الانقلاب الجنينيِّ وأثره في تأييد مذهب النشوء
لا ينبغي للإنسان أن يزج بنفسه في منازل من التشامخ والوقار المصطنع تسوقه إلى الغرور، ولا أن يتمادى في درجة من الاعتدال ينظر من ناحيتها نظرًا معوجًا سقيمًا، ولا أن تمر به خطرة من الظن بأن بشرًا مخلوقًا في مستطاعه أن يستعمق في تدبر كتاب الله، أو أن يستقصي أسرار حكمته، أو أن يستوعب نتائج أعماله ومستحدثاته، أو أن يبرز للعيان وما استكن من صفات الألوهية وغوامض الفلسفة. بل الواجب على البشر أن يتطلعوا إلى ارتقاء وحضارة لا نهاية لهما، أو على الأقل إلى الغاية المستطاعة منهما.
***
يقول السيد الأفغاني ما يلي: «وذهب فريق آخر إلى أن الأجرام السماوية والكرة الأرضية كانت على هيئتها هذه منذ أزل الآزال ولا تزال. ولا ابتداء لسلسلة النباتات والحيوانات. وزعموا أن في كل بزرة نباتًا مندمجًا فيها، وفي كل نبات بزرة كامنة، ثم في هذه البزرة الكامنة نبات وفيه بزرة إلى غير نهاية. وعلى هذا زعموا أن في كل جرثومة من جراثيم الحيوانات حيوانًا تام التركيب، وفي كل حيوان كامن في الجرثومة جرثومة أخرى، يذهب كذلك إلى غير النهاية.
وغفل أصحاب هذا الزعم عما يلزم من وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناهٍ وهو من المحالات الأولية.» ص٢٢ من «رسالة الدهريين».
ثم يقول: وزعم فريق ثالث أن سلسلة النباتات والحيوانات قديمة بالنوع، كما أن الأجرام العلوية وهيئتها قديمة بالشخص، ولكن لا شيء من جزئيات الجراثيم الحيوانية والبذور النباتية قديم، وإنما كل جرثومة وبزرة بمنزلة قالب يتكون فيه ما يشاكله من جرثومة وبزرة أخرى.
وفاتهم أن كثيرًا من الحيوانات الناقصة الخلقة قد يتولد عنها حيوان تام الخلقة، وكذلك الحيوان التام الخلقة قد يتولد عنه ناقصها أو زائدها.» ص٢٢ من «رسالة الدهريين».
•••
إن الباحث ليظهر من كلام السيد الأفغاني على تضارب من الرأي، وتناقض في أوجه التدليل على ما يريد إثباته، جديرة بمن يريد أن يجعل علم النشوء الجنيني مقيدًا بمقولاته وقضاياه المنطقية، البعيدة عن العلم الاختباري.
أما القول بأن «في كل بزرة نباتًا مندمجًا، وفي كل نبات بزرة كامنة، ثم في هذه البزرة الكامنة نبات وفيه بزرة إلى غير نهاية»، فرأي كان قد ذاع في الانقلاب الجنيني والتناسل في أواسط القرن الثامن عشر نتاجًا للقول بالخلق المستقل، وتطوحًا مع الأوهام والأساطير التي كانت تمليها أحزاب التعصب على الناس إملاء المستبدين القاهرين. وأما قوله بأن الحيوانات الناقصة قد تنتج حيوانات كاملة، والحيوانات الكاملة تنتج ناقصة، واتخاذه تلك الظاهرة دليلًا ينقض به رأي القائلين بذلك المذهب، فخلط ظاهر بين مبحثين مستقلين من مباحث علوم الحياة، لا يخفى على أي مشتغل بتلك المباحث.
فإن المقصود بالشذوذ الخلقي تغيرات تشويهية تطرأ على صغار الحيوانات في حالتها لجنينية. وهذه التغيرات العجيبة لا تطرأ على الحيوانات في غير نشوئها الجنيني. فإنه لم يعرف حتى الآن في تاريخ العضويات الطبيعي أن أمثال هذه التغيرات قد طرأت على الحيوانات بعد ولادتها، فأحدثت فيها ما يمكن أن يلحق بالشواذ الخلقية. ومن الثابت عند علماء الحيوان في الوقت الحاضر أن حدوث هذه الصور غير القياسية راجع إلى نفس السنن التي تحدث الأفراد الكاملة التركيب ذوات الصور القياسية، وأن الفرق بين الحالتين، أن هذه السنن، لدى توليد الشواذ، يكون قد وقع في طريقة عملها تأثير أوقفها دون شوطها أو صرفها إلى جهة عكسية. وترجع هذه الظاهرات إلى مؤثرات عديدة نأتي على شيء منها هنا. فمن هذه المؤثرات أن يكون في مادة التلقيح نفسها نقص أو خروج عن القياس الطبيعي، سواء أفي الذكر أم الأنثى. وكل من له أقل إلمام بحالات الخناثى، ليعلم أن خروجها عن القياس العام يرجع إلى نقص في أصل جبلتها ترثه الأبناء عن الآباء. وفي مثل هذه الحالات تكون التغيرات قد انتقلت إلى الجنين عند حدوث التلقيح. ومن هذه المؤثرات أن يكون في أعضاء الأم التناسلية أو في تركيبها حالات غريبة لم يفصح عنها العلم بعد، قد ينتج منها تأثير عام يهوش سبل النماء. كذلك قد يكون للأمراض التي تلحق بالمشيمة أو خروجها عند القياس، أو للأعضاء التي تتكون منها البويضة بادئ ذي بدء، أو الحبال السرية، تأثيرات تحول دون النماء. ناهيك بما يقع على الأجنة من المؤثرات المباشرة كالأمراض أو الأضرار الآلية الأخر. راجع ذلك في الجزء الأول من كتاب «أصل الأنواع» طبعة أولى ص٤٤.
