قِدَم الأنواع والمذاهب الحديثة في الجيولوجيا وعلاقتها بمذهب النشوء
إذا حاول إنسان أن يتابع البحث في طبقات الأرض محتفظًا بما نزل في سفر موسى، فلن يستطيع ذلك، إلا إذا استعان بالبحث التاريخي دون سواه. وكنت أخشى أن أتعرض لذكر شيء أتى في ذلك السفر الديني، لا سيما ما اختص منه بالمسائل الأدبية والنصائح. ولو اتسع لي مجال البحث في ذلك، لكنت أميل إلى القرآن متى لأي سفر آخر.
***
يقول السيد الأفغاني في ثبت مقالته في الدهريين ما يلي: «ومال جماعة منهم إلى الإبهام في البيان، فقالوا إن أنواع النباتات والحيوانات تقلبت في أطوار وتبدلت عليها صور مختلفة بمرور الزمان وكرور الدهور حتى وصلت إلى هيئاتها وصورها المشهودة لنا. وأول النازعين إلى هذا الرأي «أبيقور» أحد أتباع «ديوجنيس» الكلبي. ومن مزاعمه أن الإنسان في بعض أطواره كان مثل الخنزير مستور البشرة بالشعر الكثيف، ثم لم يزل ينتقل من طور إلى طور حتى وصل بالتدريج إلى ما نراه من الصورة الحسنة والخلق القويم. ولم يقم دليلًا ولم يستند على برهان فيما زعم من أن مرور الزمان علة لتبدل الصور وترقي النوع.» «ص٢٣ من الدهريين.»
ثم يقول: «ولما كشفت علوم الجيولوجيا «طبقات الأرض» عن بطلان القول بقدم الأنواع رجع المتأخرون من الماديين عنه إلى القول بالحدوث.» ص٢٣ و٢٤ من الدهريين.»
ومن الغريب أن يدعي السيد الأفغاني أن «أبيقور» قد قال ذلك القول. على أننا لا ننكر أن رأيًا مشابهًا لهذا قد ذاع في زمان ما من العصر اليوناني، غير أن «أبيقور» لم يوجه بنظره يومًا، على ما وصلنا من آثاره، إلى التفكير في ذلك. لم يفكر في هذا الأمر إلا فئة قليلة منهم الفيلسوف «إنكسيمندر»، وهو من متقدمي الفلاسفة اليونانيين. قال هذا الفيلسوف في شرح ذلك الرأي ما يلي:
«إن تكوُّن المخلوقات الحية منسوب إلى تأثير الشمس في الأرض، وتمييز العناصر المتجانسة بالحركة الدائمة. وأن الأرض كانت في البدء طينية ورطبة أكثر مما هي الآن. فلما وقع فعل الشمس فارت العناصر التي في جوفها، وخرجت منها على شكل فقاقيع، فتولدت الحيوانات الأولى، غير أنها كانت كثيفة ذات صور قبيحة غير منتظمة. وكانت مغطاة بقشرة سميكة تمنعها عن التحرك والتناسل وحفظ الذات، فكان لا بُدَّ من نشوء مخلوقات جديدة، أو ازدياد فعل الشمس في الأرض لتوليد حيوانات منتظمة يمكنها أن تحفظ نفسها وتزيد. نوعها أما الإنسان فظهر بعد الحيوانات كلها، ولم يخل من التقلبات التي طرأت عليها، فخلق في أول الأمر شنيع الصورة ناقص التركيب، وأخذ يتقلب إلى أن حصل على صورته الحاضرة.»
هذا ما يقوله «أنكسيمندر». وإنك لا تجد من أثر لهذه المباحث في فلسفة «أبيقور». وفي الرسالة من أمثال هذا الخلط ما لا نستطيع أن نسوق القول فيه إلا لمامًا. أما القول بأن علم طبقات الأرض قد أثبت خطأ القول بتسلسل الأنواع، فسنتابع القول فيه بإسهاب لنعرف أي الفريقين أهدى وأمعن في التغلغل إلى صميم الحقائق.
