مقدمة
كان الانتقال من الفلسفة إلى مجال الدولة والمجتمع جزءًا لا يتجزأ من مذهب هِيجِل؛ فأفكاره الأساسية قد تحقَّقَت في الشكل التاريخي المحدَّد الذي اتخذَته الدولة والمجتمع، وأصبح هذا الأخيران محورًا لاهتمامٍ نظريٍّ جديد. وعلى هذا النحو تحوَّلَت الفلسفة إلى نظريةٍ اجتماعية. ولكي نفهم تأثير فلسفة هِيجِل في النظرية الاجتماعية التالية، ينبغي علينا أن نحيد عن طريقة التفسير المألوفة.
مثل هذا الوصف، وإن يكن دقيقًا من الوجهة الشكلية، هو وصفٌ مُفرِط في التبسيط والتلخيص، وهو يمحو فروقًا هامَّةً معيَّنة. مثال ذلك أن الميراث التاريخي لفلسفة هِيجِل لم ينتقل إلى «الهِيجِليين» (لا اليمينيين منهم ولا اليساريين) — ولم يكن هؤلاء هم الذين حافظوا على حيوية المضمون الحقيقي لهذه الفلسفة، بل إن النظرية الاجتماعية الماركسية كانت هي التي تبنَّت الاتجاهات النقدية للفلسفة الهِيجِلية وواصلَتها، على حين أن تاريخ الهِيجِلية في كل النواحي الأخرى، أصبح تاريخَ صراعٍ ضد هِيجِل، استُخدم فيها هِيجِل رمزًا لكل ما كانت تُعارِضه الجهود الجديدة في الميدان العقلي (وفي الميدان السياسي العملي إلى حدٍّ بعيد).
لقد ختم مذهب هِيجِل عصرًا كاملًا في تاريخ الفلسفة الحديثة، هو العصر الذي بدأ بديكارت وتجسَّدَت فيه الأفكار الأساسية للمجتمع الحديث. ولقد كان هِيجِل آخر مَن فسَّر العالَم على أنه عقل، وأخضع الطبيعةَ والتاريخَ معًا لمعايير الفكر والحرية. وقد اعترف في الوقت ذاته بالنظام الاجتماعي والسياسي الذي توصَّل إليه الناس بالفعل، بوصفه الأساس الذي كان يتعيَّن تحقيق العقل عليه. وأدَّى مذهبه إلى وضع الفلسفة على حافة الطريق المؤدي إلى سلبها أو إنكارها؛ ومِن ثَمَّ فقد كان هو حلقة الوصل الوحيدة بين الشكل القديم والجديد للنظرية النقدية، بين الفلسفة والنظرية الاجتماعية.
وقبل أن نُحاوِل بيان الكيفية التي أصبح بها الانتقال إلى النظرية النقدية للمجتمع ضروريًّا بفعل الحتمية الداخلية للفلسفة الغربية، ينبغي أن نوضِّح الطريقة التي تغَلغلَت بها الجهود التاريخية المميزة للعصر الحديث في الفكر الفلسفي وعملَت على تشكيله؛ ففي هذه الفترة التاريخية لجأَت القُوى الاجتماعية السائدة إلى استخدام الفلسفة في صورتها العقلانية أساسًا؛ ومن هنا كانت فكرة العقل تصلُح لكي تكون، مرةً أخرى، نقطةً للبدء في مناقشتنا.
ليست فكرة العقل مضادَّة للدين بالضرورة؛ فالعقل يقبَل إمكان أن يكون العالَم من خلق الله، وأن يكون نظامه إلهيًّا غائيًّا، ولكن هذا لا ينبغي أن يؤدي إلى استبعاد حق الإنسان في تشكيل العالم وفقًا لحاجته ومعرفته. ولقد كان معنى العالم بوصفه معقولًا ينطوي أوَّلًا: على إمكان فهمه وتغييره بواسطة سلوك الإنسان المعرفي. وكان ينظر إلى الطبيعة على أنها عاقلة في بنائها ذاته؛ بحيث تتلاقى الذات والموضوع في وسيط العقل.
