(١) المثالية الجديدة في إنجلترا
احتفظَت فلسفة هِيجِل بالأفكار التقدمية في النزعة العقلانية الغربية، واستخلصَت
مصيرها التاريخي. وحاولَت أن تلقي ضوءًا على حق العقل، وقوَّته، وسط المتناقضات
المتزايدة للمجتمع الحديث. وكان في هذه الفلسفة عنصر خطر — أعني خطرًا على النظام
القائم، ينبع من استخدامها معيار العقل في تحليل شكل الدولة؛ فهِيجِل لم يؤيد
الدولة إلا بقَدْر ما كانت عقلية؛ أي بقدْر ما حافظَت على الحرية الفردية والقدرات
الاجتماعية للناس، وعملَت على إنهاضها.
ولقد ربط هِيجِل تحقيق العقل بنظامٍ تاريخي محدَّد، هو الدولة القومية ذات
السيادة، التي ظهرَت على القارة الأوروبية بعد تصفية الثورة الفرنسية. وهو إذ فعل
ذلك، قد أخضع فلسفته لاختيارٍ تاريخي حاسم؛ ذلك لأن أي تغيُّر أساسي قد يطرأ على
هذا النظام، سيؤدي بالضرورة إلى تغيير العلاقة بين أفكار هِيجِل وبين الأشكال
الاجتماعية والسياسية القائمة. وهذا يعني مثلًا أنه عندما يتطور المجتمع المدني إلى
أشكال في التنظيم تنكر الحقوق الأساسية للفرد، وتُلغي الدولة العقلانية، فإن
الفلسفة الهِيجِلية ينبغي أن تصطدم بهذه الدولة الجديدة وتتعارض معها. كذلك فإن
الدولة، من جانبها، سترفض فلسفة هِيجِل.
وهناك معيارٌ نهائي لمثل هذا الاستنتاج، يتمثل في موقف الفاشية والاشتراكية
الوطنية من هِيجِل؛ ففلسفتا الدولة هاتان تمثِّلان إلغاء المعيار العقلي والحرية
الفردية اللذَين يتوقف عليهما تمجيد هِيجِل للدولة. ولا يمكن أن تكون هناك أرضٌ
مشتركة بينهما وبين هِيجِل. ومع ذلك فقد انتشر، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى،
عندما بدأ النظام الليبرالي يتخذ شكل النظام التسلطي، رأيٌ شائع يلوم الهِيجِلية
على أساس أنها هي التي مهَّدَت الطريق من الوجهة الأيديولوجية للنظام الجديد،
فلنتأمل المثال الآتي، الذي نقتبسه من إهداء كتاب هبهاوس
L. T. Hobhouse الهام: النظرية الميتافيزيقية في
الدولة
The Metaphysical Theory of the State.
١
«لقد شاهدتُ لتوِّي، في الغارة الجوية على لندن، النتيجة الملموسة
المحسوسة لمذهبٍ باطلٍ شرِّير، تُوجَد أسسه، على ما أعتقد، في هذا الكتاب
الموجود أمامي (ظاهريات الروح لهِيجِل) … فبهذا العمل بدأَت أعمق وأذكى
المؤثِّرات العقلية التي قضت على تأثير النزعة الإنسانية العقلانية في
القرنَين الثامنَ عشر والتاسعَ عشر. وفي نظرية الدولة المؤلهة عند هِيجِل
يُوجَد كل ما رأيتُه أمامي، بصورةٍ كامنة.»
وسوف نلاحظ فيما بعدُ حقيقةً غريبة، هي أن المدافعين الرسميين عن دولة
الاشتراكية الوطنية (النازية)، قد رفضوا هِيجِل لهذا السبب ذاته، أعني
«نزعته الإنسانية العقلانية.»
على أنه، لكي نقرِّر على نحوٍ أدق مَن هو الذي على صواب في هذا الخلاف، ينبغي أن
نقدِّم صورةً عامة لدور الهِيجِلية في الفترة المتأخرة من المجتمع الليبرالي؛ ففي
ألمانيا ظلت الفلسفة الاجتماعية والسياسية الممثلة للنصف الأخير من القرنِ التاسعَ
عشر مضادةً للهِيجِلية، أو على أحسن الفروض غير مكترثة بهِيجِل. ومع ذلك فقد حدثَت
— إلى جانب استخدام الفلسفة الهِيجِلية في النظرية الماركسية — حركتا إحياء عظيمتان
للهِيجِلية؛ إحداهما في إنجلترا والأخرى في إيطاليا. أمَّا الحركة الإنجليزية فكانت
لا تزال مرتبطة بمبادئ الليبرالية وفلسفتها؛ ولهذا السبب ذاته كانت أقرب كثيرًا إلى
روح هِيجِل من الحركة الإيطالية؛ إذ إن هذه الحركة الأخيرة كانت تزداد اقترابًا من
تيار الفاشية الذي كان يقترب رويدًا رويدًا؛ ومِن ثَمَّ فقد أصبحَت، على نحوٍ
متزايد، صورةً مشوَّهة لفلسفة هِيجِل، ولا سيَّما في حالة جنتيلي
(G. Gentile).
وإنه ليبدو للوهلة الأولى أن اتجاهات الهِيجِلية الإنجليزية والإيطالية تؤيد
تفسير هبهاوس؛ ذلك لأن الفلسفة السياسية للمثاليين الإنجليز قد أخذَت عن هِيجِل
أفكاره المضادة لليبرالية في كتاب «فلسفة الحق (القانون)». ومنذ ت. ﻫ. جرين، حتى
برنارد بوزانكيت، كان القَدْر الأعظم من الاهتمام ينصَبُّ إلى حدٍّ متزايد على
المبدأ المستقل للدولة، وعلى أولوية الكُلي الشامل. أمَّا المصالح الاجتماعية
للأفراد الأحرار، التي كان التراث الليبرالي يعتمد عليها في بنائه للدولة، فلم تلقَ
إلا التجاهل؛ فالدولة عند جرين مبنية على «مبدأ مثالي خاص بها»، والصالح العام الذي
تجسِّده الدولة وتصونه، لا يمكن أن ينتُج عن التفاعل الحر للمصالح الفردية. وليس
ثمَّة حقوقٌ فرديةٌ منفصلة عن الحق الكلي الذي تمثِّله الدولة. «إن التساؤل عن
السبب الذي يدفعني إلى الامتثال لسلطة الدولة، هو تساؤل عن السبب الذي يجعلني أدع
حياتي تُنظَّم بتلك المجموعة من النُّظم التي يستحيل بدونها أن تكون لي حياة
أسميِّها حياتي الخاصة بي، ويستحيل أن أتمكَّن من طلب تبرير لما يُطلب إليَّ عمله.»
٢
ويزداد جرين اقترابًا من الدوافع الباطنة لفلسفة هِيجِل عندما يحاول فهم هذا
الكلي على أنه قوةٌ تاريخية تمارس عملها من خلال أفعال الناس وانفعالاتهم؛ ففي
الدولة نجد أن أفعال الناس «الذين نعُدُّهم أشرارًا في ذاتهم، تُعَد بمقياسٍ أعلى
أفعالًا صالحةً»، وتصبح معتمدة، لا على الانفعال أو الدافع الفردي، بل «بقدْرٍ ما»
على «صراع البشرية من أجل الكمال».
٣ وهكذا فإن اتجاه جرين إلى تجسيد الكلي وتثبيته في مقابل الفردي، يعوضه
ولاؤه للاتجاهات التقدمية في المذهب العقلاني الغربي؛ فهو يؤكِّد في كل موضعٍ من
كتابه ضرورة إخضاع الدولة لمعاييرَ عقلية تتضمَّن المبدأ القائل إن خير وسيلة لخدمة
الصالح العام هي تحقيق مصلحة الأفراد الأحرار. وهو يمنَح الناس حقَّ الاعتراض على
القوانين التي تخالف مطلبهم المشروع في التحكُّم في إرادتهم الخاصة، ولكنه يطالب
بضرورة أن تكون كل المطالبات ضد النظام القائم «مبنية على الرجوع إلى خيرٍ
اجتماعيٍّ معترف به.»
٤
والواقع أن فلسفة جرين السياسية يمكن، بمعنًى معيَّن، أن تُوصف بأنها ليبراليةٌ
متطرِّفة، بعيدة كل البعد عن أن تكون دفاعًا عن النزعة التسلطية أو تبريرًا لها.
«إن المبدأ العام القائل إن المواطن ينبغي ألا يسلك إلا بوصفه مواطنًا، لا يحمل معه
التزامًا منه بأن يمتثل لقانون دولته في كل الظروف؛ إذ إن هذه القوانين قد تكون
منافية للغاية الحقة للدولة بوصفها حافظة العلاقات الاجتماعية وباعثة الانسجام بينها.»
٥ وهكذا فإن جرين يعطي كل فرد (من حيث هو مواطن) حرية تأكيد «حق غير
مشروع» بشرط أن «تسهم ممارسته في تحقيق خير اجتماعي يستطيع الضمير العام أن يقدِّره.»
٦ وهو لا يشك في وجود ما يسميه «بالضمير العام»، الذي يقبل الإقناع
العقلي على الدوام، ويكون دائمًا على استعدادٍ لأن يسمح للحقيقة بالتقدم.
٧
وليس الميدان المادي الذي يتعين تحقيق الخير العام فيه هو: «الدولة بما هي كذلك»،
بل هو «هذه الدولة أو تلك»، التي قد لا تحقق غاية الدولة الحقيقية؛ ومِن ثَمَّ
يتعيَّن «التخلص منها والاستعاضة عنها بدولة أخرى»؛ ومن هنا فليس ثمَّة مبرِّر
للقول إن للدولة الحقَّ في أن تفعل «أي شيء يبدو أن مصالحها تقتضيه».
٨ وهكذا يرى جرين، على العكس من هِيجِل، أن الحرب، حتى الحرب العادلة،
شرٌّ يُرتكَب ضد حق الفرد في الحياة والحرية.