•••
إن ما يظهر من أوجه الغرابة في قول السيد الأفغاني ليحملنا على الاعتقاد بأنه لم يقف على مؤلف واحد من مؤلفات «داروين». فإن «داروين» لم يحاول أن يثبت أن مضي الوقت ومرور الزمان علة في ذاته لقبول الصور وترقي الأنواع. ولا يدلك على ذلك مثل قوله في ص٢١٨ في الفصل الرابع من كتابه أصل الأنواع طبعة أولى من النسخة العربية حيث يثبت صراحة ما يلي: «إن كرَّ الإصباح ومر العشي، ومضي الأزمان المتتابعة وحده لا يحدث في الانتخاب الطبيعي أثرًا ما إيجابًا أو سلبًا. ولقد اضطررت إلى التكلم في هذا المبحث لأن بعض الطبيعيين أيقن خطأ بأني أعتقد أن لمضي الأزمان وترادف الأعصار، الأثر الكلي والجولة الواسعة في تغيير صفات الأنواع، على قاعدة أن صور الأحياء عامتها كانت ممعنة في تغاير الصفات بتأثير سنة طبيعية مؤصلة في تضاعيف فطرتها. بَيْدَ أن مضي الأعصار وتلاحق الدهور لا يتعدى تأثيره تهيئة لظروف ظهور التغايرات المفيدة للكائنات وانتخابها انتخابًا طبيعيًّا واستجماعها ثم تثبيتها من طبائع الصور العضوية. ولا جرم أن لذلك أثرًا بينًا، غير أنه بعيد عما يتوهمون. كذلك يعد مضي الوقت طبائع الكائنات من حيث تركيبها الآلي، إلى قبول تأثير حالات الحياة الطبيعية قبولًا مباشرًا.»
ومن أعجب العجب أن يعقب السيد الأفغاني على ادعائه بأن «داروين» يعتقد بأن مرور الزمان علة لترقي الأنواع بقوله: «ورأس القائلين بهذا القول «داروين» وقد ألف كتابًا في بيان أن الإنسان كان قردًا عرض له التنقيح والتهذيب في صورته بالتدريج على تتالي القرون وبتأثير الفواعل الطبيعية الخارجية حتى ارتقى إلى برزخ «أوران أوتان» ثم ارتقى من تلك الصورة إلى أول مراتب الإنسان فكان صنف اليميم وسائر الزنوج. ومن هناك عرج بعض أفراده إلى أفق أعلى وأرفع من أفق الزنجيين فكان الإنسان القوقاسي»، ثم يقول: «وعلى زعم «داروين» هذا يمكن أن يصير البرغوث فيلًا بمرور القرون وكر الدهور وأن ينقلب الفيل برغوثًا.»
وأن السيد الأفغاني في قولته هذه ليخلط بين قضيتين من قضايا العلوم الطبيعية، خص «داروين» كلًّا منهما بكتاب. خص القضية الأولى، قضية النشوء، بكتابه «أصل الأنواع»، وفيه أثبت أن العضويات تتغاير. ورد إلى ذلك السبب في نشوء الأنواع وتسلسل بعضها من بعض. وخص القضية الثانية، قضية أصل الإنسان، بكتابه «تسلسل الإنسان وأصله» وفيه أثبت أن الإنسان متسلسل عن صورة أحط من صورته التي تجده عليها الآن. وأن هذه الصورة تقارب أرقى صور البريمات أي القرود العليا، ومنها أوران أوتان، لا أن أصل الإنسان قرد كما كان يقول سوقة الناس في عصر «داروين».
أما قوله بأن نظرية «داروين» تسوق إلى الاعتقاد بجواز أن يصبح البرغوث فيلًا وأن يرتد الفيل برغوثًا على مر الدهور، فقد أدلينا بالكلام فيها من قبل. ولمن يقرأ كتاب «أصل الأنواع» مقنع بأن هذا القول غير جدير بأن يصدر من شخص عرف ماهية المذهب ووقف على أصوله ومفصلاته، فيتعمد نقده شأن السيد الأفغاني.
أما إذا أردنا أن نظهر القارئ على تلك الأخطاء التي وقع فيها السيد الأفغاني، فإنا لا محالة مسوقون إلى الكلام في أربعة مسائل متفرقة، يخرج منها القارئ بفكرة علمية تناقض ما يذهب إليه هذا الناقد تمام المناقضة. ولا بدَّ لنا إذا أردنا ذلك أن نمهد للكلام بلمحة في تاريخ مذهب النكبات الجيولوجية؛ لأن القول بهذا المذهب قعد بمذهب النشوء زمانًا ما، حتى أصبح الكلام فيه توطئة أولية لمن يريد أن يعرف تاريخ هذا المذهب. ثم نعقب على ذلك بفصل مستفيض في ما هي الحفريات؟ وما هي علاقتها ببقية فروع العلوم الطبيعية، ليتسنى لنا أن نفصل حقيقة العلاقة الواقعة بين مذهب النشوء وبين علمي الجيولوجيا والحفريات وإثبات تسلسل الصور الحية من البحث فيهما حتى تنتهي بالحلقة التي تربط بين الفقاريات واللافقارية، معقبين على ذلك بما له علاقة بمذهب «داروين» من المباحث الطبيعية وأوجه النقد الحديث، وسيكون ذلك ختام هذا الكتاب. وسنفرد كتابًا آخر لتفصيل رأي «داروين» وغيره من الثقات في أصل الإنسان، لنعلم إن كان يقول بأن أصل الإنسان قرد أو صورة أحط من صورته شبيهة بأرقى صور البريمات.