من هنا نجد أن الرأي الأول في كمون البذور والجراثيم ودورها وتسلسلها شيء، والشواذ الخلقية شيء آخر. وأن الإنتاج ما دام راجعًا إلى عملية أصلية هي التلقيح، فالحيوان الناقص قد ينتج حيوانًا كاملًا، ما دامت بويضاته وجراثيمه سليمة لم يؤثر فيها مؤثر يصدها عن النماء أو يقفها دون شوطها في النشوء العضوي، وأن حدوث شيء من هذه المؤثرات في حيوان كامل الخلقة قد يسوقه إلى إنتاج حيوانات ناقصة الخلقة.
وإنا لنسوق الكلام الآن في الانقلاب الجنيني لنثبت أن السيد الأفغاني لم يعرف الفرق بين المباحث الأولية في علوم الحياة والتاريخ الطبيعي، ولم يفرق بين الرأي المادي في أصل الكون، والمباحث الفرعية في العلوم الحديثة، ولنثبت للقارئ أن الرأي الذي تعلق بأهدابه السيد الأفغاني ليسوق به ضد المادية براهين تناقضها، لم يكن سوى فكرة قديمة لم يلبث أن طمى عليها سيل العلم العملي في أوائل القرن التاسع عشر، فهد كيانها وصدع أركانها.
وضع «عمانوئيل كانت» الفيلسوف النقادة الكبير، كتابه في تاريخ الكون عام ١٧٥٥، فكان أول ما أخرج للناس من بذور المذهب المادي الذي وضع في أواسط القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. وظل كتابه زمانًا غير معروف، حتى نبه عليه «إسكندر فون همبولد» بعد تسعين عامًا من طبعه. ولقد حاول «كانت» أن يثبت فيه النظرية الآلية التي دعم أسسها الفيلسوف «إسحاق نيوتن» من قبله.
على أن «كانت» لم يكن منكرًا لوجود الله وكتابه ذاك محشو بذكر حكمته. ولكنه مضى في بحثه على قاعدة أن الله وضع لهذا العالم سننه ونواميسه الطبيعية، دفعة واحدة، وجعلها غير قابلة للتغير، وأن حكمته قضت أن لا تنفذ مشيئته في هذا العالم إلا من طريق هذه النواميس، فهو مقيد بها. ومن ثم تدرج ماديو القرن التاسع عشر، تدرج الماديين من قبلهم، إلى إنكار العلة الأولى، واتخذوا مباحث «كانت» ذريعة لإثبات مذاهبهم المادية في أواسط ذلك القرن. فإن طريقة «لابلاس» التي وضعها عام ١٧٩٦ وشرحها في كتابيه «الميكانيكية الأرضية» و«تكوين العالم»، والتي اتخذت قاعدة بنى عليها الماديون، لطريقة مادية صرفة أنكر فيها كل شيء حتى إن «نابليون» الأول سأله مرة. «لماذا تركت الله في مذهبك الذي وضعته في أصل العالم؟» فأجابه «لابلاس»: «لست في حاجة يا مولاي للاعتقاد بوجود شيء لا حقيقة له.» وذلك أبعد ما وصل إليه الماديون من المغالاة في تقدير أفكارهم، والإمعان في التمشي وراء أوهامهم.
كان لتلك المباحث من الآثار ما أفضى بجماعة الباحثين من مذاهب التطور إلى اتخاذ مذهبهم تكأة لإثبات آرائهم من ناحيته. ولكن لم تتم لهم الغلبة. فإن الباحثين انقسموا فرقًا وشيعًا. على أن أخصهم فريقان. فريق المنكرين للعلة الأولى. وفريق المعتقدين بوجودها. فقال الأولون بأن العالم مادة وقوة تتشكلان بصور شتى، والحياة شكل منها. وقال الآخرون بأن قوى الطبيعة الصماء ليس في مقدورها أن تبدع اختلاط عناصرها، على قول الأوليين، بزرة الحياة، التي لم نعرف بعد لها كنهًا ولا ماهية، وأن النظام الحي يدل على وجود قوة مدبرة حكيمة تتصرف فيه وتدبره بحكمتها المبثوثة في قوى الكون، وكان «داروين» على هذا الرأي كما يؤخذ مما قال به في كتابه «أصل الأنواع». كذلك كان البحث في تكوين الأجنة، لم يسلم الباحثون فيه من الانشقاق فمنهم من يتخذ البحث فيه ذريعة لإثبات مادية الكون، ومنهم من يتخذه دليلًا على وجود الله.
