الفصل الأول

كتابات هِيجِل اللاهوتية الأولى

(١٧٩٠–١٨٠٠م)
لو شئنا أن نعايش الجو الذي ظهرت فيه فلسفة هِيجِل، لكان علينا أن نعود القَهقَرى إلى البيئة الثقافية والسياسية لألمانيا الجنوبية في العقود الأخيرة من القرنِ الثامنَ عشر. ففي «فورتمبرج» وهو بلد كان يستبد به حاكمٌ مطلَق كان قد قَبِل منذ فترةٍ وجيزة التنازل عن قدْرٍ ضئيل من سلطاته الدستورية، كانت أفكار عام ١٧٨٩م قد بدأَت تمارس تأثيرًا قويًّا ولا سيَّما في الشباب المثقَّف … وبدَا أنه قد انقضى عهد الحكم المطلَق الغَشوم السابق، ذلك الحكم الذي كان ينشُر الإرهاب في البلاد بأَسْرها عن طريق ما كان يفرضه عليها من حملاتٍ مستمرة للتجنيد الإجباري من أجل الحروب الخارجية، وعن طريق الضرائب التعسُّفية الفادحة، وبيع المناصب الحكومية، وإقامة احتكاراتٍ تنهَب الجماهير الشعبية وتُثري خزائن أميرٍ متلاف، عن طريق الاعتقالات المفاجئة التي تحدث بناءً على أبسطِ الشبهات أو أضعفِ الاحتجاجات.١ وقد وقِّع في عام ١٧٧٠م اتفاقٌ خفَّف من حدة النزاع بين الدوق شال أوجين وبين النبلاء من أصحاب الإقطاعيات، وبذلك أُزيلَت آخر عقبة في وجه قيام حكومةٍ مركزية، غير أن النتيجة الوحيدة لذلك كانت توزيع الحكم المطلَق بين السلطة الشخصية للدوق، وبين مصالح الأوليجاركية الإقطاعية.

ومع ذلك، فعلى الرغم من أن حركة التنوير الألمانية كانت ضعيفةً بالقياس إلى نظيرتَيها في الفلسفة الإنجليزية والفرنسية، وهما الحركتان اللتان حطَّمتا الإطار الأيديولوجي للدولة الاستبدادية، فإنها تغلغَلَت مع ذلك في الحياة الثقافية لفورتمبرج، فكان الدوق تلميذًا «للمستبد المستنير» فريدريك الثاني ملك بروسيا، ومارَس في الفترة الأخيرة من حكمه حكمًا مطلَقًا مستنيرًا، وامتدت روح التنوير إلى المدارس والجامعات التي كان يرعاها، فكانت المشكلاتُ الدينية والسياسية تناقَش بالروح العقلانية المعروفة في القرنِ الثامنَ عشَر، ومجِّدت كرامة الإنسان، وكذلك حقُّه في تشكيل حياته ضد كل الصور البالية للسلطة والتراث، وامتُدح التسامح والعدل. ولكن الجيل الشاب الذي كان عندئذٍ يؤم الجامعة اللاهوتية في توبنجن — وكان من أفراده هِيجِل وشلنج وهلدرلن — تأثر قبل كل شيءٍ بالتضادِّ بين هذه المُثُل العليا وبين الوضع الفعلي التعِس للدولة الألمانية. ولم تكن هناك أدنى فرصة لكي تحتل حقوق الإنسان مكانها في دولة ومجتمع نظِّما من جديد … صحيحٌ أن الطلاب كانوا يُنشِدون الأغاني الثورية، وأنهم ترجَموا «المارسييز»، ومن الجائز أنهم غَرسوا أشجار الحرية وهتَفوا ضد الطغاة وأذنابهم، ولكنهم كانوا يعلمون أن هذا النشاط كله إنما هو احتجاج عاجز على تلك القوة التي كانت لا تزال محصَّنة منيعة، والتي كانت تُمسِك بالوطن كله بيدٍ من حديد. وكلُّ ما كانوا يأملون فيه هو حدوثُ نوعٍ من الإصلاح الدستوري قد يؤدي إلى توازنٍ أفضل في تحمُّل عبء السلطة بين الأمير والنبلاء الإقطاعيين.