على أننا سنقصر هذا الفصل على الكلام في مذهب النكبات الجيولوجية والمذاهب الحديثة التي تبوأت مكانة من العقول في طبقات الأرض. وسنكسر الفصل التاسع على الحفريات وعلاقتها بمذهب النشوء.
نسوق البحث في هذه المسائل معتمدين على أوثق المصادر وأصح المآخذ الذائعة في هذا العصر. وما نحن في الواقع إلَّا أخاذ عن نواتج العقول الأوروبية في الأعصر الحديثة. وليس لنا من فضل إلَّا فضل الباحث وراء الدرة في قاع البحر الخضم الزاخر، الضانِّ بدرره على من لم يغص لها إلى أبعد أعماقه.
لهذا نمت إلى القارئ أن يماشينا في هذه المباحث بنظر غير مفسدٍ وعقل غير مدخول بالتقاليد، لئلا تغم عليه، كما يقول دكتور «شميل»، وهو واقف من شرفة عقله يتلمس الحقيقة من وراء ستارها.
•••
ولا جرم أن هذا المذهب الذي انتشر وذاع في أوائل القرن الماضي وأواخر القرن الثامن عشر، كان أكبر حائل يقوم دون انتشار مذهب النشوء والارتقاء.
ومما جعل لمذهب النكبات أكبر الأثر في القضاء على مذاهب النشوء التي ذاعت قبل عام ١٨٥٩، موافقته لكثير من الكتب المقدسة، إذ جعل للقول بالطوفان العام متسع من العقول، وفرجة ينفذ منها هذا المذهب إلى عقول السذج من الناس، والمتعصبين من أهل العلم، فثبتت أصوله وأينعت فروعه، ومذهب النشوء لا يزال في مهده، لم يدرج بعد من حجر الأيام.
وكما قال «زينوفون» في العصور الأولى، بأن الحفريات لم تكن إلَّا عبثًا في الطبيعة حاولت الآلهة أن تلهو به تشبيهًا لباطن الأرض بأحياء البحار، ليعلل بذلك وجود الصور الحفرية في جوف الأرض، كذلك قال من قال بمذهب النكبات الجيولوجية في أوائل القرن الماضي، ليعللوا تعاقب الطبقات وتدرج وجود العضويات التي شاهدوا آثارها متحجرة في جوفها، وقالوا بأن الطوفان الذي تذكره الكتب المقدسة، ويعرف بطوفان نوح — عليه السلام — هو آخر النكبات التي انتابت الأرض.
ولقد كان للعلامة «هكسلي» ثقة كبيرة بكتاب «ليل» «مبادئ الجيولوجيا» وكان يعتقد بأن «ليل» أول من مهد السبيل ونبه الأفكار إلى قبول مبادئ النشوء التي وضعها «داروين»، واستنتج بعد ذلك من مراسلات «ليل» التي نشرت في سنة ١٨٨١ أن هذا النابغة الكبير كان على اعتقاد ثابت بصحة مذهب النشوء من قبل ذلك العهد بزمان طويل، وأنه كان يؤمن بأن النشوء يلحق العالمين العضوي وغير العضوي، ولو أنه ظل زمانًا طويلًا على نقيض ما تذهب إليه نظرية «لامارك» وغيرها من الآراء الشائعة، حتى وضع «داروين» كتابه «أصل الأنواع»، فهنالك وقع على ما كان يجول بخاطره فجهر برأيه في النشوء، وقضى بأن هذا المذهب يتفق والحقائق التي أظهرتها بقية العلوم اتفاقًا تامًا.
قال فيتون: «إن الآراء التي نشرها «هاتون» لم تؤثر في عقول الباحثين لعهده تأثيرها المرغوب فيه، ومضت على آرائه سنين عديدة لبثت فيها بعيدة عن محك النقد حتى إنها عدمت الأنصار، كما عدمت الأعداء.»
ولبثت آراء «هاتون» نسيًا منسيًّا حتى قام قليل من ذوي الآراء العتيقة يناوءونها ويرمونها بمخالفة مبادئ الدين، أمثال «كيروان» و«دي لوك» و«وليمز». وما حدى بهؤلاء إلى معارضة «هاتون» والوقوف في وجهه موقف المدافعين عن الدين إلَّا إطراحه تطبيق مذهبه على آيات الكتاب المقدس، إذ جعل مذهبه في «الاتساق» بعيدًا عن مؤثرات التقليد وساق البحث فيه على قاعدة: «إن المباحث الطبيعية في مذهب الاتساق مفضية بالباحث إلى القول بأن بداءة الحياة مبهمة غير معروفة، وكذلك نهايتها.»
