ومضاداتها، من حب الذات والملاذ والسقوط الأدبي، فإنه في مستطاعك أن تعتبرها حركات خلايا خاصة، توجه توجيهًا معينًا، لا أقل من هذا ولا أكثر.
فإذا عمدت إلى النظر في العالم كما ينظر فيه الماديون، موليًا بوجهك عن خصائص الإنسان العقلية، وأكببت على تقديس ما ترتكز عليه هذه الخصائص من القوى والمواد الطبيعية وحدها، فإنك لا تقتل بذلك الإرادة وحدها كوجود حقيقي، بل إنك تقضي على الشعر والموسيقى والحقيقة وعلى كل المراتب والفروق الكائنة في العقل بين منازل الفكر والعواطف. وعلى الجملة تقضي على كل قضايا العقل الإنساني، ولا تترك في الكون من شيء سوى كتلة موات وصحراء مجدبة من المادة والحركة. ولما كانت المادة والحركة لا يمكن إدراكهما إلا من طريق الحواس، ففي مستطاعك أيضًا أن تنكرهما، إذ لا يكون لديك من سبب يحملك على أن تعتقد أن العالم مكون على النموذج الذي توحي إليك به الحواس.
إلى هذا الحد من التهوش والفوضى يكون النظام العالمي في نظرك إذا تطلعت إليه من هذه الوجهة المادية الصرفة. ومن الظاهر الجلي أننا إذا أردنا أن نرد على العالم نظامه وألفته في نظر العقل الإنساني، فإن من الواجب أن لا ننظر فيما يمكن أن يثبت أو ينفي نظريًّا، بل ننظر فيما يمكن الاعتقاد به عمليًّا. هذا مع علمنا بأن هذه الألفة، سواء أكانت مبنية على وجهة النظر المادية أم وجهة النظر الروحية، فإنها أقصى ما يمكن أن نبلغ من صلة بالحق في هذه الحياة.
إني مضطر مثلًا لأن أعتقد في وجود عالم خارج عن حيزي لاتخذ اعتقادي هذا دعامة حقة وأساسًا ركيزًا في سبيل بحثي عن الحقيقة. ذلك على الرغم من أن الفلاسفة قد ينكرون أن للعالم الخارجي وجود حقيقي في ذاته. كذلك أعتقد أن هنالك فرقًا قائمًا بين الفضيلة والرذيلة، وبين سمو المدارك الروحية، والشهوات، وبين الأنانية والتضحية، وبين الذاتية والغيرية، ولو أن الماديين، إذ يرجعون بهذه المعاني بلا تفريق بينها إلى اهتزازات دقائق غير مختلفة أي اختلاف ما، إنما يلزمون أنفسهم الحجة بحكم المنطق بأن هذه المعاني لا يختلف بعضها عن بعض اختلافًا حقيقيًّا.
أراني أعتقد بوجود حقيقي للذكاء والإدراك والجمال والموسيقى والشعر والحقيقة، ولو أن هذه أيضًا يمكن ردها إلى مجرد حركة بعض خلايا لا إدراك ولا ذكاء فيها، وإلى قوات لا تعدو تلك الخلايا إدراكًا ولا تبزها معرفة وذكاء.
على هذا النمط أراني مضطرًا إلى الاعتقاد في وجود حقيقي لما نسميه بالإرادة، ولو أن الماديين قانعون بأنها ليست سوى عرض يصاحب حركة الدقائق في المراكز العصبية.
فإذا كانت ألفة العقل البشري تتطلب سببًا للعالم المرئي، وإذا كان كل مما في مستطاع اختباري أن يصل من علم بالسبب الأول ينحصر في الفعل العقلي للإرادة التي أشعر وأحس بها، فمن الواضح الجلي أني مقسور، بضرورة ألفة عقلي ومقتضياته، على الاعتقاد بأن هذا الكون العظيم معلول لإرادة عاقلة أي خالق. وليس من معنى ذلك أنني أعرف أو أعلم أن للخالق وجودًا حقيقيًّا، أكثر مما أعلم أو أعرف أن للعالم الخارجي المحيط بي وجودًا حقيقيًّا. إنما كل ما أعلم أو أعرف أني جبلت على أنني لا أستطيع أن أرد على عقلي ألفته وأحتفظ بنظامه، إلا إذا اعتقدت في وجود خالق ذي إرادة حرة عاقلة، وإلا فإن كل معتقداتي الثابتة تنهار وتتحطم ويطمو عليَّ سيل الحيرة والفوضى.
