(١) الإطار التاريخي الاجتماعي
وُصفَت المثالية الألمانية بأنها نظرية الثورة الفرنسية … ولا يعني ذلك أن
«كَانْت وفشته وشلنج وهِيجِل» قدَّموا تفسيرًا نظريًّا للثورة الفرنسية، بل يعني أن
الدافع الأكبر لهم إلى كتابة فلسفتهم هو ردُّ الفعل على التحدي القادم من فرنسا،
بُغيةَ إعادة تنظيم الدولة والمجتمع على أساسٍ عقلي، بحيث يمكن التوفيق بين النُّظم
الاجتماعية والسياسية وبين حرية الفرد ومصالحه … وعلى الرغم مما وجَّهَه المثاليون
الألمان من نقدٍ مرير إلى عهد الإرهاب في الثورة، فإنهم أجمعوا على الترحيب بالثورة
ذاتها، ووصفوها بأنها فجرُ عهدٍ جديد، وعَمِلوا جميعًا على ربط مبادئهم الفلسفية
بالمُثُل العليا التي دعت إليها الثورة.
وهكذا تظهر أفكار الثورة الفرنسية في صميم المذاهب المثالية، وتحدِّد بناءها
الفكري إلى حدٍّ بعيد؛ فالثورة الفرنسية، كما رآها المثاليون الألمان، لم تقتصر على
إلغاء النزعة الإقطاعية المطلَقة، وإحلال النظام الاقتصادي والسياسي للطبقة الوسطى
محلها، بل إنها أكملَت ما بدأَته حركة الإصلاح الديني في ألمانيا، فحرَّرت الفرد
وجعلَت منه سيِّدًا لحياته، يعتمد فيها على نفسه فحسب … وهكذا لم يعُد من المحتَّم
أن يظل مركز الإنسان في العالم، وطريقة عمله واستمتاعه بأوقات فراغه متوقفًا على
سلطةٍ خارجية، بل أصبح يتوقف على نشاطه العقلي الحر … وتحقَّق للإنسان الانتقال من
الفترة الطويلة التي ظل فيها مفتقرًا إلى النضج والتي كان فيها ضحيةً لقوًى
اجتماعيةٍ وطبيعية طاغية، وأصبح هو الذات المستقلة التي تتحكَّم في تطورها الخاص …
ومنذ ذلك الحين أصبح تقدُّمه في المعرفة هو الذي يوجِّهه في صراعه مع الطبيعة ومع
التنظيم الاجتماعي، وأصبح العالم نظامًا عقليًّا.
على أن المستقَر الذي انتهت إليه المُثُل العليا للثورة الفرنسية كان عمليات
الرأسمالية الصناعية … وجاءت إمبراطورية نابليون فعملَت على تصفية الاتجاهات
المتطرِّفة، ودعمَت في الوقت ذاته النتائج الاقتصادية للثورة … وفسَّر الفلاسفة
الفرنسيون في هذه الفترة تحقيق العقل بأنه إطلاق الصناعة من عقالها … وبدَا الإنتاج
الصناعي قادرًا على تقديم كل الوسائل اللازمة لإشباع الحاجات البشرية … وهكذا ففي
نفس الوقت الذي شيَّد هِيجِل فيه مذهبه، كان سان سيمون في فرنسا يُزْجي المديح
للصناعة بوصفها القوة الوحيدة القادرة على أن تقود البشرية إلى الحرية وإلى تكوين
مجتمعٍ عاقل … فالعملية الاقتصادية بدَت عندئذٍ على أنها أساس العقل.
ولقد كان النمو الاقتصادي في ألمانيا متخلفًا إلى حدٍّ بعيد عنه في فرنسا
وإنجلترا. ونظرًا إلى أن الطبقة الوسطى الألمانية كانت ضعيفةً مشتَّتة بين أقاليمَ
متعدِّدة، وكانت مصالحها متباينة، فقد كان من العسير عليها أن تتطلع إلى ثورة … ولم
تكن المؤسَّسات الصناعية القليلة الموجودة إلا جزرًا صغيرةً داخل نظامٍ إقطاعي قديم
العهد … وكان الفرد في وجوده الاجتماعي إمَّا مستعبَدًا، وإمَّا مستعبِدًا غيرَه من
الناس … ومع ذلك فقد كان في وسعه، بوصفه كائنًا مفكرًا، أن يفهم على الأقل التضادَّ
بين الواقع البائس الموجود في كل مكان وبين الإمكانات البشرية التي أطلقَها العصر
الجديد من عقالها … وكان في استطاعته، بوصفه شخصًا أخلاقيًّا، أن يحتفظ بكرامته
البشرية واستقلاله الذاتي في حياته الخاصة على الأقل. وهكذا فبينما كانت الثورة
الفرنسية قد بدأَت بالفعل في تأكيد حقيقة الحرية، كانت المثالية الألمانية لا
يشغلها إلا البحث في فكرة الحرية فحسب … ومعنى ذلك أنها نقلَت الجهود التاريخية
العينية التي بُذلَت لإقامة شكلٍ معقول من أشكال الحكم، إلى المستوى الفلسفي؛ بحيث
تجلَّت هذه الجهود في المحاولات التي بُذلَت من أجل إيضاح معالم فكرة العقل.
ويحتل مفهوم العقل مكانةً مركزية في فلسفة هِيجِل … فقد كان من رأيه أن التفكير
الفلسفي لا يفترض مقدمًا أي شيء عداه، وأن التاريخ يبحث في العقل، وفيه وحده، وأن
الدولة إنما هي تحقُّق العقل … على أن هذه العبارات لن تكون مفهومة لو فسر العقل
على أنه تصورٌ ميتافيزيقي محض؛ إذ إن فكرة هِيجِل عن العقل قد ظلت محتفظة بالأماني
المادية في تحقيق نظامٍ عقلي حر للحياة، وإن كانت قد احتفظَت به بصورةٍ مثالية …
ومن هنا فإن تأليه روبسبيير للعقل بوصفه «الكائن الأعلى» كان مناظرًا لتمجيد العقل
في مذهب هِيجِل … ولُب الفلسفة الهِيجِلية إنما هو بناءٌ تُستمَد تصوُّراته — وهي
الحرية والذات والذهن والفكرة — من فكرة العقل … ما لم ننجح في الكشف عن مضمون هذه
الأفكار والارتباط الباطن بينها، فسوف يظل مذهب هِيجِل يبدو ميتافيزيقيًّا غامضًا،
مع أنه في الواقع لم يكن كذلك أبدًا.
ولقد ربط هِيجِل نفسه بين تصوُّره للعقل وبين الثورة الفرنسية، وأكَّد هذه
الرابطة أعظم تأكيد … فالثورة قد طالبَت «بألا يُعترف بصحة أي شيءٍ في أي دستورٍ
سوى ما يتعيَّن الاعتراف به وفقًا لحقوق العقل.»
١ وقد زاد هِيجِل فيما بعدُ هذا التفسير تفصيلًا في محاضراته عن «فلسفة
التاريخ»، فقال: «لم يحدث في أي وقت مضى، منذ أن ظهرَت الشمس في قبة السماء، ودارت
الكواكب حولها، أن أدرك الإنسان أن وجوده يتركَّز في رأسه؛ أي في الفكر، الذي
يستلهمه الإنسان في بناء عالم الواقع … لقد كان أنكساجوراس أوَّل من قال إن العقل
(النوس) يحكُم العالم، ولكن الإنسان لم يتقدم إلى حد الاعتراف بالمبدأ القائل إن
الفكر ينبغي له أن يحكُم الواقع الروحي إلا في هذه الفترة وحدها … ومِنْ ثَمَّ فقد
كان ذلك فجرًا عقليًّا مجيدًا، وكان عهدًا شاركَت في الاحتفال به كل الكائنات المفكِّرة.»
٢
ولقد كان هِيجِل يرى أن التحوُّل الحاسم الذي طرأ على التاريخ مع الثورة الفرنسية
كان انتقالَ الإنسان إلى الاعتماد على عقله، وتجاسُره على إخضاع الواقع المعطى
لمعايير العقل … وقد شرح هِيجِل التطور الجديد عن طريق وضع تضادٍّ بين استخدام
العقل وبين الامتثال غير النقدي للأوضاع السائدة في الحياة. «فلا شيء يُعقل ما لم
يكن نتيجة تفكير». وقد أخذ الإنسان على عاتقه أن ينظِّم الواقع وفقًا لمتطلَّبات
تفكيره العقلي الحر بدلًا من الاكتفاء بتشكيل أفكاره وفقًا للنظام القائم والقيم
السائدة … إن الإنسان كائنٌ مفكِّر … وعقله يتيح له أن يتعرَّف على إمكاناته
الخاصة، وعلى إمكانات عالمه … ومِنْ ثَمَّ فهو ليس واقعًا تحت رحمة الوقائع المحيطة
به، وإنما هو قادر على إخضاعها لمعيارٍ أرفع، هو معيار العقل. ولو أسلَم الإنسان
لها قياده، لوصل إلى تصوُّرات تكشف عن تضادٍّ بين العقل وبين الأوضاع القائمة … وقد
يصل إلى أن التاريخ إنما هو صراعٌ دائم من أجل الحرية، وأن فردية الإنسان تقتضي أن
تكون الملكية عنده وسيلة لتحقيق ذاته، وأن يكون للناس جميعًا حقٌّ متساوٍ في تنمية
ملَكَاتهم البشرية … ولكن الواقع الفعلي هو أن العبودية واللامساواة هي السائدة،
وأن معظم الناس يفتقرون افتقارًا تامًّا إلى الحرية، ومحرومون من كل ما كانوا
يملكون … ومِنْ ثَمَّ فمن الواجب تغيير الواقع «غير المعقول» إلى أن يصبح متمشيًا
مع العقل … أي إن من اللازم، في الحالة الراهنة، إعادة تنظيم النظام الاجتماعي
القائم، والقضاء على النزعة الاستبدادية ومخلَّفات الإقطاع، وإقامة نظامٍ من
المنافسة الحرة، وتحقيق المساواة بين الأفراد جميعًا أمام القانون، وما إلى
ذلك.
