مقدمة

ملحوظة عن الجدَل

أُلِّف هذا الكتاب على أمل أن يُسهِم بدَورٍ بسيط، لا في إحياء هِيجِل، بل في إحياء ملَكَة عقلية يُخشَى عليها من خطر الضياع، ألا وهي القدرة على التفكير السلبي … إن التفكير، كما عرَّفه هِيجِل: «هو في أساسه سلبُ ما هو مائل أمامنا على نحوٍ مباشر» … فما الذي يعنيه «بالسلب»، وهو المقولة الرئيسية في الجدَل (الديالكتيك)؟

الحق أن أشد مفاهيم هِيجِل تجريدًا وميتافيزيقية، هي ذاتها مُشبعة بروح التجربة — تجربة عالَم يغدو فيه غير المعقول معقولًا، ويتحكَّم بهذا الوصف في الوقائع؛ تجربة تكون فيها اللاحرية شرطًا للحرية، والحرية ضمانًا للسلم … مثل هذا العالم يُناقِض نفسه … وبالطبع فإن الذهن العادي السليم والعِلم يعملان على تطهير نفسَيهما من هذا التناقض. أمَّا الفكر الفلسفي فيبدأ بالاعتراف بأن الوقائع لا تُطابِق المفاهيم التي يفرضها الذهن العادي السليم والعقل العلمي — أي هو بالاختصار يبدأ بالامتناع عن قَبولها … ذلك لأن هذه المفاهيم، بقَدْر ما تتجاهل المتناقضات الحتمية الخطيرة التي تؤلِّف عالم الواقع، تجرد ذاتها من عملية الواقع نفسها … ومن هنا فإن السلب الذي يطبقه الجدَل عليها ليس فقط نقدًا للمنطق التقليدي، الذي يرفض الاعتراف بحقيقة المتناقضات، بل هو أيضًا نقد للأوضاع القائمة على نفس الأرض التي تقف عليها، ونقد لنظام الحياة المستتب، الذي ينكر ما ينطوي عليه هو ذاته من إمكاناتٍ واحتمالاتٍ مشجِّعة.

ولقد أصبَحَت هذه الطريقة الجدَلية في التفكير، في يومنا هذا، غريبةً عن العالم الذي نعيش فيه، سواء في جانبه النظري وفي جانبه العملي … فهي تبدو منتمية إلى الماضي، ويبدو أن إنجازات الحضارات التكنولوجية تكذِّبها … ذلك لأن الواقع القائم يبدو مبشِّرًا بالأمل، ومثمرًا، إلى الحد الذي يكفي لاستبعاد كل الأطراف المتعارِضة أو استيعابها في كلٍّ أشمل … وهكذا يبدو أن قَبول هذا الواقع — بل تأكيده — هو المبدأ المنهجي المعقول الوحيد … وهو فضلًا عن ذلك لا يستبعد النقد ولا التغيير، بل إن الأمر على عكس ذلك؛ إذ إن من أقوى دعامات هذا الموقف، تأكيد الطابع الدينامي للوضع القائم، وتأكيد «ثوراته» الدائمة … ومع ذلك يبدو أن هذه الدينامية تظل تُمارِس عملَها بلا انقطاعٍ في إطارٍ للحياة يظل على ما هو عليه؛ بحيث إنها بدلًا من أن تُلغي سيطرةَ الإنسان على الإنسان، وسيطرةَ منتجاتِ عمله عليه، تنظِّم هذه السيطرة وتهذِّبها … ويصبح التقدُّم كميًّا، ويتجه إلى تأخير التحوُّل من الكَم إلى الكيف إلى أجلٍ غير مسمًّى — أعني إلى تأخير ظهور أحوالٍ جديدة للحياة مع أشكالٍ جديدة للعقل والحرية.