قال الباحثون إذ ذاك: إن مذهب «هاتون» في الجيولوجيا شبيه بمذهب بعض الحكماء الذين يقولون بأن العالم لا بداية له ولا نهاية. ومن هذه الفكرة التي نشرها ثلة من ذوي الرأي نشط أصحاب التعصب إلى مناوأة مذهب الاتساق، وجاراهم في زعمهم هذا بعض المعروفين من الجيولوجيين، فقام مذهب النكبات قومته، وقعد التعصب بمذهب الاتساق زمانًا ما.
وكان من بين الذين يناوئون مذهب الاتساق كثير من فحول العلماء ومشهوري الباحثين منهم «سيدويك» و«بوكلاند» و«كونيبير» و«هيويل» و«هنساو»، وكلهم من مؤيدي الكنيسة. وكانوا يرون أن مذهب «هاتون» غير متسق والكتب المقدسة، وأنه عامل على هدم قواعد الدين وسنن الآداب العامة.
وكان «كوفييه» في فرنسا أكبر الثقات في علم الحيوان، ومضى مقتنعًا بأن مذهب النكبات الجيولوجية صحيح. قال بأن النكبات قد توالت على الأرض خلال الأعصر الأولى، وأن آخر ما انتابها من هذه النكبات طوفان نوح، وأن الطوفانات التي توالت على الأرض كانت تذهب بكل ما عليها من أثر للحياة، وأن ذلك هو السبب فيما نجده من بقاياها المستحجرة في باطن الصخور، وأن الحياة بعد كل نكبة كانت تأخذ في التكاثر على وجه الأرض حالًا بعد حال حتى تعتورها نكبة أخرى تذهب بريحها.
ومن أغرب الحوادث التي تروى في تاريخ العلم أن إنجلترا التي أنبتت أكبر الثقات في علم الجيولوجيا ومنهم «هاتون» الفيلسوف الكبير، كانت أكثر البلاد مناوأة لمذهب الاتساق، وهو نفس المذهب الذي تخرج فيه «ليل» أكبر جيولوجي الإنجليز، بل أكبر جيولوجي القرن التاسع عشر، وكان له في إنجلترا ذاتها أكبر حظ من الذيوع والانتشار. ولكن الليل لا بُدَّ من أن يتقدم الإصباح، والنور لا محالة مسبوق بظلمة الحلك. وعلم الجيولوجيا لم تعده تلك القاعدة، فبعد أن تناوحت من حوله رياح التعصب حينًا، انبلج ضوءه وتقشعت عن أفقه معميات الأوهام، فكان أكبر باعث على ذيوع مذهب النشوء الحديث في أواسط القرن الماضي.
•••
يقول العلَّامة «جون جود»: «إن هذين الباحثين قد وصلا إلى نتيجة واحدة من البحث في وقت كان كل منهما بمعزل عن صاحبه، وكلاهما قضى بأن المذاهب السائدة في علم الجيولوجيا غير صحيحة. وذلك ثابت مما كتباه من المؤلفات، وما تبادلاه من الرسائل، بل من كثير مباحثاتها التي دارت بينهما في كثير من نوادي العلم والأدب.»
في سنة ١٨٢٢ أتمَّ «سكروب» كتابه «علم الجيولوجيا والبراكين القديمة في أواسط فرنسا» وهو الكتاب الذي خلد اسمه بين كتاب القرن التاسع عشر. ولم يطبع كتابه إذ ذاك، ولو طبع لنال من الشهرة ما نال «ليل»، ولكنه عمد إلى إيطاليا يدرس فيها طبقات الأرض، عسى أن ينال من درسه ما يؤيد به نظريته القيمة التي بثها في ثبت كتابه. وهنالك كشف له عن كثير من الحقائق التي تناقض الرأي السائد في فروع علم الجيولوجيا، فشجعه ذلك على متابعة البحث وموالاة التنقيب في إيطاليا وما جاورها في الجزر، فأخرج في ذلك كتابًا قيمًا نشره عام ١٨٢٥ في مباحثه في البراكين وفي تكونها وظاهراتها والسنن التي تحكمها وعلاقة ذلك بالبحث في حالة الأرض قديمًا وحديثًا وما يتبع ذلك من وضع القواعد الجديدة التي يجب أن تتخذ أساسًا للمباحث الجيولوجية.