في هذه الظروف، تحوَّلَت أعينُ الجيل الجديد في حنينٍ إلى الماضي، ولا سيَّما تلك العهود التاريخية التي كانت الوحدة فيها سائدة بين الثقافة العقلية للإنسان وبين حياته الاجتماعية والسياسية … فرسم هلدرلن صورةً متألقةً لليونان القديمة، وكتب هِيجِل تمجيدًا «لمدينة الدولة» القديمة، بل إن هذا التمجيد كان، في بعض مواضعه، ألمع من ذلك الوصف الرائع للمسيحية الأولى كما عرضها طالب اللاهوت. وإنَّا لنلمس في شذرات هِيجِل اللاهوتية المبكِّرة أن الاهتمام السياسي يتدخَّل مرارًا أثناء مناقشاته للمشكلات الدينية … ولقد كان هِيجِل يتوق من كل قلبه إلى استعادة تلك القوة التي استطاعت، في الجمهوريات القديمة، أن تخلق الوحدةَ الحيةَ بين كل مجالات الثقافة، وتُحافِظ عليها، والتي أدَّت إلى فتح الطريق أمام نُمُو كل القوى الوطنية بحرية … وقد أطلق على هذه القوة الخفية اسم روح الأمة Volksgeist فكتب يقول: «إن روحَ الأمة وتاريخَها ودينَها ودرجةَ الحرية السياسية التي بلغَتْها، كل ذلك لا يمكِن أن يُفصَل الواحد منه عن الآخر، لا فيما يتعلق بتأثيره ولا فيما يتعلق بنوعه، بل إنها كلها تتشابك في رابطةٍ واحدة …»٢

وهناك ارتباطٌ وثيق بين استخدام هِيجِل لتعبير «روح الأمة» وبين استخدام مونتسكيو لتعبير «الروح العامة» للأمة بوصفها أساسَ قوانينها الاجتماعية والسياسية … إن هِيجِل لا ينظر إلى «الروح القومية» على أنها كيانٌ صوفي أو ميتافيزيقي، بل هي تمثِّل مجموع الشروط الطبيعية والتكنيكية والاقتصادية والأخلاقية والعقلية التي تتحكَّم في التطوُّر التاريخي للأمة … ولقد كان تأكيد مونتسكيو لهذا الأساس التاريخي يستهدف معارضةَ الاتجاه إلى المحافظة على أشكالٍ سياسيةٍ عتيقة بلا مبرِّر … وبالمثل احتفظ مفهوم «روح الأمة» عند هِيجِل بهذا المضمون النقدي … على أننا لن نتتبَّع هنا مختلف العوامل التي أثَّرَت في دراسات هِيجِل اللاهوتية، من مونتسكيو وروسو إلى هيردر وكَانْت، بل إننا سنقتصر على عرض المسائل ذات العلاقة المباشرة بهِيجِل نفسه.

