مقدمة المترجم

عنوان الكتاب — أي كتاب — هو في معظم الأحيان تلخيصٌ تجريدي للاتجاه العام الذي يسير فيه الكتاب بعد رفع التفاصيل وترك الموضوعات الجزئية جانبًا … أمَّا الكتاب الذي نقدِّم ها هنا ترجمتَه فإن عنوانه لا يلخِّص اتجاهه العام فحسب، بل يحدِّد في الوقت ذاته طبيعة كلِّ ما يعالجه من موضوعاتٍ جزئية تفصيلية … إنه، بإيجاز، ليس تلخيصًا تجريديًّا للمضمون، بل هو لُب هذا المضمون ذاته من بداية الكتاب إلى نهايته.

فهذا الكتاب لا يعدو أن يكون محاولةً مفصَّلة، متعمِّقة، للإجابة عن سؤالٍ هام يقع على الحدود الفاصلة — أو على الأصح الحدود الجامعة — بين الفكر النظري والعملي، هو: هل يستطيع العقل أن يقوم بدَورٍ ثوري في حياة الإنسان؟ وما أبعاد هذا الدَّور، وما حدوده التي لا يتعداها؟ والحق أن أهمية هذا السؤال إنما ترجع إلى أنه يُطرح في ظل تاريخٍ طويل ظل فيه معنى العقل منفصلًا عن معنى الثورة، بل ظل فيه العقل قوةً محافِظةً أساسًا، تعمل على كبت أي تمرُّد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى الاحتفاظ بكل القِيَم السائدة، وتُحارِب كل ميلٍ جذريٍّ إلى التغيير.

كان هذا شأن فكرة العقل منذ أن تحدَّدَت — في الفكر الغربي — على يد اليونانيين القدماء، ابتداءً من بارمنيدس، الذي ربط بين العقل والثبات والسكون إلى حد إنكارِ ظاهرةٍ يلمس الإنسان آثارها المباشرة وغير المباشرة في كل لحظة من لحظات حياته، وهي ظاهرة الحركة، حتى أفلاطون وأرسطو، اللذَين كان العقل عندهما — مع اختلافٍ في كثيرٍ من التفاصيل — قوةً كونية تُوجِّه كل شيء نحو غايته المحدَّدة مقدمًا … وظلَّت هذه نظرة الفلاسفة إلى العقل طَوال العصور التالية، حتى أصبح من الأمور شبه البديهية أن يُقاسَ مدى ميل الفيلسوف إلى التغيير والدينامية بدرجة دفاعه عن العقل، فإن كان عقليًّا خالصًا كان اتجاهه — في المجال العملي — اتجاهًا سكونيًّا محافظًا، وإن كان من المؤمنين بالتجربة العَينية، مهما اختلفَت صورتُها، كان من حقِّنا أن نتوقع منه دفاعًا عن فكرة التغيُّر والتحوُّل، على المستويَين النظري والعملي معًا.

ظلت الأمور تسير على هذا النحو، إلى أن جاء فكر هِيجِل، فقلَب هذه الأوضاع رأسًا على عقب … ولا أقول إن قيام هِيجِل بهذه المهمة أمرٌ مسلَّم به. ولكن هذه هي الصورة التي يتبدَّى لنا عليها في هذا الكتاب الهام الذي نقدِّمه إلى قراء العربية … فأوضَح صفات التفسير الذي يقدِّمه لنا هذا الكتاب لفلسفة هِيجِل، هي صفة المعقولية والثورية … وما الكتابُ كله إلا دفاعٌ عن ذلك الارتباط — الذي يبدو أمرًا غير مألوف في ضوء التراث الفلسفي السابق كله — بين الاتجاه الفلسفي إلى المعقولية، أو بين المثالية الصريحة، وبين الروح الثورية الأصيلة. كما أن الكتاب يتضمَّن، في مقابل ذلك، محاولةً للجمع بين الروح الوضعية والتجريبية، وبين النزوع إلى الإبقاء على الأمر الواقع، والمحافظة على الأوضاع القائمة في الميدان العملي.

فالمثالية، في نظر المؤلف، محاولة لإضفاء نظام على الواقع التجريبي المضطرب، وهو نظام مُستمَد، بطبيعة الحال، من العقل أو من الفكر نفسه … وحين يُترجم هذا الموقف إلى اللغة السياسية أو الاجتماعية، فإنه يعني أن المثالية تسعى إلى تحرير المجتمع من قبضة العوامل العشوائية التي تظل تتحكَّم فيه ما دام هذا المجتمع نهبًا للعمليات الآلية التي تسيطر عليها قُوًى غير عقلية؛ كمتطلبات السوق والسعي إلى الربح أو المنافسة بين المنتجين … إلخ. وعلى هذا النحو يحكُم المؤلِّف على المثالية الألمانية بأَسْرها بأنها كانت حركةً تحرُّرية، وينتقد خصومها — حتى من التقدميين — الذين نظروا إليها على أنها حركة تغلبُ عليها النزعة المحافظة.