وفي رأي هِيجِل أن الثورة الفرنسية هي التي أعلنَت السلطان المطلَق للعقل على
الواقع … هو يُجمِل رأيه هذا بقوله: «إن مبدأ الثورة الفرنسية قد أكَّد أن الفكر
ينبغي أن يحكُم الواقع … والحقُّ أن هذا القولَ ينطوي على مضامينَ تصل في تعمُّقها
إلى لُب فلسفته ذاتها … فالفكر ينبغي أن يحكُم الواقع … وما يعتقد الناسُ بفكرهم
أنه صوابٌ وحقٌّ وخيرٌ ينبغي أن يتحقَّق في التنظيم الفعلي لحياتهم الاجتماعية
والفردية … ومع ذلك فإن التفكير يختلف باختلاف الأفراد، وهذا يؤدي إلى تبايُن بين
الآراء الفردية لا يُمكِن أن يتيح مبدأ يوجِّه التنظيم المشترك للحياة … وما لم
تكُن لدى الإنسان تصوُّراتٌ ومبادئ فكرية تشير إلى شروط ومعايير ذات صحةٍ مطلَقة،
فلن يستطيع فكره أن يدَّعي أنه يحكُم الواقع … ويعتقد هِيجِل، تمشيًا مع تراث
الفلسفة الغربية، أن مثل هذه التصوُّرات والمبادئ الموضوعية موجودة. وهو يُطلِق على
مجموعها الكلي اسم العقل.
لقد كانت فلسفاتُ عصر التنوير الفرنسي والفلسفات الثورية التالية لها تنظر جميعًا
إلى العقل بوصفه قوةً تاريخية موضوعية تستطيع، بمجرَّد أن تتحرَّر من قيود الطغيان،
أن تجعل العالم مكانًا يتحقق فيه التقدُّم والسعادة … وكانت ترى أن قوة العقل، لا
قوة السلاح، هي التي ستنشر مبادئ ثورتنا المجيدة.»
٣ ففي استطاعة العقل، بقُوَّته الخاصة، أن ينتصر على اللامعقولية
الاجتماعية ويخلِّص البشرية من طغاتها … «إن كل الأوهام تختفي أمام الحقيقة، وكل
الحماقات تهوي أمام العقل.»
٤
ومع ذلك، فلو استخلص المرء من ذلك أن العقل سوف يكشف عن ذاته فورًا في الميدان
العملي، لكانت تلك عقيدةً جامدة لا يدعمُها مجرى التاريخ … ولقد كان هِيجِل يؤمن
بقدرة العقل التي لا تُغلَب، بقَدْر ما كان روبسبيير يؤمن بها، وهو القائل إن «تلك
الملَكَة التي يستطيع الإنسان أن يقول إنها خاصةٌ به، والتي هي أعلى من الموت
والفساد … يمكِنها أن تتخذ قراراتٍ بذاتها … فهي تعلن عن نفسها بوصفها عقلًا … ولا
تتوقف قدرتُها على التشريع على أي شيءٍ آخر، كما لا يمكِنها أن تستمدَّ معاييرها من
أية سلطةٍ أخرى في الأرض ولا في السماء.»
٥ ولكن العقل في رأي هِيجِل، لا يستطيع أن يحكم الواقع ما لم يصبح الواقع
في ذاته معقولًا … وتصبح هذه المعقولية ممكنة عن طريق تغَلغُل الذات في لب الطبيعة
والتاريخ … وبذلك يصبح الواقع الموضوعي تحقيقًا للذات في الوقت نفسه … تلك هي
الفكرة التي أوجزَها هِيجِل في القضية التي تُعَد أهم قضاياه جميعًا، وأعني بها أن
الوجود، في جوهره، «ذات»
٦ وهي قضية لا يمكِن فهم معناها إلا عن طريق تفسيرٍ لكتاب «المنطق»
لهِيجِل، ولكنا سنحاول هنا تقديم شرحٍ مؤقَّت لها، وهو شرحٌ سوف نتوسَّع فيه فيما بعدُ.
٧
إن فكرة «الجوهر بوصفه ذاتًا» تتصوَّر الواقع على أنه عمليةٌ يكون كل وجودٍ فيها
توحيدًا لقوًى متناقضة … ولا يشير لفظ «الذات» هنا إلى الأنا الإبستمولوجي أو الوعي
فحسب، بل إلى طريقةٍ في الوجود هي تلك التي تتسم بها وحدةٌ تطوِّر نفسها في عملية
تتسم بالتعارض والتضاد … وكل ما هو موجود لا يكون «واقعيًّا» أو «حقيقيًّا» إلا
بقَدْر ما يمارس فاعليته بوصفه «ذاتًا» من خلال كل العلاقات المتناقضة التي تؤلِّف
وجوده … وعلى هذا النحو ينبغي أن يُعد نوعًا من «الذات» يمضي بنفسه قدمًا عن طريق
الكشف عن متناقضاته الكامنة … مثال ذلك أن الحجر لا يكون حجرًا إلا بقَدْر ما يظل
هو الشيء نفسه؛ أي حجرًا، طَوال فعلِه وردِّ فعله على الأشياء والعمليات التي
تتفاعل معه … فهو يبتل في المطر، وهو يقاوم ضربة الفأس، وهو يتحمل ثقلًا معينًا قبل
أن يتهاوى … فكون الشيء حجرًا إنما هو صمودٌ متصل أمام كل ما يمارس فعله في الحجر،
فهو عمليةٌ متصلة يصير فيها الشيء ويكون حجرًا … والأمر المؤكَّد هو أن الحجر لا
يحس «بالصيرورة» كما لو كان ذاتًا واعية … فالحجر يتغيَّر في تأثيراته المتبادلة مع
المطر، والفأس، والثقل، وهو لا يغيِّر ذاته … أمَّا النبات فإنه يكشف عن مكنوناته
ويطوِّر ذاته … فهو لا يكون الآن برعمًا، ثم يصبح بعد ذلك زهرةً، بل الأصح أنه هو
كل الحركة من البرعم إلى الزهرة إلى الذبول … في هذه الحركة يكون النبات ذاته
ويحفظها. وهو أقرب إلى أن يكون «ذاتًا» فعلية من الحجر بكثير؛ إذ إن المراحل
المتعدِّدة لتطوُّر النبات تنمو من النبات ذاته، وهذه المراحل هي «حياته»، وليست
مفروضة عليه من الخارج.
ومع ذلك، فإن النبات لا «يفهم» هذا التطور … وهو لا «يدركه» على أنه تطوُّره
الخاص؛ ومِنْ ثَمَّ فليس في وسعه أن يحوِّل إمكاناته بالفعل إلى وجودٍ متحقق … بل
إن مثل هذا التحقيق إنما هو عملية تقوم بها الذات الحقة، ولا يتم التوصل إليه إلا
بوجود الإنسان؛ فالإنسان وحده هو الذي يملك القدرة على تحقيق ذاته، والقدرة على أن
يصبح ذاتًا مستقلةً بنفسها في كل عمليات الصيرورة؛ لأنه هو وحده الذي يملك فهمًا
للإمكانات ومعرفةً بالمفاهيم
notions، بل إن وجوده
ذاته إنما هو عملية تحقيق إمكاناته، وتشكيل حياته وفقًا لمفاهيم العقل … وهنا نلتقي
بأهم معقولة للعقل، وأعني بها الحرية … فالعقل يفترض الحرية مقدمًا؛ أي يفترض
القدرة على السلوك على أساسٍ من معرفة الحقيقة، والقدرة على تشكيل الواقع طبقًا
لإمكاناته … ولا يقدر على تحقيق هذه الغايات إلا الذات التي تملك السيطرة على
تطوُّرها الخاص، والتي تفهم إمكاناتها فضلًا عن إمكانات الأشياء المحيطة بها …
والحرية بدَورِها تفترض العقل مقدمًا؛ إذ إن المعرفة الفاهمة هي وحدها التي تتيح
للذات أن تكتسب هذه القدرة وتُمارِسها … وتلك معرفة لا يملكها الحجر ولا النبات …
فكلاهما يفتقر إلى المعرفة الفاهمة، وبالتالي إلى الذاتية الحقَّة … «أمَّا الإنسان
فهو الذي يعرف ما يكونه — وبهذا وحده يكون حقيقيًّا … وبدون هذه المعرفة لا يكون
العمل والحرية شيئًا.»