وثانيًا: فإن العقل الإنساني، كما أوضح هؤلاء المفكِّرون، ليس مقيدًا على نحوٍ نهائي قاطع بنظامٍ مقدَّر مقدمًا، سواء كان هذا النظام اجتماعيًّا أم غير ذلك؛ فالمواهب الكثيرة التي يملكها الإنسان تظهر كلها في التاريخ وتنمو فيه، ويستطيع الإنسان استخدامها على أنحاءٍ شتى لكي يشبع رغباته على أفضل نحوٍ ممكن. ويتوقف الإشباع ذاته على مدى سيطرته على الطبيعة والمجتمع. ولقد كان معيار العقل نهائيًّا في هذا النطاق الواسع للسيطرة. ومعنى ذلك وجوب تنظيم الطبيعة والمجتمع معًا بحيث تتكشَّف المواهب الذاتية والموضوعية الموجودة بحُريَّة. وكان ينظر إلى سوء التنظيم في المجتمع على أنه مسئول، إلى حدٍّ بعيد، عن الأشكال الضارة المجحِفة التي اتخذَتها النُّظم. وكان الرأي السائد هو أن التقدُّم نحو نظامٍ اجتماعي معقول كفيلٌ بأن يجعل هذه النُّظم تفقد طابعها الضار؛ فبالتعليم يصبح الإنسان كائنًا عاقلًا في عالمٍ عاقل. وعند انتهاء العملية تصبح قوانين حياته الفردية والاجتماعية مستمَدةً كلها من حكمة المستقبل. وهكذا فإن تحقيق العقل يعني وضع حدٍّ لكل سلطةٍ خارجية أدت إلى خلق تعارضٍ بين وجود الإنسان وبين معايير الفكر الحر.
ورابعًا: يقوم الفكر بتوحيد الكثرة الموجودة في العالم الاجتماعي التاريخي، لا في العالم الطبيعي فحسب؛ فموضوع الفكر، ومصدر الكلية التصورية، واحد في الناس جميعًا. صحيح أن المضمونات المحددة للتصوُّرات الكلية ومعانيها قد تتباين، ولكن الأنا المفكِّر الذي هو مصدرها هو مجموعٌ كلي من الأفعال الخالصة، المتجانسة في كل الذوات المفكِّرة. وإذن فالقول بأن معقولية الذات المفكِّرة هي الأساس النهائي للتنظيم العاقل للمجتمع هو، في نهاية المطاف، اعترافٌ بالمساواة الأساسية بين الناس جميعًا. وفضلًا عن ذلك فإن الذات المفكِّرة، بوصفها خالقة التصوُّرات الكلية، حرةٌ بالضرورة، وحريتها هي ماهية الذاتية نفسها. وعلامة هذه الحرية الأساسية هي أن الذات المفكِّرة ليست مقيَّدة بأشكال الوجود المعطاة مباشرةً، بل هي قادرةٌ على تجاوزها وتغييرها وَفقًا لتصوُّراتها. وتنطوي حرية الذات المفكِّرة، بدورها، على حريتها الأخلاقية والعملية؛ ذلك لأن الحقيقة التي تسعى إليها ليست موضوعًا للتأمل السلبي، بل هي إمكانٌ موضوعي يطالب بتحقُّقه؛ ففكرة العقل تنطوي على حرية السلوك وَفقًا للعقل.
وخامسًا: نظر إلى هذه الحرية في السلوك وَفقًا للعقل على أنها تُمارَس في أبحاث العلم الطبيعي؛ فالسيطرة على الطبيعة وعلى مواردها وأبعادها المكتشَفة أخيرًا كانت شرطًا لعملية الإنتاج الجديدة التي تسعى إلى تحويل العالم إلى سوقٍ هائلةٍ للسلع. وأصبَحَت فكرة العقل خاضعة لسيطرة التقدُّم التكنولوجي، ونظر إلى المنهج التجريبي على أنه أنموذجُ النشاط العقلي؛ أي إنه إجراء يغيِّر العالم بحيث تصبح قواه الكامنة حرة ومتحقِّقة بالفعل. وترتَّب على ذلك أن أصبَحَت العقلانية الحديثة تتسم باتجاه إلى تشكيل الحياة الفردية، فضلًا عن الاجتماعية، على نمط الطبيعة. ويظهر ذلك مثلًا في فلسفة ديكارت ذات الاتجاه الآلي، وتفكير هبز السياسي المادي، وعلم الأخلاق الرياضي عند اسبينوزا، ومذهب الذرات الروحية عند ليبنتس؛ ففي كل هذه الحالات عُرض العالم على أنه محكوم بقوانينَ موضوعية، مشابهة لقوانين الطبيعة، بل في هُوية معها، وصوِّر المجتمع على أنه كيانٌ موضوعي لا يخضع للرغبات والأهداف الذاتية. وكان