ولكن المشكلة هي أن المثالية لا تكتسب هذا المعنى التحرُّري إلا إذا تمَّت الترجمة التي تحدَّثنا عنها من لغة الفكر الخالص إلى لغة السياسة أو الاجتماع، فهل قامت المثالية فعلًا بمثل هذه الترجمة؟ الحق أن المتتبع لتاريخ المثالية يجد من الصعب عليه أن يجيب عن هذا السؤال بالإيجاب … فلقد كان من الصفات المميزة للمثالية حرصُها على تجنُّب التطبيقات «العينية» لآرائها، والاحتفاظ بها على المستوى الفكري الخالص … وأغلب الظن أن هذه الحقيقة لم تَغِبْ عن ذهن المؤلف؛ إذ إنه برغم محاولاته المستمرة أن يُضفيَ على المثالية صبغةً تحرُّرية تقدُّمية، يجعل لهذه التحرُّرية في كثيرٍ من مواضع كتابه حدودًا لا تتعدَّاها؛ فهو يصف المثالية بأنها محاولةٌ للتحرُّر على مستوى الفعل وحده، في مجتمعٍ عاجزٍ عن أن ينقل هذا التحرُّر إلى مستوى الواقع الفعلي — وهو حكمٌ يستطيع القارئ أن يدرك مدى صوابه إذا تذكَّر معنى «الحرية» في فلسفة «كَانْت»، وكيف أن الحرية بمعناها الصحيح لا تتحقَّق عنده إلا في المجال العقلي الصرف؛ أي في مجال العالَم المعقول أو الأشياء في ذاتها، على حين أن عالَم التجربة تحكمه «الضرورة» … مثل هذا الازدواج بين الحرية على مستوى العقل، وبين الضرورة — أو انعدام الحرية — على مستوى التجربة الفعلية، يُعَدُّ دون شك تأييدًا لرأي المؤلِّف القائل إن نزعة التحرُّر في المثالية الألمانية تقف عند حدود الفكر الخالص، ولا تتعدَّاها إلى مجال الواقع … وبطبيعة الحال كان سبب هذا الازدواج هو وقوف المفكِّر المثالي عاجزًا أمام عالَم التجربة الفعلية؛ فهو ذو سلطانٍ مطلَق في العالم المعقول، أمَّا في العالم الفعلي فهو ضائع، عاجز عن التدخُّل أو التأثير في مجرى الحوادث.

ولكن هل يحقُّ للمرء أن يرى في هذا التحرُّر على المستوى الفكري الصِّرف تحرُّرًا بالمعنى الصحيح؟ ألا يُمكِن، بنفس المنطق، أن نعُدَّه عكس ذلك، فنقول إنه محاولةٌ هروبية، واحتماءٌ بعالم العقل خوفًا من عالم الواقع، أو نتيجة للعجز عن التأثير فيه؟ هذا، على الأقل، تفسيرٌ محتمَل، يدُل على أن رأي المؤلِّف في هذا الصدد يقبل المناقشة من حيث المبدأ.

•••

على أن هِيجِل، على التخصيص، لم يكُن من هؤلاء المثاليين الذين يعجزون عن ترجمة آرائهم إلى لغة الواقع، ويقتصرون على المجال الفكري الخالص، بل إن الصفة المميزة لهِيجِل هي أن مثاليته تتجاوز الحد الفاصل بين الفكر والواقع، فتجعل الفكر منبثًّا في قلب الواقع، معبِّرًا عن نبضه وإيقاعه، محدِّدًا لاتجاه حركته. ومن هنا فإن الجزء الأكبر من هذا الكتاب قد كُرِّس لإثبات أن فكر هِيجِل يحوي عناصرَ منها ما هي ثوريةٌ خالصة، ومنها ما تمهِّد مباشرةً للثورة … أمَّا العناصر الأخرى التي شاع وصفُها بأنها «رجعية» في فكر هِيجِل، فإن المؤلِّف يأخذ على عاتقه أن يقدِّم لها تبريرًا يخفف إلى حدٍّ كبير من غُلَواء هذه الاتهامات.