٨
إن أقصى ما يصل إليه العقل هو الحرية، والحرية هي عين وجود الذات … ومن جهةٍ
أخرى، فالعقل ذاته لا يُوجَد إلا من خلال تحقُّقه، أو من خلال العملية التي يصير
بها حقيقةً واقعة … إن العقل لا يكون قوةً موضوعية وحقيقةً موضوعية إلا لأن كل
أحوال الوجود أحوالٌ للذاتية، وأحوالٌ للتحقُّق، بدرجاتٍ متفاوتة … فالذات والموضوع
لا تفصلهما هوة لا تُعبر؛ لأن الموضوع نفسه نوعٌ من الذات، ولأن كل أنواع الوجود
تبلُغ قمَّتَها في الذات الحرة «الشاملة» التي تستطيع أن تحقِّق العقل … وهكذا تصبح
الطبيعة وسيطًا لنُمو الحرية.
إن حياة العقل لتتجلى في صراع الإنسان الدائم من أجل فهم ما هو موجود وتشكيله
وَفقًا للحقيقة المفهومة … كذلك فإن العقل قوةٌ تاريخية أساسًا … فتحقُّقه يحدث
بوصفه عمليةً متطورة في العالَم الزماني المكاني، وهو في نهاية المطاف ليس إلا
التاريخ الكامل للبشرية … واللفظ الذي يشير إلى العقل بوصفه تاريخًا هو الروح
Geist الذي يدُل على العالم التاريخي منظورًا
إليه في علاقته بالتقدُّم العقلي للإنسانية، أعني العالم التاريخي، لا بوصفه سلسلةً
من الأفعال والأحداث، بل بوصفه صراعًا لا ينقطع من أجل تشكيل العالم تبعًا
للإمكانات البشرية المتزايدة.
ويرتَّب التاريخ في عصورٍ متباينة، يدُل كلٌّ منها على مستوًى خاص للتطور،
ويمثِّل مرحلةً محدَّدة في تحقيق العقل … ولا بد من فهم كل مرحلة من حيث هي كُل، من
خلال أساليب التفكير والحياة السائدة المميزة لها، ومن خلال نُظُمها السياسية
والاجتماعية، وعلمها ودينها وفلسفتها … وإذا كان تحقيق العقل يمُر بفتراتٍ متباينة،
فإنه لا يُوجَد مع ذلك إلا عقلٌ واحد، مثلما أنه لا يُوجَد إلا كلٌّ واحد وحقيقةٌ
واحدة، هي حقيقة الحرية … «هذا الهدف النهائي هو ما كان مسارُ التاريخ العالمي
يهدفُ إليه على الدوام، وهو الذي بُذلَت من أجله تلك التضحياتُ التي قُدِّمَت من
قبلُ، ولا تزال تقدَّم، على مذبح الأرض الهائل، خلال العصور الطويلة الماضية. هذا
هو الهدف النهائي الوحيد الذي يحقِّق ذاته، وهو نقطة الارتكاز الوحيدة وسط السلسلة
المتصلة من الحوادث والظروف، وهو الحقيقة الحقَّة الوحيدة.»
٩
إن من المحال وجودَ وحدةٍ مباشرة للعقل والواقع
… بل إن الوحدة لا تتحقق إلا بعد عمليةٍ طويلة، تبدأ عند أدنى مستوياتٍ للطبيعة،
وترتفع حتى أعلى شكلٍ للوجود، أعني الذات الحرة العاقلة التي تحيا وتسلُك من خلال
وعيها الذاتي بإمكاناتها … وما دامت هناك أية ثغرة بين الواقع والممكِن، فلا بد من
التأثير في الأوَّل وتغييره إلى أن يصبح متمشيًا مع العقل … وما دام الواقع لم يخضع
لتشكيل العقل، فإنه لا يكون قد أصبح واقعًا على الإطلاق، بالمعنى المؤكد للكلمة …
وهكذا فإن الواقع يغيِّر معناه في داخل البناء التصوُّري لمذهب هِيجِل؛ فكلمة
«الواقعي» real يصبح لها معنًى لا يدُل على كل
ما هو موجود بالفعل (بل إن كلمة المظهر هي الأقرب إلى التعبير عن هذا الأخير)، بل
على ما يُوجَد في صورٍ مطابقة لمعايير العقل … فالواقعي real هو المعقول، ولا شيء غيره … مثال ذلك أن الدولة لا تصبح
حقيقةً واقعة إلا عندما تكون مطابقةً للإمكانات المعطاة للناس، وعندما تتيح تنميتها
كاملة … وأي شكلٍ أوَّلي أو مبدئي للدولة لا يكون قد أصبح معقولًا بعدُ، ومِنْ
ثَمَّ فهو لم يصبح واقعيًّا بعدُ.
وهكذا فإن لمفهوم العقل عند هِيجِل طابعًا نقديًّا
خلافيًّا
polemic مميزًا، فهو مضادٌّ لكل استعداد لقبول الأوضاع القائمة …
وهو يُنكِر سيطرة كل شكلٍ سائد من أشكال الحياة عن طريق إثبات الأضداد التي تُفضي
به إلى أشكالٍ أخرى … وسوف نُحاوِل أن نُثبِت أن «روح المناقضة» تفضي به إلى تدفُّع
منهج هِيجِل الجدَلي إلى الأمام.
١٠
في عام ١٧٩٣م كتب هِيجِل إلى شلنج يقول: «إن العقل والحرية سيظلان هما المبدآن
اللذان نؤمن بهما» … والواقع أنه لم تكن تُوجَد في كتاباته المبكِّرة هُوَّة بين
المعنى الفلسفي والاجتماعي لهذَين المبدأَين اللذَين كان يعبِّر عنهما بنفس اللغة
الثورية التي استخدمها اليعاقبة الفرنسيون … فهو يقول مثلًا إن أهمية عصره تكمُن في
أن «الهالة التي أحاطت بكبار الغاصبين وآلهة الأرض قد اختفت … فالفلاسفة يُبرهِنون
على كرامة الإنسان، وسوف يتعلم الناس كيف يشعُرون بها، ولن يكتَفُوا بالمطالبة
بحقوقهم، التي تمرَّغَت في الوحل، بل إنهم سوف ينتزعون هذه الحقوق بأيديهم،
ويجعلونها ملكًا لهم … لقد لعب الدين والسياسة لعبةً واحدة؛ إذ إن الدين قد علَّم
الناس ما أراد الطغيانُ أن يلقِّنهم إياه، وهو احتقارُ الإنسانية وعجزُ الإنسان عن
بلوغ الخير وتحقيق ماهيته بجهوده الخاصة.»
١١ بل إننا نجد لديه عباراتٍ أشد تطرفًا، تذهب إلى أن تحقيق العقل يقتضي
نظامًا اجتماعيًّا يقلب النظام القائم … ففي البرنامج المذهبي الأوَّل للمثالية
الألمانية
Erstes System-programm des Deutschen
Idealismus، الذي كتبه عام ١٧٩٦م، نجده يقول: «سوف أُثبِت أنه
مثلما أنه لا تُوجَد فكرة عن الآلة، فكذلك لا تُوجَد فكرة عن الدولة؛ إذ إن الدولة
شيءٌ آلي، على حين أن لفظ الفكرة لا يصح أن يُطلَق إلا على ما هو موضوعٌ للحرية …
فمن الواجب علينا إذن أن نتجاوز الدولة … ذلك لأن كل دولة يتعيَّن عليها أن تعامل
الناس الأحرار كما لو كانوا تروسًا في آلة … وهذا بعينه هو ما ينبغي ألا تفعلَه،
ومِنْ ثَمَّ فلا بد من فناء الدولة.»
١٢
على أن هِيجِل أخذ يتخلى بالتدريج عن المضمون الثوري للمفاهيم المثالية الأساسية،
وأخذ يحاول أن يلائم بينها، على نحوٍ متزايد، وبين الشكل الاجتماعي السائد. وتلك،
كما سنرى فيما بعدُ، عملية يحتِّمها البناء الفكري للمثالية الألمانية، التي تحتفظ
بالمبادئ الحاسمة للمجتمع ذي النزعة الليبرالية، وتَحول دون أي تجاوزٍ لها.
ومع ذلك فإن الشكل الخاص الذي اتخذه التوفيق بين الفلسفة والواقع في مذهب هِيجِل
قد تحكَّم فيه الموقف الفعلي في ألمانيا خلال الفترة التي وضع فيها مذهبه؛ ذلك لأن
مفاهيم هِيجِل الفلسفية المبكِّرة قد صيغَت في عهدٍ كانت فيه الدولة الألمانية
(الرايخ) في حالة انحلال … وكما أعلن هِيجِل ذاتُه في مستهلِّ الكُتيِّب الذي
ألَّفه عن الدستور الألماني (١٨٠٢م)، فإن الدولة الألمانية في العقد الأخير من
القرنِ الثامنَ عشر «لم تعُد دولة»؛ إذ إن مخلَّفات الاستبداد الإقطاعي كانت لا
تزال تضرب أطنابها في ألمانيا، وازداد طغيانُها لأنها تفتَّتَت إلى كثرة من النظم
الاستبدادية الصغيرة التي يتنافس كلٌّ منها مع الآخر. وكانت الدولة «تتألف من
النمسا وبروسيا والأمراء الناخبين، و٩٤ أميرًا من أمراء الكنيسة والأمراء الزمنيين،
و١٠٣ من البارونات، و٤٠ أسقفًا و٥١ مدينة دولة؛ أي إنها كانت بالاختصار تتألف من
حوالي ٣٠٠ إقليم.» ولم يكن لدى الدولة ذاتها «جنديٌّ واحد، ولم يكن دخلها السنوي
يزيد عن بضعة آلاف من الفلورينات.» ولم يكن هناك تشريعٌ مركزي، أمَّا المحكمة
العليا فكانت ساحةً تُمارَس عليها كل ألوان «الجشع والنزوات والرشاوى.»