٩ كذلك فإن جرين، على العكس من هِيجِل في فكرته الأساسية عن السيادة
العليا للدولة القومية، يتطلع إلى تنظيمٍ رفيع للبشرية، يستطيع، عن طريق توسيع نطاق
المجال الحر للفرد، والتوسُّع في التجارة الحرة، أن يجعل «دوافع الصراع الدولي
وأسبابه تتجه إلى الاختفاء».
١٠
ولقد ذهب البعض إلى أن تطوُّر المثالية الإنجليزية من جرين إلى بوزانكيت كان
تطورًا تم فيه التخلص ببطء عن الأفكار العقلانية والليبرالية التي كانت تتميز بها
العهود الأسبق.
١١ ونستطيع أن نضيف إلى هذا الرأي ملاحظةً أخرى هي أن هذه المثالية كلما
ازدادت اصطباغًا بالصبغة الهِيجِلية في ألفاظها المستخدمة، ازدادت ابتعادًا عن
الروح الحقيقية لتفكير هِيجِل؛ فعلى الرغم من التصوُّرات الهِيجِلية التي
استخدمَتْها ميتافيزيقا برادلي، تظهر في أعماقها الباطنة بوضوحٍ نزعة لا عقلية
غريبة تمامًا عن هِيجِل. كذلك فإن كتاب «النظرية الفلسفية في
الدولة
Philosophical Theory of the State» (١٨٩٩م) لبوزانكيت، ينطوي على سمات تجعل الفرد ضحيةً
للكلية المتجسِّدة التي تمثلها الدولة، وهي السمات المميزة للأيديولوجية الفاشية
اللاحقة؛ إذ «لا يعود الفرد العادي مقبولًا بوصفه الذات الحقيقية أو الشخصية، وإنما
يطرح مركز الثقل خارجه».
١٢ ومعنى لفظ «خارجه» عند بوزانكيت هو «خارج مصلحته واهتمامه الخاص»؛ أي
خارج مجال حاجته ورغبته المباشرة.
وقد ظهر في حركة إحياء المثالية هذه، منذ البداية، اتجاهٌ واضح مضاد للمادية،
١٣ وهي صفة تشترك فيها مع الاتجاهات المقترنة بالانتقال من النزعة
الليبرالية إلى النزعة التسلطية؛ فالأيديولوجية المقترنة بهذه الحركة قد أعدَّت
الفرد لقدْرٍ أعظم من العمل وقدْرٍ أقل من المتعة، وهو نفس شعار الاقتصاد في
المذاهب التسلطية. وأصبح من الضروري أن يتنازل الفرد عن إشباع حاجاته في سبيل أداء
واجباته نحو الكل. وتبين أن الواجبات، كلما ظهرَت، ازدادت تباعدًا عن أي معيارٍ
عقلي، وكلما أصبح هذا الوضع أوضح ظهورًا، ازداد تأكيد المبدأ القائل إن علاقة الفرد
بالكل علاقة بين كيانَين «مثاليَّين» يتجاوزان وجوده التجريبي. «إننا نرى أن هناك
معنًى للاقتراح القائل إن ذاتنا أو فرديتنا الحقة قد تكون شيئًا لا نكونه نحن
أنفسنا بمعنًى ما. وإن كُنَّا ندرك أنه آمرٌ لنا.»
١٤ والحرية بالنسبة إلى الفرد لا يمكِن أن تتحقَّق إلا عن طريق إطاعة هذا
«الأمر»؛ فهي موكولة إلى الدولة التي تحمي «ذاتها» الحقة، وتُعد بهذا الوصف «أداة
لتحقيق أقوى تأكيد لذاتنا».
١٥
على أن التقابل بين الذات الحقة والذات التجريبية يحمل معنًى مزدوجًا؛ فهو قد
يشير إلى ثنائية لها دلالتها، هي ثنائية المصاعب الفعلية التي يلاقيها الناس في
واقعهم التجريبي، في مقابل الذات «الحقة» التي تطالب بتحقيق حاجاتها وتخليصها من
مصاعبها. ولكن هذه الفكرة ذاتها قد تعني إنقاصًا من قدْر الحياة التجريبية في سبيل
حياةٍ «مثالية» على نحوٍ مطلَق تحياها الدولة. والواقع أن فلسفة بوزانكيت السياسية
تسير من أحد هذَين القطبَين إلى الآخر؛ فهو يأخذ بمبدأ روسو الثوري الذي ينص على
التعليم الإجباري استهدافًا لتحقيق الحرية، ولكن الحرية، في خلال المناقشة، تضيع
أمام الوسائل القهرية المستخدمة من أجل تحقيقها؛ ففي رأيه أن «القوة، والآلية،
والإيحاء» هي الشروط الضرورية لتقدُّم العقل. «ولا بد، في السعي إلى تحقيق أفضل
حياة، من استخدام هذه الوسائل بواسطة المجتمع كما يمارس سلطته المطلَقة؛ أي بواسطة الدولة.»
١٦ إن «تحقيق أفضل حياة، هو الغاية التي تستهدفها الدولة والمجتمع، ولكن
هذه الغاية يطغى عليها عنصر القوة المستخدم في بلوغها، إلى حد يتعين معه تعريف
الدولة بأنها «وحدة يُعترف لها بالحق في ممارسة السيطرة على أفرادها عن طريق القوة
المادية المطلَقة»، أو «يُعترف بها على أنها وحدة تمارس القوة بطريقة مشروعة».
١٧ ويردُّ هبهاوس على هذا التعريف بأنه يمكن أن يلائم خطة أي حكمٍ تسلطي مطلَق.
١٨
ومن الممكن أن نتساءل الآن: إلى أي مدًى تؤلف النظرية السياسية لهؤلاء المثاليين
الجدد في إنجلترا امتدادًا حقيقيًّا للفلسفة الهِيجِلية؟ من المؤكد أنهم احتفظوا
بعنصرٍ أصيل من عناصر المثالية الألمانية، ألا وهو أن الحرية الحقيقية لا يمكن
بلوغها عن طريق الحالة الذهنية والعمل اليومي لأفرادٍ منعزلين غارقين في دوامة
المنافسة في المجتمع الحديث، بل إن الحرية حالة ينبغي البحث عنها فيما وراء ذلك، في
الدولة؛ فالدولة وحدها هي التي تحقِّق الإرادات الحقيقية، والذوات الحقيقية،
للأفراد. وقد اعتقد هِيجِل أن النوع الخاص من الدولة، الذي يمكنه تحقيق هذه الغاية،
هو تلك الدولة التي احتفظَت بالإنجازات الحاسمة للثورة الفرنسية وأدمجتها في كلٍّ
معقول.
وعندما صاغ المثاليون الإنجليز نظريتهم السياسية، كان من الواضح — على الأقل — أن
الشكل التاريخي للدولة، الذي ظهر على المسرح، لم يكن على الإطلاق «تحقيقًا للحرية
والعقل».
والواقع أن الميزة الكبرى لكتاب هبهاوس تكمن في كشفه للتعارض بين فكرة هِيجِل
وبين الأساس المادي للدولة الموجودة. وهو يشير إلى أن فلسفة بوزانكيت تسلم الفرد
لقبضة المجتمع بما هو كذلك، أو «للدولة» بوجهٍ عام، على حين أن الفرد يتعين عليه في
الواقع أن يقضي حياته في شكلٍ تاريخي معيَّن من أشكال المجتمع والدولة؛ ولهذه
«المغالطة المركزية» أهميةٌ قصوى؛ إذ إنها تنطوي على الخلط بين علاقات القوة
العابرة وبين الالتزامات الخلقية؛
١٩ فالدولة والمجتمع، على النحو الذي هما عليه، لا يمكن أن يدَّعيا
لنفسَيهما شرف تجسيد العقل: «عندما نفكر في المتناقضات الحالية للأخلاق الاجتماعية
التقليدية، وفي تخبط القانون وفجاجته، وفي عناصر الأنانية الطبقية والظلم التي
اصطبغ بها … نجد أنفسنا ميَّالين إلى القول بأن من يستطيع أن يعامل هذه الفكرة
بقَدْر ما تستحق ليس فيلسوفًا فحسب، بل ينبغي أن يكون ساخرًا اجتماعيًّا.»
٢٠ أمَّا أولئك الذين يتمسكون على نحوٍ مجرد بفلسفة هِيجِل، فإن هبهاوس
يردُّ عليهم بقوله إن نفس حقيقة المجتمع الطبقي، والتأثير الواضح للمصالح الطبقية
في الدولة، يجعل من المستحيل وصف الدولة بأنها معبِّرة عن الإرادة الحقيقية للأفراد
ككل؛ «فكلما كان هناك مجتمعٌ محكوم بطبقةٍ واحدة أو عنصرٍ واحد، كانت الطبقة الأخرى
أو العنصر الآخر على الدوام في موقف المضطر إلى أن يأخذ ما يستطيع الحصول عليه.
أمَّا القول بأن نُظم مثل هذا المجتمع تعبِّر عن الإرادة الخاصة للطبقة الخاضعة،
فهو قولٌ يزيد الطين بِلَّة.»
٢١ وينادي هبهاوس بالاهتمام بالمصلحة الحقيقية للفرد، بدلًا من الاهتمام
بالكلي، وبالعدد اللانهائي من الحيوات الإنسانية التي ضاعت نهائيًّا، بدلًا من
الروح العالمية
Weltgeist. «إذا لم يكن من
الممكن جعل العالم أفضل إلى حدٍّ لا يُقارَن مما كان حتى الآن، فعندئذٍ لا تكون
للصراع نتيجة، ويحسُن بنا عندئذٍ دعم نظرية الدولة المقاتلة وتسليحها بقَدْرٍ من
المتفجرات الشديدة يكفي لوضع حد للحياة.»