فلنتساءل إذن: على أي نحوٍ يمكن أن يُعَد هِيجِل فيلسوفًا ثوريًّا؟ إن المحور الذي تدور حوله ثورية هِيجِل، في نظر المؤلف، هو فكرة «السلب»، التي تقوم بدَورٍ أساسي في الجدَل الهِيجِلي؛ إذ إنها هي القوة المحرِّكة فيه … ولنُلاحظ أن اللفظ المستخدَم للدلالة على السلب وهو لفظ negation يعني، في الوقت ذاته، الرفض والإنكار (وهو معنًى لا يمكن أن يظهَر بوضوح في اللفظ العربي المقابل له، أو في أي لفظٍ آخر يؤدي نفس المعنى، كالنفي مثلًا) … والواقع أن المؤلِّف يُجيد استغلال هذه الصفة الخاصة للفظ الأجنبي، ويستخدمه طَوال كتابه بمعانيه المتباينة جميعًا في آنٍ واحد … وعلى هذا النحو يظهَر لنا الطابع الثوري للجدَل الهِيجِلي بوضوح؛ فحركة الجدَل عند هِيجِل هي حركة تتسم أساسًا بأنها رفضٌ وإنكارٌ لما هو قائم فعلًا، وسعيٌ إلى مركبٍ أشملَ منه وأقلَّ تناقضًا، لا تلبث هذه الحركة أن تقف منه بدَوره موقفًا سلبيًّا، وتُنكِره إلى ما هو أعلى منه، وهكذا … والسلب كامن في قلب كل شيء؛ أي إن كل شيء يحمل في داخله نقيضه، ويحمل أيضًا عواملَ رفضِه والثورة عليه من أجل تجاوزه.

وليس من العسير أن يجد القارئ على ما قلناه في الفِقْرة السابقة مأخذًا أساسيًّا، هو أنه يتضمَّن انتقالًا غير مشروع من مجالٍ عقلي، هو مجال الجدَل، إلى مجالٍ اجتماعي أو حتى سياسي، هو مجال الثورة على الأوضاع القائمة. ولكن هذا بالفعل هو ما يقوم به المؤلِّف في كل صفحات كتابه هذا، وهو يقوم به عن وعيٍ وإدراكٍ كاملَين؛ فمثل هذا الانتقال الدائم — أو بالأحرى المزج الدائم — بين المجال العقلي والمجال العَيني هو لُب الفلسفة الهِيجِلية، التي لا يُمكِن في نظره أن تكون مثالية بالمعنى الذي يشيع في أذهان الكثيرين لهذه الكلمة … معنى الترفُّع على الواقع والتحليق في المجال الفكري الخالص؛ لأن فلسفة هِيجِل عينيةٌ واقعية بقَدْر ما هي مثالية.

وعلى ذلك فإن الجدَل الهِيجِلي هو في أساسه تعبيرٌ عن رفض كل وضعٍ قائم، ودعوةٌ — نظرية — إلى تجاوزه، وبين الرفض والتجاوز من جهة، والثورة من جهةٍ أخرى، خيط رفيع، بل إن الأوَّلَين يمهِّدان مباشرةً للثانية، ومن هنا كانت بذور الثورة كامنة في تفكير هِيجِل على الدوام، وكانت الثورة نتيجةً ضرورية للاعتناقِ المخلِص لآرائه، وكان الهِيجِليون الأصلاء ثوريِّين بطبيعتهم.

وما يُقال عن السلب، يُقال أيضًا عن مصطلح «النقد» … فالمؤلف يفسِّر هذا المصطلح على أساس أنه يعني بدَوره انتقادَ الأوضاع القائمة؛ فالفلسفة النقدية عنده هي التي تُحارِب كل وضعٍ قائم وتقف منه موقفًا سلبيًّا، ومن هنا كانت فلسفة هِيجِل في أساسها نقدية، بالمعنى الخاص الذي يستخدمه المؤلف، والذي يختلف اختلافًا واضحًا عن معنى هذا اللفظ حين تُوصَف به فلسفة «كَانْت» مثلًا.