١٣ وكان رقُّ الأرض لا يزال سائدًا، والفلاح لا يزال دابةً تمشي على
رجلَين … وكان بعض الأمراء لا يزالون يؤجرون رعاياهم أو يبيعونهم ليكونوا جنودًا
مرتزقةً في بلادٍ أجنبية … كما كانت الرقابة الشديدة مفروضة لقمع أبسط اتجاهٍ مستنير.
١٤ وقد وصف أحدُ المعاصرين لتلك الفترة الأوضاعَ السائدة بقوله: «إن الوضع
الراهن في أمتنا هو أننا نعيش بلا قانون أو عدالة، وبلا حماية من الضرائب
التعسُّفية، غير آمنين على أرواحِ أبنائنا، أو على حريتنا وحقوقنا، ونحيا ضحايا
عاجزين للسلطة الاستبدادية، تفتقر حياتُنا إلى الوحدة والروح القومية.»
١٥
وعلى خلاف ما كانت عليه الحال في فرنسا، لم تكن تُوجَد في ألمانيا طبقةٌ وسطى
قوية، واعية، مستنيرة سياسيًّا، لكي تقود الكفاح ضد هذه النزعة الاستبدادية، بل
كانت طبقة النبلاء تحكُم دون معارضة … وقد لاحظ جوته أنه «لم يكن هناك أي شخصٍ
تقريبًا في ألمانيا يخطُر بباله أن يشعُر بالحسد نحو هذه الكتلة المميزة الهائلة،
أو يحقد عليها نظير ما تتمتَّع به من مزايا كبيرة.»
١٦ فالطبقة الوسطى من سكان المدن كانت مشتَّتة بين مناطق المدن الكثيرة،
التي كانت لكلٍّ منها حكومتها ومصالحها الخاصة؛ ومِن ثَمَّ فقد كانت عاجزةً عن
بلورة أية معارضةٍ جادَّة أو ممارستها … صحيح أنه كانت هناك منازعات بين النبلاء
الحكام وبين الطوائف الحِرَفية والصُّنَّاع، ولكن هذه المنازعات لم تصل في أية
حالةٍ إلى مستوى الحركة الثورية … فكان سكان المدن يُرفِقون بالالتماسات والشكاوى
التي يقدِّمونها، دعواتٍ بأن يحفظ الله الوطن من «أهل الثورة».
١٧
ولقد كانت الجماهير في ألمانيا قد اعتادت، منذ عهد الإصلاح الديني، الفكرة
القائلة إن الحرية هي بالنسبة إليهم «قيمةٌ باطنة» لا تتعارض مع أي نوعٍ من
العبودية، وإن الطاعة الواجبة للسلطة القائمة شرطٌ ضروري للخلاص الأبدي، وإن
الكَدْح والفقْر نعمةٌ من عند الرب … وأدَّى طول فترة التدريب على الطاعة والنظام
إلى كبت مطالب الحرية والعقل في ألمانيا وتحويلها إلى العالم الباطن … إذ كان من
الوظائف الرئيسية للبروتستانتية أن تحُضَّ الأفراد الذين تحرَّروا على قبول النظام
الاجتماعي الذي ظهر حديثًا في ذلك الحين، بتحويل مطالبهم من العالم الخارجي إلى
حياتهم الباطنة. وقد أكَّد لوثر الحرية المسيحية بوصفها قيمةً داخلية تتحقَّق على
نحوٍ مستقل عن أي شرطٍ خارجي … وهكذا أصبح الواقع الاجتماعي أمرًا لا أهمية له
بالنسبة إلى الماهية الحقَّة للإنسان … وتعلَّم الإنسان كيف يوجِّه إلى نفسه مطلبه
الخاص بتحقيق إمكاناته، والبحث عما يبعَث الكمال في حياته في «داخل ذاته» بدلًا من
العالم الخارجي.
١٨
والواقع أن الثقافة الألمانية ترتبط ارتباطًا لا ينفصم بأصلها البروتستانتي؛
فبفضل البروتستانتية، ظهر عالَم من الجمال والحرية والأخلاقية لا تؤثِّر فيه
الحقائق والصراعات الخارجية، وكان ذلك العالَم منعزلًا عن العالم الاجتماعي التعِس،
كامنًا في «روح» الفرد. ولقد كان هذا التطوُّر أصلًا لاتجاهٍ ظاهر بوضوح في
المثالية الألمانية، هو الاستعداد لمهادنة الواقع الاجتماعي … وكان هذا الاتجاه إلى
المهادنة لدى المثاليين يتعارض على الدوام مع نزعتهم العقلية النقدية … ولكن الأمر
انتهى إلى إحباط المثَل الأعلى الذي نادت به الجوانب النقدية في تفكيرهم، وهو إعادة
التنظيم سياسيًّا واجتماعيًّا على أساسٍ عقلي، فتحوَّل هذا المثَل الأعلى إلى قيمةٍ
روحية.
ولقد كانت الطبقات «المتعلمة» تعزل نفسها عن الشئون العملية، ولما كانت بذلك قد
حكَمَت على نفسها بالعجز عن استخدام عقلها استخدامًا تطبيقيًّا من أجل إعادة تشكيل
المجتمع، فإنها عملَت على تحقيق ذاتها في عالَم العلم والفن والفلسفة والدين، وأصبح
هذا العالم في نظرها هو «الواقع الحقيقي» الذي يعلو على تعاسة الأوضاع الاجتماعية
القائمة، كما أنه كان ملاذًا للحقيقة، والخير، والجمال، والسعادة، والأهم من ذلك،
للمزاج النقدي الذي لم يكن يستطيع أن يجد له منفذًا في المجال الاجتماعي. وهكذا
كانت الثقافة مثالية في أساسها، تهتم «بفكرة» الأشياء بدلًا من الأشياء ذاتها، وهي
قد وضعَت حرية الفكر قبل حرية الفعل، وقدَّمَت الأخلاق على العدالة العملية، وحياة
الإنسان الباطنة على حياته الاجتماعية … ومع ذلك فإن هذه الثقافة ذات الطابع
المثالي، نظرًا إلى كونها قد وقفَت بمعزلٍ عن واقعٍ لا يُطاق، واحتفظَت نتيجةً لذلك
بنفسها سليمةً نقية، فإنها لهذا السبب ذاته، وبرغم ما كانت تنطوي عليه من عزاءٍ
باطل وتمجيدٍ زائف، قد أفادت في كَونها ظلت تُحافِظ بأمانةٍ على حقائقَ لم تكن قد
تحقَّقَت من قبلُ في تاريخ البشرية.
ولقد كان مذهب هِيجِل آخر تعبيرٍ عظيم عن هذه المثالية الثقافية، وآخر محاولةٍ
عظيمة لجعل الفكر ملجأ للعقل والحرية. على أن القوة الدافعة النقدية الأصلية في
تفكيره كانت من القوة بحيث حفزَتْه على التخلي عن الانعزالية التقليدية للمثالية عن
التاريخ؛ ومِنْ ثَمَّ فقد جعَل الفلسفة عنصرًا تاريخيًّا عينيًّا، وجذب التاريخ إلى
نطاق الفلسفة.
على أن التاريخ عندما يُحصَر على هذا النحو، يحطم جدران الإطار المثالي.
إن مذهب هِيجِل ليرتبط ارتباطًا ضروريًّا بفلسفةٍ سياسية محدَّدة المعالم،
وبنظامٍ اجتماعي وسياسي خاص … ولم يكن الجدَل (الديالكتيك) القائم بين المجتمع
المدني والدولة في عهد عودة الملكية Restoration
شيئًا عارضًا في فلسفة هِيجِل، ولا كان مجرد قسم من أقسام كتابه «فلسفة القانون
(الحق)»، بل إن مبادئه كان لها بالفعل تأثيرها في البناء الفكري لمذهبه. ومن جهةٍ
أخرى فإن مفاهيمه الأساسية ليست إلا الذروة التي بلغَها الفكر الغربي بأكمله. وهي
لا تُفهم إلا عندما تفسَّر في إطار هذا التراث.
ولقد كُنَّا حتى الآن نُحاوِل في هذا الحيِّز الضيِّق أن نضع مفاهيم هِيجِل في
إطارها التاريخي العيني، وبقي علينا أن نردَّ نقطة بداية مذهب هِيجِل إلى مصادرها
في الموقف الفلسفي لعصره.