الناس يعتقدون أن علاقاتهم بعضهم ببعض تنتُج عن قوانينَ موضوعية تمارس عملها بنفس ضرورة القوانين الفيزيائية، وبأن حريتهم تنحصر في المواءمة بين وجودهم الخاص وبين هذه الضرورة. وهكذا كانت هناك نزعة شكٍّ واضحة، سارية على الجميع، اقترنَت بنُمو العقلانية الحديثة؛ فكلما كان العقل ينتصر في ميدان التكنولوجيا والعلم الطبيعي، كان يزداد بعدًا عن المناداة بالحرية في حياة الإنسان الاجتماعية. ونتيجةً لتأثير هذه العمليات، أخذَت العناصر النقدية والمثالية تختفي بالتدريج، والتمسَت لنفسها ملجأً في المذاهب التي تدعو إلى التجديف وإلى التزام جانب المعارضة (كالمادِّية الإلحادية خلال عصر التنوير الفرنسي مثلًا). وقد عمل الفلاسفة الذين يمثِّلون الطبقة الوسطى خير تمثيل (ولا سيَّما ليبنتس وكانْت وفشته) على التوفيق بين عقلانيتهم الفلسفية وبين اللاعقلية الصارخة التي تتسم بها العلاقات الاجتماعية السائدة، وقلَبوا معنى العقل الإنساني والحرية الإنسانية بحيث أصبحَا ملاذًا للروح المنعزلة، وظواهر داخلية تتمشَّى تمامًا مع الوقائع الخارجية، حتى لو كانت هذه الوقائع مناقضةً للعقل والحرية.
ولقد أوضحنا من قبلُ الدوافع التي حدَت بهِيجِل إلى الخروج عن الاتجاه إلى الانطواء الداخلي، والمناداة بتحقيق العقل في النُّظُم الاجتماعية والسياسية الموجودة ومن خلالها. وأكَّدنا دور الجدَل في العملية التي ربطَت الفلسفة بالواقع الاجتماعي؛ فقد أدَّى ذلك الجدَل إلى تفكيك العالم المتوافق، عالم الموضوعات الثابتة الذي يفترضه الإنسان في موقفه الطبيعي، وإلى الاعتراف بأن الحقيقة التي كانت الفلسفة تبحث عنها هي مجموع من المتناقضات الشاملة. وأصبحَت التصوُّرات الفلسفية الآن تعكس الحرية الفعلية للواقع. ولكن لما كانت هذه التصوُّرات ذاتها قد صيغَت على نمط المضمون الاجتماعي لهذا الواقع، فإنها كانت تتوقف حيث يتوقف ذلك المضمون؛ أي في الدولة التي تحكُم المجتمع المدني، على حين أن الأفكار والقِيَم التي كانت تشير إلى ما وراء هذا النظام الاجتماعي قد أُبعدَت إلى عالم الروح المطلَقة، في مذهب الفلسفة الجدَلية.
على أن المنهج الذي كان مطَبقًا في هذا المذهب قد سار شوطًا أبعد من الشوط الذي بلغَته التصوُّرات التي أكملَته؛ فعن طريق الجدَل، جعل التاريخ جزءًا من مضمون العقل ذاته. وقد برهن هِيجِل على أن القُوى المادية والعقلية للبشرية قد بلغَت من النمو حدًّا يكفي لمطالبة النُّظم العملية الاجتماعية والسياسية بتحقيق العقل. وهكذا فإن الفلسفة ذاتها قد طُبقَت مباشرة على النظرية الاجتماعية والعمل الاجتماعي، لا على أساس أن هذَين الأخيرَين قوةٌ خارجية معيَّنة، بل على أساس أنهما وريثاها الشرعيان؛ فإذا ما أُريد حدوث أي تقدُّم يتجاوز هذه الفلسفة، فلا بد أن يكون ذلك تقدمًا يتجاوز الفلسفة ذاتها، ويتجاوز في الوقت ذاته النظام الاجتماعي والسياسي الذي ربطَت الفلسفة مصيرَها به.
هذا هو الارتباط الباطن الذي يدفعنا إلى التخلي عن الترتيب الزمني ومناقشة أسس النظرية الماركسية قبل معالجة علمَي الاجتماع الفرنسي والألماني الأسبق عهدًا؛ ذلك لأن تأثير الفلسفة الهِيجِلية في النظرية الاجتماعية، والوظيفة الخاصة للنظرية الاجتماعية الحديثة، هذان الأمران لا يُمكِن فهمُهما إلا من خلال الصورة التي تتكشَّف كاملة لفلسفة هِيجِل واتجاهاتها النقدية كما ورثَتها النظرية الماركسية.