ولقد وضع «سكروب» ملخصًا جامعًا في مقدمة كتابه ألم فيه بالنظريات التي مضى عليها في بحثه. وتنحصر في أن علم الجيولوجيا مقصور على معرفة النواميس التي تؤثر في هذا السيار تأثيرًا مستمرًا أو طارئًا، واكتناه هذه المؤثرات بحيث نستطيع أن نكشف بها عن حقيقة العوارض التي نراها خلال البحث في طبقات الأرض، حتى يتيسر لنا أن نستقرئ من البحث في هذه المواد نتائج تكشف لنا عن تاريخ الأرض الطبيعي، وأن سطح الكرة الأرضية يوضح للباحث فيه أنه قد تناوبت عليه كثير من التغايرات الطبيعية تظهر متعاقبة الحدوث فيه خلال فترات من الزمان لا نستطيع أن نحددها.
وعدد «سكروب» من بعد ذلك تلك التغايرات التي تنتاب الأرض، واتخذ النظر فيها قاعدة لمباحثه، فأحصاها في ثلاث مسائل:
- أولًا: تغايرات سطح الأرض التي وقعت في الأجزاء التي تكون الطبقة المتجمدة من قشرتها.
- ثانيًا: تفتت الصخور القديمة وإعادة تكوينها صخورًا جديدة في شكل آخر.
- ثالثًا: استحداث صخور جديدة بحتة على سطح الأرض.
ثم قال: «إن علماء الجيولوجيا قد مضوا في بحثهم هذه العوامل مقتنعين بحدوث نكبات أو كوارث أو ثورات طبيعية عامة كانت تنتاب نسق الأرض الطبيعي وتغير من نظامها على أن المصطلحات التي اصطلح عليها الباحثون في أبحاثهم كقولهم نكبات وكوارث وثورات طبيعية، لتجعل الناس في حِلٍّ من تشكيل مدلولاتها كل بما يخطر له من غير تحديد؛ ولذا كان لها نصيب وافر من الذيوع، وكانت عقبة كئودًا حالت دون التعمُّق في مباحث جديدة. وكان لهذه الآراء عدى ذلك أكبر الحظ في صد تيار التقدم العلمي، حيث أحاطت العلم بهالة من اللبس، وطوقته بمنطقة من التهوش والفوضى»، وقال: «أما إذا أردنا أن نكتنه أي الأسباب أو السنن الطبيعية في مستطاعها إحداث هذه التغايرات، كان الواجب أن نبدأ بدراسة نواميس الطبيعة الدائبة التأثير، المتدافعة القوى. فهنالك ظاهرات طبيعية عديدة تؤثر في الوقت الحاضر في سطح الكرة الأرضية فتحدث تغايرات متعددة في تكوين أوصافها الظاهرة، شبيهة كل الشبه بما كان ينتاب الأرض في عصورها الأولى، وأن البحث في طبيعة تلك التغايرات والوقوف على حقائقها، ينحصر فيه كل الغرض من علم طبقات الأرض على معتقدي.»
وحصر «سكروب» تلك النواميس في ثلاثة أمور؛ أولها: الظاهرات الجوية، وثانيها: النواميس التي تحكم سريان الماء وحصره في سطح الكرة، وثالثها: تأثير البراكين والزلازل.
أما الآثار التي تحدثها هذه المؤثرات في سطح كرة الأرض فقد حصرها في أربعة أشياء؛ أولها: تحطيم الصخور، وثانيها: تجديد صخور غيرها، وثالثها: تغير مستوى الأرض ارتفاعًا وانخفاضًا، ورابعها: تكوين صخور جديدة تخرج من جوف الأرض إلى سطحها الظاهر.
ونشر «سكروب» كتابه الأول الذي كتبه في طبقات أرض فرنسا الوسطى عام ١٨٢٦. ثم عدت عليه عاديات السياسة، فهجر العلم إلى الاشتغال بالمسائل الاجتماعية والمشكلات السياسية. ولكن أثره في علم طبقات الأرض سيبقى مخلدًا ما بقي لذلك العلم أثر في هذا العالم.
•••
على أن العلم لا يعدم أنصارًا. فإن السير «شالز ليل» قد عوض على علم الجيولوجيا ما فقد ذلك العلم بذهاب «سكروب».
تخرج «ليل» من جامعة اكسفورد سنة ١٨١٩ على الأستاذ «بوكلاند» وكان إذ ذاك في الثانية والعشرين من عمره، ومضى أستاذه في تخريجه على قاعدة أن مذهب النكبات صحيح، ووقعت بينه وبين «كوفييه» من بعد ذلك صداقة متينة، حيث كان يجوب أقطار أوروبا باحثًا في تكوينها الجيولوجي، منقبًا في حفرياتها، وكان «كوفييه» لذلك العهد أكبر أنصار مذهب النكبات ورأي المناوئين لمذهب الاتساق، ولم تخل في ذلك العهد مقالة أو كتاب أو محاضرة أخرجها للناس «كوفييه» إلَّا وفيها تأييد لمذهب النكبات، أو برهان جديد ينافي مذهب الاتساق.