إن القدرة على التفكير السلبي هي القوة الدافع للفكر الجدَلي، التي تُستخدم أداةً لتحليل عالم الوقائع من خلال ما فيه من نقصٍ باطن … ولقد آثرتُ هذه الصيغةَ الغامضة غير العملية لكي أُبرِز حدة التضاد بين التفكير الجدَلي وغير الجدَلي … ويُلاحَظ أن لفظ «النقص» ينطوي على حكمِ قيمة … ولكن التفكير الجدَلي يُثبِت بطلانَ وجودِ تضادٍّ قبلي a priori بين القيمة والواقع؛ إذ ينظر إلى الوقائع جميعًا على أنها مراحل لعمليةٍ واحدة، عملية ترتبط فيها الذات والموضوع على نحوٍ من شأنه ألا يكون من الممكن تحديد الحقيقة إلا في إطار الكل الشامل للذات والموضوع معًا … فكل الوقائع تنطوي على العارف كما تنطوي على الفاعل،١ وهي تترجم الماضي إلى الحاضر بلا انقطاع … وهكذا فإن الموضوعات «تتضمَّن» الذاتية في صميم بنيانها.

ولكن ما هي «أو من هي» هذه الذاتية التي تشكِّل العالم الموضوعي، بالمعنى الحرفية لكلمة «تشكِّل»؟ يجيب هِيجِل عن هذا السؤال بسلسلة من المصطلحات التي تدُل على الذات في مظاهرها أو تجلياتها المتعددة؛ التفكير، العقل، الروح، الفكرة. ولمَّا كُنَّا قد فقدنا القدرة على الفهم السلِس الميسور لهذه التصوُّرات، وهي القدرة التي كانت لا تزال متوافرة لدى القرنَين الثامنَ عشرَ والتاسعَ عشَر، فسوف أحاول أن أعرضَ وجهة نظر هِيجِل عرضًا مجملًا بعباراتٍ أقرب إلى المألوف.

إن الشيء لا يكون واقعيًّا real ما لم يَستطِع حفظَ وجوده في صراع الحياة والموت الذي يدور بينه وبين أوضاع حياته وظروفها … وقد يكون الصراع أعمى، أو حتى غير واعٍ، كما في حالة المادة غير الموضوعية، وقد يكون واعيًا مقصودًا، كصراع البشرية مع ظروفها وظروف الطبيعة … وما الواقعية reality إلا الحصيلة الدائمة التجدُّد لعملية الوجود — أي العملية الواعية أو غير الواعية، التي يغدو فيها «ما هو كائن» «شيئًا غير ذاته». كذلك فإن الهوية identity ليست إلا السلب المستمر للوجود الناقص؛ بحيث تستمرُّ الذات في كونها شيئًا غير ذاتها … وعلى ذلك فكلُّ واقعيةٍ reality هي عمليةُ تحقيقٍ للواقع realization - أي نُمو «للذاتية» … وهذه الأخيرة «تهتدي إلى نفسها» في التاريخ؛ حيث يكون للنُّمو مضمونٌ عقلي، ويعرِّف هِيجِل هذا النُّمو بأنه «تقدُّم في الوعي بالحرية».
وها هنا نجد مرةً أخرى حُكمَ قيمة — وهو في هذه المرة حكمُ قيمة يُفرض على العالم ككل. ولكن الحرية عند هيكل مقولةٌ أنطولوجية؛ فهي تعني ألا يكون الموجود مجرد موضوع، بل يكون ذات وجوده، وألا يستسلم للظروف الخارجية، بل يُحوِّل الواقعية الحادثة factuality إلى واقعيةٍ حقيقية realization. هذا التحويل في رأي هِيجِل هو عصَب الطبيعة والتاريخ، وهو البناء الباطن للوجود كله! وقد يكون المرء ميَّالًا إلى الاستخفاف بهذه الفكرة، ولكن من واجبه أن يكون متيقظًا لما تنطوي عليه من مضامين.
إن الفكر الجدَلي يبدأ بالتجربة التي نُدرِك فيها أن العالَم غير حر؛ أي إن الإنسان والطبيعة يُوجَدان في أحوال اغتراب، ويُوجَدان «على خلاف ما هما عليه» … وكل طريقةٍ في التفكير تستبعد هذا التناقض من منطقها إنما هي منطقٌ باطل … فالفكر لا «يطابق» الواقع إلا بقَدْر ما يحوِّل الواقع أو يُبدِّله عن طريق فهم بنائه المتناقض … وهنا يؤدي مبدأ الجدَل إلى دفع الفكر إلى ما وراء حدود الفلسفة … ذلك لأن فهمَ الواقع الحقيقي يعني فهمَ ما تكون عليه الأشياء في حقيقتها، وهذا بدَوره يعني رفض الواقعية الحادثة factuality والرفض عملية الفكر مثلما هو عملية الفعل … وعلى حين أن المنهج العلمي يؤدي بنا من الخبرة المباشرة بالأشياء إلى بنائها الرياضي المنطقي، فإن التفكير الفلسفي يؤدي بنا من الخبرة المباشرة بالوجود existence إلى بنائه التاريخي، وهو مبدأ الحرية.