•••
أما وقد انتهينا من الكلام في موقف الماديين والإلهيين إزاء النشوء الجنيني، فإنا نستطرد في البحث فيه منتقين أمثل طريقة لشرحه وتبيانه. فقد اتخذ المؤلفون في العصر الحديث طريقة طريفة في وضع مؤلفاتهم العلمية إذ يجعلون الكلام في تاريخ العلم الذي يكتبون فيه قسمًا مندمجًا في البحث في تفاصيل ذلك العلم ودقائقه، ليقربوا موضوع البحث من ذهن القارئ بقدر ما يصل إليه مستطاعهم، على اعتقاد أن تاريخ كل علم جزء منه، يجب على الناس أن يلموا به إلمامهم بمفصلات ذلك العلم نفسه. وإذ كان قصدنا أن نلم في هذه العجالة بمجمل الآراء في علم النشوء الجنيني، وجب علينا متابعة للكاتبين في الأعصر الأخيرة أن نلم بتاريخ هذا العلم إلمامنا بمفصلاته.
على أن النظر في النشوء الجنيني قد بدأ في الواقع قبل «وولف» بأكثر من واحد وعشرين قرنًا من الزمان. لهذا يجب علينا أن نلقي نظرة على ما جاء به المعلم الأول الفيلسوف «أرسطو طاليس» أول واضع لعلم التاريخ الطبيعي. وهو بعد ذلك الفيلسوف المفرد الذي بقيت آراؤه في هذا العلم، كما بقيت في كثير غيره من العلوم مرجع الباحثين ومحط رجال المنقِّبين عشرين قرنًا في تاريخ العالم الفكري.
ولم يقصر «أرسطو طاليس» أبحاثه على سرد الحقائق فقط، بل أخذ يزكيها بكثير من المشاهدات والتجاريب، التي يدل بعضها على ما كان فيه من ثاقب النظر ورسوخ القدم، إذ كان يقول بأن تكوين الفرد في حالته الجنينية ليس إلا نشوءً جديدًا يقع على البيضة الأولى، تتولد أثناءه أعضاء الجنين متتالية على مر الزمان. وكان يقول بأن القلب أول الأعضاء تكوينًا في جنين الإنسان، وكذلك الأعضاء الباطنة تظهر قبل الأعضاء الظاهرة، والأطراف العليا قبل الأطراف السفلى، وأن المخ يتكون لدى أول الانقلاب الجنيني وتنبت منه العينان. وكل هذه المشاهدات صحيحة لا يخالفها العلم في القرن العشرين، أيدها «وولف» وغيره من جهابذة أهل النظر بعد نيف وألفي سنة من وضعها. وكان يقول بأن الأنواع والأجناس أبدية، ولكن الأفراد فانية، يوجدها التوالد، ويذهب بها الموت.
•••
ظهر أول كتاب في النشوء الجنيني في أوائل القرن السادس عشر. ألفه «فابريسياس» الذي كان إذ ذاك أستاذًا في جامعة «بادوي»، وبدأ البحث في مؤلفين ظهر أولهما سنة ١٦٠٠ وثانيهما سنة ١٦٠٤، وألمَّ فيهما بما كتبه علماء العصور الأولى في الانقلاب الجنيني وأوصاف الأجنة في الإنسان وغيره من ذوات الثدي. وتبعه في البحث «إسبجلياس» سنة ١٦٣١ و«نيدهام» سنة ١٦٦٧ ومعاصره المشهور «هارفي» الذي استكشف سنة ١٦٥٢ دورة الدم في الجسم الحيواني، وهو في الحقيقة واضع النظرية البيولوجية المعروفة، في أن «كل حي لا بُدَّ أن يتولد من حي مثله.» تلك النظرية التي ينسبها كثير من الكتاب إلى «أغاسيز»، لكثرة ما أنفق من وقته في الدفاع عنها حتى اقترنت باسمه. وكتب العلامة «سوادنهام» الجرماني كتابه «إنجيل الطبيعة» ونشره في ذلك الحين، فألم فيه بكثير من الملاحظات في تكوين جنين الضفدع وانقسام مخ البيضة بعد اللقاح. ولكن أشهر من كتب من العلماء في هذا الموضوع خلال القرن السابع عشر العلامة الإيطالي «مارسيليو ملبيغي» الذي نهض في ذلك الحين بعلمي الحيوان والنبات بكتابيه اللذين نشرهما عام ١٦٨٧، وفيهما وضع أول وصف علمي لتكوُّن جنين الدجاج في البيضة خلال مدة الحضانة كلها.
وكان لبحث العلامة «ملبيغي» أكبر الأثر في الكشف عن حالات الانقلاب الجنيني في الفقاريات عامة، والإنسان خاصة. فإن نماء فرخ الدجاج في الحالة الجنينية، شبيه بنماء بقية ذوات الفقار — أي الحيوانات الثديية والطيور والزواحف — فإن أجنة هذه المراتب تتشابه كل التشابه في أول أدوارها الجنينية، وعلى الأخص في أوصافها الأولية حتى إنه يمر بأجنتها وقت ما، لا تستطيع أن تفرق فيه بين جنين الدجاجة وجنين الكلب والهردون مثلًا. ودراسة أجنة مرتبة من هذه المراتب، والوقوف على الأطوار التي يتقلب فيها الجنين حال نشوئه، لا محالة مفضٍ بالباحثين إلى معرفة شيء من حقائق الأدوار التي تمر بها أجنة بقية المراتب الأخر ومنها الإنسان.