ولست أجد من ضرورة تقضي عليَّ بأن أظهر كيف أن عقلًا أو إرادة تكون علة للعالم، كما أني لست أعلم كيف أن دقيقة من المادة قد تجذب أخرى في حين أنها تدفعها، ومع ذلك فإني مقسور على الاعتقاد بسنتي الجذب والدفع، كما أنه ليس في مستطاعي أن أعرف كيف يتحد العقل مع مادة المخ ومع نشاط دقائقه وحركتها. وليس لذلك من علاقة لاتصال العلة بمعلولها أو السبب بالمسبب بالمعنى العلمي؛ لأن ذلك يتطلب الموازنة بين الاصطلاحين، ولا يمكن أن نضع موازنة بين ذلك الشيء الغامض المبهم الذي نسميه العقل، وبين القوة ومادة المخ مثلًا. ويكفي لديَّ أنني يجب أن أعتقد بحقيقة العلاقة الكائنة بينهما. فلست أعرف مثلًا كيف أن إرادتي تكون سببًا دافعًا لي على إحداث حركاتي البدنية. ولكن يكفي عندي أن أعتقد في حقيقة أن إرادتي تدفعني على القيام بحركاتي الجسمانية. وعلى هذا السنن، وعلى تلك القاعدة ذاتها، يكفي عندي أن ألزم بالاعتقاد في وجود خالق، من غير أن أجد نفسي مضطرًا لأن أظهر كيف أنه السبب في وجود الأشياء، وكيف أنه علتها؟
وفضلًا عن كل هذا فإن الكون المادي إذ يقتصر وجوده لدينا على تكوين عقولنا، فليس من الضروري أن أجعل المادة موضع اهتمامي وبحثي، بل أوجه كل همي نحو ذلك الشيء الذي لا يكون للمادة عندي من وجود إلا به، أي العقل. وليس من المستحيل أن نحقق أن عقلًا مدركًا، لا بُدَّ من أن يكون السبب في وجود عقل مدرك.
•••
بقي أمامنا شيء واحد. بقي أمامنا أن نتساءل: إذا كانت السببية الحقيقية تتضمن فكرة الإرادة، فما هي إذن تلك السببية العلمية التي تنزل من الأثر منزلة تلك؟ والجواب على ذلك أن علاقة السوابق باللواحق، تلك العلاقة التي تكون ما نسميه السببية العلمية، ولو أنها علاقة ضرورية، إلا أنها ليست علاقة السبب بالمسبب الأول بتة. ولكي نظهر ما نعني من قولنا هذا، يجب أن نتخيل العالم مسوقًا في النشوء والتطور من حالته السديمية مرتقيًا نحو تكوين النجوم الثوابت والسيارات، إلى ظهور النباتات والحيوانات والإنسان. إذا تخيلنا ذلك وجدنا أن لغة العلم تلقي في روعنا دائمًا أن الأسباب التي ظلت مؤثرة في العالم بالأمس هي بذاتها الأسباب التي تعود إليها القوى التي نلفيها مؤثرة في العالم اليوم، وأن هذه القوى بعينها هي أسباب ما سوف يحدث من الظاهرات في المستقبل. ومحصل هذا القول أن كمية المادة والحركة المبثوثة في العالم اليوم كانت كذلك بالأمس، وستظل كذلك في المستقبل وإن تغيرت صورها. إذن فهذا القول يدل على أن عوالم الأمس واليوم والغد، ما هي إلَّا عوالم متصلة برابطة ضرورية يقتضيها بقاء مقدار من القوة لا يتغير كمًّا وإن تغير كيفًا. من هنا تتدرج إلى أساس ذلك، فتجد أن هذا القول لا يوازي شيئًا أكثر من تلك القضية الضرورية المشابهة لذلك القول، قضية أنه اثنين واثنين يؤلفان أو يسببان أربعة، أو أن الأربعة لا تخرج أبدًا عن كونها نتيجة أو معلول اثنين واثنين أو ما يساويهما. وليس في ذلك من معنى السببية الحقيقية أكثر من أخذك قطعة من الصلصال ذات صورة ما في إحدى يديك ثم تضغطها فتأخذ صورة أخرى غير صورتها، ثم صورة ثالثة، ثم صورة رابعة، ثم تدعي أن الصورة الأولى علة للصورة الثانية، وأن الثانية علة للثالثة، وأن الثالثة علة للرابعة، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.
والحقيقة الثابتة أن اصطلاح «السبب» كما يستعمل في المعنى العلمي اصطلاح مرض لغويًّا فقط، وليس اصطلاحًا فلسفيًّا. وما الأسباب العلمية إلَّا نتائج منظومة. فالحجر إذا قذف إلى أعلى يعود إلى الأرض. ولماذا؟ لأن جاذبية الثقل تجذبه ثانية إلى أسفل. هذا كما لو قلت لأن كل الأشياء الأخرى ترى عائدة إلى الأرض تحت تأثير الظروف المحيطة بذلك الحجر. ولكنك إذا تساءلت لماذا تسقط الأشياء أصلًا؟ ولماذا يكون للجاذبية ضلع في نظام العالم؟ فهنالك لا تجد من جواب أروح على نفسك وأحفظ لألفة عقلك، سوى القول بأنها هكذا سبقت في إرادة الله.
ولو أردنا أن نستطرد في إثبات أن السببية العلمية ليست سببية حقيقية، فلدينا تلك الحقيقة العظمى، حقيقة أن العلم يستعمل كلمتي «السبب» و«السنة» بالتناوب لتقوم إحداهما مقام الأخرى. فعندما استكشفت «سنة» جاذبية الثقل مثلًا، فسرت بها حركات الأجرام السماوية التي لم يكن لها مفسر من قبل، حتى إن سقوط الحجر إلى الأرض قد تناولته تلك السنة. وهكذا الحال في الوقت الحاضر إذا استكشفت أية سنة أخرى. ذلك لأنها تعين لنا «الأسباب» التي يرجع إليها وقوع كثير من النتائج كانت مصادرها غامضة علينا من قبل. وما دام «السبب» و«السنة» لا يزال كل منهما في نظر العلم على هذا التخالط، فمن الظاهر الجلي أن السببية العلمية ليست سببية حقيقية على إطلاق القول، إذ أي شيء من الأثر لنظام تتالي الظاهرات، في إظهار العلة الحقيقية التي تنتجها؟