٢٢
والحق أن تأكيد مطلب الإنسان في السعادة الشاملة، التي هي دائمًا سعادة كل إنسان،
وهو التأكيد الذي يصادفه المرء كثيرًا على صفحات كتاب هبهاوس، يجعل من هذا الكتاب
واحدًا من الوثائق الكبرى للفلسفة الليبرالية.
«إن سعادة المجتمع وشقاءه هي سعادة الناس وشقاؤهم، وقد عمَّقَها أو زاد
من شدتها إحساسه بالامتلاك العام؛ فإرادته هي إرادتهم في حصيلتها المشتركة.
وضميره تعبير عما هو رفيع أو وضيع فيهم بعد أن يُوضَع الطرفان في كفَّتَي
ميزان. وإذا جاز لنا أن نحكُم على كل إنسانٍ بالدَّور الذي يُسهِم به في
الجماعة، فإن لنا الحقَّ بالمثل في أن نسأل هذه الجماعة عما تفعله من أجل
ذلك الإنسان. ولن يتحقق أكبر قَدْر من السعادة لدى أكبر عدد، أو أي عددٍ
كبير، إلا إذا كان ذلك في صورة يمكن أن يشارك فيها الجميع، وتكون هذه
المشاركة بالفعل عنصرًا أساسيًّا لكلٍّ منهم، ولكن ليس ثمَّة سعادة على
الإطلاق إلا تلك التي يشعر بها أفراد الرجال والنساء، وليس ثمَّة ذاتٌ
مشتركة تندمج فيها نفوس الناس. وهناك مجتمعاتٌ يمكن أن تنمو فيها شخصياتهم
المميزة المنفصلة بتوافق، وتسهم في تحقيق إنجاز جماعي.»
٢٣
وبالطبع فإن هبهاوس على حق في مقابل المثاليين الجدد، مثلما أن الليبرالية على حق
في مقابل أي تجسيم لا عقلي للدولة يتجاهل مصير الفرد. ومن جهةٍ أخرى فإن المطالب
التي يتقدم بها هبهاوس تتمشَّى مع المبادئ المجردة الليبرالية، ولكنها تتعارض مع
الشكل العيني الذي اتخذه المجتمع الليبرالي. وقد عرَّف هِيجِل الليبرالية ذات مرةٍ
بأنها الفلسفة الاجتماعية التي «تلتزم جانب المجرد»، وبأنها دائمًا «تَلْقى الهزيمة
على يد العيني».
٢٤ والواقع أن مبادئ الليبرالية سليمة، وأن الصالح العام لا يمكن، في
نهاية المطاف، أن يكون إلا نتاجًا لكثرة الذوات الفردية التي تنمو بحرية المجتمع،
ولكن الأشكال العينية للمجتمع، التي تطوَّرَت منذ القرنِ التاسعَ عشر، قد أحبطَت
على نحوٍ متزايد تلك الحرية التي تنصح الليبرالية بإطاعتها؛ ففي ظل القوانين التي
تحكُم المسار الاجتماعي، انتهى الأمر بالتفاعل الحر للنشاط الفردي إلى منافسة بين
احتكارات في معظم الأحيان:
«لقد أدَّى عصر من المنافسة الوحشية، أعقبته عملية اندماج (بين أصحاب
الأعمال)، إلى الإلقاء بكمياتٍ هائلة من الثروة في أيدي عددٍ صغير من أقطاب
الصناعة. ونظرًا إلى أن أي ترف للحياة تستطيع هذه الطبقة تحقيقه، كان يظل
عاجزًا عن مجاراة زيادة دخلها، فقد حدثَت عملية ادخارٍ آلي على نطاق لم
يسبق له نظير. وساعد استثمار هذه المدَّخرات في صناعاتٍ أخرى على وضع هذه
الصناعات في قبضة نفس القوى المركزة … وفي مرحلة المنافسة الحرة بين
المنتجين، وهي المرحلة السابقة على تجمعهم واندماجهم، كانت الحالة المزمنة
هي حالة «إنتاج فائض»، بمعنى أن كل المصانع لم تكن تستطيع أن تظل تعمل إلا
بخفض الأسعار إلى الحد الذي يُضطَر فيه المنافسون الأضعف إلى إغلاق أبواب
مصانعهم؛ لأنهم لا يستطيعون بيع منتجاتهم بأسعار تغطي التكلفة الحقيقية للإنتاج.»
٢٥
وقد ظهر كتاب بوزانكيت «النظرية الفلسفية للدولة» في الوقت الذي كان فيه هذا
الانتقال من الرأسمالية الليبرالية إلى الليبرالية الاحتكارية قد بدأ بالفعل. ولم
يكن أمام النظرية الاجتماعية إلا أن تختار بين أمرَين؛ إمَّا أن تتخلى عن مبادئ
الليبرالية كيما تحافظ على النظام الاجتماعي القائم، وإمَّا أن تحارب النظام كيما
تحافظ على المبادئ. وكان الاختيار الأخير هو ما تنطوي عليه النظرية الماركسية في
المجتمع.
(٢) مراجعة الجدَل
على أن النظرية الماركسية كانت قد بدأَت تمُر، هي ذاتها، بتغيُّراتٍ أساسية. وقد
أكَّد تاريخ الماركسية التقارب بين دوافع هِيجِل وبين الاهتمام النقدي للجدَل
المادي مطبقًا على المجتمع؛ فالمدارس الماركسية التي تخلت عن الأسس الثورية للنظرية
الماركسية كانت نفس المدارس التي رفضَت صراحةً الجوانب الهِيجِلية في النظرية
الماركسية، ولا سيَّما الجدَل. وحاول المراجعون
Revisionists الذين أعربوا عن إيمانٍ متزايد لدى جماعاتٍ كبيرة من
الاشتراكيين بحدوث تطورٍ سلمي من الرأسمالية إلى الاشتراكية — حاول هؤلاء في
كتاباتهم وأفكارهم أن يغيِّروا الاشتراكية من نقيضٍ نظري وعملي للنظام الرأسمالي
إلى حركةٍ برلمانية في إطار هذا النظام. واتخذت فلسفة الانتهازية وسياستها، كما
تمثلها هذه الحركة، طابع الصراع ضد ما أسمته «بمخلفات التفكير الطوباوي عند ماركس.»
وكانت النتيجة هي أن حركة المراجعة هذه استعاضت عن النظرة الجدَلية النقدية
باتجاهات النزعة الطبيعية التي تتمشَّى مع الأوضاع القائمة؛ فقد انحنَت هذه الحركة
لسلطة الوقائع، التي كانت بالفعل تبرِّر آمال معارضةٍ برلمانية شرعية، وحوَّلَت
بذلك العمل الثوري إلى اتجاه الإيمان «بالتطور الطبيعي الضروري» نحو الاشتراكية.
وترتَّب على ذلك أن وصف الجدَل بأنه «العنصر الخداع في النظرية الماركسية، والفخ
الذي يوضع لكل تفكيرٍ متسق.»
٢٦ وأعلن برنشتين أن «مصيدة» الجدَل تنحصر في قيامه بعمليةِ تجريدٍ غيرِ
سليمة للجزئيات الخاصة في الأشياء.
٢٧ وقد دافع عن طابع الأمر الواقع الذي تتسم به الأشياء الثابتة المستقرة،
في مقابل أية فكرة عن سلبيتها الجدَلية. «لو أردنا أن نفهم العالم، فعلينا أن
نتصوره على أنه مجموعةٌ معقَّدة من الموضوعات والعمليات الجاهزة.»
٢٨
وكان هذا يعني إحياء الموقف
الطبيعي
common sense بوصفه أداة المعرفة. ولقد كان الجدَل قد تخلى عن «الثابت
والمستقر» في سبيل حقيقةٍ أعلى قد تقضي على الكلية ذات الطابع السلبي، التي تتصف
بها الموضوعات والعمليات «الجاهزة». ولكن حركة المراجعة نبذَت هذا الاهتمام الثوري،
لصالح الحالة القائمة المأمونة الثابتة، التي تتطور ببطء — حسبما يرى مذهب
المراجعين — نحو مجتمعٍ عاقل. «إن المصلحة الطبقية تتراجع، والصالح المشترك يزداد
قوة. وفي الوقت ذاته يزداد التشريع قوة، وينظم صراع القوى الاقتصادية، ويحكم على
نحوٍ متزايد مجالاتٍ أكثر، كانت متروكة من قبلُ للحرب العمياء بين المصالح الخاصة.»
٢٩
وأدَّى رفض المراجعين للجدَل إلى تزييفهم لطبيعة القوانين التي رأى ماركس أنها
تحكم المجتمع؛ ذلك لأن ماركس، كما نذكر، كان قد رأى أن القوانين الطبيعية للمجتمع
تعبِّر عن العمليات اللاعقلية العمياء للإنتاج الرأسمالي، وأن الثورة الاشتراكية هي
التي تؤدي إلى التحرر من هذه القوانين. وفي مقابل ذلك ذهب المراجعون إلى أن
القوانين الاجتماعية قوانينُ «طبيعية» تضمن التطوُّر المحترم نحو الاشتراكية. «إن
أعظم ما حقَّقه ماركس وإنجلز هو أنهما أحرزَا نجاحًا يفوق مَن سبقوهما، وذلك في
تحقيق التشابك والتداخل بين مجال التاريخ ومجال الضرورة، وبذلك رفعا التاريخ إلى
مرتبة العلم».
٣٠ وهكذا فإن المراجعين كانوا يقيسون النظرية الماركسية النقدية بمعايير
علم الاجتماع الوضعي، وحولوها إلى علمٍ طبيعي. وتمشيًا مع الاتجاهات الباطنة لردِّ
الفعل الوضعي على «الفلسفة السلبية» — فإنهم جسَّموا الظروف الموضوعية السائدة
وجمَّدوها، وجعلوا الفعل الإنساني خاضعًا لسلطتها.