ولقد بلغ «مالبيغي» في أواخر القرن السابع عشر غاية ما أهلت به الظروف أن يبلغ من هذه المباحث. وكان لفقدان المعدات الأولية اللازمة للقيام بتلك الأبحاث أثر كبير في وقوفه عند ذلك الحد من البحث. وظلت أبحاث التطور الجنيني زمانًا ما محصورة في تلك الدائرة لم تخطها حتى تيسر للصناع أن يحسنوا من تركيب المجهر — الميكروسكوب — ويضاعفوا من قوة الكشف فيه، وعند ذلك ظهر الناس على مستكشفات جديدة كان للسبل التي تحداها كثير من الباحثين، أكبر الفضل في كشف الغطاء عن معمياتها.
خذ لذلك مثلًا أجنة ذوات الفقار. فإن هذه الأجنة لا يمكن بحثها البحث الوافر لدى أول عهدها بالانقلابات المبدئية من غير مساعدة مجهر قوي الكشف تام العدة، للطافة تركيبها وضئولة حجمها، ولم يبلغ المجهر من التحسين مبلغًا وثَّقَ لأهل العلم من مباحثهم في أمثال هذه المسائل المعقدة إلا في أوائل القرن التاسع عشر.
وقلما تقدمت المباحث الجنينية أي تقدم يذكر خلال القرن الثامن عشر، حيث كان لنظام «لينيوس» الذي وضعه لعالمي الحيوان والنبات، وأيده بكتابه «النظام الطبيعي» تأثير بين في عقول الناس عامة، وفي البيئات العلمية خاصة. ولكن عام ١٧٥٩ كان فاتحة عصر جديد، قام فيه نابغة كبير من نوابغ الجرمان هو «كاسبار فردريك وولف» ومضى في بحثه الأجنة مستهديًا بنواميس وسنن كشفت له. فكان هذا آخر العهد بمباحث القرون الوسطى، وأول حجر وضع في أساس علم الأجنة الحديث.
- أولًا: إن البويضة الأولى لا يحدث فيها أي تطور جديد كنشوء أعضاء لم تكن حائزة لها من قبل. وبذلك تكون كل بويضة حائزة لكل أعضاء الصورة البالغة حيوانًا كانت أم نباتًا.
- ثانيًا: إن النماء هو الظاهرة الوحيدة التي تتميز بها أعضاء الجنين خلال نشوئه وانقلابه، وأن السبب في اختفاء هذه الأعضاء التي يظهرها النماء راجع إلى ضئولة البويضة وصغر حجمها.
من هنا ساد الاعتقاد بأن كل جرثومة حية لا بُدَّ من أن تكون حائزة لكل الأعضاء والصفات التي تمتاز بها الصورة حال بلوغها. وعلى ذلك كانت كل الانقلابات الجنينية عبارة عن نماء الأعضاء التي تكونت مبدئيًّا في حالة التكون الجرثومي.
كان معتقدهم إذ ذاك أن في بيضة الدجاجة مثلًا كل الأعضاء الكاملة التي تكون للفرخ حال نقف البيضة عنه، متداخلة بعضها في بعض، متكونة تكوينًا أوليًّا، ولا يحول دون ظهورها في نواة البيضة إلًّا صغر حجمها وضئولة تركيبها. مع أن الحقيقة أنَّ الخلية الحية التي تكون في بيضة الدجاجة وغيرها من الحيوانات البيوضة، وهي مركز الحياة فيها، ليست إلا تركيبًا كيماويًّا في حالة الغرارة المبدئية يبتدئ في الانقسام على نفسه عدة مرات متوالية. ويتكون أثناء هذا الانقسام كثير من الطبقات الجرثومية التي يأخذ الجنين بعدها في التشكيل حتى يستقر في آخر أدوار انقلابه الجنيني على الصورة التي تكون له عند البلوغ.
أمعن كثير من المؤلفين في القول بمذهب «التكوين» فزعموا أن المجهر ليس في مستطاعه أن يكشف عن تلك الأعضاء التي تكون في البيضة الأولى، لصغر حجمها، وضعف قوة الكشف فيه، وأن هذه الأعضاء عند النقف لا يكون قد طرأ عليها شيء ما، اللهم إلا قليل من النماء ميز بين بعضها وبعض.
وهذا المذهب الفاسد الذي بني على مقدمات غير صحيحة، وذاع الرأي فيه مجاراة للأوهام والأساطير، هو الذي اتخذه السيد الأفغاني حجة واهية للضرب في أصول العلم بمعول المعتقد الذاتي، ليوهم الناس بأن تعليل حقائق الكون بالعلم اليقينيِّ المستقل عن موحيات النقل والوضع والتقليد، مهدم لكيان المجتمع، داعٍ لتحطيم النظام المدني.
ساعد على انتشار هذا الرأي وذيوعه ثبات فئة على الاعتقاد بأن عمر الأرض خمسة أو ستة آلاف سنة فقط، متخذين من ظاهر الآثار الدينية على ذلك دليلًا يؤيدون به رأيهم وملجأ أمينًا يتحصنون فيه، وكلما بزغ من ناحية العلم قبس من نور، أو لمعة من شعاع الحق، طمى عليها سيل هذا الاعتقاد فذهب بآثارها، وبددها في ظلمات الجهل التي غشت العقول في تلك الأزمان.