(٢) الإطار الفلسفي
استطاعت المثالية الألمانية أن تُنقِذ الفلسفة من هجوم المذهب التجريبي
الإنجليزي، ولم يكن الصراع بين المذهبَين مجرد تصادمٍ بين مدارسَ فلسفيةٍ مختلفة،
بل كان صراعًا من أجل الفلسفة بما هي كذلك؛ فالفلسفة لم تكُف أبدًا عن تأكيد دعواها
بأن لها الحق في توجيه جهود الإنسان في سبيل السيطرة العقلية على الطبيعة والمجتمع،
ولم تكُف عن إقامة دعواها هذه على أساس أن الفلسفة تضَع أرفعَ وأعمَّ المفاهيم التي
تكفُل معرفة العالم. وعلى يد ديكارت اتخذَت الأهمية العملية للفلسفة شكلًا جديدًا،
يتمشَّى مع التقدُّم الساحق للأساليب التكنيكية الحديثة؛ فهو قد نادى «بفلسفةٍ
عملية نستطيع بها، إذا عرفنا قوة وتأثير النار والماء والهواء والنجوم والسموات
وجميع الأجسام الأخرى المحيطة بنا … أن نستخدمها في جميع الأغراض التي تصلُح لها.
وبذلك نجعل من أنفسِنا سادةَ الطبيعة وملَّاكَها.»
١٩
ولقد كان إنجاز هذه المهمة مرتبطًا، على نحوٍ متزايد، بوضع قوانينَ وتصوُّراتٍ
ذات صحةٍ مطلَقة في المعرفة؛ فالسيطرة العقلية على الطبيعة والمجتمع كانت تفترض
معرفة الحقيقة، والحقيقة شيءٌ كلي، في مقابل المظاهر الكثيرة للأشياء، والشكل
المباشر الذي تتخذه في إدراك الأفراد. ولقد كان هذا المبدأ حيًّا من قبلُ في
المحاولات الأولى لنظرية المعرفة اليونانية؛ فالحقيقة كلِّية وضرورية، وهي بذلك
مناقِضةٌ للتجربة المعتادة المتغيِّرة العارضة.
والواقع أن الفكرة القائلة إن الحقيقة مضادَّة للأمور الواقعة في العالَم ومستقلة
عن الأفراد العارضين، قد ظلَّت قائمةً طَوالَ العهد التاريخي الذي كانت فيه حياة
الإنسان الاجتماعية حياة شقاقٍ بين أفراد وجماعاتٍ متعارِضة؛ فالكلي قد جسِّد بوصفه
ردَّ فعلٍ فلسفيًّا على ذلك الواقع التاريخي الذي كانت فيه المصالح الفردية هي
وحدها السائدة في المجتمع، على حين أن الصالح العام لم يكُن يؤكد فيه إلا «من وراء
ظهر» الفرد … وازداد التضاد بين الكلي والفردي حدَّة عندما ارتفعَت في العصر الحديث
شعارات الحرية العامة، وكان الرأي السائد هو أن من المستحيل تحقيق النظام الاجتماعي
الصحيح إلا عن طريق المعرفة التي يكتسبها أفرادٌ متحرِّرون والنشاط الذي يقومون به،
وعلا صوتُ النداء القائل إن الناس جميعًا أحرارٌ متساوون. ومع ذلك فإن هؤلاء الناس،
في سلوكهم وَفْقًا لمعرفتهم، وفي استهدافهِم لمصالحهم، قد خلَقوا نظامًا من التبعية
والظلم والأزمات المتكرِّرة، وعانَوا هم أنفسهم من هذا النظام، ولم تؤدِّ المنافَسة
العامة بين الأفراد الأحرار اقتصاديًّا إلى إقامة مجتمعٍ عاقل يمكِنه أن يضمنَ
تحقيقَ وإشباعَ حاجات الناس جميعًا ورغباتهم، بل إن حياة الناس سُلِّمَت غنيمةً
لنظامٍ اجتماعي تؤدي آلياتُه إلى جعل الصلة الوحيدة بين الأفراد هي صلة المشترين
والبائعين المنعزلين للسلع، ولقد كان هذا الافتقار الفعلي إلى الاتصال العاقل هو
علَّة سعي الفلسفة إلى وحدة العقل Einheit
وشموله Allgemeinheit.
فهل يسمح تركيب الاستدلال العقلي الفردي (الذاتية) بإقامة أية قوانين ومفاهيم
عامة يمكِنها أن تؤلِّف معاييرَ شاملةً للمعقولية؟ وهل يمكِن بناءُ نظامٍ عقليٍّ
شامل على أساسٍ من استقلال الفرد؟ إن نظرية المعرفة في المثالية الألمانية، حين
ردَّت على هذه الأسئلة بالإيجاب، كانت تهدفُ إلى إيجاد مبدأ موحد يحفظ المُثُل
العليا الأساسية للمجتمع ذي النزعة الفردية، دون أن يقع فريسةً لما في هذا المجتمع
من متعارضات، ولقد كان التجريبيون الإنجليز قد أثبتوا أنه ليس ثمَّة تصوُّر أو
قانونٌ واحد للعقل يمكِنه أن يزعم لنفسه الشمول، وأن وحدة العقل لا تعدو أن تكون
وحدة العادة أو العرف، التي تلتزم الوقائع ولكنها لا تحكُمها أبدًا، أمَّا
المثاليون الألمان فكانوا يرَونَ أن هذا الهجوم يهدِّد بالخطر كلَّ الجهود الرامية
إلى فرض نظام على أشكال الحياة السائدة. فالوحدة والشمول، في رأيهم لا يمكِن
الاهتداء إليهما في الواقع التجريبي، بل إنهما ليسا من قبيل الوقائع المعطاة.
وفضلًا عن ذلك فقد بدَا أن بناء الواقع التجريبي ذاته يبرِّر الرأي القائل إن
الوحدة والشمول لا يمكن أن يُستمدَّا من الوقائع المعطاة. على أنه إذا لم ينجح
الناس في خلق وحدةٍ وشمولٍ عن طريق عقلهم المستقل، حتى لو كانوا في ذلك يُناقِضون
الوقائع، لكان عليهم أن يتركوا حياتهم المادية، لا الذهنية فحسب، فريسةً للضغوط
والعمليات العمياء المنبثقة عن نظام الحياة التجريبي السائد. وهكذا فإن المشكلة لم
تكُن مشكلةً فلسفية فحسب، بل كانت متعلقة بالمصير التاريخي للإنسانية.
ولقد أدرك المثاليون الألمان الأوجه التاريخية العينية للمشكلة، ويتضح ذلك من
أنهم قد عملوا جميعًا على ربط العقل النظري
بالعملي … فهناك انتقالٌ ضروري من تحليل كَانْت للوعي
الترنسندنتالي، إلى دعوته من أجل دولةٍ عالمية مشتركة، وكذلك من مفهوم الأنا الخالص
عند فشته إلى بنائه مجتمعًا موحَّدًا منظَّمًا كله، ومن فكرة العقل عند هِيجِل إلى
وصفه الدولة بأنها التوحيد بين المصلحة العامة والفردية، وبالتالي تحقُّق
العقل.
ولم يكن ما استثار الهجومَ المثاليَّ المضاد هو اتجاهات لوك وهيوم التجريبية، بل
تفنيدهما للأفكار العامة … ولقد حاولنا أن نُبيِّن أن حق العقل في تشكيل الواقع
يتوقف على قدرة الإنسان على القول بحقائقَ ذات صحةٍ شاملة؛ فالعقل لا يستطيع
الانتقال بنا إلى ما وراء الواقع الفج الموجود بالفعل، وإلى تحقيق ما ينبغي أن
يكون، إلا بفضل شمول تصوُّراته وضرورتها (اللذَين هما بدَورهما معيارُ حقيقته).
ولكن التجريبيين أنكروا هذه التصوُّرات، فقال لوك إن الأفكار العامة «من ابتداع
الذهن واختراعه، يصطنعها الذهن لاستخدامه الخاص، ولا تتعلق إلا بعلامات … وعلى ذلك
فعندما نترك الجزئيات جانبًا، تكون الكليات المتبقِّية مجرد ابتداعٍ من صنعنا نحن.»
٢٠ … كذلك كان هيوم يرى أن الأفكار العامة تجرد من الجزئي، و«تمثل»
الجزئي، والجزئي وحده.
٢١ فهي لا تستطيع أبدًا أن تقدِّم قواعدَ أو مبادئَ شاملة … ولو قبلنا رأي
هيوم هذا، لتعيَّن رفض ادعاء العقل بأنه ينظِّم الواقع … ذلك لأن هذا الادعاء كما
رأينا من قبلُ، يرتكز على تلك الملَكَة التي يتمكَّن بفضلها العقل من بلوغ حقائق لا
تستمد صحتها من التجربة، بل تستطيع بالفعل أن تقف في وجه التجربة. «ليس … العقل هو
المرشد في الحياة، بل العادة.»