ومن المؤكَّد أن المرء في حاجة إلى قدْرٍ غير قليل من التسامح أو التساهل اللغوي، كيما يقبل هذه الألفاظ بالمعاني التي حدَّدها المؤلف … ولكني أعتقد أن هذا التساهل والتجاوز عن التدقيق الشديد في ميدان اللغة أمرٌ ضروري لكل هِيجِلي؛ لأنه — في نهاية الأمر — كان جزءًا من طبيعة هِيجِل نفسه … فلا يمكن أن يكون فيلسوف التحليل اللغوي، مثلًا، هِيجِليًّا؛ لأن اعتياده التحليل الدقيق للألفاظ والتزامه معنًى واحدًا للفظ الواحد، يجعله قارئًا سيئًا إلى أبعد حدٍّ لهِيجِل، كما أن هِيجِل يبدو في نظره كاتبًا لا يقلُّ عن ذلك سوءًا. ومن هنا كان هِيجِل مجالًا خصبًا يستمد منه فلاسفة التحليل اللغوي شتى القضايا التي يضربون بها الأمثلة لافتقار الجُمَل الميتافيزيقية إلى المعنى وخُلوِّها من الاتساق. ولا بد أن يعتاد المرء أن يتغاضى عن مطلب الدقة والاتساق اللفظيَّين إذا ما شاء أن يساير هِيجِل في تفكيره … ويكفي أن نقولَ إن المصطلح الهِيجِلي — مصطلَح التناقض — لا يعبِّر في واقع الأمر عن أي تناقضٍ لو فُهِم هذا اللفظ بالمعنى الأرسطي الدقيق … إنه قد يكون تضادًّا، أو اختلافًا وتباينًا وتعارضًا (وهو الأغلب)، ولكنه ليس تناقضًا بالمعنى الدقيق؛ أي بمعنى أن يجمع الشيء، في الوقت الواحد ومن الوجهة الواحدة، بين الصفة ونقيضها معًا … ومن هنا كان على المرء أن يتغاضى عن معظم عادات التحليل اللغوي إذا ما شاء أن يساير فكر هِيجِل، ولكن الأمر المؤكَّد هو أن هِيجِل كفيل بأن يعوِّضه — في مقابل هذا التغاضي — بمتعةٍ عقلية لا نظير لها.

وعلى أية حال، فإن منطق هِيجِل، في نظر المؤلِّف، نقديٌّ حتى بالمعنى الاجتماعي؛ ذلك لأن الصفة الشكلية المميزة للمنطق التقليدي تؤدي به إلى إيجاد نوعٍ من الفصل بين الفكر والواقع؛ بحيث يكون للمنطق مجاله الخاص المستقل عن الواقع، وهو استقلالٌ يعبِّر في الوقت ذاته عن العجز عن التدخُّل في الواقع من أجل تغييره. أمَّا منطق هِيجِل فإنه يتغَلغَل في قلب الواقع على نحوٍ يؤكِّد قدرة العقل على تنظيم كل وجودٍ فعليٍّ وتوجيهه … وهذا التوجيه يتمُّ عن طريق إدراك عنصر السلب الكامن في كل وضعٍ راهن، مما يدفع الفكر حتمًا إلى تجاوُز هذا الوضع نحوَ ما هو أعلى منه.

إن المنطق التقليدي يفترض وجود عالمٍ من الأشياء الثابتة التي تَسْري عليها آليًّا قواعد الفكر الشكلية … أمَّا عند هِيجِل فإن كل شيءٍ ثابت لا يعبِّر عن الإمكانات الحقيقية الكامنة فيه، وإنما هو اقتطاعٌ وتجميد لقَدْرٍ ضئيل من هذه الإمكانات؛ فالوضع القائم لأي شيء هو وضعٌ ناقص، يكمُن السلب في صميمه؛ لأنه تعبيرٌ عن جانبٍ واحد من جوانب هذا الشيء، وتجاهلٌ لكلِّ ما ينطوي عليه من إمكانات … والفكر الجدَلي وحده هو الذي يستطيع أن ينظر إلى الأشياء، لا في وضعها الراهن، بل من خلال إمكاناتها الكاملة … ومن هنا كان الفكر هو الأقدر على إدراك حقيقة الأشياء؛ فهو يرى في كل شيءٍ ما يزيد بكثير عن حالته الفعلية القائمة … ويعبِّر هِيجِل عن هذا الرأي تعبيرًا لن يعود وقعُه على الآذان غريبًا في ضوء التحليل السابق، فيقول إن الفكر أكثر حقيقةً من موضوعاته … وتلك هي نفسها القضية المشهورة في المثالية، ولكنه يبرِّرها بقوله إن الفكر يُدرِك الموضوع في حالاته الحاضرة والمقبلة، ويتبيَّن كلَّ علاقاته الحقيقية التي لا تتكشَّف في الوضع الراهن المباشر لهذا الموضوع. ومع ذلك، وبرغم تبرير هِيجِل البارع لهذه القضية المثالية الرئيسية، فإن للمرء أن يتساءل: من أين يدرك الفكر مجموع العلاقات هذا؟ هل سيدركه من ذاته، أو من خلال الموضوع نفسه؟ وهل كان في استطاعة الفكر أن يكون أكثر حقيقةً من موضوعاته، لو لم تكن موضوعاتُه ذاتها تُضفي عليه الحقيقة آخر الأمر؛ أي لو لم تكن موضوعاته نفسها، بمعنًى آخر، أكثر حقيقةً منه؟