أمَّا الحريصون على المحافظة على المضمون النقدي للنظرية الماركسية فقد رأَوا أن
الاتجاهات المضادة للجدَل لا تمثِّل انحرافًا نظريًّا فحسب، بل هي خطرٌ سياسي حقيقي
يهدد نجاح الحركة الاشتراكية في كل مرحلة من مراحلها؛ ففي رأيهم أن المنهج الجدَلي،
بما يتسم به من «روح التناقض» الصارمة، هو الأساس الذي بدونه تصبح النظرية النقدية
في المجتمع علمًا اجتماعيًّا محايدًا أو وضعيًّا بالضرورة. ولما كان هناك ارتباطٌ
باطن بين النظر والعمل في الماركسية، فإن تغيير النظرية يؤدي إلى اتخاذ موقفٍ محايد
أو إيجابي (وضعي) نحو الوضع الاجتماعي الراهن. وقد أعلن بليخانوف بصورة قاطعة أنه
«بدون الجدَل، تصبح نظرية المعرفة المادية، والعمل المبني عليها، ناقصَين، مقتصرَين
على جانبٍ واحد، بل يصبحان مستحيلين.»
٣١ فمنهج الجدَل هو كلٌّ يظهر في كل تصور فيه «نفي الموجود وهدمه»؛ ومِن
ثَمَّ فهو يقدِّم الإطار الفكري الكامل لفهم النظام القائم في كليته، وفقًا لصالح
الحرية؛ فالتحليل الجدَلي هو وحده الذي يمكنه أن يوجِّه العمل الثوري توجيهًا
سليمًا؛ لأنه يحول دون تحكُّم مصالح الفلسفة الانتهازية وغاياتها في هذا العمل. وقد
أكَّد لينين ضرورة المنهج الجدَلي إلى حد أنه رآه العلامة المميزة للماركسية
الثورية. وقد تعمَّق في معرض مناقشته لأشد المشكلات السياسية والعملية إلحاحًا، في
تحليلاتٍ متعلقة بأهمية الجدَل ودلالته. وأوضح مثلٍ لذلك يظهر في دراسته للقضايا
التي طرحها تروتسكي وبوخارين
«Bukharin» على مؤتمر
النقابات العمالية، وهي الدراسة التي كتبها في ٢٥ يناير عام ١٩٢١م؛
٣٢ ففي هذا البحث أوضح لينين كيف أن الافتقار إلى التفكير الجدَلي قد يؤدي
إلى أخطاءٍ سياسيةٍ فادحة، وربط بين دفاعه عن الجدَل وبين هجومه على التفسير
المشوَّه للنظرية الماركسية، الذي يقوم به أنصار «النزعة الطبيعية»، فبيَّن أن
النظرة الجدَلية تتنافَى مع أي اعتماد على الضرورة الطبيعية للقوانين الاقتصادية،
وهي أيضًا تتنافى مع اتجاه الحركة الثورية نحو الاقتصار على الغايات الاقتصادية؛
لأن كل الغايات الاقتصادية لا تستمد معناها ومضمونها إلا من المجموع الكامل للنظام
الاجتماعي الجديد الذي توجِّه نحوه هذه الحركة. وقد نظر لينين إلى أولئك الذين
يُخضِعون الغايات السياسية والتلقائية السياسية للصراع الاقتصادي المحض على أنهم من
أخطر مزيِّفي النظرية الماركسية. ورأى، على عكس هؤلاء الماركسيين، أن السياسة هي
التي لها السيادة المطلَقة على الاقتصاد: «لا بد أن يكون للسياسة الغلبة على
الاقتصاد. أمَّا أي رأيٍ مخالف، فمعناه نسيان ألِف باء الماركسية.»
٣٣
(٣) «الهِيجِلية» الفاشية
بينما كان الجناح التقدمي بين الماركسيين هو وحده الذي يدافع عن تراث الجدَل عند
هِيجِل، كانت تحدث حركة إحياء للهِيجِلية في الطرف المضاد للتفكير السياسي، وهي
حركة قرَّبَتْنا من بدايات الفاشية.
فلقد كانت المثالية الجديدة في إيطاليا مرتبطة منذ البداية بحركة الوحدة القومية،
ثم ارتبطَت فيما بعدُ بالاتجاه إلى دعم الدولة القومية ضد منافسيها الإمبرياليين.
٣٤ أمَّا أن أيديولوجية الدولة القومية الفتية قد تطلعت إلى الفلسفة
الهِيجِلية ملتمسة تأييدها، فهو أمرٌ يمكن تفسيره بالتطور التاريخي الخاص الذي مرت
به إيطاليا؛ ففي المرحلة الأولى كان على القومية الإيطالية أن تدخل في صراع مع
الكنيسة الكاثوليكية، التي رأت أن الأماني القومية الإيطالية ضارة بمصالح
الفاتيكان. وكانت الاتجاهات البروتستانتية في المثالية الألمانية تقدِّم سلاحًا
فعَّالًا للسلطة الدنيوية في صراعها مع الكنيسة. وفضلًا عن ذلك فإن دخول إيطاليا في
زمرة الدول الإمبريالية أدَّى إلى تخلُّف الاقتصاد القومي تخلفًا شديدًا، وانقسام
الطبقة الوسطى إلى عدة جماعاتٍ متنافسة؛ بحيث لم تكن قادرة على التصدي للمتناقضات
المتزايدة التي صاحبَت عملية تعديل هذا الاقتصاد بحيث يلائم التوسع الصناعي الحديث.
وقد أكد كروتشه، وكذلك جنتيلي، أن هناك نزعة «وضعية» ومادية تافهة تسيطر على الناس،
وتجعلهم يشعرون بالرضا عن مصالحهم الخاصة التافهة، ويعجزون عن فهم الأهداف القومية
ذات النطاق الشامل. ولقد كان على الدولة أن تؤكد مصلحتها الإمبريالية في ظل معارضةٍ
متكررة من جانب الطبقة الوسطى. كذلك كان عليها أن تحقِّق ما سبق للدول القومية
الأخرى تحقيقه، أعني إيجاد بيروقراطية تتسم بالكفاءة، وإدارة مركزية، وصناعة رشيدة،
واستعداد عسكري تام ضد العدو الخارجي والداخلي. هذه المهمة الإيجابية للدولة جعلَت
المثالية الجديدة في إيطاليا تميل في اتجاه الموقف الهِيجِلي.
ولقد كان الاتجاه نحو النظرة الهِيجِلية مناورة أيديولوجية ضد الليبرالية
الإيطالية الضعيفة. وقد بيَّن سرجيو
بانونشيو
Sergio Panuncio المفكِّر النظري الرسمي للدولة الفاشية أن الفلسفة
السياسية الإيطالية كانت، منذ عهد ماتسيني
Mazzini
مضادة أساسًا للنزعة الليبرالية والنزعة الفردية. وقد وجدَت هذه الفلسفة في هِيجِل
وصفًا بارعًا للدولة من حيث هي كيانٌ مستقل، يُوجَد في مقابل المصالح الصغيرة
للطبقة الوسطى. وأيَّد بانونشيو تمييز هِيجِل بين الدولة والمجتمع المدني، وكذلك
ملاحظته عن الدولة من حيث هي مؤسسة، قائلًا: «إن الكُتَّاب الذين يربطون بين كثير
من جوانب الدولة الفاشية وبين دولة هِيجِل العضوية على حق.»
٣٥
على أن المثالية الإيطالية لم تكن هِيجِلية إلا حيث اقتصرَت على شرح الفلسفة
الهِيجِلية. مثال ذلك أن سبافنتا Spaventa،
وكروتشه قبل كل شيء، قد أسهما بدورٍ عام في نشر فهمٍ جديد لمذهب هِيجِل. وكان كتابا
كروتشه: المنطق، وعلم الجمال، محاولة لإحياء الفكر الهِيجِلي إحياءً أصيلًا. وعلى
العكس من ذلك فإن الاتجاه إلى استغلال هِيجِل سياسيًّا كان ينطوي على رفض لجميع
الاهتمامات الأساسية لفلسفته. وفضلًا عن ذلك فإن المثالية الإيطالية كانت كلما
ازدادت اقترابًا من الفاشية، ازدادت انحرافًا عن الهِيجِلية، حتى في ميدان الفلسفة
النظرية؛ فكتابا جنتيلي الرئيسيان في الفلسفة هما كتاب في المنطق وآخر في فلسفة
الروح. وعلى الرغم من أنه ألَّف أيضًا إصلاحًا للجدَل
الهِيجِلي Rifforma della Dialettica Hegeliana أعلن فيه أن الروح هي الحقيقة الوحيدة، فإن فلسفته إذا
حُكم عليها بناءً على مضمونها، لا على لغتها، اتضح أنها منعدمة الصلة بفلسفة
هِيجِل؛ فالفكرة الرئيسية في كتاب «نظرية الروح بوصفها فعلًا محضًا Theory of Mind as Pure Act» (١٩١٦م) قد تشبه من بعيدٍ فكرة
كانْت عن الوعي الترنسندنتالي، ولكن هذا التشابه بدَوره ينحصر في الصياغة لا في
المعنى. وسوف نقتصر في مناقشتنا له على هذا العمل الذي يظهر فيه بوضوحٍ كامل
التقارب بين المثالية الجديدة في إيطاليا وبين النظام الفاشي التسلطي، على الرغم من
أنه ظهر قبل انتصار هذا النظام بوقتٍ طويل. والحق أن هذا الكتاب يُعد أنموذجًا
واضحًا لما يحدث للفلسفة التي تحرص على هذا التقارب.