ومضوا على هذا الاعتقاد حتى حاول البعض أن يحصي عدد أفراد بعض الأنواع التي يمكن أن تولد خلال الزمان الذي حددته الكتب المقدسة عمرًا لهذه الدنيا، وتناول هذا الاعتقاد الإنسان، فقالوا: إن آدم وحواء فيهما جراثيم كل أفراد البشر الذين قدر لهم أن يعمروا هذه الأرض.
بدأ القول في هذه النظرية بأن الأنثى، دون الذكر، هي التي تتضمن كل جراثيم الأفراد التي قدر للنوع أن يخرجها إلى عالم الوجود. ولم يتغير هذا الاعتقاد حتى كشف العلامة «ليونيوويك» الهولندي عن جراثيم التذكير عام ١٩٦٠، ووجد أن في عناصر التذكير جراثيم خيطية الشكل، شرطها في إتمام اللقاح كشرط بويضات الأنثى تمامًا. وكم كانت دهشة العلماء إذ تحققوا أن هذه الجراثيم الخيطية حييوينات صحيحة سابحة في المائع المنوي، وأنها السبب الموجد للتناسل في أرقى ذوات الفقار، وأثبتوا بالتجارب العديدة أن هذه الحييوينات لا تبدأ في النماء إلَّا بعد أن تمتزج ببويضات التأنيث الناضجة، كما تنبت بذور النبات في الأرض الخصيبة.
وساد الاعتقاد إذ ذاك بأن كل حييوين من تلك الحييوينات يتضمن أعضاء الجسم البشري برمته، ولا ينحصر البحث الجنيني إلَّا في معرفة كيفية نماءِ تلك الأعضاء وتمايزها منذ أول عهدها باللقاح حتى النضج التام، وأن أعضاء التذكير في آدم، كانت تحوي حييونيات تساوي عدد أفراد السلالات البشرية التي عمرت الأرض منذ أقدم أزمانها، وما هو مقدور له أن يعمرها في مستقبل أيامها.
ولقد انقسم الرأي في القرن الثامن عشر إلى قسمين، عصبة القائلين بالحييوينات، وعصبة القائلين بالبويضات: واشتد بين الفريقين الجدل واحتدم النزاع، وقام علماء وظائف الأعضاء إذ ذاك على رأس تلك الحركة الفكرية، فقال زعماء مذهب «الحييوينات» بأن عناصر التذكير هي السبب الوحيد في إحداث اللقاح مستدلين على ذلك بما رأوا من آثار الحياة الظاهرة التي تمتع بها حييونياتهم، وقال زعماء مذهب «البويضات» بأن البيضة الأنثوية، هي التي ترجع إليها الحياة، وأن التلقيح لا يبعث فيها حياة جديدة، ولكنه يزكي النزعة إلى النماء، ويدفعها إلى التشكل. وحاز القول بالبويضات أغلبية كبرى وظل سائدًا طوال القرن الثامن عشر، رغم ما نقضه به «فردريك وولف» من البراهين، وما أقامه من الحجج الدامغة في إظهار فساده، ولم يجعل لذلك المذهب من قيمة بعد «وولف» إلا مضي كثير من جهابذة العلماء في الأخذ به، مثل «هولر» و«بونيت» و«ليبنتز».
كان «هولر» أستاذًا في كلية «جوتنجن» الجامعة، وكان من ثبات القدم في علم وظائف الأعضاء بحيث يعد من النوابغ الذين شيدوا من صرح ذلك العلم في العصور المتأخرة، وكان على ذلك واسع الاطلاع وفير العلم منوعه، ولكنه كان ضعيف الاستنتاج غير ثاقب النظر في بحث الظاهرات الطبيعية. وعلى ضعف استنتاجه وقصر نظره في البحث، أجمع عليه أعلام الناقدين الذين تناولوا أبحاثه بالنقد في هذا العصر.
قام «هولر» بتعضيد مذهب «التكوين»، ونضح عن حياضه نضحًا طوح به إلى أن يقول في كتابه «مبادئ الفسيولوجيا»؛ أي علم وظائف الأعضاء «بأن القول بالنشوء خطأ، وأن أعضاء الأحياء تتكون دفعة واحدة لا أسبقية لأحدها على الآخر.» فأنكر بذلك نظرية النشوء إنكارًا دفعه إلى القول بأن شعر الذقن يوجد في الطفل حال ولادته، ولكنه لا يظهر إلا على قدر من العمر ومرور من الأيام، وأن الخالق — سبحانه — قد هيأ حواء ببويضات أفراد البشر الذين قدر لهم البروز إلى هذه الدنيا في اليوم السادس من أيام الخلق، وأحصى «هولر» بعد ذلك عدد البشر وقدرهم رياضيًّا فحصرهم في ٢٠٠٠٠٠ مليون نسمة على اعتبار أن عمر الأرض ٦٠٠٠ سنة، وأن متوسط عمر الإنسان ٣٠ سنة، وعلى اعتبار أن عدد سكان الأرض في زمانه قد بلغ ١٠٠٠ مليون من النسمات. ومما يؤسف له في تاريخ العلم أن مثل «هولر» يقول بهذا القول ويمضي عليه عاكفًا، حتى بعد أن يكشف «فردريك وولف» عن قاعدة النشوء، ويطبقها على حالات الانقلاب الجنيني، ويثبت بالمشاهدة أن القول «بالتكوين» متهدم البنيان منهار الأساس.