كذلك كانت نشأة «ليل»، وتلك هي البيئة التي ضمته بعد أن تخرج على أكبر نصير في إنجلترا لمذهب النكبات. فما هي إذن تلك الأسباب التي جعلته يطرح المذهب الذي تخرج فيه، ليكون أكبر نصير لمذهب النشوء، مطبقًا على العالمين، العضوي وغير العضوي.
قال بعض الذين ترجموا عن حياة «ليل» إن دراسة مؤلفات «هاتون» كانت أكبر باعث له على خروجه على مذهب النكبات. ولكن هنالك براهين عديدة وأدلة وافرة، تدل على فساد هذا الزعم. يتضح ذلك مما كتبه «ليل» عام ١٨٣٩ إذ قال بأنه لم يسغ مؤلفات «هاتون»، ولم يقرأ نصف كتابه في الجيولوجيا الحديثة، ولكنه أكب على مؤلفات «سكروب» و«فون هوف جوتا» وقال بأن مؤلفات «جوتا» كان لها أكبر الأثر في نشوئه العلمي. كما أنه من المحقق أن «ليل» قد وصل من نتائج البحث في طبقات الأرض إلى ما وصل إليه «هاتون»، ولكن كلا منهما سلك طريقًا يباين الطريق التي سلكها صاحبه.
•••
زار «ليل» مقاطعة «نورفولك» سنة ١٨١٢ وكان في العشرين من عمره. ولكنه أخذ في البحث إذ ذاك فيما تحتت من صخور الشواطئ في ناحية «كرومر» و«البردورو» و«ونويتش» بفعل البحر، فأكب على دراسة تلك الظاهرة زمانًا، ثم رجع إلى البحث في تكوين الأرض برواسب المياه، فأراد بذلك أن يتم دراسة ظاهرتين متضادتي الفعل في الطبيعة، ولهما أكبر الأثر في الكشف عن خفيات علم الجيولوجيا. غير أن «ليل» تابع أبحاثه تلك مقتنعًا بمذهب النكبات كما أخذه عن «بوكلاند». وكان أول ما صرف ذهنه إلى بحث طبقات الأرض مناقضًا مذهب النكبات ما رآه في إنجلترا وبقاع في أوروبا من المشاهدات التي لا تتفق وذلك المذهب، بل تناقضه. رأى فيه بقاع من شمال الجزائر البريطانية أن تعاليم «بوكلاند» تناقض المشاهدات التي وقع عليها حسه.
وكانت التعاليم التي اتخذها «بوكلاند» لتخريج تلاميذه أساسًا أن سطح الأرض قد تغير من ٤١٧٠ عامًا بما حدث من تأثير طوفان نوح. وأيد ذلك «كوفييه» إذ قال بأن الأبحاث التي أجراها في الأحجار الكلسية التي تكونت على حوافي المياه العذبة، تدل على أن هذه الأحجار مخالفة كل المخالفة لكل ما عداها من الأحجار المتكلسة الحديثة لما فيها من آثار التبلور وعدم وجود أصداف أو بقايا نباتية فيها، أو آثار بشرية ما. وكانت نتيجة ذلك البحث أن اقتنع «كوفييه» و«برونيار» كلاهما بأن المياه العذبة التي كانت في بعض بقاع من سطح الكرة الأرضية في الأزمان الغابرة تحتوي على خاصيات توجد في المياه العذبة في عصرنا هذا.
ولقد عضد «ليل» في مباحثه كثير من جهابذة العلماء وأهل النظر منهم «روبرت برون» النباتي المشهور، و«دوبيني» الكيماوي المعروف، وغيرهما من العلماء، وتابعوا البحث في حقيقة الرواسب التي تحيط بتلك البحيرات، فعرفوا أن هذه الأحجار تحتوي على آثار أملاح وبقايا كلسية متبلورة تشابه في خاصيتها الأحجار القديمة التي تكونت خلال العصور الأولى في بقية بقاع الأرض، وبان لهم أن ترسبها لم يحدث طفرة، بل بالتدرج على مر الأزمان وبتأثير الحياة النباتية فيها. وبذلك استطاع «ليل» أن يدفع بالمشاهدة والاختبار تعاليم «بوكلاند» و«كوفييه» وينقضها لأول مرة في تاريخ العلم.