إن هناك حقيقةً هامة تنطبق على أعمال جنتيلي، وكذلك على التصريحات اللاحقة
للفلسفة الفاشية، هي أنهما لا يمكن أن يُعالجا على مستوًى فلسفي؛ ففيهما يصبح الفهم
والمعرفة جزءًا من مجرى العمل السياسي، لا لأية أسبابٍ عقلية، بل لأن أية حقيقة لا
يمكن أن يُعترف بها بمعزل عن هذا العمل السياسي. ولا تعود الفلسفة تُوصف بأنها تحمل
حقيقتها الخاصة في مقابل العمل الاجتماعي المفتقر إلى الحقيقة والصدق، كما لا
يُفترض أن الفلسفة تتفق مع العمل الموجَّه نحو تحقيق العقل وحده، بل إن جنتيلي يعلن
أن العمل، أيًّا كانت الصورة التي يتخذها، هو الحقيقة في ذاتها. والحقيقة الوحيدة
عنده هي فعل التفكير، وهو ينكر أي افتراضٍ لعالمٍ طبيعي وتاريخي مستقل عن هذا الفعل
وخارجه. وهكذا فإن الموضوع «يذوب» في الذات،
٣٦ ولا يعود هناك معنًى لأي تعارض بين الفكر والفعل، أو بين الروح
والواقع؛ ذلك لأن الفكر (الذي هو «فعل» بالمعنى الواقعي) له حقيقته بناءً على هذا
السبب ذاته. «إن الحقيقي هو ما نكون بصدد عمله.»
٣٧ وقد أعاد جنتيلي صياغة عبارة قالها جامباتستا فيكو
Giambattista Vico فقال: «إن الحق والفعل
يحل كلٌّ منهما محل
الآخر.»
verum et fieri convertuntur٣٨ ولخص فكرته بقوله: «إن تصور الحقيقة يتفق مع تصور الواقع.»
٣٩
والحق أن هذه من أبعد العبارات عن روح هِيجِل. وعلى الرغم من تأكيدات جنتيلي
الكثيرة عن واقعية الروح، فإنه لا يمكن أن يُعَدَّ هِيجِليًّا ولا مثاليًّا، بل إن
فلسفته أقرب بكثير إلى الوضعية. ويبدو أن الدولة التسلطية تعلن عن قرب مجيئها في
ذلك الموقف الذي يخضع كل شيء، بسهولةٍ تامة، لسلطة الأمور الواقعية. والواقع أن
الهجوم على التفكير النقدي إنما هو جزء لا يتجزأ من السيطرة الشمولية. وهنا تحل
الإهابة بالواقع محل الإهابة بالعقل؛ فليس في وسع أي عقل أن يبرِّر نظامًا للحكم
يستخدم أعظم جهازٍ إنتاجي خلقه الإنسان من أجل التقييد المتزايد للرغبات الإنسانية،
والمبرر الوحيد لذلك هو أن النظام الاقتصادي لا يمكن المحافظة عليه إلا على هذا
النحو. وكما أن التأكيد الفاشي للفعل والتغير يحول دون الاستبصار بالاتجاهات
العاقلة للسلوك والتغير، فإن تأليه جنتيلي للتفكير يحول دون تحرير الفكر من قيود ما
هو معطًى «أو ما هو قائم». وتصبح القوة الغاشمة، من حيث هي حقيقة واقعة، هي الإله
الحقيقي للعصر، وكلما ازدادت هذه القوة طغيانًا، ازداد الفكر استسلامًا للواقع الذي
تمثِّله. وقد تجلى في الكتاب الذي نشره لورنس
دنيس
«Laurence Dennis» في الآونة الأخيرة دفاعًا عن السياسة الفاشية، نفس استسلام
الفكر هذا، وذلك حين نادى بمنهج «علمي ومنطقي»، تكون المسلَّمة المتحكِّمة فيه هي
أن «الوقائع معيارية؛ أي إن الوقائع ينبغي أن تتحكَّم في القواعد وتعلو عليها.
والقاعدة التي تناقض الواقعة لغو لا معنى له.»
٤٠
ويرفض جنتيلي المبدأ الأساسي لكل مثالية، وأعني به أن هناك تضادًّا وتوترًا بين
الحقيقة والأمر الواقع، أو بين الفكر أو الروح والواقع؛ فنظريته كلها مبنية على
الهوية المباشرة بين هذَين العنصرَين المتضادَّين، على حين أن ما أكده هِيجِل هو
أنه لا تُوجَد هويةٌ مباشرة كهذه، بل هناك فقط تلك العملية الجدَلية التي يجري فيها
تحقيق الهوية. وقبل أن نعرض بإيجاز لبعض نتائج فلسفة «الروح» الجديدة، ينبغي أن
نستعرض العوامل التي أدت إلى ذيوع شهرة جنتيلي بوصفه فيلسوفًا مثاليًّا. وسوف نهتدي
إلى هذه العوامل في استخدامه للأنا الترنسندنتالي عند كَانْت.
يرى جنتيلي أن العبارة القائلة إن الحقيقة الوحيدة هي فعل التفكير الخالص، لا
تنطبق على الأنا التجريبي، وإنما على الأنا الترنسندنتالي وحده.
٤١ فكل صفات الذهن أو الروح (أعني وحدته المتطورة، وهويته مع مظاهره
المباشرة، وكونه «حُرًّا»، و«مبدأ المكان» … إلخ) لا تشير إلا إلى نشاطه
الترنسندنتالي. ولقد كان في تمييزه بين الأنا التجريبي والترنسندنتالي، ووصفه لوجهة
النظر الترنسندنتالية،
٤٢ يقتدي بأنموذج كانْت بقدْر لا بأس به من الدقة، ولكن استخدام جنتيلي
للفكرة يقضي على معنى المثالية الترنسندنتالية ذاته؛ فهذه الأخيرة قد افترضَت أن
ثمَّة واقعًا مُعطًى للوعي، ولكن هذا الواقع لا يمكن أن يُردَّ إلى الوعي وحده؛
فتلقِّي المعطيات الحسية هو شرط الأفعال التلقائية للفهم الخالص. كذلك فإن هِيجِل،
وإن كان رفض فكرة «الشيء في ذاته» عند كَانْت، لم يرفض الأسس الموضوعية للمثالية
الترنسندنتالية، بل إن مبدأ «التوسط» عنده يؤدي إلى الاحتفاظ بها — إذ إن تحقُّق
الروح إنما هو التفاعل المستمر بين العقل والواقع.
أمَّا جنتيلي فيزعم أنه «تخلص من وهم الواقع الطبيعي.»
٤٣ «إننا لا نفترض الواقع الذي هو موضوع المعرفة، بوصفه مقدمة منطقية
للمعرفة … بل إننا نلغي هذه الطبيعة المستقلة للعالم، التي تجعله يبدو أساسًا
للروح، وذلك إذ نرى أنها لا تعدو أن تكون لحظةً مجردة من لحظات الروح.»
٤٤ لقد تميز الأنا الترنسندنتالي عند كَانْت بعلاقاته الفريدة مع واقعٍ
معطًى من قبلُ. وحين يُلغى هذا الواقع، فلا مفَر من أن يظل الأنا الترنسندنتالي
مجرد لفظٍ لا يكتسب معنًى محدَّدًا إلا عن طريق إجراء تعميم من الأنا التجريبي —
على الرغم من كل تأكيدات جنتيلي بأن الأمر عكس ذلك؛ فتحطيم الحاجز الموضوعي يُلقي
بالإنسان في عالم يفترض أنه عالمه الخاص، الذي لا يكون حقيقيًّا إلا بوصفه فعله
الخاص. «إن الفردي هو الإيجابي الحق»، وكل ما هو إيجابي «موضوع بواسطتنا.»
٤٥ صحيحٌ أنه ليس إيجابيًّا إلا بقدْر ما «نضع أنفسنا في مقابله»، ونتعرف
عليه «لا بوصفه عملنا، بل عمل الآخرين.» ولكن التقابل يزول بمجرد أن نرى الفردي هو
الكلي أيضًا، بفضل الوعي الترنسندنتالي؛ فالفردي يصنع ذاته ويصنع الكلي، والكلي هو
«صنع الكلي لذاته».
٤٦
والواقع أن هناك، من وراء هذا الركام من الألفاظ المضطربة الحائرة، عملية لها
دلالتها تتكشف بالتدريج، هي عملية هدم لكل القوانين والمعايير العقلية، وتمجيد
للفعل بغض النظر عن الغاية، وتقديس للنجاح. إن من الممكن القول، بمعنًى معيَّن، إن
فلسفة جنتيلي تحتفظ بآثارٍ بسيطة من الإطار الليبرالي الذي نشأَت فيه المثالية. ولا
سيَّما تأكيد الليبرالية أن «الفردي هو وحده الإيجابي»، ولكن هذه الفردية، التي
تتذبذب بين الترنسندنتالي الذي لا معنى له، وبين العيني الفارغ، ليس لها من مضمونٍ
آخر سوى الفعل. وماهيتها كلها تنحل إلى أفعالها التي لا تقيدها قوانينُ تعلو على
الفردية ولا تحكم عليها مبادئ صحيحة. وقد أطلق جنتيلي نفسه على نظريته اسم «النزعة
الشكلية المطلَقة»، فليس ثمة «مادة» بمعزل عن «الشكل» الخالص للفعل. «إن المادة
الوحيدة الموجودة في الفعل الروحي هي الشكل ذاته، بوصفه فاعلية».
٤٧ ومن الواضح أن فكرة جنتيلي القائلة إن الواقع الحقيقي هو الفعل الذي
يبرِّر نفسه بنفسه، كانت استباقًا وتمجيدًا واضحًا للخروج الواعي المخطَّط عن
القانون في الفعل الفاشي. «إن الروح ذاتها … في واقعيتها متباعدة عن أي قانونٍ قائم
بالفعل، ولا يمكن تعريفها على أنها كائنٌ مقيد بطبيعةٍ محدَّدة تستنفد فيها عملية
الحياة وتكتمل.»
٤٨ لقد استعار جنتيلي من الجدَل الهِيجِلي الفكرة القائلة إن الواقع مسار
لا يتوقف عند حد، ولكن المسار، بمعزل عن أي نموذج للعقل الكلي، ينتج دمارًا بالجملة
بدلًا من أي بناءٍ إيجابي للأشكال العاقلة للحياة «إن الحياة الحقة … لا تصبح كذلك
إلا بالموت.»