•••
على مثل هذه الحال كانت الفكرة في أوربا عندما قام «كاسبار فردريك وولف» بنشر مذهبه في الأجنة وقضى بمذهبه الجديد في «النشوء» على مذهب «التكوين».
وكان لذيوع رسالة «وولف» أثر كبير في تقدم علوم الحياة وفروعها جملة. ولقد بث في مذهبه من الآراء، وجمع في درجه من الملاحظات ما لم يكشف للناس عن حقائقه كشفًا تامًا إلَّا خلال القرن التاسع عشر، وفتح من مستغلق أبواب البحث ما أفضى بالباحثين إلى التعمق في النظر والاستبصار. فقد أثبت أن تطور الجنين. عبارة عن ظهور أعضائه وتشكلها خلال زمان معلوم، وأنها تتولد بعضها من بعض على مدى الفترات المتتالية، ونفى القول بأن البويضات الأنثوية أو عناصر التذكير تكون حائزة للصفات والأعضاء التي تكون للأفراد البالغة. وحقق أن البويضات وعناصر التذكير ليست إلَّا تركيبًا عضويًّا أوليًّا، وأن الجنين الذي ينشأ من تمازج العضوين مختلف تمام الاختلاف في شكله الظاهر وتكوينه الباطن عن العنصرين ذاتهما، ودعم نظريته على أساس التجربة الطبيعية. ولا يجرؤ أحد من الباحثين في هذا العصر أن يدعي أن نظرية «وولف» في الأجنة ليست من الحقائق التي جاوز القول فيها حد الجدل والكلام.
ومما يدلك على أن الجهل بمؤلفات «وولف» كان قد بلغ مبلغًا كبيرًا، أن اثنين من العلماء الطبيعيين الذين كتبوا في أوائل القرن التاسع عشر، وهما «أوكن» ١٨٠٦ و«كيسر» ١٨١٠، قد أخذ كل منهما في بحث تكوين «المريء» في الدجاج، حتى جرهما البحث إلى مناقشات عديدة في مغمضات علم الأجنة، وكلاهما على جهل تام بما كتب «وولف» في هذا الموضوع. ولم تتنبه أفكار الباحثين وعلماء وظائف الأعضاء إلى هذه المباحث حتى ترجم «ميكل» مقالة «وولف» إلى الألمانية، فإن كثيرًا من المشتغلين بالمباحث الطبيعية قد نزعوا إلى بحث تكوين الأجنة بحثًا جديدًا، وبدءوا يفكرون في تأييد نظرية «وولف» في الأجنة، وكان ذلك بدء نهضة جديدة أحدثت تطورات عديدة في فروع كثيرة من العلم الطبيعي.
•••
وبدأ «كارل أرنست فون باير» أبحاثه المستفيضة في الجنين عام ١٨١٩ بعد أن غادر «باندر» مدينة «وارتز برج»، ونشر نتائج أبحاثه في كتابه المشهور «نظرات وتأملات في تطور الحيوانات الجنيني»، ولا يزال هذا الكتاب معتبرًا من أمهات كتب الطبيعة لما تضمنه من مستفيض الأبحاث العلمية والفلسفية. وظهر في مجلدين طبع أولهما سنة ١٨٢٨، وثانيهما سنة ١٨٣٧، وكان السبب الوحيد في ارتقاء المباحث الجنينية، حتى بلغت تلك المنزلة الفذة في العلم الطبيعي في هذه الأيام. ولقد برز «باير» بكتابه هذا على كل المؤلفين الذين تقدموه في مباحث الأجنة اللهم إلَّا «فردريك وولف» وإن لم يكن ﻟ «وولف» في الحقيقة من فضل عليه، إلَّا فضل السبق إلى التأليف في هذا الموضوع.
وكان «باير» من المبرزين في العلوم الطبيعية، ونال قسطًا وافرًا من الفلسفة الحديثة التي ذاعت في القرن التاسع عشر، وكان لمؤلفاته أثر كبير في كثير من فروع العلوم الأخر. فوضع نظرية «الطبقات الجرثومية» في مباحث الجنين وفصَّلها تفصيلًا وافيًا، وأحاط بها من كل أطرافها، حتى إن الباحثين الذين نحوا في البحث نحوه قد اتخذوا آراءه ونظرياته في مباحث العلوم العضوية، قاعدة بنو عليها، وأساسًا أقاموا عليه صرح هذه العلوم منذ نهاية العقد الرابع من القرن الماضي.
ولقد كشف «باير» فضلًا عن ذلك عن حقائق كثيرة ذات علاقة مباشرة بهذه الطبقات الأربع وتابع بحثها في ذوات الفقار منذ أول حالاتها الانقلابية حتى تصير حيوانًا كاملًا، وما يتبع ذلك من التغايرات، وأظهر أن هذه الطبقات الجرثومية واستحالتها إلى أشكال عديدة، واتخاذها الشكل الأنبوبي، هي ابتداء الدور الأول من تكون الأعضاء الحيوانية في البزرة الأولى، خضوعًا لقوانين طبيعية تستطيع بفضلها أن تتدرج في سلسلة من التهذيب والارتقاء حتى تبلغ الصورة الحيوانية الكاملة.