يتساءل هِيجِل مرارًا، في أبحاثه اللاهوتية، عما تكونُه العلاقة الحقيقية بين الفرد وبين الدولة التي لا تعود تُرضي قُدراته، بل تُوجَد بوصفها نظامًا «مغتربًا» اختفَى منه الاهتمام السياسي الإيجابي للمواطنين، وقد عرفَ هِيجِل هذه الدولة على نفس الأسس التي عرفَتها عليها النزعة الليبرالية في القرنِ الثامنَ عشَر؛ فالدولة ترتكز على قبول الأفراد، وهي تحدِّد حقوقهم وواجباتهم وتحمي أفرادها من الأخطار الداخلية والخارجية التي يُمكِن أن تهدِّد استمرار الكل. ولدى الفرد، في مقابلة الدولة، حقوق الإنسان التي لا يُمكِن انتزاعها، والتي لا يُمكِن أن تتدخَّل فيها سلطة الدولة تحت أي ظرفٍ من الظروف، حتى لو كان هذا التدخُّل لصالح الفرد … «ليس لأحدٍ أن يتخلَّى عن حقِّه في أن يأخذ على عاتقه إطاعة القانون ويكون مسئولًا عن تنفيذه فحسب … ولو تخلَّى الإنسان عن هذا الحق لما عاد إنسانًا … ومع ذلك فليس من شأن الدولة أن تمنعه من التخلي عنه؛ لأن هذا يعني إرغامَ الإنسانِ على أن يكون إنسانًا؛ أي إنه يعني القهر.»٣ وهنا لا نجد أثرًا لذلك التمجيد الأخلاقي والميتافيزيقي للدولة، الذي نُصادِفه في كتابات هِيجِل المتأخرة.
على أن لهجة هِيجِل أخذَت تتغيَّر ببطءٍ خلال نفس هذه الفترة من حياته، بل خلال نفس المجموعة من كتاباته، وأصبح يرى أن «المصير» التاريخي للإنسان، والصليب الذي يتعيَّن عليه أن يحمله، هو أن يقبل تلك العلاقات الاجتماعية والسياسية التي تحدُّ من نُمُوه الكامل … وهكذا حلَّ تأكيد الضرورة التاريخية عند هِيجِل محلَّ التفاؤل المستنير، ومحلَّ امتداحه التراجيدي لفردوسٍ مفقود … فالضرورة التاريخية قد أحدثَت هُوَّة بين الفرد والدولة … ذلك لأن الطرفَين كانا في العصر القديم على وِفاق «طبيعي»، ولكنه كان وِفاقًا اكتُسِب على حساب الفرد؛ إذ لم يكن الإنسان يملك حريةً واعية، ولم يكن مسيطرًا على العملية الاجتماعية. وكلما كان هذا الوفاق القديم أقرب إلى «الطبيعة»، كان من الأيسر على القوى الجامحة التي كانت تتحكَّم في العالم الاجتماعي في ذلك الحين أن تقضي عليه … «ففي أثينا وروما، أدت الحروب الناجحة، والثروات المتزايدة، والتعوُّد على ترف الحياة ورفاهيتها، إلى تكوين أرستقراطيةٍ عسكرية وغنية قضت على الجمهورية، وتسبَّبَت في ضياع الحرية السياسية ضياعًا تامًّا.»٤ ووقعَت سلطة الدولة في قبضة أفرادٍ وجماعاتٍ مميزة، على حين كان السواد الأعظم من المواطنين لا يسعَون إلا وراء مصالحهم الخاصة دون أن يعبَئُوا بالصالح العام، وأصبح عالمهم كله ينحصر في «حق ضمان الملكية».٥
ولقد كان من المحتَّم أن تؤدي جهود هِيجِل من أجل فهم القوانين الكلية التي تحكم هذه العملية، إلى تحليل دور النظم الاجتماعية في تقدم التاريخ … وهكذا نجد أن إحدى شذراته التاريخية، التي كُتبَت بعد عام ١٧٩٧م، تستهلُّ بتصريحٍ شديد التعميم، هو أن «ضمان الملكية هو المحور الذي يدور حوله التشريع الحديث بأَسْره.»٦ كما أنه يذكُر في المسوَّدة الأولى لكُتيِّبه عن «الدستور الألماني» (١٧٩٨-٩م) أن الشكل التاريخي للملكية البورجوازية bürgerliches Eigentum مسئولٌ عن الانحلال السياسي السائد.٧ وفضلًا عن ذلك فقد ذهب هِيجِل إلى أن النظم الاجتماعية شوَّهَت حتى أشد العلاقات خصوصية وشخصية بين الناس … وهناك شذرةٌ لها دلالتها في «كتابات الشباب اللاهوتية»، بعنوان الحب Die Liebe، يذكُر فيها هِيجِل أن العائق الذي يحول بين الوفاق والاتحاد التام بين الأفراد في الحب هو: «اكتساب الملكية، فضلًا عن الحقوق، وامتلاكها». وهو يشرح ذلك بقوله: «إن المحب الذي يتعيَّن عليه أن ينظر إلى محبوبه على أنه صاحب ملكية لا بد أيضًا أن يشعر بأن خصوصية محبوبه تحول دون اشتراك حياتهما، وهي الخصوصية التي ترجع إلى ارتباط المحبوب «بأشياء ميتة» لا تنتمي إلى الآخر، وتظل بالضرورة خارج نطاق وحدتهما.»٨
وهنا ربط هِيجِل بين نظام الملكية وبين حياة الإنسان في عالم لم يعُد عالمه، وإن كانت معرفته وجهده في العمل هي التي شكَّلَته، أعني عالمًا يقف في وجه حاجاته الباطنة — عالمًا غريبًا تحكُمه قوانين لا تُرد، عالمًا «ميتًا» تُحبط فيه الحياة البشرية. وهكذا يمكِننا أن ننظر إلى «كتابات الشباب اللاهوتية»، في هذا الصدد، على أنها أول صياغة لمفهوم الاغتراب Entfremdung الذي قدِّر له أن يقوم بدورٍ حاسم في التطور اللاحق للفلسفة الهِيجِلية.
إن هناك نغمةً شاملة تسود طريقة هِيجِل الأولى في مناقشة المشكلات الدينية والسياسية، هي أن فقدان الوحدة والحرية — وهي حقيقةٌ تاريخية — هو العلامة العامة المميزة للعصر الحديث، وهو العامل المميز لكل أوضاع الحياة الخاصة والحياة الاجتماعية … ويذكُر هِيجِل أن فقدان الحرية والوحدة هذا ظاهرٌ في تلك الصراعات المتعدِّدة التي تزخر بها الحياة البشرية، ولا سيَّما الصراع بين الإنسان والطبيعة. هذا الصراع، الذي حول الطبيعة إلى قوةٍ معادية يتعيَّن على الإنسان أن يُسيطِر عليها، أدَّى إلى قيام تعارض بين الفكرة والواقع، بين الفكر والعالم الفعلي، بين الوعي والوجود.٩ فالإنسان يجد نفسه على الدوام منفصلًا عن عالمٍ مُعادٍ له، غريب عن دوافعه ورغباته، فكيف إذن يُستعاد الوفاق بين هذا العالَم وبين إمكانات الإنسان؟