٤٩
لقد كانت فلسفة هِيجِل تنسج الطبيعة العابرة لكل الأشكال التاريخية داخل النسيج
التاريخي العالمي للعقل في سيره قُدُمًا، وفيها يظل المضمون العابر لهذه الأشكال
ماثلًا عند انتصار الحرية النهائي. أمَّا نزعة الفعل عند جنتيلي فهي غير مكترثة
بالعقل على الإطلاق، وهي ترحِّب بالشر والنقص السائدَين على أنهما خيرٌ عظيم. «إن
الحاجة الحقيقية لذهننا لا تتجه إلى جعل الخطأ والشر يختفيان من العالم، بل إلى
جعلهما حاضرَين أزليًّا، «إذ إنه ليس ثمَّة صواب بلا خطأ، ولا خير بغير شر.»
٥٠ وإذن، فعلى الرغم من تفسير جنتيلي للواقع على أنه «روح» — وهو تفسير
ينطوي على مفارقة — فإنه يقبل العالم على ما هو عليه، ويؤلِّه فظائعه، وهو يرى أن
الأشياء المتناهية؛ أيًّا كانت وكيفما كانت، هي «دائمًا حقيقة الله ذاتها».
والفلسفة التي تترتب على ذلك «تمجِّد العالم فتجعل منه منشأً أزليًّا للآلهة، يتحقق
في الأعماق الباطنة لوجودنا.»
٥١ غير أن هذه الأعماق الباطنة لا تعود ملجأ يُحتمى فيه من واقعٍ تعس، بل
تبرِّر التحلل النهائي لكل المعايير والقيم الموضوعية في فوضى الفعل الخالص.
إن فلسفة جنتيلي، في كل معالمها الأساسية، تكشف عن تضادها الكامل مع فلسفة
هِيجِل، ولقد كان تضادها هذا هو الذي جعلها تنتقل مباشرةً إلى الأيديولوجية
الفاشية؛ فهوية الفكر مع الفعل، والواقع مع الروح، تمنع الفكر من اتخاذ موقفٍ مضاد
«للواقع». وتصبح النظرية هي ذاتها العمل، إلى حد يرفض معه كل فكر إذا لم يكن فعلًا
مباشرًا، أو إذا لم يبلغ اكتماله مباشرةً في الفعل. وإنَّا لنجد جنتيلي يمتدح
«النزعة المضادة للعقل»
٥٢ في نظرية الروح عنده، وبذلك استبق السمات النسبية المميزة للفلسفة
الفاشية، وهي السمات التي تُلاحظ في رفضها لكل البرامج الثابتة التي تتجاوز مقتضيات
الموقف المباشر؛ فالفعل هو الذي يحدد أهدافه ومعاييره الخاصة التي لا يجوز أن يحكم
عليها بأية غايات أو مبادئ موضوعية. وقد أعلن كتاب «أسس الفاشية» الذي نشره جنتيلي
أن إلغاء كل «البرامج» هو لب الفلسفة الفاشية؛ فالفاشية لا تتقيد بمبادئ، والبرنامج
الوحيد الذي لا يتغير عندها هو «تغيير الاتجاه» لمسايرة التجمعات المتغيرة لمصادر
القوة. وليس ثمَّة قرارٌ سارٍ على المستقبل: «إن القرارات الصحيحة للدوتشي هي تلك
التي تُصاغ وتُنفَّذ في وقتٍ واحد.»
٥٣
هذه العبارة تكشف عن صفةٍ أساسية للدولة المتسلطة، هي افتقار أيديولوجيتها إلى
الاتساق؛ فنزعة الفعل عند جنتيلي تؤكد أن العمل يحكم الفكر حكمًا شموليًّا، وتجعل
استقلال هذا الأخير يختفي اختفاءً تامًّا. وهي تعلن أن الولاء لأية حقيقة خارجة عن
الأهداف العملية للسياسة الفاشية أو متجاوزة لها، هو أمر لا معنى له. وهكذا تصبح
النظرية، من حيث هي نظرية، وكذلك النشاط العقلي، خاضعَين لمقتضيات السياسة
المتغيرة.
(٤) الاشتراكية الوطنية «النازية» ضد هِيجِل
ليس من الممكن أن نفهم الفارق الأساسي بين فكرة الدولة عند كلٍّ من هِيجِل
والفاشية إلا إذا قدَّمنا عرضًا موجزًا للأسس التاريخية للنزعة الشمولية
الفاشية.
فقد كانت فلسفة هِيجِل مبنية على افتراض أن المجتمع المدني يمكن أن يستمر في سيره
دون التخلي عن الحقوق والحريات الأساسية للفرد. صحيح أن نظرية هِيجِل السياسية قد
صبغَت الدولة في عصر عودة الملكية بصبغةٍ مثالية، ولكنه كان ينظر إلى هذه الدولة
على أنها تجسِّد آخر إنجازات العصر الحديث، وأعني بها حركة الإصلاح الديني
الألمانية والثورة الفرنسية، والثقافة المثالية. أمَّا الدولة الشمولية فتمثل
المرحلة التاريخية التي أصبَحَت فيها هذه الإنجازات ذاتها خطرًا على بقاء المجتمع
المدني.
ومن الممكن إرجاع جذور الفاشية إلى المتناقضات القائمة بين تزايد النزعة
الاحتكارية الصناعية والنظام الديمقراطي؛
٥٤ ففي أوروبا، بعد الحرب العالمية الأولى، واجه الجهاز الصناعي، الذي كان
يسير بقوة في طريق الترشيد ويتوسَّع بسرعة، صعابًا متزايدة في الاستغلال، وخاصةً
بسبب انقسام السوق العالمية، وبسبب تلك المجموعة الضخمة من التشريعات الاجتماعية
التي كانت الحركة العمالية تدافع عنها بحماسة؛ في هذا الموقف اتجهت أقوى الجماعات
الاقتصادية إلى الإمساك مباشرةً بزمام السلطة السياسية، حتى تنظِّم الإنتاج
الاحتكاري، وتقضي على المعارضة الاشتراكية، وتستأنف النزعة التوسعية
الإمبريالية.
ولم يكن من الممكن للنظام السياسي الذي ظهر أن يُنمِّي القوى الإنتاجية دون أن
يمارس ضغطًا مستمرًّا على إشباع الحاجات الإنسانية. وهذا يقتضي سيطرةً شمولية على
كل العلاقات الاجتماعية والفردية، والقضاء على الحريات الاجتماعية والفردية، وتكتيل
الجماهير بالأساليب الإرهابية. وأصبح المجتمع معسكرًا مسلَّحًا في خدمة تلك المصالح
الكبرى التي استطاعت الصمود في صراع المنافسة الاقتصادية.
وقد تخلص هذا النظام من فوضى السوق، وجعل العمل خدمةً إجبارية، واتسع نطاق القوى
الإنتاجية بسرعة، ولكن العملية كلها لم تكن تخدم إلا مصالح البيروقراطية الحاكمة،
التي جعلَت نفسها وريثة للطبقة الرأسمالية القديمة.
ولقد كان التنظيم الفاشي يقتضي تغيرًا في البناء الكامل للثقافة؛ ذلك لأن الثقافة
التي ارتبطَت بها المثالية الألمانية، والتي ظلت حية حتى العهد الفاشي، كانت تؤكد
الحريات والحقوق الفردية؛ بحيث كان في وسع الفرد، بوصفه شخصًا فرديًّا على الأقل،
أن يشعر بنفسه آمنًا في الدولة وفي المجتمع. وكانت هناك عوامل تحول دون استسلام
الحياة الإنسانية استسلامًا كاملًا للقوى الاجتماعية والسياسية السائدة، هي وجود
نظام من التمثيل السياسي، والمساواة القانونية، وحرية العقود، كما كان للفلسفة
والفن والدين تأثيرٌ ملطفٌ مخفف. وعندما قسم هِيجِل حياة الإنسان الاجتماعية بين
الأسرة والمجتمع المدني والدولة، اعترف بأن كلًّا من هذه المراحل التاريخية له حق
نسبي خاص به. وفضلًا عن ذلك فقد أخضع المرحلة العليا ذاتها، وهي الدولة، للحق
المطلَق للعقل، الذي يؤكَّد في التاريخ العالمي للروح.
أمَّا الفاشية فإنها، حين هدمت آخر الأمر الإطار الليبرالي للثقافة، فقد هدمَت في
الواقع آخر ميدان كان الفرد يستطيع فيه أن يطالب بحقه إزاء المجتمع والدولة.
لقد كانت فلسفة هِيجِل جزءًا لا يتجزأ من الثقافة التي كان يتعين على النزعة
التسلطية أن تقضي عليها؛ ومن هنا لم يكن من قبيل المصادفة أن بدَا هجوم الاشتراكية
الوطنية على هِيجِل يرفض نظريته السياسية. وقد قام ألفرد روزنبرج، المتحدث الرسمي
باسم «فلسفة» الاشتراكية الوطنية، بافتتاح الهجوم على مفهوم الدولة عند هِيجِل،
فقال إن الثورة الفرنسية قد ترتَّب عليها «ظهور نظرية في القوة، غريبة عن دمنا.
وبلغَت هذه النظرية قمتها عند هِيجِل، ثم أخذ بها ماركس، بعد أن أدخل عليها تزييفًا
جديدًا …»
٥٥ هذه النظرية تُضفي على الدولة، في رأيه، مكانة مطلَقة، وتجعلها غاية في
ذاتها. وهكذا ظهرَت الدولة، أمام الجماهير، على أنها «أداة للقوة بلا روح».