٢٢ والواقع أن هذه النتيجة التي وصلَت إليها أبحاث التجريبيين لم تقتصر
آثارها على هدم الميتافيزيقا؛ فهي قد حصَرَت الناس في حدود ما هو «مُعطًى»، وفي
حدود النظام القائم للأشياء والحوادث … إذ من أين يكتسب الإنسان حقَّ تجاوُز النظام
ذاته بأَسْره، لا مجرد جزءٍ خاصٍّ من هذا النظام؟ ومن أين يكتسب حقَّ إخضاعِ هذا
النظام لحكم العقل؟ ولو كانت التجربة والعادة هما المصدر الوحيد لمعرفته واعتقاده،
فكيف يستطيع أن يسلُكَ ضد العادة، وكيف يسلكُ وَفقًا لأفكارٍ ومبادئَ لم تُقبل ولم
تستقرَّ بعدُ؟ إن الحقيقة لم تكن لتستطيع عندئذٍ معارضة النظام القائم، ولم يكن
العقل ليقدر على الاعتراض عليه … وهكذا لا تكون النتيجة هي الشك فحسب، بل هي الرضا
والاستكانة أيضًا … ذلك لأن المذهب التجريبي، حين قصَر المعرفة البشرية على معرفة
ما هو مُعطًى، قد قضى على الرغبة في تجاوز المُعطى، وكذلك في الشعور باليأس إزاءه …
«ذلك لأنه لا شيء أكثر يقينًا من أن اليأس له فينا تأثيرٌ يكاد يعادل تأثير المتعة،
وأننا بمجرد أن نعرف استحالة إرضاء أية رغبة، نجد أن الرغبة ذاتها قد اختفت … وحين
نرى أننا بلغنا أقصى مدًى يمكِن أن يبلغَه العقل البشري، نكتفي بذلك راضين.»
٢٣
ولقد كان المثاليون الألمان يرَون في هذه الفلسفة تعبيرًا عن استسلام العقل؛
فعندهم أننا حين ننسب وجود الأفكار العامة إلى قوة العادة. والمبادئ التي يُفهم بها
الواقع، إلى الآليات النفسية، فكأننا بذلك نُنكِر الحقيقة والعقل … والواقع أن
النفسية البشرية كانت في رأيهم معرَّضة للتغيُّر؛ فهي في الواقع مجال يتسم
بالافتقار إلى اليقين وبالعَرَضية، لا يمكِن أن تستخلص منه أية ضرورة أو شمول، ومع
ذلك فإن مثل هذه الضرورة والشمول هي الضمان الوحيد للعقل. وفي رأي المثاليين أنه ما
لم يمكن إثبات أن التصوُّرات العامة التي تطالب لنفسها بمثل هذه الضرورة والشمول
أكثر من مجرد نتاجٍ للخيال، وأنها لا تستمد صحتها من التجربة، ولا من علم النفس
الفردي؛ أي بعبارةٍ أخرى، ما لم نُثبِت أنها قابلةٌ للانطباق على التجربة دون أن
تكون قد نشأَت من التجربة، لكان على العقل أن يخضع لما تُمليه عليه التعاليم
التجريبية، فإذا كانت المعرفة بالعقل؛ أي بتصوُّرات لا تُستمَد من التجربة، تعني
الميتافيزيقا، فعندئذٍ يكون الهجوم على الميتافيزيقا هو في الوقت ذاته هجوم على
شروط الحرية الإنسانية؛ إذ إن حق العقل في توجيه التجربة جزءٌ لا يتجزأ من هذه
الشروط.
ولقد أخذ «كَانْت» برأي التجريبيين القائل إن كل معرفةٍ إنسانية تبدأ بالتجربة
وتنتهي إلى التجربة، وإن التجربة وحدها هي التي تقدِّم مادة تصوُّرات العقل … والحق
أنه ليس ثمَّة تصريحٌ تجريبي أقوى من ذلك الذي يستهلُّ به كتابه «نقد العقل الخالص»
إذ يقول: «إن كل فكر ينبغي أن يرتبط على نحوٍ مباشر أو غير مباشر … بالحدوس آخر
الأمر، وبالتالي بالحساسية فينا؛ إذ لا يمكن أن يعطي لنا الموضوع على أي نحوٍ آخر.»
ومع ذلك فإن «كَانْت» يرى أن التجريبيين قد أخفَقوا في إثبات أن التجربة تقدِّم
إلينا أيضًا الوسائل والطرق التي تنظم بها هذه المادة التجريبية، فإذا أمكَن إثباتُ
أن مبادئ التنظيم هذه ملكٌ أصيل للذهن البشري، وأنها لا تنشأ عن التجربة، فعندئذٍ
يمكن إنقاذ استقلال العقل وحريته … وفي هذه الحالة تكون التجربة ذاتها نتاجًا
للعقل؛ إذ لن تعود عندئذٍ هي الكثرة المضطربة من الإحساسات والانطباعات، بل تصبح
التنظيم الشامل لهذه الكثرة.
ولقد أخذ كَانْت على عاتقه أن يُثبِت أن الذهن البشري يملك «الصور» الكلية التي
تنظِّم كثرة المعطيات التي تقدِّمها له الحواس … فصُور «الحدْس» (وهي المكان
والزمان) وصور «الفهم» (وهي المقولات) هي الكلِّيات التي ينظِّم بها الذهن الكثرة
الحسية ليجعل منها تجربةً متصلة … وهي قَبْليةٌ بالنسبة إلى كل إحساس وانطباع؛ بحيث
إننا «نحصل على» الانطباعات ونرتِّبها على أساس هذه الصور … فالتجربة لا تقدِّم
نظامًا ضروريًّا شاملًا إلا بفضل النشاط القَبْلي للذهن البشري، الذي يُدرِك كل
الأشياء والحوادث في صورتَي المكان والزمان، ويضمُّها تحت مقولات الوحدة والواقعية
والجوهرية والعلية … إلخ. وهذه الصور والمقولات ليست مستمدةً من التجربة؛ إذ لا
يمكن، كما لاحظ هيوم، أن يُوجَد انطباعٌ أو إحساسٌ مناظر لها، ومع ذلك فإن التجربة،
من حيث هي تكون كلًّا متصلًا منظَّمًا، ترجع في أصلها إليها، وهي ذات صحةٍ شاملة،
وتنطبق على نحوٍ شامل؛ لأنها تكون بناء الذهن البشري ذاته؛ فعالَم الأشياء، بوصفه
نظامًا شاملًا ضروريًّا، من إنتاج الذات — لا الفرد، وإنما أفعال الحَدْس والفهم
التي يشترك فيها الأفراد جميعًا، ما دامت هي ذاتها الشروط التي لا غَناء عنها
للتجربة.
ويطلق كَانْت على هذا التركيب المشترك للذهن اسم «الوعي الترنسندنتالي»، وهو
يتألف من صور الحَدْس والفهم، التي لا تظهر في تحليل كَانْت في صورة أُطرٍ سكونية،
بل هي صورٌ للفعالية، لا تُوجَد إلا في فعل الإدراك والفهم … فالصور الترنسندنتالية
للحَدْس أو الحس الخارجي تقوم بالتأليف بين كثرة المعطَيات الحسية في نظامٍ زماني
مكاني. أمَّا المقولات فبفضلها يتم الجمع بين نتيجة هذا التأليف في علاقاتٍ ضرورية
شاملة هي علاقات العلة والمعلول، والجوهر، والتأثير المتبادل، وما إلى ذلك … وهذا
الكل المعقد بأَسْره يتوحد في الوعي الذاتي الترنسندنتالي transcendental apperception الذي
يربط كل تجربة بالأنا المفكِّر، وبذلك يُضفي على التجربة اتصالًا راجعًا إلى كونها
تجربتي «أنا». وينبغي أن نلاحظ أن عمليات التأليف هذه، التي تتسم بأنها قَبْليةٌ
مشتركة بين الأذهان جميعًا وبالتالي شاملة، يعتمد بعضُها على بعض، وتُستخدَم
مجتمعةً في كل فعلٍ من أفعال المعرفة.
إنَّ ما يسميه كَانْت بالتركيب «الأعلى»، أعني تركيب الوعي الذاتي الترنسندنتالي،
هو الوعي بوجود «أنا أفكِّر» مقترنة بكل تجربة، وعن طريق هذا الوعي يعرف الأنا
المفكِّر ذاته بوصفه متصلًا، حاضرًا، فعالًا، طَوال سلسلة تجاربه، وعلى ذلك فإن
الوعي الذاتي الترنسندنتالي هو الأساس الأخير لوحدة الذات، وبالتالي لشمول كل
العلاقات الموضوعية وضرورتها.
إن الوعي الترنسندنتالي يتوقَّف على المادة المتلقَّاة من الحواس، ومع ذلك فإن
هذه الانطباعات الكثيرة لا تصبح عالمًا منظَّمًا من الموضوعات والعلاقات المحكَمة
الترابط إلا من خلال عمليات الوعي الترنسندنتالي. وإذن فلمَّا كُنَّا لا نعرف
الانطباعات إلا في سياق صور الذهن القَبْلية، فإنَّا لا نستطيع أن نعرف ماذا تكون
عليه تلك «الأشياء في ذاتها» التي تولِّد هذه الانطباعات … فهذه الأشياء في ذاتها،
التي يفترض أنها موجودة خارج صور الذهن، تظل غير قابلة للمعرفة على الإطلاق.