وكان لمؤلفات «باير» أثر كبير في العلم الطبيعي نهض بعلم الأجنة فساق العلماء إلى البحث فيه، يكشفون عن معمياته، ويحيطون اللثام عن مغمضاته. وإنك لا تأتي على آخر صفحة من تاريخ «باير» وجهاده العلمي المبرور، حتى يقع نظرك على كثير من الباحثين أنفقوا أطيب أعمارهم ووقفوا حياتهم على هذا البحث الحديث، فأفاضوا على هذا العلم من أفكارهم ومستكشفاتهم وخطراتهم ما جعل لهذا العلم مكانة يتيه بها على غيره من فروع العلم الطبيعي.
•••
يعقب مؤلفات «باير» في المكانة العلمية أبحاث «هنري راثك» أستاذ جامعة «كونجز برج» المتوفى سنة ١٨٦٠. فإنه لم يقف بأبحاثه عند «اللافقاريات» كالصدفية والحشرات والرخوة، بل تناول كثيرًا من ذوات الفقار — الفقاريات — كالأسماك والسلاحف والأفاعي والتماسيح، كما أن العلم مدين للأستاذ «وليم بسكوف» بما كشف عنه من مغمضات الانقلاب الجنيني في ذوات الثدي.
ولقد تكاثر بعد ذلك عدد الكاتبين في هذا العلم فتعددت بذلك المستكشفات التي كان لها من الأثر في تقدم الأبحاث الجنينية القدح المعلى. على أن كل باحث في تاريخ علم الأجنة ليلاحظ أن جل الباحثين لم يكونوا على علم تام بمفصلات تشريح المقابلة وعلم الحيوان الوضعي الذي ينظر في ترتيب عالم الحيوان حسب مراتبه الطبيعية. ولم يكن علم الحفريات، البالينتولوجيا، بأسعد حظًّا من تشريح المقابلة، فقد أهمله كثير من هؤلاء الباحثين رغم أن هذا العلم من أكبر مقومات البحث في أصل النوع وتكوين الفرد.
يرجع أكبر مجهود في حل هذه الألغاز لأستاذ كبير يدعى «روبرت ريمارك» أخرج كتابًا في «نشوء ذوات الفقار» طبع في برلين سنة ١٨٥١، وتناول البحث في كثير من هذه المعضلات العلمية، فتوصل إلى حل مشكلات عديدة تعارضت فيها آراء الباحثين في علم الأجنة، وأنصار الرأي الخلوي. وقام بعده الأستاذ «كارل بوجوساوش ريخرت» محاولًا الإفصاح عن الكيفية الطبيعية التي تتكون بها الأنسجة الحية. ولكن «ريخرت» لم يكن من أولئك الباحثين المبرزين في علم الأجنة وعلم الخلايا، ولم يكن له إلمام تام بحقيقة الأنسجة وتراكيبها فلم يفد عمله الفائدة المطلوبة في ذلك الحين. وكان ظهور كتاب «ريخرت» سببًا في أن يضاعف «ريمارك» جهوده ليقضي على تلك الفوضى العلمية التي أحدثتها كتابات رصيفه في ألمانيا خاصة وغربي أوربا عامة، وما زال يعالج الأمر حتى كشف عن قاعدة يقبلها العلم، عزى إليها السبب في تكوين الأنسجة، ودعم آراءه في أن البويضة الحيوانية ليست إلا خلية بسيطة كبقية الخلايا، وأن الطبقات الجرثومية التي تنشأ منها تتكون من خلايا عديدة وترجع إلى انقسام الخلية الأولى على نفسها عند بدء الانقلاب الجنيني. ولم يلبث بعد ذلك أن عرف بما تابعه من الأبحاث القصية أن البويضة تنقسم إلى اثنين ثم إلى أربعة ثم إلى ثمانية، والثمانية إلى ستة عشرة وهكذا، وأن هذا الانقسام إذ يحصل في خلايا النبات والحيوان يكون بعد مضي زمن قليل مجموعة من الخلايا، كما أثبت ذلك العلامة «كوليكر» في ذرات الأرجل الرأسية — السفالوبودا — التي مر ذكرها، سنة ١٨٤٤. ثم إن هذه الخلايا تأخذ في التسطح بعد أن تكون جرمًا كرويًّا، وتتكون طبقات كل منها بتآلف خلايا متعددة. ومن ثمَّ تأخذ خلايا كل طبقة شكلًا خاصًّا، وتظل متزايدة بالانقسام والتغاير العضوي. ومن ثم يتزايد ذلك التغاير بعد أن تتقلب تلك الخلايا في أدوار من الانقسام، ثم لا تلبث الخلايا أن تتوازن وظائفها بتقاسم العمل بينها من حيث مجموعها، ومن هذه الطريقة تتكون الأنسجة الحية.