ان الحرية هي القوة المحرِّكة الكامنة في أعمق أعماق الوجود، وإن نفس عملية الوجود في عالَمٍ غير حر إنما هي «السلب المستمر لما يهدِّد بإنكار الحرية». وهكذا فإن الحرية تحمل في أساسها طابعَ السلب … فالوجود اغتراب، وهو في الآن نفسه العملية التي تعود بها الذات إلى نفسها إذ تفهم الاغتراب وتسيطر عليه … وهذا يعني بالنسبة إلى تاريخ البشرية، بلوغ «حالة انتماء إلى العالم»، يظل فيها الفرد في انسجامٍ وثيق مع الكل، ولا تكون لشروط عالمه وعلاقاته «موضوعيةٌ أساسية مستقلة عن الفرد». على أن هيجل كان متشائمًا فيما يتعلق باحتمال بلوغ هذه الحالة، ويبدو أن عنصر مهادنة الأوضاع القائمة، وهو العنصر الذي كان ظاهرًا بقوة في أعماله، كان راجعًا إلى تشاؤمه هذا إلى حدٍّ بعيد — أو إن شئتَ فقل إلى واقعيته هذه … فهو يردُّ الحرية إلى عالم الفكر المَحْض، وإلى «الفكرة المطلَقة». إنها مثالية العاجز — هذا هو المصير الذي يشترك فيه هيجل مع التراث الرئيسي في الفلسفة.

وهكذا يصبح التفكير الجدَلي سلبيًّا في ذاته … فوظيفتُه هي القضاءُ على ما يشعُر به الإنسان في موقفه الطبيعي من ثقة بالذات ورضًا عنها واكتفاء بها، وهدم الثقة المرذولة في قدرة الوقائع وفي لغتها، والبرهنة على أن اللاحرية كامنةٌ في قلب الأشياء إلى حد أن نُمو متناقضاتها الباطنة يؤدي بالضرورة إلى تغيُّرٍ كيفي … هو انفجارُ الأوضاع القائمة وإصابتُها بكارثةٍ ماحقة … ويرى هِيجِل أن مهمة المعرفة هي التعرُّف على العالم بوصفه «عقلًا» عن طريق فهم جميع موضوعات الفكر على أنها عناصرُ وجوانبُ لكلٍّ يتحوَّل إلى عالمٍ واعٍ في تاريخ البشرية … وهكذا يتجه التحليل الجدَلي آخر الأمر إلى أن يصبح تحليلًا تاريخيًّا، تبدو فيه الطبيعةُ ذاتُها جزءًا من تاريخها الخاص وتاريخ الإنسان ومرحلة من مراحله … ويصل تقدُّم الفهم من مرحلة الإدراك العادي الشائع إلى مرحلة المعرفة — يصل إلى عالمٍ سلبي في صميمه؛ لأن ما هو واقعي يعارض الإمكانات الكامنة في ذاته، والتي تصبو هي ذاتُها إلى التحقُّق، ويُنكِرها؛ فالعقل هو سلب السالب.