على أن «ليل» لم يقصر بحثه على هذه المشاهدات، بل تابع البحث في تأثير الهواء والمطر على سطح الأرض وأثرهما في تغيير شكلها الظاهر. ومن البحث في هذه المؤثرات استطاع أن يأتي ببراهين أخرى تنقض مذهب النكبات الجيولوجية. وعندها تم له الظفر. وجدير بنا أن نلم بشيء من تاريخ البحث في علم طبقات الأرض لذلك العهد في أوروبا، ثم نتابع بعد ذلك الكلام فيما أحدثت مباحث «ليل» من تطور في العلوم الحديثة.
•••
في سنة ١٨١٨ وضع العلامة «بلومنباخ» جائزة نفيسة لمن يكتب أقوم مقالة في «بحث التغيرات التي انتابت سطح الأرض خلال زمان التاريخ وما يمكن أن يتخذ من هذه التغايرات سبيلًا إلى بحث الثورات الطبيعية التي وقعت لسطح الأرض قبل التاريخ المعروف.» وهنالك جرت الأقلام وتنافست القرائح، فكان الفائز طالبًا ألمانيًّا صغيرًا اسمه «فون هوف جوتا» نال الجائزة بكتاب عنوانه «تاريخ التغايرات الطبيعية التي حدثت في سطح الأرض وإثباتها بالمشاهدات الواقعة.» وظهر الجزء الأول من هذا الكتاب عام ١٨٢٢ وقصر الكاتب بحثه في ذلك الجزء على المؤثرات التي تحدثها حركة البحر في اليابسة. وظهر الجزء الثاني عام ١٨٢٤ وقصر البحث فيه على مؤثرات البراكين والزلازل. ومن سوء الحظ أن «فون هوف» جعل بحثه قاصرًا على دراسة المؤلفات التي ظهرت في الموضوع في القرون الوسطى لقصور مادته المالية دون الإنفاق على رحلات كان من الواجب أن يتخذها سبيلًا لدرس البقاع التي أتى على وصفها في سفره الجليل. ولكن ما استنتجه من مباحثه تلك وهو بين جدران حجرته كان له أكبر الأثر على «ليل». ولكن «ليل» على العكس من «فون هوف» كان قادرًا على القيام بنفقات رحلاته التي أثبت بها ما وضعه من النظريات وما عن له من الأفكار. ولم يظهر الجزء الثالث من كتاب «فون هوف» إلَّا بعد ظهور كتاب «ليل» «مبادئ الجيولوجيا»، ذلك الكتاب التي خلد اسمه بين جهابذة العلماء الذين استنار بهديهم أبناء القرن التاسع عشر في الكشف عن مغمضات الجيولوجيا الأرضية.
وكان التعصب الديني لذلك العهد شديد الأثر في كل ما يخرج للناس من نواتج الأبحاث وثمرات العقول. وكان من أمر «هاتون» — وهو فيلسوف وعالم معًا — أن حمل على الأديان حملة منكرة وجهر برأيه فيها، فرغب الناس عن مؤلفه حتى ترك وأهمل السنين الطوال، على أن فيه من آيات الحق وظاهر البينات ما جعل لعلم طبقات الأرض منزلة بين بقية العلوم وأثرًا كبيرًا، وكان من قبله شتاتًا من المشاهدات السقيمة التي وضعها كتاب القرون الوسطى.
وعرف «ليل» ذلك. فاجتهد أن يبعد مباحثه عن التعرض للدين، وجعلها قاصرة على مشاهدات وتجاريب واستنتاجات، إن كانت في ظاهرها بعيدة عن النقط التي كان يحس لها الرأي السائد في ذلك العهد، فإنها في الحقيقة كانت سهامًا مسددة ضربت تلك الآراء العتيقة بنور من الحق وقبس من اليقين، ذهبت بآثارها من عقول الباحثين.
ولقد استعان «ليل» بقوة من البرهان ومتانة من اللغة وسلامة في التعبير كان «هاتون» أحوج الناس إليها. والمعتقد الغالب أن نصيب «ليل» من الأدب لا يقل عن نصيبه من العلم. فقد عني في عهد تحصيله بقراءة كتب الأدب والشعر واستعمق في كثير من المباحث الأدبية ونال فيها درجة من أكسفورد كان يتيه بها على أقرانه.
•••
وضح لنا من قبل أن «ليل» قد ساورته حوالي عام ١٨١٧ شكوك كبيرة في صحة مذهب النكبات الذي خرجه فيه «بوكلاند» من قبل. ولقد كان لهذه الشكوك أكبر الأثر في عقل «ليل» ومباحثه مذ كان تلميذًا في العشرين من عمره إلى أن صار أستاذًا كبيرًا وهو في الثلاثين من عمره، ساورته عشر سنين، كان خلالها دائب البحث للوقوف على حقيقة تاريخ الأرض خلال تكون طبقاتها في العصور الأولى. وفي عام ١٨٢٧ بدأ «ليل» في طبع الجزء الأول من كتابه «مبادئ الجيولوجيا» وهو يكاد يستدبر العقد الثالث من عمره. وظهر كتابه في ذلك العام، ولكنه أعاد تنقيحه وطبعه مرة أخرى عام ١٨٢٩، وكانت هذه الطبعة أتم طبعات الكتاب إتقانًا.