٥٦
على أن الهجوم الأيديولوجي للاشتراكية الوطنية على الفكرة الهِيجِلية عن الدولة،
يتناقض تناقضًا صريحًا مع تظاهر الفاشيين الإيطاليين بقبولها. ومن الممكن تفسير
الاختلاف على أساس تباين الظروف التاريخية التي كان يتعين على الأيديولوجيتَين
الفاشيتَين أن تواجهها؛ فالدولة الألمانية، على عكس الإيطالية، كانت حقيقةً قوية
راسخة البنيان، لم تتزعزع أركانها حتى في عهد جمهورية فيمار. كانت تلك «دولة حق أو قانون Rechtsstaat»، وكانت نظامًا سياسيًّا
عقليًّا شاملًا، تتحدد فيه بوضوح مجالات الحقوق والحريات، على نحوٍ لم يكن من
الممكن أن ينتفع به النظام التسلطي الجديد. وفضلًا عن ذلك فقد كان في استطاعة هذا
الأخير أن يرفض شكل الدولة هذا؛ لأن القوى الاقتصادية التي كانت تقف من وراء الحركة
الاشتراكية الوطنية، كانت قد أصبَحَت منذ وقتٍ طويل من القوة بحيث تستطيع أن تحكُم
مباشرة، دون توسُّط لا داعي له من الأشكال السياسية، التي كانت ستُضطَر إلى أن تمنح
الناس قدْرًا أدنى — على الأقل — من المساواة والضمانات القانونية.
ومن هنا فإن روزنبرج، شأنه شأن كل المتحدثين الآخرين باسم الاشتراكية الوطنية، قد
تحول ضد «الدولة»، وأنكر سلطتها العليا. «إننا لم نعُد ننظر اليوم إلى الدولة على
أنها صنمٌ مستقل يتعين على الناس أن يسجدوا أمامه. بل إن الدولة ليست غاية، وإنما
هي وسيلة للمحافظة على الناس.»
٥٧ و«سلطة الشعب
Volkheit تعلو على سلطة
الدولة. أمَّا من لم يعترف بهذه الحقيقة فهو عدوٌّ للشعب …»
٥٨
كذلك فإن كارل شمت
Carl Schmitt الفيلسوف
السياسي الأوَّل للرايخ الثالث، قد رفض موقف هِيجِل من الدولة، مؤكِّدًا أنه لا
يتمشَّى مع جوهر الاشتراكية الوطنية؛ فعلى حين أن الفلسفة السياسية في القرن الماضي
كانت مبنية على ازدواج بين الدولة والمجتمع، فإن الاشتراكية الوطنية تستبدل بهذا
الازدواج مثلثًا هو الدولة، والحركة (الحزب) والشعب
Volk. والدولة ليست على الإطلاق هي الحقيقة السياسية النهائية
في المثلث، بل تعلو عليها وتتحكم فيها «الحركة» وقيادتها.
٥٩
ولقد هيَّأَت عبارة ألفرد روزنبرج الجو لرفض الاشتراكية الوطنية لفلسفة هِيجِل
السياسية؛ فقد ذكر أن هِيجِل ينتمي إلى اتجاه التطور الذي أنتج الثورة الفرنسية
والنقد الماركسي للمجتمع. وهنا نجد مثالًا، ضمن أمثلة متعددة، تثبت فيها الاشتراكية
الوطنية أنها قد فهمَت الحقائق على نحوٍ أعمقَ بكثير مما فهمها به كثيرٌ من نقادها؛
ذلك لأن فلسفة الدولة عند هِيجِل قد تمسكت بالأفكار الليبرالية التقدمية إلى حد أن
مركزه السياسي أصبح غير متلائم مع الحالة الشمولية التي كان يمُر بها المجتمع
المدني؛ فشكل الدولة كما دعا إليه هِيجِل هو بعينه الشكل الذي لا يمكن أن تحتمله
الاشتراكية الوطنية، أعني الدولة من حيث هي عقل؛ أي كلٌّ عاقل، تحكمه قوانين تسري
على نحوٍ شامل، يسير في عمله بطريقٍ واضحٍ محسوب، ومن حيث هي تحمي المصالح الأساسية
لكل فرد دون تمييز.
وهذا هو نظام الليبرالية الاقتصادية الذي كان يتعين على الاشتراكية الوطنية أن
تقضي عليه بمجرد ما انهار هذا الشكل الاقتصادي ذاته. وقد اختفَى المثلث الهِيجِلي
المؤلف من الأسرة والمجتمع والدولة، وحلت محله الوحدة التي يندرج تحتها كل شيء،
والتي تلتهم كل كثرة في الحقوق والمبادئ. وأصبَحَت الحكومة شمولية، وسُحق الفرد
الذي كانت الفلسفة الهِيجِلية تحميه؛ ذلك الفرد الذي كان يحمل بين جنباته العقل
والحرية. «إن الفرد، كما تقول تعاليمنا اليوم، ليس له في ذاته حق الوجود أو وجوب
الوجود، ما دامت كل الحقوق وكل الواجبات لا تُستمد إلا من الجماعة.»
٦٠ وهذه الجماعة بدَورها ليست اتحادًا من أفرادٍ أحرار، ولا هي الكل
العاقل للدولة الهِيجِلية، بل هي الكيان «الطبيعي» الذي يمثِّله العنصر أو
السُّلالة العِرقية. وقد أكد المفكرون الأيديولوجيون للاشتراكية الوطنية أن
«الجماعة» التي يخضع لها الفرد خضوعًا تامًّا، تشكِّل حقيقة طبيعية يربط بين
عناصرها «الدم والأرض»، ولا تخضع لمعايير أو قِيمٍ عقلية.
وقد استغلت الاشتراكية الوطنية هذا التركيز على الظروف «الطبيعية» من أجل صرف
الانتباه عن الأساس الاجتماعي والاقتصادي للنزعة الشمولية؛ فالجماعة الشعبية Volksgemeinschaft لا تصبح موضوعًا
للتقديس، بوصفها جماعةً طبيعية، إلا لعدم وجود جماعةٍ اجتماعيةٍ فعلية، وبقَدْر ما
لا تُوجَد هذه الجماعة الأخيرة. ولما كانت العلاقات الاجتماعية تثبت عدم وجود أية
جماعةٍ اجتماعية، فإن «الجماعة الشعبية» تصبح بالضرورة متميزة على أساس «الدم
والأرض»، وهو ما لا يعوق التأثير الحقيقي للمصالح الطبقية داخل المجتمع.
والواقع أن رفع الأمة
Volk إلى مرتبة الوحدة
السياسية الأصلية والنهائية يكشف مرةً أخرى عن مدى ابتعاد الاشتراكية الوطنية عن
النظرة الهِيجِلية؛ «فالأمة» عند هِيجِل هي ذلك الجزء من الدولة، الذي لا يعرف
إرادته الخاصة. وعلى الرغم من أن موقف هِيجِل هذا قد يبدو رجعيًّا، فإنه أقرب إلى
مصلحة الحرية من تلك الراديكالية الشعبية التي تتسم بها تصريحات الاشتراكية
الوطنية؛ فهِيجِل يرفض أية فكرة تجعل من «الشعب أو الأمة» عاملًا سياسيًّا
مستقلًّا؛ لأن الكفاءة والفعالية السياسية، في رأيه، تقتضي الوعي بالحرية. وقد ذكر
هِيجِل مرارًا وتكرارًا أن الشعب لم يصل إلى هذا الوعي بعدُ، وأنه لا يزال يفتقر
إلى معرفة مصلحته الحقيقية، وأنه يشكِّل عنصرًا أقرب إلى السلبية في مجرى السياسة،
وأن إقامة مجتمعٍ عاقل لتفترض مقدمًا أن الشعب لم يعُد موجودًا على صورة
«الجماهير»، وأنه تحول إلى تجمُّع من أفرادٍ أحرار. أمَّا الاشتراكية الوطنية فهي
على العكس من ذلك، تمجِّد الجماهير وتحتفظ «بالشعب» في حالته الطبيعية السابقة على المعقولية.
٦١ ومع ذلك فحتى في هذه الحالة لا يسمح للشعب بأن يقوم بدورٍ سياسي
إيجابي، بل يفترض أن حقيقته السياسية يمثلها الشخص الواحد للزعيم، الذي هو مصدر كل
قانون وكل حق، والصانع الوحيد للوجود الاجتماعي والسياسي.
لقد أكدت المثالية الألمانية التي بلغَت قمتها في تعاليم هِيجِل، الاعتقاد بأن
النظم الاجتماعية والسياسية ينبغي أن تكون متمشية مع النمو الحر للفرد. أمَّا
النظام التسلطي فلا يمكنه المحافظة على نظامه الاجتماعي إلا بتجنيدٍ إجباري لكل
فرد، بغَض النظر عن ميوله، من أجل العملية الاقتصادية؛ ففي هذا النظام يحل مطلب
التضحية محل فكرة الرفاهية الفردية. «ولا يمكن أن يكون هناك حد لواجب التضحية من
أجل الكل، إذا نظرنا إلى الأمة على أنها الخير الأسمى في هذا العالم.»
٦٢ ومن المُحال أن يتمكن النظام التسلطي من رفع مستوى المعيشة رفعًا
ملموسًا أو دائمًا، كما أنه لا يستطيع توسيع نطاق المتعة الفردية ووسائلها؛ إذ إن
هذا يؤدي إلى هدم النظام الصارم الذي لا يستغني عنه نظام الحكم هذا، بل إنه يؤدي في
نهاية المطاف إلى القضاء على النظام الفاشي ذاته، الذي تحتِّم عليه طبيعته ذاتها أن
يمنع أي نموٍّ حرٍّ للقوى الإنتاجية؛ ومِن ثَمَّ فإن الفاشية «لا تؤمن بإمكان
تحقُّق «السعادة» على الأرض»، وهي «تنكر المعادلة القائلة إن رفاه العيش يساوي السعادة.»
٦٣ وهكذا، ففي الوقت الذي توافرت فيه كل الإمكانات التكنولوجية لحياةٍ
رغدة، نرى الاشتراكيين الوطنيين يعُدُّون «هبوط مستوى المعيشة أمرًا لا مفَر منه»،
ويكيلون المدائح للفقر.