لقد كان الشغل الشاغل للفلسفة، حيثما كانت الفلسفة أكثر من مجرَّد تبريرٍ أيديولوجي أو تدريبٍ ذهني، هو تفسير ما هو موجود من خلال ما ليس بموجود، ومواجهة الوقائع المعطاة بما هو خارج عنها … وإن وظيفة السلب في الفكر الفلسفي، من حيث هو قوةٌ تعمل على تحرير هذا الفكر، لتتوقَّف على الاعتراف بأن السلب فعلٌ موجب؛ أي إن ما هو موجود يستبعد ما ليس بموجود، وبذلك يستبعد إمكاناته الخاصة؛ ومن ثَم فإن التعبير عما هو موجود وتعريفه من خلال ما هو فيه فحسْب إنما هو تشويه وتزييف للواقع … فالواقع مغايرٌ لما يُصاغ في منطق الوقائع ولغتها، وزائدٌ عنه. وهنا نجد حلقة الاتصال العميقة بين الفكر الجدَلي وجهود أدب الطليعة … وأعني بحلقة الاتصال هذه، محاولة كسر سيطرة الوقائع على الكلمة، والتحدُّث بلغةٍ ليست هي لغة أولئك الذين يقرِّرون الوقائع وينفِّذونها ويستفيدون منها … وكلما اتجهَت قوة الوقائع المعطاة إلى أن تكون شمولية، تستوعب في ذاتها كل معارضة، وتعرف عالم المقال بأَسْره، بدت محاولةُ التكلم بلغة التناقض محاولةً لا عقلية. غامضة، مصطنَعة، على نحوٍ متزايد … وليست المسألة مسألة تأثيرٍ مباشر أو غير مباشر من هيجل في الحركات الطليعية الأصيلة، وإن كان هذا واضحًا عند مالارميه Mallarmé وفييه دوليل آدام Villiers de l’Isle-Adam وعند السيريالية وبرخت Brecht، بل الأصح أن يُقالَ إنَّ اللغة الجدَلية واللغة الشعرية تلتقيان على أرضٍ مشتركة.

والعنصر المشترك بينهما هو البحث عن «لغة صادقة» — لغة السلب بوصفه «الرفض العظيم» لقبول قواعد لعبة نَردُها مغشوش … إن من الضروري أن نجعل الغائب حاضرًا لأن القدر الأكبر من الحقيقة يكمُن فيما هو غائب … وذلك هو ما تعبِّر عنه عبارة مالارميه الكلاسيكية:

«إنني أقول: زهرة! ومن ثنايا النسيان الذي يُلغي فيه صوتي كل المعالم، يرتفع بنغمٍ موسيقي ما هو مختلفٌ من كل نباتٍ مزهرٍ معروف، وما لا يُوجَد في أية باقة، وهو الفكرة ذاتُها، والرقَّة ذاتها»؛ فالكلمة في اللغة الأصيلة:

«ليست تعبيرًا عن شيء، بل هي غياب هذا الشيء … إن الكلمة تُخفي الأشياء وتفرِض علينا إحساسًا بغيابٍ شامل، بل بغيابها هي ذاتها.»٢
وهكذا فإن الشعر هو القدرة على «إنكار الأشياء» — وهي القدرة التي ينسبها هِيجِل، على نحوٍ لا يخلو من مفارقة، إلى كل تفكيرٍ أصيل … ويؤكِّد فاليري أن «الفكر، باختصار، هو الجهد الذي يُحيي في داخلنا ما لا وجود له.»٣ وهو يطرح هذا السؤال البلاغي: «ماذا نحن إذن بدون معونة ما لا يُوجَد؟»٤
إن هذه ليست «وجودية». إنها شيءٌ أعظم حيويةً وأشد يأسًا؛ إنها الجهد الذي يُبذل من أجل مناقضة واقعٍ يكون فيه كل منطق وكل حديث باطلًا بقَدْر ما يكونان جزءًا من كلٍّ مشوَّه … وإذا كانت ألفاظ لغة التناقض وقواعدها النحوية تظل هي ذاتها ألفاظ اللعبة وقواعدها (إذ لا يُوجَد غيرها)، فإن اللغة الجديدة تُعيد تعريف التصوُّرات التي تُصاغ في لغة اللعبة بأن تربطها بسلبها المتعين determinate negation … وهذا التعبير، الذي يشير إلى المبدأ المسيطر على الفكر الجدَلي، لا يمكن إيضاحه إلا في تفسيرٍ حرفي لنصِّ كتاب «المنطق» لهِيجِل … وحسبُنا هنا أن نؤكِّد أن التناقُض الجدَلي يتميز، بفضل هذا المبدأ، من كل تضادٍّ مزيَّف مبتذَل، ومن كل تهريجٍ وتجديدٍ رخيص … فالسلب يكون متعينًا إذا كان يردُّ الأوضاع القائمة إلى العوامل والقوى الرئيسية التي تعمل على هدمها، وعلى إيجاد الحلول البديلة المُمكِنة خارج نطاق الوضع الراهن … وهذه العوامل والقوى، في حالة الوقع الإنساني، هي عواملُ وقوًى تاريخية، ويصبح السلب المتعين آخر الأمر سلبًا سياسيًّا … وهو بهذا الوصف قد يجد التعبير الأصيل عنه في اللغة غير السياسية، ولا سيَّما إذا أصبح البُعد السياسي بأَسْره جزءًا لا يتجزأ من الوضع القائم.