وكان العديد الأوفر من الأعضاء المنتمين لجماعة الجيولوجيا في لوندرا من أنصار مذهب النكبات أو غيره مما يماثله من المذاهب التي تختلف عنه في التسمية ولا تعدوه في المقصد. وخشي «ليل» أن ينشر فيهم كتابه «بداءة ذي بدء»، وحاول أن ينشر الكتاب من غير أن يضع عليه اسمه، ولكنه عدل عن ذلك الرأي فجعل الكتاب خالصًا من كل الشوائب التي توغر عليه صدور تلك الثلة من الباحثين، فلم يتعرض للكلام فيه عن أصل التكوين ولا الخلق ولا طوفان نوح. وكان يود لو استطاع أن لا يحدث حول كتابه جلبة كبيرة سواء أفي العلم أم الدين، فظفر بالثانية وأخفق في الأولى، وكان ذلك السبب الوحيد الذي جعل لكتابه ذلك الصيت البعيد.
مما يدل على ذلك كتاب أرسله «ليل» لأحد رصفائه من الباحثين في علم الجيولوجيا قال فيه: «إذا حاول إنسان أن يتابع البحث في طبقات الأرض مقتنعًا بما نزل في سفر موسى فلن يستطيع ذلك إلَّا إذا استعان بالبحث التاريخي دون سواه. وكنت أخشى أن أتعرض لذكر شيء أتى في هذا السفر الدينيِّ لا سيما ما اختص منه بالمسائل الأدبية والنصائح ولو اتسع لي مجالُ البحث في ذلك لكنت أميل إلى القرآن مني لأي سفر آخر.»
ولم يقتصر «ليل» في أبحاثه تلك على التطورات التي تلحق الطبيعة غير الحية دون غيرها، بل خص البحث في تطور العضويات بجزء كبير من المجلد الثاني من كتابه هذا. وكان «داروين» في ذلك الحين مزمعًا الرحيل على ظهر باخرة في بعث حول الأرض لتحقيق بعض الأرصاد ومساحة بعض شواطئ أمريكا الجنوبية، فأكب على كتاب «ليل» يدرسه الدرس الوافر، وكان يقول دائمًا أن لهذا الكتاب أكبر الفضل في المباحث التي قام بها خلال تنقيبه عن أصل الأنواع.
ولا جرم أن القول بمذهب النكبات كان أكبر عقبة تحول دون القول بتسلسل بعض الأنواع من بعض، لأن النكبة إذ تعم سطح الأرض فتذهب بما عليها من آثار الحياة على معتقدهم، قد اتخذ وقوعها دليلًا يؤيد نظرية الخلق المستقل، لما أن القول بتسلسل صور الأحياء يستدبر طويل الزمان وبعيد العصور، حتى تتكون بعض الحيوانات من بعض خلالها، ناهيك بأن زعماء مذهب النكبات كانوا على اعتقاد بأن ما انتاب الأرض من هذه الكوارث قد حدث خلال فترات لا يمكن أن يصح معها تسلسل الأنواع. فجاء نقض هذا المذهب أكبر مروج لمذهب النشوء الحديث الذي دعمه العلامة «داروين» عام ١٨٥٩ بكتابه أصل الأنواع.
هذه مفصلات مذهب النكبات الجيولوجية وتاريخه. ولقد أدت المباحث فيه إلى نقض الفكرة القديمة في الحفريات، إذ كان الرأي السائد حتى أواسط القرن الثامن عشر أن صور الحفريات التي يعثر عليها مستحجرة في باطن الصخور، ليست سوى عبث الطبيعة إذ تلهو بأن تصور في جوف الصخور صور الأحياء البرية والبحرية. فلما بدأ مذهب النشوء في أوائل القرن التاسع عشر، بعد نقض مذهب النكبات، يزيح عن الأعين غشاوة الجهل الموروث عن القرون الأولى، أكب الناس على الحفريات يدرسونها مقتنعين بأنها ليست سوى صور الأحياء الأولى، التي انطمرت واستحجرت في باطن الصخور، متخذين منها البراهين والأدلة المؤيدة لتسلسل بعض الأنواع من بعض، ولذا نتابع الكلام فيها بما تستحقه من الاستفاضة والبيان؛ لأن البحث في تتابع الصور الحفرية في طبقات الأرض، كان أول ما نبه الأذهان إلى القول بالتسلسل ونشوء الأحياء بعضها من بعض على مر العصور.