•••
ولقد حاولت فئة من منافسي «ريمارك» أن يذهبوا بالكثير من حسنات بحثه. فإن الأستاذ «ريشارد» من جامعة برلين، والأستاذ «وليم هيس» من جامعة «ليبرج»، وكلاهما مشرح واسع الشهرة، قد حاولا أن يضعا قواعد جديدة في علم الانقلاب الجنيني في ذوات الفقار، وأرادا بطريقتهما أن يثبتا أن الطبقتين الأوليين من الطبقات الجرثومية يمكن أن تكونا السبب الأول في تكوين الجسم. ولكن أبحاثهما لم تسفر عن نتيجة ما. فإن جهلهما بكثير من معضلات تشريح المقابلة وعدم وقوفهما على علم تكوين الفرد وقوفًا تامًا، وإهمالهما النظر في علم تكوين الأنواع، كل هذه الظروف كانت سببًا في إخفاقهما فيما حاولاه. ولكن أبحاثهما لم تذهب سدًى وإن كانت قد أخفقت في وضع قاعدة جديدة لعلم الانقلاب الجنيني. والبحث في نتائج تلك الحملة التي قام بها «ريشار» و«هيس» ضد مباحث «ريمارك» تعتبر في الواقع بدء عهد جديد في مباحث علم الأجنة.
•••
نشر الأستاذ «وليم هيس» كتابه في تكوين أجنة ذوات الفقار سنة ١٨٦٨. ويعد هذا الكتاب الآن من غريب ما وضع في علم نشوء الجنين.
سبق إلى حدس هذا الأستاذ أن في مستطاعه أن يضع قاعدة آلية يعلل بها حقيقة النشوء الجنيني بالبحث في انقلاب فرخ الدجاجة، من غير أن يعير مبادئ تشريح المقابلة أو نظرية نشوء الأنواع أدنى التفات. فساق بهذه الطريقة نفسه إلى حيز من البحث محوط بالشك محفوف بالارتياب، لم يبلغ إليه البحث في الانقلاب الجنيني خلال كل العصور التي كان فيها لهذه المباحث متسع من عقول الباحثين.
استخلص الأستاذ هيس من أبحاثه «أن سنة ما من سنن النشوء العضوي لا بُدَّ من أن تحدث أثرًا بعينه في انقلاب الجنين الأول. وأن كل تركيب، سواء أحدث من طريق تراكم الطبقات الجرثومية، أم من طريق الاندماج، أم من طريق الانقسام الخلوي، ما هو في الحقيقة إلا نتيجة مباشرة لسنة النشوء العضوي.» ولكن «هيس» لم يبين عن حقيقة هذه السنة — سنة النشوء العضوي — ولا عن كيفياتها ولا عن طريقة تأثيرها، شأنه في ذلك كشأن الذين يعارضون سنة الانتخاب الطبيعي متخذين من الإصلاح اللغوي ذريعة، ومن تراكيب الكلم طريقًا، للتأثير في العقول. كقولهم سنة التطور أو النشوء بدل الانتخاب مثلًا، من غير أن يظهرونا على حقيقة تلك السنة التي يدعونها سنة التطور، ويلقون القول بها جزافًا بما يشاءون وكيف يشاءون.
على أن النظريات التي بثها «هيس» قد أثارت كثيرًا من المناقشات الحارة لدى أول عهدها بالذيوع، فنشرت فيها المطولات والمقالات المستفيضة، إذ حاول في ثبت كتابه أن يكشف عن أخص التراكيب العضوية وكيفية تكوينها، كنماء المخ بطريقة آلية صرفة، وأراد أن يصرف الناس عن النظر في الطرق الطبيعية المعروفة التي تعتبر أقرب طريق لبيان حقيقة النشوء العضوي.
•••
ونشر الأستاذ الكبير العلامة «هكسلي» سنة ١٨٧٢ مقالًا في أنواع الإسفنج، وبرهن على أن هذه الطبقات موجودة في مختلف ضروبه وأنواعه، وجودها في كل المراتب الحيوانية التي تعلوها في سلم الارتقاء حتى الإنسان، كما أنه برهن في كتاب نشره سنة ١٨٧٣ على ما لهذا الاستكشاف من الأثر البين في علم الحيوان الآلي والوضعي، وترتيب صور الحيوانات حسب مراتبها الطبيعية.
•••
وظل علم الأجنة واقفًا عند هذا الحد حتى ظهر كتاب «أوسكار» و«ريشار هرتويج» حيث اعتمدا على طريقة المقارنة الصرفة في وضع كتابهما «نظرية التجاويف في علم الأجنة وإظهار حقيقة الطبقة الجرثومية الوسطى» فأبانا عن أن التجويف الجسمي في الحيوانات الكثيرة الخلايا أو ذوات الخلايا عامة، والفقاريات منها خاصة، ينشأ بنماء تجويفين من الطبقة الداخلية.
ولقد وضع في أواخر القرن الماضي فرع جديد من فروع علم الأجنة سماه الباحثون، «علم الأجنة التجريبي»، هو نتاج لما ظهر من المباحث التي تقدمته خلال قرن من الزمان، حيث اعتمد الباحثون فيه على العلاقة الطبيعية بين الأحياء وبين طبيعة الظروف المحيطة بها. فكان من نتيجة التجاريب التي أجريت في حيوانات عديدة أن حقق الباحثون أواصر القربى بين الحيوانات التي تقطن الأرض في هذا الزمان، وبين ما انقرض منها خلال العصور الجيولوجية الأولى، فأضافوا إلى البراهين التي تثبت مذهب العلامة «داروين» برهانًا عمليًّا تجريبيًّا لن يتولاه الوهن ولن تزعزعه أقلام الناقدين. فهل تقوى براهين السيد الأفغاني على تصديع حقائق العلم بعد هذا؟ ذلك ما نترك الموازنة فيه لحرية الباحثين.