إن المنطق الجدَلي منطقٌ نقدي؛ فهو يكشف أحوالًا ومحتوياتٍ للفكر تعلو على النمط المقنن للمبادئ المستخدمة والسارية … وليس الفكر الجدَلي هو الذي يخترع هذه المحتويات، بل هي قد انضافت للمفاهيم خلال التراث الطويل للفكر والفعل. وكل ما يفعَله التحليل الجدَلي هو أنه يجمعها ويُعيد تنشيطها، وهو يستعيد المعاني المحرَّمة، وبذلك يكاد يبدو كما لو كان عودةً لما يُراد قمعه، أو على الأصح إطلاقًا واعيًا له من عِقاله! فلما كان عالَم المقال القائم هو عالمٌ غير حر، فإن الفكر الجدَلي يكون بالضرورة هدَّامًا، وأي تحرُّر يستطيع أن يجلبه إنما هو تحرُّر في الفكر، تحرُّر نظري. ومع ذلك فإن انفصال الفكر عن الفعل، والنظرية عن العمل التطبيقي، هو ذاته جزء من العالَم غير الحر … فليس في وسع أي فكر أو أية نظرية أن تخلِّصنا منه، ولكن النظرية يمكِن أن تساعد على تمهيد الأرض بحيث تصبح عودة الوحدة بينهما ممكنة، وقدرة الفكر على وضع منطق ولغة للتناقض هي شرطٌ أساسي لتحقيق هذه المهمة.

ففيمَ تكمُن قوة الفكر السلبي إذن؟ إن التفكير الجدَلي لم يحُل بين هيجل وبين الارتقاء بفلسفته إلى مرتبة المذهب المنسِّق الشامل، الذي يؤكد العنصر الإيجابي آخر الأمر تأكيدًا قاطعًا … وإني لأعتقد أن فكرة «العقل» ذاتها هي العنصر غير الجدَلي في فلسفة هِيجِل … ففكرة «العقل» هذه تشتمل على كل شيء، وهي في نهاية الأمر تغتفر كل شيء؛ إذ إن مكانها ووظيفتها تكمُن في الكل، والكل بمعزل عن الخير والشر، والصواب والخطأ … بل إنه قد يكون لنا الحق، من الوجهتَين المنطقية والتاريخية معًا، في تعريف «العقل» على نحوٍ يتضمَّن في ذاته الرِّق، ومحاكم التفتيش، وتشغيل الأطفال، ومعسكرات التعذيب، وغرف الغازات السامة، وتكديس الأسلحة النووية … فمن الممكن جِدًّا أن تُوصَف هذه الأمور كلها بأنها كانت أجزاء لا تتجزأ من تلك المعقولية، التي تحكَّمَت في التاريخ المدوَّن للبشر … فإن كان الأمر كذلك، كانت فكرة «العقل» ذاتها في خطر؛ إذ إنها تتكشَّف بوصفها جزءًا، لا بوصفها هي الكل … وليس معنى ذلك أن العقل يتخلى عن مطلبه، في أن يواجه الواقع بحقيقة هذا الواقع … بل إن الأمر على العكس من ذلك؛ فعندما اتخذَت النظرية الماركسية طابعها بوصفها نقدًا لفلسفة هِيجِل، فعلَت ذلك باسمِ العقل. وإنه لمما يتمشَّى مع أعمق اتجاهات تفكير هيجل، أن «تُلغى» فلسفته أو «تُرفع»، لا عن طريق الاستعاضة عن العقل بمعاييرَ معيَّنة خارجة عن نطاق العقل، بل عن طريق إرغام العقل ذاته على الاعتراف بمدى ما لا يزال ينطوي عليه حتى الآن من عناصرَ لا عقلية، عمياء، وبمدى كونه ضحيةً لقُوًى لا يمكِن السيطرة عليها … إن العقل بوصفه المعرفة النامية والتطبيقية للإنسان — أي بوصفه «فكرًا حُرًّا» — كان له دورٌ أساسي في خَلق العالم الذي نحيا فيه … ومع ذلك فقد كان له أيضًا دور أساسي في الإبقاء على الظلم والشقاء والعذاب … غير أن «العقل» و«العقل» وحده، هو الوسيلة الكفيلة بتصحيح أخطائه.