لقد كان الجواب الذي تقدَّم به هِيجِل في البداية هو جواب دارس اللاهوت؛ فقد فسَّر المسيحية على أن لها وظيفةً أساسية في تاريخ العالم، هي وظيفةُ إعطاء الإنسان مركزًا «مطلَقًا» جديدًا، وإعطاء هدفٍ نهائي للحياة. على أن هِيجِل كان يرى في الوقت ذاته أن الحقيقة الموحى بها في الأناجيل لا يُمكِن أن تتلاءم مع حقائق العالَم الاجتماعية والسياسية التي يزداد نطاقها اتساعًا؛ إذ إن الأناجيل تُهيب أساسًا بالفرد من حيث هو فردٌ منعزل عن ارتباطاته الاجتماعية والسياسية، وهدفها الرئيسي هو خلاص الفرد، لا المجتمع، ولا الدولة، وعلى ذلك فليس الدين هو الذي يُمكِنه أن يحل المشكلة، وليس اللاهوت هو الذي يمكِنه الإتيان بمبادئ تُعيد الحرية والوحدة … وترتَّب على ذلك أن تحوَّل اهتمام هِيجِل ببطء من المسائل والتصوُّرات اللاهوتية إلى نظيرتها الفلسفية.

لقد كان هِيجِل ينظر إلى الفلسفة دوامًا، لا على أنها علمٌ خاص، بل على أنها الشكل النهائي للمعرفة البشرية … وقد استخلص الحاجة إلى الفلسفة من الحاجة إلى تعويض الضَّياع العام للحرية والوحدة، وذكَر ذلك صراحةً في أول مقالٍ فلسفي له؛ إذ قال: «إن الحاجة إلى الفلسفة تنشأ حين تختفي القوة الموحدة die Macht der Vereinigung من حياة الناس، وعندما تفقد المتناقضات علاقاتها الحية المتبادلة واعتمادها المتبادل، وتتخذ شكلًا مستقلًّا.»١٠ أمَّا القوة الموحدة التي يتحدث عنها فتشير إلى التوافق الحيوي بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، وهو التوافق الذي ساد في الجمهوريات القديمة، والذي كان يضمن حرية الكل ويضُم كل المنازعات في وحدةٍ حية هي «روح الأمة». وعندما ضاع هذا التوافق، أصبَحَت حياة الإنسان تسودها خلافاتٌ شاملة لم يعُد في استطاعة الكل السيطرة عليها … ولقد ذكَرنا من قبلُ المصطلحاتِ التي استخدمها هِيجِل في وصف تلك المنازعات؛ فقد وضعَت الطبيعة في مقابل الإنسان، واغترب الواقع عن «الفكرة»، وأصبح الوعي متعارضًا مع الوجود … وقد لخص فيما بعدُ كل هذه المتقابلات بأنها تتخذ شكلًا عامًّا هو الصراع بين الذات والموضوع،١١ وبذلك ربط بين مشكلته التاريخية وبين المشكلة الفلسفية التي سادت التفكير الأوروبي منذ ديكارت؛ ذلك لأن معرفة الإنسان وإرادته كانا قد حُصرا في عالمٍ «ذاتي»، يتسم بيقينٍ ذاتي وحرية مضادَّين لما في العالم الموضوعي من انعدام اليقين والضرورة المادية … وكلما ازداد هِيجِل إدراكًا للفكرة القائلة إن المتناقضات تسري على الواقع على نحوٍ شامل، أصبح الطابع الفلسفي لبحثه أوضح — إذ لم تعُد تستطيع استيعاب المتناقضات إلا أشد التصوُّرات شمولًا، ولم تعُد تستطيع تقديم المبادئ الكفيلة بحل هذه المتناقضات إلا أهم مبادئ المعرفة.