•••

وكما اصطبغ المنطق الهِيجِلي، في التفسير الذي يقدِّمه المؤلف، بالصِّبغة الثورية، فكذلك يظهَر نفسُ هذا الطابع الثوري في كثيرٍ من المفاهيم والمبادئ الرئيسية التي تندرج تحت هذا المنطق … وبذلك تظهر سمة، من أوضح السمات المميزة لهذا الكتاب، وهي تخطِّي الحاجز الفاصل بين الميدان النظري والميدان العملي، ومحاولة الربط بين المجالَين وإظهار ما بينهما من تأثيرٍ متبادل. وقد يصل المؤلِّف في ذلك أحيانًا إلى حدٍّ قد يراه البعض متكلفًا، وذلك حين يستخلص من الأفكار النظرية الخالصة دلالاتٍ عملية أو سياسية، قد تبدو في نظر هذا البعض منقطعةَ الصلة بها.

فالمؤلِّف، مثلًا، يشرح قانون الانتقال من الكَم إلى الكَيف عند هِيجِل بأنه قانونٌ يرفض فكرة التحوُّل التدريجي، ويؤكِّد التحوُّل المفاجئ … وينقلنا المؤلِّف إلى المجال السياسي مباشرةً فيشير إلى أن هذا القانون مضادٌّ للنزعات الإصلاحية التي تستهدف التغيير التدريجي لبعض الأوضاع القائمة مع الاحتفاظ بإطارها العام … أمَّا قانون هِيجِل فهو دعوةٌ إلى إفناء القديم بتحويله — على نحوٍ جذري — إلى ضده، مع ملاحظة أن هذا الضد إنما يُستخلَص من قلب القديم ذاته … فهِيجِل يبدو هنا من أنصار تغيير الأوضاع الراهنة «في النوع»، لا تغييرها بطريقةٍ كمِّية متدرِّجة … ولكن، ألا يحقُّ للمرء أن يرى في هذا التفسير السياسي قراءةً لأفكار ماركس التالية في مبدأ هِيجِلي لم يكن يقصد منه أن يسير في هذا الاتجاه؟

بل إن المؤلف يذهب إلى حدِّ تفسيرِ اهتمام هِيجِل بفكرة التناقض، على أساس ما كان هِيجِل يلمسه في المجتمع الصناعي الحديث من متناقضات تزداد حدَّة على الدوام … وصحيحٌ أن كثيرًا من نصوص هِيجِل المنتمية إلى مذهبه الأوَّل، والتي أورد منها المؤلِّف الكثير، تبدو مؤيدةً لهذا الرأي، ولكن هل يُمكِن إرجاع أفكار هِيجِل النظرية إلى عناصرَ عملية على هذا النحو المباشر؟ وهل تُعَد هذه العناصر، بصورتها هذه، تفسيرًا كافيًا لمنشأ فكرة التناقُض، والدَّور الهام الذي قامت به، في فلسفة هِيجِل؟ وإذا كان هذا هو أصل فكرة التناقض عند هِيجِل، فكيف انتهى به الأمر إلى موقفٍ سياسي لا يختلف الكثيرون في أنه كان في صميمه موقفًا محافظًا.

هنا أيضًا نجد المؤلِّف يدافع عن هِيجِل دفاعًا حارًّا، حتى في الأمور التي يكاد ينعقد إجماع مؤرِّخي الفلسفة على أن هِيجِل كان فيها متناقضًا مع نفسه ومع مبادئه النظرية الأصلية … ذلك لأن مسار الجدَل الهِيجِلي، كما هو معروف، يتوقَّف عندما يصل إلى الدولة البروسية القائمة عندئذٍ، فألمانيا هي قمة التاريخ، ونظام الدولة السائد في عصره هو الوضع الذي ينبغي أن يظل قائمًا … ولا شك في أن التناقض واضحٌ بين هذا الموقف الهِيجِلي الصريح، وبين كل التفسيرات التي عرَضْناها حتى الآن، والتي تؤكِّد أن تفكير هِيجِل هو في صميمه ثورةٌ على كل وضعٍ قائم، وأن تحقيق الإمكانات الكامنة في أي وضعٍ موجود لا يكون إلا بالقضاء على هذا الوضع وتجاوزه إلى ما هو أعلى منه … ومع ذلك فإن المؤلِّف يوضِّح، ببراعة، أن المجتمع السائد في الوقت الذي أكَّد فيه هِيجِل سلطة الحكومة، كان مجتمعَ مصالحَ فرديةٍ متنافسة لا مجال فيها للتفكير في أية مصلحةٍ عامة … ومن هنا كان دفاعُ هِيجِل عن الدولة وتمجيده لها بوصفها تلك السلطة القادرة على أن تعلو على المصالح الفردية المتناحرة وتنظِّمها وتؤكِّد سيادة مبادئ القانون عليها.