على أن هِيجِل كان يرى أن هذا العنصر الشكَّاك في فلسفة كَانْت يُسيء إلى
المحاولة التي بذلها لإنقاذ العقل من هجوم التجريبيين … فما دامت الأشياء في ذاتها
بمنأًى عن قدرة العقل، فإن العقل يظل مجرد مبدأ ذاتي لا سلطان له على البناء
الموضوعي للواقع، وهكذا ينقسم العالم قسمين منفصلين، الذاتية والموضوعية، والفَهم
والحِس، والفكر والوجود. ولم يكن هِيجِل ينظر إلى هذا الانفصال على أنه مشكلةٌ
إبستمولوجية أساسًا، فلَكَم أكَّد أن العلاقة بين الذات والموضوع، أعني تضادَّهما؛
تشير إلى صراعٍ عيني في الوجود، وأن حلها، وهو اتحاد الأضداد، مسألةٌ تنتمي إلى
المجال العلمي مثلما تنتمي إلى المجال النظري … وقد وصف فيما بعدُ الصورة التاريخية
لهذا الصراع بأنها اغتراب Entfremdung الذهن،
ويعني بذلك أن عالم الأشياء، الذي هو أصلًا نتاج عمل الإنسان ومعرفته، أصبح
مستقلًّا عن الإنسان، وصارت تحكُمه قوًى وقوانينُ لا يمكن التحكُّم فيها، ولم يعُد
الإنسان يتعرَّف على ذاته من خلالها … وفي الوقت ذاته أصبح الفكر منشقًّا على
الواقع، وأصبَحَت الحقيقة مثلًا أعلى عاجزًا، يحتفظ به الفِكر، على حين يترك العالم
الفعلي بهدوء خارج نطاق تأثيرها. والحق أنه لو لم ينجح الإنسان في إعادة توحيد
الأجزاء المنفصلة لعالمه، وفي إدخال الطبيعة والمجتمع في حظيرة العقل، لظل إلى
الأبد مكتوبًا عليه الإخفاق والإحباط، فمهمة الفلسفة في عصر الانحلال العام هذا هي
إيضاح المبدأ الكفيل باستعادة الوحدة والكلِّية المفقودة.
ويعرض هِيجِل هذا المبدأ في تصوُّر العقل … وقد حاولنا من قبلُ أن نقدِّم لمحةً
عامة عن الجذور الاجتماعية التاريخية والجذور الفلسفية لهذا التصوُّر، على نحوٍ
يربط بين الأفكار التقدُّمية للثورة الفرنسية والتيارات الفلسفية السائدة؛ فالعقل
هو الشكل الحقيقي للواقع، الذي تندمج فيه كل الأضداد بين الذات والموضوع، لكي
تؤلِّف وحدةً وشمولًا أصيلًا، وهكذا فإن فلسفة هِيجِل هي بالضرورة نسَق، يضُم في
داخله كل مجالات الوجود، تحت فكرةٍ شاملةٍ هي فكرة العقل، وفيها يُدرج العالم غير
العضوي فضلًا عن العالم العضوي، والطبيعة فضلًا عن المجتمع، تحت إمرة العقل.
ولقد نظر هِيجِل إلى الطابع المذهبي للفلسفة على أنه نتاجٌ للموقف التاريخي؛ فقد
وصل التاريخ إلى مرحلة أصبَحَت فيها إمكانات تحقيق الحرية البشرية متاحة، غير أن
الحرية تفترض مقدمًا حقيقة العقل؛ إذ لا يمكن أن يكون الإنسان حُرًّا، وأن ينمِّي
كل إمكاناته، إلا إذا أصبح عالمه كله واقعًا تحت سيطرة المعرفة، والإرادة العاقلة
الشاملة. ويفترض المذهب الهِيجِلي مقدمًا حالة يتحقق فيها هذا الإمكان؛ فالتفاؤل
التاريخي الذي يشيع فيه هو الأساس لما سمَّاه هِيجِل بشمول المنطق pan-logism الذي ينظر إلى كل شكلٍ من أشكال الوجود على أنه
شكلٌ للعقل … والانتقال من «المنطق» إلى «فلسفة الطبيعة»، وكذلك الانتقال من هذه
الأخيرة إلى «فلسفة الروح»، يتحقَّق على أساسِ افتراضِ أن قوانينَ الطبيعة تنبثقُ
من التركيب العقلي للوجود، وتؤدي في خطٍّ واحدٍ متصلٍ إلى قوانين الروح … ويبلغ
عالَم العقل بالحرية ما يبلغه عالَم الطبيعة بالضرورة العمياء — أعني تحقيق
الإمكانات الكامنة في قلب الواقع … وحالة الواقع هذه هي التي يُطلِق عليها هِيجِل
اسم «الحقيقة».
إن الحقيقة ليست صفةً تتعلق بالقضايا والأحكام حسب، وهي باختصارٍ ليست طابعًا
للفكر وحده، بل هي أيضًا صفةٌ للواقع في عملية نُمُوه … فالشيء يتصف بالحقيقة إن
كان على ما يمكِن أن يكونَ عليه؛ بحيث يحقِّق كل إمكاناته الموضوعية. وعندئذٍ يكون
الشيء، في لغة هِيجِل، في هُوية مع «مفهومه».
وللمفهوم notion معنًى مزدوج؛ فهو يشمل طبيعة
موضوعٍ ما أو ماهيته، وبذلك يمثِّل التفكير الصحيح عنه … وهو في الوقت ذاته يشير
إلى التحقُّق الفعلي لتلك الطبيعة أو الماهية، وإلى وجودها العيني … وتتسم جميع
التصوُّرات الأساسية في المذهب الهِيجِلي بنفس هذه الدلالة المزدوجة؛ فهي لا تدُل
أبدًا على مجرد تصوُّرات (كما هي الحال في المنطق الصوري)، فهي لا تدل أبدًا على
مجرد تصوُّرات (كما هي الحال في المنطق الصوري)، بل على صور أو أحوال للوجود
يفهَمها الفكر … ولا يفترض هِيجِل هُويةً صوفية بين الفكر والواقع، ولكنه يؤمن بأن
الفكرة الصحيحة تمثِّل الواقع لأن هذا الأخير قد بلغ في نُمُوه المرحلة التي يُوجَد
فيها متمشيًا مع الحقيقة. والحق أن «الشمول المنطقي» عنده يقترب من نقيضه؛ فمن
الممكن القول إنه يستمدُّ صور الفكر ومبادئه من صور الواقع ومبادئه؛ بحيث تكون
القوانين المنطقية ترديدًا للقوانين التي تتحكَّم في حركة الواقع. وهكذا يُثبِت
هِيجِل أن وحدة الأضداد عملية تتمثَّل في حالة كل موجودٍ بعينه؛ فالصور المنطقية
«للحكم» تعبِّر عن حدوث شيء في الواقع. خذ مثلًا الحكم: هذا الرجل عبد. مثل هذا
الحكم يعني، في نظر هِيجِل، أن رجلًا (هو الموضوع) قد استُعبد (المحمول)، ولكن برغم
كونه عبدًا، ما زال إنسانًا، ومِنْ ثَمَّ فهو حرٌّ أساسًا، وهو على نقيض المحنة
التي وقع فيها؛ فالحكم لا يعزو محمولًا إلى موضوعٍ ثابت، بل يدُل على عمليةٍ فعلية
للموضوع يصبِح بها هذا الأخير شيئًا خلاف ذاته … بل إن الموضوع هو ذاتُه نفس عملية
صيرورته محمولًا، ونقيض هذا المحمول … وهذه العملية تجعل الموضوعات الثابتة التي
افترضَها المنطق التقليدي تنحلُّ إلى كثرة من العلاقات المتعارضة … ويبدو الواقع
قوةً ديناميةً تتكشَّف فيها كل الصور الثابتة على أنها تجريداتٌ بحتة … ومِن ثَمَّ
فإنه عندما تنتقل التصوُّرات في منطق هِيجِل من صورة إلى أخرى، فإن هذا يعني في نظر
التفكير السليم أن شكلًا للوجود قد انتقل إلى شكلٍ آخر، وأن كل شكلٍ جزئي لا يمكِن
تحديده إلا عن طريق مجموع العلاقات المتعارضة التي يُوجَد فيها هذا الشكل.
لقد أكَّدنا منذ قليل أن الواقع، في نظر هِيجِل، قد بلغ مرحلة يُوجَد فيها وجود
الحقيقة، وهذه عبارةٌ تحتاج الآن إلى تصحيح … فهِيجِل لا يعني أن كل ما هو موجود
يُوجَد مطابقًا لإمكاناته، بل يعني أن الذهن قد وصل إلى الوعي الذاتي بحريته، وأصبح
قادرًا على تحرير الطبيعة والمجتمع … فتحقيق العقل ليس واقعًا، بل هو مهمَّة
يتعيَّن أداؤها … وتظل الصورة التي تظهَر بها الأشياء مباشرة مخالفةً لصورتها
الحقيقية، فما هو معطًى يكون في البداية سلبيًّا، مغايرًا لإمكاناته الحقيقية … وهو
لا يصبح حقيقيًّا إلا في عملية تجاوُز هذه السلبية؛ بحيث إن ميلاد الحقيقة يقتضي
موتَ حالة الوجود القائمة بالفعل … وهكذا يرتكز تفاؤل هِيجِل على نظرةٍ هدَّامة إلى
الواقع المعطى، وتقوم حركة العقل، التي تمتد حتى تشمل الأشكال جميعًا، بإلغاء هذه
الأشكال وتبديلها حتى تصبح مطابقةً لفكرتها … وهذه الأشكال وتبديلها حتى تصبح
مطابقة لفكرتها … وهذه الحركة هي التي يعكِسها الفكر في عملية التوُّسط Vermittlung فلو سايرنا المضمون الحقيقي
لإدراكاتنا وتصوُّراتنا، لَانْهَار كل تحديدٍ للموضوعات الثابتة، ولذابت هذه في
كثرة من العلاقات تستنفدُ المضمون المتطوِّر لهذه الموضوعات، وتصُبُّ آخر الأمر في
النشاط الشامل للذات.