٦٤
والواقع أن ما يحدث من تشجيع على التضحية التامة بالفرد، إنما يتم لصالح
البيروقراطية الصناعية والسياسية على وجه التحديد؛ لذلك فإن من المستحيل تبرير هذه
التضحية على أساس المصلحة الحقيقية للفرد؛ ومِن ثَمَّ فإن الأيديولوجية الاشتراكية
الوطنية تقول ببساطة، إن الوجود الإنساني الحق ينحصر في التضحية غير المشروطة، وإن
ماهية الحياة الفردية تقضي بأن يطيع الفرد ويخدم — «خدمة لا تقف أبدًا عند حد؛ لأن
الخدمة والحياة صنوان.»
٦٥
وقد كرَّس إرنست كريك
Ernst Krieck، وهو من
المتحدثين الرئيسين باسم الوطنية الاشتراكية، جزءًا لا يُستهان به من كتاباته
لتفنيد المثالية الألمانية؛ ففي مجلته الدورية «الأمة في تحولها
Volk im Werden» نشر مقالًا بعنوان «المثالية الألمانية بين
العصور»، وفيه نجد العبارة الآتية التي تتصف بالتعميم الشديد: «ينبغي ترك المثالية
الألمانية جانبًا … في شكلها ومضمونها، إذا شئنا أن نصبح أمةً سياسيةً نشطة.»
٦٦ أمَّا سبب التنديد بالمثالية فواضح؛ فقد احتجَّت المثالية الألمانية
على الاستسلام الفردي بالجملة للقوى الاجتماعية والسياسية الحاكمة. وقد أدركَت
الاشتراكية الوطنية عن حقٍّ أن تمجيد المثالية للعقل، وتأكيدها أهمية الفكر، ينطوي
على معارضةٍ أساسية لأية تضحية بالفرد. ولقد كانت المثالية الفلسفية جزءًا لا يتجزأ
من الثقافة المثالية، تلك الثقافة التي قالت بعالمٍ للحقيقة لا يخضع لسلطة النظام
القائم، والقوى المُسيطِرة على الزمام. وكان الفن، والفلسفة، والدين، يتطلعون إلى
عالم يتحدَّى ادعاءات الواقع الموجود؛ فالثقافة المثالية إذن متعارضة مع السيطرة
الفاشية والنظام الفاشي الصارم. «إننا لم نعُد نعيش في عصر التعليم، والثقافة،
والإنسانية، والروح الخالصة، بل نعيش في ضرورة الصراع، وفي الرؤية السياسية للواقع،
وفي عصر الجندية، والنظام القومي الصارم، والشرف والمستقبل القومي؛ لذلك فإن ما هو
مطلوب من الناس، بوصفه رسالة الحياة وضرورتها في هذا العصر، ليس هو الموقف المثالي،
بل هو الموقف البطولي.»
٦٧
ولا يبذل كريك أية محاولة لإيضاح أية خطايا محددة في البناء الفكري للمثالية
الألمانية؛ فعلى الرغم من أنه كان فيلسوفًا، وكان يشغل كرسي هِيجِل في جامعة
هيدلبرج، فإنه كان يجد صعوبة في التصدي لأبسط فكرة فلسفية، فإذا شئنا عبارات محددة،
فلا بد أن نُولِّي أنظارنا شطر أولئك الذين كانوا، بحكم المهنة، لا يزالون مشتغلين
بالعمل الفلسفي؛ ففي كتاب فرانتس بوم: تهافت الديكارتية
Frantz Böhm: Anti-Cartesianismus الذي نجد فيه تفسيرًا لتاريخ
الفلسفة من وجهة نظر الاشتراكية الوطنية، يُوجَد فصل بعنوان «نحن وهِيجِل
Hegel und Wir»؛ في هذا الفصل يجعل المؤلف من
هِيجِل رمزًا لكل ما تُبغِضُه الاشتراكية الوطنية وترفُضُه، وهو يرحب «بالتحرر من
هِيجِل»، بوصفه المقدمة الضرورية للعودة إلى الفلسفة الحقة. «لقد ظلت النظرة
الهِيجِلية الشاملة، طَوال قرن من الزمان … تقبر اتجاهات التاريخ الألماني في الفلسفة»،
٦٨ فما هو هذا الاتجاه المضاد للألمانية عند هِيجِل؟ إنه أوَّلًا اهتمامه
بالفكر، ومهاجمته للفعل من أجل الفعل. وقد وصل «بوم» إلى لب الهِيجِلية عندما انتقد
«مثلها العليا الإنسانية». وهو يعترف بالارتباط الباطن بين فكرتَي العقل والروح،
وبين «النظرة العالمية» للإنسانية.
٦٩ ويقول إن النظر إلى العالم على أنه روح، وقياس الأشكال الموجودة
وَفْقًا لمعيار العقل، يعني في النهاية العلو على الفوارق والمنازعات العارضة
و«الطبيعية» وتجاوزها إلى الماهية الكلية للإنسان. وهو يعني الدفاع عن حق
الإنسانية، في مقابل الادعاءات الخاصة للسياسة. إن العقل ينطوي على وحدة الناس
جميعًا بوصفهم موجوداتٍ عاقلة. وعندما يتحقق العقل آخر الأمر في الحرية، تكون
الحرية ملكًا للناس جميعًا، وحقًّا لا يمكن أن يُنتزع، في يد كل فرد. وهكذا فإن
النزعة الكلية المثالية تنطوي ضمنًا على النزعة الفردية.
ولقد أكد النقد الذي وجَّهَتْه الاشتراكية الوطنية إلى هِيجِل، ما في فلسفة هذا
الأخير من اتجاهات تناقض كل نزعةٍ شمولية. وبسبب هذه الاتجاهات أعلنَت الاشتراكية
الوطنية أن هِيجِل «رمز لماضٍ عتيق، عفا عليه الزمان»، وأنه هو «الإرادة الفلسفية
العكسية لعصرنا».
ويتكرر النقد الذي وجهه «بوم»، على صورة أخف إلى حدٍّ ما، وأكثر تفصيلًا، في
وثيقةٍ أخرى من الوثائق الممثلة للفلسفة الاشتراكية الوطنية، وهي كتاب «الفكرة والوجود
Idee und Existenz» الذي يعلن فيه مؤلفه
هانز هيزه
Hans
Heyse أن هِيجِل «مصدر
كل فلسفات التاريخ الليبرالية، المثالية منها والمادية على السواء.»
٧٠ وهكذا فإن الاشتراكيين الوطنيين، على عكس كثيرٍ من الماركسيين، يأخذون
الارتباط بين هِيجِل وماركس مأخذ الجد.
والواقع أن المفكرين، في داخل ألمانيا وخارجها، قد أدركوا منذ فترة الحرب
العالمية الأولى أن التطور نحو الأشكال التسلطية للحكم كان تشويهًا وقلبًا للمبادئ
الهِيجِلية، وليس نتيجة لها على الإطلاق؛ ففي إنجلترا أعلن مويرهيد في ذلك الحين:
«إذا شئنا أن نبحث عن الأسس الفلسفية للنزعة العسكرية في أيامنا هذه، فمن الواجب أن
نلتمسها، لا في الهِيجِلية، بل في رد الفعل العنيف على الفلسفة المثالية كلها، الذي
حدث بعد وفاته بوقتٍ قصير.»
٧١ وهذه، في الواقع، عبارة ما زالت صحيحة بكل ما تتضمنه من معانٍ؛ فالأصل
الذي ترجع إليه الجذور الأيديولوجية للنزعة التسلطية هو «رد الفعل العنيف» على
هِيجِل، الذي تمثَّل في «الفلسفة الوضعية». ولقد ظهرَت معالم الاتجاه إلى هدم مبدأ
العقل، وتفسير المجتمع من خلال الطبيعة، وإخضاع الفكر للديناميات الحتمية لما هو
موجود بالفعل — ظهرت هذه المعالم في الفلسفة الرومانتيكية للدولة، وفي «المدرسة
التاريخية»، وفي علم الاجتماع عند كُونْت. هذه الاتجاهات المضادة لهِيجِل وحَّدَت
صفوفها مع الفلسفات اللاعقلية المعروفة باسم فلسفات الحياة، والتاريخ، و«الوجود»،
التي ظهرَت في العقد الأخير من القرنِ التاسعَ عشر، وكوَّنَت بذلك الإطار
الأيديولوجي للهجوم على الليبرالية.
٧٢
وهكذا فإن النظرية الاجتماعية والسياسية المسئولة عن نمو الفاشية في ألمانيا لم
تكن مرتبطة بالهِيجِلية إلا على نحوٍ سلبي تمامًا؛ فقد كانت مضادة للهِيجِلية في كل
أهدافها ومبادئها. وليس هناك شاهد على هذه الحقيقة أفضل من ذلك المفكر السياسي
النظري الوحيد الجاد في الاشتراكية الوطنية، وهو «كارل شمت
Carl Schmitt»؛ فقد طرح في الطبعة الأولى لكتابه «مفهوم السياسي
Begiff des Politischen» السؤال عن مدى طول
الفترة التي عاشتها «روح هِيجِل» في برلين، وأجاب عنه بقوله: «على أية حال، فإن
المدرسة التي أصبَحَت لها الكلمة العليا في بروسيا بعد عام ١٨٤٠م، آثرَت أن تأخذ
بالفلسفة «المحافظة» التي نادى بها «شتال»، على حين أن هِيجِل أخذ يتنقَّل من كارل
ماركس إلى لينين وإلى موسكو.»
٧٣ وقد لخص العملية كلها في عبارةٍ بالغة الدلالة، فقال إنه في اليوم الذي
اعتلى فيه هتلر منصة الحكم فإن «هِيجِل، إن جاز هذا التعبير، قد مات.»
٧٤