لقد استبق هِيجِل، في كتاب «المنطق» الذي يؤلف الجزء الأوَّل من «نسَق الفلسفة»، استبق على نحوٍ يكاد يكون حرفيًّا، الفكرة التي يقول بها بارسيفال في دراما فاجنر المشهورة: «إن اليد التي تسبِّب الجرح هي بدَورها التي تداويه.»٥ وكان ذلك في سياق قصة الكتاب المقدس عن سقوط الإنسان؛ فمن الجائز أن تكون المعرفة قد سبَّبَت الجرح الذي يصيب وجود الإنسان، وهو الجريمة والإثم، ولكن البراءة الثانية و«التوافق الثاني»، لا يمكن اكتسابهما إلا من المعرفة … ولا يمكن أن يتم الخلاص على يد «أحمق ساذج».٦ وهكذا فإن هِيجِل يربط على نحوٍ وثيق بين التقدُّم في الحرية والتقدُّم في الفكر، وبين الفعل والنظرية، مخالفًا في ذلك أنصار الجهالة الذين يؤكِّدون حقوق اللامعقول في مقابل العقل، وحقيقة الطبيعي في مقابل الذهني … ولمَّا كان قد سلَّم بالشكل التاريخي المحدد «للعقل»، الذي تم التوصل إليه في عصره، على أنه هو ذاته حقيقة «العقل»، فإن التقدُّم الذي تجاوز هذا الشكل «للعقل» لا بد أن يكون تقدُّمًا «للعقل» ذاته … ولمَّا كانت مهادنة العقل للنُّظم الاجتماعية الظالمة قد أدت إلى استمرار العبودية، فإن التقدُّم في الحرية يتوقَّف على أن يصبح الفكر سياسيًّا، ويتخذ شكل نظرية تُثبِت أن السلب بديلٌ سياسيٌّ كامن في قلب الموقف التاريخي … وعلى ذلك فإن «الانقلاب» المادي الذي قام به ماركس على هِيجِل لم يكن تحولًا من موقفٍ فلسفي إلى آخر، ولا من الفلسفة إلى النظرية الاجتماعية، بل كان اعترافًا بأن أشكال الحياة القائمة قد بلغَت مرحلة سلبها التاريخي.

هذه المرحلة التاريخية غيَّرَت موقف الفلسفة وكل تفكيرٍ معرفي … فمنذ تلك المرحلة، أصبح كل تفكير لا ينمُّ عن وعيٍ بالزيف الجذري لأشكال الحياة القائمة تفكيرًا باطلًا. والخروج عن هذا الوضع الشامل ليس منافيًا للأخلاق فحسب، بل هو زَيْف … ذلك لأن الواقع قد أصبح واقعًا تكنولوجيًّا، وأصبحَت الذات الآن منضمَّة إلى الموضوع إلى حدٍّ بلغ من وثوقه أن فكرة الموضوع أصبحَت تشمل الذات بالضرورة … ولم يعُد الخروج عن هذه العلاقة المتبادلة يؤدي إلى حقيقة أكثر أصالة، بل إلى خداع؛ لأن من الواضح أن الذات نفسها، حتى في هذا المجال، إنما هي جزء لا يتجزأ من الموضوع كما يحدَّد علميًّا؛ فالذات التي تُلاحِظ، وتقيس، وتحسب، في المنهج العلمي، والذات التي تنشغل بأمور الحياة اليومية، كلتاهما تعبيرٌ عن نفس الذاتية؛ أي الإنسان … ولم يكُن المرء بحاجة إلى الانتظار حتى هيروشيما كيما تتفتَّح عيناه على هذه الهُويَّة … وكما حدث من قبلُ في كل الأحوال، فإن الذات التي قهَرَت المادة تعاني من وطأة كشفها الثقيلة؛ ذلك لأن أولئك الذين يتحكَّمون في هذا الكشف ويوجِّهونه قد استخدموه في خَلق عالمٍ تعمل فيه أسباب الرفاهية المتزايدة في الحياة، والقوة المتعاظمة للجهاز الإنتاجي، على إبقاء الإنسان في حالة عبودية أمام الوضع القائم … أمَّا تلك الجماعات الاجتماعية التي حدَّدَتها النظرية الجدَلية بوصفها قوى السلب والرفض، فهي إمَّا قد انهزمَت، وإمَّا هادنَت النظام القائم … وهكذا فإن قوة التفكير السلبي تقف مُدانةً عاجزةً أمام قوة الوقائع القائمة.