بل إن دفاع هِيجِل عن النظام الملكي البروسي، وتبريراته المفصَّلة له، هو في نظر المؤلف أمرٌ يمكن أن نلتمس له فيه عذرًا؛ إذ إن هذا النظام على أية حال أفضل من المجتمع الإقطاعي السابق عليه، والذي كانت بقاياه لا تزال ظاهرةً بوضوح في ألمانيا على وجه التخصيص … ففي النظام الملكي تسود سلطةٌ مركزية أكثر تقدُّمية — مهما كانت مساوئها الأخرى — من السلطة اللامركزية في نظام الإقطاع … ولكن هل يظل مثل هذا التبرير ممكنًا لو قارنَّا بين الملكية البروسية وبين النظام الرأسمالي الليبرالي الذي كان قد بدأ يشُق طريقه بقوة في كل المجتمعات الأوروبية؟ يرى المؤلف أن التجاء هِيجِل إلى دولةٍ قوية يسودها نظامٌ صارم، يمكن أن يكون «استبصارًا» بالفوضى التي يؤدي إليها مثل هذا النظام الليبرالي، والتي يعجز عن التغلب عليها (ص٦٠-٦١ من الأصل الإنجليزي). ولا جدال في أن هذا ليس تبريرًا بالمعنى الصحيح؛ إذ إنه يؤدي إلى الاستعاضة عن نظامٍ سيِّئ بنظامٍ أسوأ منه؛ أي عن الفوضى الليبرالية بالتسلُّط الدكتاتوري الاستبدادي … ويزداد هذا التبرير تهافتًا إذا ما نُظِر إليه في ضوء الهدف النهائي للتفكير الهِيجِلي بأَسْره، وهو تأكيد سيطرة العقل على كل جوانب الواقع بحيث لا يخرج عن التنظيم العقلي شيء … فهل كان الهدف من كل الجهود التي بذلها هِيجِل من أجل تحقيق السيادة للعقل، وضمان شمول المنطق panlogism هل كان الهدف من ذلك كله هو الوقوف عند الملكية البروسية في نهاية الأمر، وجعلها قمةً لتطوُّر التاريخ؟

•••

وعلى قَدْر دفاع المؤلف عن هِيجِل، إلى حدِّ بذلِ جهدٍ شاقٍّ من أجل إيجاد تبرير — جزئي على الأقل — لنقاط الضعف المُعترَف بها عند هذا الفيلسوف، نراه يُهاجِم المذاهب المعادية له، ويتخذ في هجومه عليها نفس الموقف الذي اتخذَه عندما دافَع عن هِيجِل، أعني موقف الربط بين الفكر النظري وبين النتائج العملية لهذا الفكر، على نحوٍ قد يبدو في نظر البعض مشوبًا بقَدْرٍ من التعسُّف.

فالوضعية في القرنِ التاسعَ عشرَ هي في الوقت ذاته فلسفةٌ إيجابية كما يدُل على ذلك اسمُها positivism … والإيجاب هنا يعني قَبول الأوضاع الراهنة والوقوف منها موقف الرضا والتأييد … وهكذا يضع المؤلف تضادًّا بين فلسفة هِيجِل، التي كانت ترتكز أساسًا على فكرة السلب والتناقض؛ وبالتالي تتخذ موقفَ الرفضِ من النظم الاجتماعية القائمة، وبين فلسفة كُونت وغيرها من الفلسفات الوضعية، التي تقف من هذه النُّظم موقفًا إيجابيًّا، وتعمل على الدفاع عنها ضد أي اتجاه إلى تغييرها جذريًّا … صحيحٌ أن الفلسفات الوضعية لم تكن تُعارِض الإصلاح، بل التغيير، ولكن ذلك كله كان يجب أن يتم في إطارِ ما هو قائم وما هو موجود، أمَّا محاولة كسر هذا الإطار والثورة عليه فكانت مخالفةً تمامًا لروح الفلسفة الوضعية.