وفي الوقت ذاته، ظلت تصوُّرات هِيجِل، حتى أشدها تجريدًا، محتفظة بالدلالة العينية للمسائل التي يبحثها … فالفلسفة كانت في رأيه تحمل رسالة تاريخية — هي تقديم تحليلٍ شامل للمتناقضات السائدة في الواقع، وإثبات إمكان الجمع بينها … ولقد انبثق الجدَل من رأي هِيجِل القائل إن الواقع بناءٌ من المتناقضات. صحيحٌ أن «كتابات الشباب اللاهوتية» كانت لا تزال تضع فوق الجدَل غِلالةً لاهوتية، ولكن حتى في هذه الكتابات يستطيع المرء أن يهتدي إلى البدايات الفلسفية للتحليل الفلسفي.

وأول تصوُّر يأتي به هِيجِل من أجل توحيد المتناقضات هو تصوُّر الحياة.

ولعلنا نغدو أقدر على فهم الدور الخاص الذي أعطاه هِيجِل لفكرة الحياة إذا أدركنا أن جميع المتناقضات، في رأيه، تنحل، ولكنها تظل مع ذلك قائمة في «العقل». ولقد كان هِيجِل يتصور الحياة على أنها روح؛ أي على أنها قادرة على أن تشتمل في ذاتها على المتعارضات الشاملة في الوجود، وتسيطر عليها. وبعبارةٍ أخرى فإن مفهوم الحياة عند هِيجِل يدُل على حياة كائنٍ عاقل، وعلى صفة الإنسان التي ينفرد بها من دون سائر الموجودات جميعًا. ومنذ هِيجِل، أصبَحَت فكرة الحياة نقطة بداية كثير من المحاولات الرامية إلى إعادة بناء الفلسفة على أساس موقف الإنسان التاريخي العيني، مما يؤدي إلى تجاوز الطابع التجريدي المفارق للفلسفة العقلانية.١٢
إن الحياة تتميَّز عن جميع أحوال الوجود الأخرى بعلاقتها الفردية بتحديداتها وبالعالم ككل … فكل موضوعٍ غير حي يختلف، بفضل طابعه الجزئي الخاص، وشكله المحدود المتعين، عن الجنس الذي ينتمي إليه، ويتعارض معه؛ فالجزئي يُناقِض الكلي؛ بحيث إن هذا الأخير لا يحقِّق ذاته في الأوَّل. غير أن الحي يختلف عن غير الحي في هذه الناحية؛ إذ إن الحياة تدُل على وجودٍ تندمج أجزاؤه وأحواله المختلفة في وحدةٍ كاملة، هي وحدة «الذات»؛ ففي الحياة «يكون الجزئي … في الآن نفسه فرعًا في شجرة الحياة اللامتناهية، ويكون كل جزء خارج الكل هو في الآن نفسه الكل؛ أي الحياة.»١٣ وكل فردٍ حي هو أيضًا مظهر للحياة كلها؛ أي إن لديه، بعبارةٍ أخرى، الماهية أو الإمكانات الكاملة للحياة … وفضلًا عن ذلك، فعلى الرغم من أن كل كائنٍ محدود ومتعين، ففي استطاعته أن يتجاوز تحديداته بفضل القوة التي يملِكها بوصفه ذاتًا حية … وفي البداية تكون الحياة تعاقُبًا لأحوالٍ «موضوعية» محدَّدة — ونقول «موضوعية» لأن الذات الحية تجدها خارجًا؛ بحيث إن هذه الأحوال تحدُّ من تحقُّقها الذاتي الحر … غير أن عملية الحياة تنحصر في الاجتذاب الدائم لهذه الظروف الخارجية إلى نطاق الوحدة المستمرة للذات … فالكائن الحي يحتفظ بنفسه بوصفه ذاتًا عن طريق السيطرة