والواقع أن فلسفة هِيجِل فلسفةٌ سلبية، تمامًا كما وصفَها ردُّ الفعل اللاحق له …
فالدافع الأصلي لهذه الفلسفة هو الاقتناع بأن الوقائع المعطاة التي تبدو للذهن
العادي مظهرًا إيجابيًّا للحقيقة، هي في واقع الأمر سلبٌ للحقيقة؛ بحيث لا يمكن
إقرار الحقيقة إلا بهدمها … وفي هذا الاقتناع النقدي تكمُن القوة الدافعة للمنهج
الجدَلي؛ فالجدَل بأكمله مرتبط بالفكرة القائلة إن هناك سلبيةً أساسية تتغلغل في كل
أشكال الوجود، وإن هذه السلبية تتحكَّم في مضمون هذه الأشكال وحركتها … والجدَل
يمثِّل القوة التي تسير في اتجاهٍ مضادٍّ لكل شكل من أشكال الوضعية (الإيجابية)؛
ذلك لأن المبدأ الذي ظلَّت هذه الفلسفة الأخيرة ترتكز عليه، منذ أيام هيوم حتى
الوضعية المنطقية في عصرنا الحاضر، هو السلطة المطلَقة للواقع، وكانت الطريقة
النهائية للتحقُّق من أي شيءٍ في نظرها هي ملاحظة المعطى المباشر. وقد اتخذَت
الوضعية في أواسط القرنِ التاسعَ عشر، ردًّا منها على الاتجاهات الهدَّامة عند
النزعة العقلانية قبل كل شيء، شكل «فلسفة وضعية إيجابية» شاملة، كان يُراد لها أن
تحلَّ محلَّ الميتافيزيقا التقليدية … وبذل دعاة هذه الوضعية جهودًا هائلةً من أجل
تأكيد الطابع الإيجابي المحافظ لفلسفتهم … فهذه الفلسفة تحُضُّ الفكر على أن يقنَع
بالوقائع، ويتخلى عن أي تجاوُز لها، وعلى أن ينحني أمام الأمر الواقع … أمَّا عند
هِيجِل، فليس للوقائع في ذاتها أية سلطة … بل إنها تُوضَع
gesetzt بواسطة الذات التي تجعل منها توسُّطًا
داخل عملية تطوُّرها الشاملة … والتحقيق يرتكز في نهاية المطاف، على هذه العملية
التي تربط بها كل الوقائع، والتي تتحكَّم في مضمون هذه الوقائع … فكل ما هو معطًى
ينبغي أن يبرَّر أمام العقل، الذي لا يعدو أن يكون المجموع الشامل لقدرات الإنسان
والطبيعة.
ومع ذلك فإن فلسفة هِيجِل، التي تبدأ بسلب المعطَى وتحتفظ بهذه السلبية في جميع
مراحلها، تختتم بإعلان أن التاريخ قد توصَّل إلى حقيقة العقل. وهكذا كانت تصوُّراته
الأساسية لا تزال مرتبطةً بالبناء الاجتماعي للنظام السائد، وفي هذا الصدد أيضًا
يمكن أن يُقال عن المثالية الألمانية إنها حافظَت على تراث الثورة الفرنسية.
على أن «التوفيق بين الفكرة والواقع» الذي نادى به هِيجِل في «فلسفة القانون
(الحق)»، ينطوي على عنصرٍ حاسم يؤدي إلى تجاوز مجرَّد التوفيق … هذا العنصر هو الذي
احتُفظ به واستُخدم في نظرية نفي الفلسفة التي ظهرَت فيما بعدُ؛ فالفلسفة تصل إلى
منتهاها حين تكون قد صاغت نظرتَها المتعلقة بعالمٍ يتحقق فيه العقل، فإذا كان
الواقع في هذه المرحلة يتضمَّن الشروط اللازمة لتجسيد العقل واقعيًّا، فإن في
استطاعة الفكر عندئذٍ أن يكُف عن الاهتمام بالمثَل الأعلى، وعندئذٍ تقتضي الحقيقة
ممارسةً تاريخية عملية من أجل تحقيقها. وإذ تتخلى الفلسفة عن المثَل الأعلى، فإنها
تتخلى معه عن مهمَّتها النقدية وتُوكل هذه المهمة إلى مبحثٍ آخر … وهكذا فإن القمة
التي تبلُغها الفلسفة هي في الوقت ذاته النقطة التي تتخلَّى فيها عن مهمتها، وحين
تتحرَّر الفلسفة من الانشغال بالمثَل الأعلى، فإنها تتحرَّر أيضًا من معارضتها
للواقع، وهذا يعني أنها لا تعود فلسفة. ولكن هذا لا يعني أن الفكر يتحتَّم عليه
حينئذٍ أن يمتثل للنظام القائم. فالتفكير النقدي لا يتوقف، وإنما يتخذ شكلًا
جديدًا، وتُحوَّل جهود العقل إلى ميدان النظرية الاجتماعية والممارسة العملية
الاجتماعية.
•••
لقد مرَّت فلسفة هِيجِل بخمسِ مراحلَ مختلفة في تطوُّرها:
- (١)
المرحلة الواقعة بين عام ١٧٩٠م و١٨٠٠م، وتتميز بمحاولة وضع صيغة
أساسٍ ديني للفلسفة، تتمثَّل في مجموعة الأبحاث التي نُشرَت في هذه
الفترة، وهي كتابات الشباب اللاهوتية Theologische Judendschriften.
- (٢)
شَهدَت الفترة ١٨٠٠-١٨٠١م صياغة وجهة نظر هِيجِل الفلسفية، وظهور
اهتماماته من خلال المناقشة النقدية للمذاهب المعاصرة، ولا سيَّما
مذاهب كَانْت وفشته وشلنج … وأهم كتابات هِيجِل في هذه الفترة هي:
الفارق بين مذهبَي فشته وشلنج في الفلسفة والعقيدة والمعرفة.
Differenz des Fichteschen und
Schellingschen Systems der Philosophie, Glauben und
Wissen.
ومقالاتٌ أخرى في المجلة النقدية للفلسفة Kritische
Journal der Phil.
- (٣)
ظهر في السنوات من ١٨٠١م إلى ١٨٠٦م مذهب «يينا». وهو أول شكل من
أشكال مذهب هِيجِل الكامل … وأهم كتابات هذه الفترة «منطق وميتافيزيقا
يينا Jenenser Logik und Metaphysik
وفلسفة الواقع في فترة يينا Jenenser
Realphilosophie ومذهب الأخلاق
System der Sittlichkeit».
- (٤)
في عام ١٨٠٧م نشر كتاب ظاهريَّات الروح.
Phenomenology of
Mind.
- (٥)
والفترة الأخيرة هي فترة المذهب النهائي، الذي عرض هِيجِل خطوطه
العامة منذ ١٨٠٨–١٨١١م في المدخل إلى
الفلسفة Philosophische Propädeutik ولكنه لم يكتمل إلا في عام ١٨١٧م. وإلى هذه
الفترة تنتمي الأعمال التي تؤلِّف أهم كتابات هِيجِل: «علم المنطق»
(١٨١٢–١٨١٦م) و«دائرة معارف العلوم الفلسفية» (١٨١٧م، ١٨٢٧م، ١٨٣٠م)،
و«فلسفة القانون (الحق)» (١٨٢١م) ومختلف محاضرات برلين في فلسفة
التاريخ، وتاريخ الفلسفة، وعلم الجمال، والدِّين.
وقد صاحبَت الفترة التي صاغ فيها هِيجِل مذهبه الفلسفي سلسلة من الشذرات الفلسفية
التي كانت تُحاوِل تطبيق أفكاره الفلسفية على مواقفَ تاريخية عينية. وقد بدأَت
عملية تطبيق النتائج الفلسفية هذه على سياق الواقع الاجتماعي والسياسي في عام ١٧٩٨م
بدراساته التاريخية والسياسية، ثم أعقبها كتابه «دستور ألمانيا Die Verfassung Deutschlands» في ١٨٠٢م،
واستمرَّت حتى عام ١٨٣١م، حين كتَب دراستَه عن مشروع قانون الإصلاح الانتخابي في
إنجلترا. وحين يربط المرء بين فلسفة هِيجِل وبين التطوُّرات التاريخية في عصره،
فعندئذٍ تصبح كتاباته السياسية جزءًا من أعماله المذهبية، ويتعين بحث الاثنَين
معًا؛ بحيث تفسَّر تصوُّراته الأساسية تفسيرًا تاريخيًّا وسياسيًّا، فضلًا عن
تفسيرها فلسفيًّا.