والحق أن قارئ هذا الكتاب لا يملك إلا أن يشهد لمؤلِّفه بالبراعة في استخلاصه للنصوص المؤيِّدة لوجهة نظره، ولا يستطيع، أمام وفرة هذه النصوص، أن يتهم المؤلِّف بالتعسُّف في تأويل أقوال الوضعيين بحيث تتمشَّى مع الرأي الذي يدافع عنه … فهناك نصوصٌ قاطعة تشهد فعلًا بأن الفلسفة الوضعية في القرنِ التاسعَ عشر لم تكن في صميمها فلسفةً ثورية … ولكن، مع تسليمنا بهذه الحقيقة، هل نستطيع أن نؤكِّد وجود ارتباطٍ باطن بين هذه النزعة المحافظة في الفلسفة الوضعية وبين تعاليمها النظرية؟ وهل يُمكِننا أن نوافق على رأي المؤلِّف القائل إن إنكار الوضعية للميتافيزيقا أدَّى إلى اعترافها بما هو موجودٌ وقائم ودفاعها عنه (ص٢٤٧ من الأصل الإنجليزي) لأن ما هو موجود هو ذلك المعطَى الذي تحرص الوضعية على التمسُّك به، وترفض كل ما يتجاوزه؟ الحق أنه لو صحَّ هذا لكانت كل المذاهب التي تُنكِر الميتافيزيقا محافظة، ولكان الدفاع عن الميتافيزيقا يعني التقدُّمية في كل الأحوال، وهما نتيجتان لا شك في بطلانهما.

لذلك أعتقد أن الوضعية إذا كانت من جهةٍ تقف مما هو معطًى، ومما هو موجود، موقفًا إيجابيًّا، وإذا كانت من جهةٍ أخرى تتخطَّى مواقفَ محافظة من الوجهة السياسية، فليس معنى ذلك أن هناك ارتباطًا سببيًّا بين هذَين الموقفَين؛ أي إنه ليس من الضروري أن يكون اتخاذ موقفٍ إيجابي مما هو معطًى مؤديًا إلى النزعة المحافظة في المجال السياسي … ذلك لأن «ما هو معطًى» لا يتعيِّن أن يكون الأوضاع الاجتماعية المسيطرة فحسب، بل إن بؤس الطبقات الدنيا من المجتمع وحاجتها إلى تغيير أوضاعها ينتمي إلى ما هو معطًى وقائم، بقَدْر ما تنتمي إليه سيطرة الطبقات المالكة ونُظُم الحكم القائمة … فإذا اعترفنا بذلك كان من الممكن أن نتصور فلسفة لا تعترف إلا بما هو معطًى، وتكون في الوقت ذاته فلسفةً ثورية تقدُّمية … وما هذا إلا مثلٌ واحد يوضِّح المزالق الخطيرة التي يمكِن أن يُوقعَنا فيها تأويل الأفكار النظرية تأويلًا سياسيًّا بلا تمييز.

•••

تلك بعض الخواطر النقدية التي أثارتها في ذهني قراءة هذا الكتاب الممتع. وقد حرصتُ على أن أؤكِّد هذا الوجه النقدي في حكمي على الكتاب لأني أُومن بأن القارئ بدَوره ينبغي أن يقف موقفًا مستقلًّا من الكتاب الذي يقدَّم إليه مترجمًا … ففي رأيي أن أفضل طريقة لتقديم الكتاب المترجَم هي إظهار أكثر جوانبه استثارةً للفكر، بما فيه من نقد وشك وتساؤل، لا تقديمه على أنه ذخيرةٌ فكرية ينبغي أن تُقبَل بحذافيرها.