إن قوة الوقائع هذه قوةٌ طاغية، فهي قدرة الإنسان على الإنسان، وقد بدت كأنها حالةٌ موضوعية معقولة … وضد هذا المظهر البادي، يوصل الفكر الاحتجاج باسم الحقيقة … وكذلك باسم الواقع؛ إذ إن التهديد المستمر بالدمارِ الذرِّي، وعن طريق تبديد الموارد على نحوٍ لم يُعرف له من قبلُ نظير، وعن طريق الهُزال الفكري. وأخيرًا، وليس آخِرًا، عن طريق القوة الغاشمة … هذه هي المتناقضات التي لم تُحلَّ … وهي تحدِّد معالم كل واقعةٍ منفردة وكل حادثٍ منفرد، وهي تتغلغل في عالم الفكر النظري والفعل العملي بأَسْره … وعلى ذلك فإنها تحدِّد أيضًا معالم منطق الأشياء — أي طريقة التفكير القادرة على اختراق حاجز الأيديولوجية وفهم الواقع في كلِّيته … إن أي منهج لا يستطيع أن يدَّعي لنفسه احتكار المعرفة، ولكن أي منهج لا يمكن أن يبدو أصيلًا إذا لم يعترف بأن القضيتَين الآتيتَين تقدِّمان وصفًا ذا معنًى ودلالة للوضع الذي تُوجَد فيه: «الكل هو الحقيقة»، والكل باطل.

ولقد قمتُ من أجل هذه الطبعة بمراجعة المُلحَق الذي أضفتُه في عام ١٩٥٤م إلى قائمة المراجع … كما حذفتُ الخاتمة التي كتبت للطبعة الثانية لأنها كانت تُعالج بطريقةٍ مركَّزة أكثر مما ينبغي، تطورات سأناقشها بمزيد من التوسُّع في كتابي القادم، وهو دراسة للمجتمع الصناعي المتقدم.

مارس ١٩٦٠م
هربرت ماركيوز
١  يشير لفظ «العارف» إلى حالة التلقِّي شبه السلبي للوقائع الحاضرة، على حين أن لفظ «الفاعل» يشير إلى تدخُّل الذات إيجابيًّا في هذه الوقائع من أجل تحديد ما ستكون عليه في المستقبل … ومن هنا كان الجمع بين العارف والفاعل جمعًا بين الاتجاه إلى الحاضر والاتجاه إلى المستقبل، وكان في الوقت ذاته جمعًا بين النظرة الذاتية والنظرة الموضوعية إلى الوقائع. (المترجم)
٢  انظر مقال موريس بلانشو في مجلة Les temps modernes بعنوان Le Paradoxe d’Aytre يونيو ١٩٤٦م، ص١٥٨٠ وما يليها.
٣  «المؤلفات»، نشرتها Bibliothèque de la Pléiade, المجلد الأوَّل، ص١٣٣٣.
٤  المرجع نفسه، ص٩٦٦.
٥  منطق هِيجِل: ترجمة والاس، ص٥٥.
(The Logic of Hegel), trans. by W. Wallace, Clarendon Press, Oxford, 1895.
٦  كما هي الحال في دراما بارسيفال لفاجنر، التي أشار إليها المؤلِّف منذ قليل. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