•••

وأخيرًا، فقد بقيَت لي كلمةٌ عن المشكلات التي واجهتُها في ترجمة الكتاب، والحلول التي اقترحتُها لحل هذه المشكلات، والأمر المؤكَّد أن هِيجِل، فيما يكتُبه وما يُكتب عنه، يثير دائمًا صعوباتٍ لغويةً لا حصر لها أمام كل محاولة لنقلِ كتاباته إلى لغةٍ أخرى، وأن هذه الصعوبات لا بد أن تكون أشد في حالة اللغة العربية التي لا تربطها بلغة هِيجِل الأساسية، أو باللغات الأوروبية عامة؛ أية جذورٍ مشتركة … وسأعرض فيما يلي قائمةً موجَزةً ببعض الألفاظ التي وجدتُها مثيرة لإشكالات، وما أقترحُه لها من ترجمات.
  • أشرتُ من قبلُ إلى المعاني المتعدِّدة التي يُستخدَم بها لفظ negation وكيف أنه يعني السلب والنفي من جهة، والإنكار والرفض من جهة؛ أي إنه ينطوي على معنى التدخُّل الإرادي من أجل إنكار موضوعٍ ما، لا مجرد سلبه بطريقةٍ آلية منطقية فحسب.
  • يُستخدَم لفظ process بمعنيَين؛ أقربهما وأوضحهما هو لفظ «عملية». ولكنْ هناك حالاتٌ أخرى تُخفِق فيها هذه الترجمة إخفاقًا تامًّا، وقد استخدمتُ في هذه الحالات لفظ «مسار». وسيجد القارئ في مواضعَ متعدِّدة من الكتاب ما يؤكِّد له ضرورة هذا التصرُّف.
  • لفظ الواقع والواقعية reality يثير إشكالاتٍ خاصة، لا سيَّما حين يُوضَع في مقابل لفظٍ آخر هو factuality لأن هذا الأخير يترجَم بدوره عادةً بكلمة «الواقع». وفي هذه الحالات كنتُ أُترجِم reality بالواقعية الحقيقية وfactuality بالواقعية الحادثة.
  • لفظ notion يُترجَم عادةً بالفكرة، ولكن هذه الكلمة الأخيرة تختلط بلفظ idea الذي يحتل مكانةً كبيرة في فلسفة هِيجِل ويتخذ فيها معانيَ خاصَّة؛ لذلك آثرتُ أن أُترجِم notion بالمفهوم.
  • يستخدم المؤلِّف كلمة comprehend بمعنيَين؛ أحدهما هو معاني الفهم، والثاني معنى الإحاطة والاشتمال، وفي بعض الأحيان يستخدمه بالمعنيَين معًا، وفي هذه الحالات كان لا بد من الإشارة إليهما في سياقٍ واحد.
  • المعنى الشائع للفظ community هو «المجتمع المحلي»، أو «الجماعة» أو «الطائفة». ولكن المؤلف يستخدم هذا اللفظ كما لو كان مصدرًا يدُل على اشتراك المصالح في عموميةٍ اجتماعيةٍ موحَّدة، وكان لا بد للترجمة من أن تعمل حسابًا لهذا المعنى الخاص.
  • هناك ازدواجٌ واضح في معنى التعبير Philosophy of Right Rechtsphilosophie؛ إذ يؤكِّد المؤلف أن معناه أقرب إلى فلسفة القانون (ص٢٠٦ من الأصل الإنجليزي)، ولكنه يستخدمه في مواضعَ أخرى على نحوٍ يحتِّم ترجمتَه بفلسفة الحق، كما هي الحال عند الكلام عن حق الفرد أو حق الأسرة (ص١٨٥) … ولنُلاحظ أن هذا الازدواج قائم في اللغة العربية بدَورِها، وهو يتجلى بوضوحٍ تام في إطلاقنا على الكلِّية التي تدرِّس القوانين اسم «كلية الحقوق». وقد استخدمتُ اللفظين معًا حتى يثبُت في الأذهان ارتباطهما. ثم اقتصرتُ على أحدهما بعد أن أصبحتُ واثقًا من رسوخ المعنى المزدوج في ذهن القارئ.
  • وأخيرًا، فإن كتابة اسم المؤلف نفسه تثير إشكالًا آخر … ذلك لأن المؤلِّف من أصلٍ ألماني، والنطق الصحيح لاسمه الأخير هو «ماركوزي» … ولكن لمَّا كان منذ وقتٍ طويل يعيش في الولايات المتحدة، ويُمارِس تأثيره — وخاصة في السنوات الأخيرة — بوصفه مفكرًا ينتمي إلى العالَم الأنجلوسكسوني، فقد رأيتُ لزامًا أن أكتب اسمه كما يُنطق في هذه البلاد، وهو «ماركيوز».

وليس معنى ذلك أن هذه هي الإشكالاتُ الوحيدة التي واجهتُها في ترجمة هذا الكتاب، وإنما اقتصرتُ على الأمور التي يحتاج فيها تصرُّفي إلى تبريرٍ خاص. وعلى أية حالٍ فإني آمل أن تكون ترجمة هذا الكتاب مجهودًا متواضعًا يُضاف إلى الجهود الكبيرة التي تُبذل في الآونة الأخيرة لتعريف قُراء العربية بهذا الفيلسوف العظيم، وبالعصر الذي عاش فيه، والنتائج التي ترتَّبَت على أفكاره في ميدان التفكير النظري والاجتماعي والسياسي.

فبراير ١٩٦٩م
فؤاد زكريا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