على كثرة الأحوال المحددة التي يصادفها، وعن طريق ضمها إليه، وتحقيق التوافق بين كل ما هو مضادٌّ له، وبين نفسه. وعلى ذلك فإن وحدة الحياة ليست وحدةً مباشرة، «طبيعية»، بل هي نتيجة تجاوزٍ إيجابيٍّ دائم لكل ما يقف ضدها … إنها وحدةٌ لا تسود إلا بوصفها نتيجة لعملية توسط Vermittlung بين الذات الحية كما هي، وبين ظروفها الموضوعية. والتوسط هو الوظيفة الحقة للذات self الحية بوصفها ذاتًا subject فعلية، وهو في الوقت ذاته يجعل الذات self الحية ذاتًا subject فعلية. إن الحياة هي الصورة الأولى التي يتصور فيها الجوهر بوصفه ذاتًا، وهي بالتالي أول تجسُّد للحرية. إنها الأنموذج الأوَّل لتوحيدٍ حقيقي بين الأضداد؛ ومِن ثَمَّ فهي أول تجسُّد للجدَل.
ومع ذلك فليست كل أشكال الحياة تتمثل فيها تلك الوحدة الكاملة، بل إن الإنسان وحده هو الذي يستطيع، بفضل معرفته، أن يحقِّق «فكرة الحياة». وقد أوضحنا من قبلُ أن الوحدة الكاملة بين الذات والموضوع هي في نظر هِيجِل شرطٌ لا غناء عنه للحرية … هذه الوحدة تفترض معرفةً بالحقيقة، بمعنى معرفة إمكانات الذات والموضوع معًا … والإنسان وحده هو الذي يستطيع تحويل الظروف الموضوعية بحيث تصبح وسيطًا لنُمُوه الذاتي … والحقيقة التي يحملها لا تحرِّر إمكاناته الخاصة فحسب، بل إمكانات الطبيعة بدورها … إنه يجلب الحقيقة إلى العالم، وبها يستطيع أن ينظِّم العالم وَفْقًا للعقل … وقد أوضح هِيجِل هذه النقطة بأن ضرب مثلًا برسالة يوحنا المعمدان، وأدلى للمرة الأولى بالرأي القائل إن العالم في ماهيَّته الباطنة نتاجٌ لنشاط الإنسان التاريخي … فالعالَم وكل «علاقاته وتحديداته من عمل النور الإنساني؛ أي تطوُّر الإنسان الذاتي.»١٤ ومنذ ذلك الحين ظل تصوُّر العالم بوصفه نتاجًا لنشاط الإنسان ومعرفته هو القوة الدافعة لمذهب هِيجِل. وهكذا نستطيع أن نلمح، منذ هذه المرحلة المبكِّرة جِدًّا، سمات النظرية الجدَلية في المجتمع، التي ظهرت فيما بعدُ.
على أن تصور «الحياة» ليس هو الأكثر تقدمًا من بين التصوُّرات الفلسفية التي وصل إليها هِيجِل في فترته الأولى؛ ففي شذرة المذهب Systemfragment التي قدَّم فيها عرضًا أدق للدلالة الفلسفية للتضاد بين الذات والموضوع، وبين الإنسان والطبيعة، نراه يستخدم لفظ الروح Geist للدلالة على التوحيد بين هذه المجالات المنفصلة … فالروح في أساسها هي نفس العامل الموحد الذي تكونه الحياة … «إن الحياة اللانهائية يمكِن أن تُسَمَّى بالذهن لأن الذهن يدُل على الوحدة الحية وسط التنوُّع … والروح هي القانون الحي الذي يوحِّد الكثرة المتنوعة بحيث تصبح هذه الأخيرة حية.»١٥ ولكن على الرغم من أن تصوُّر الذهن لا يعني أكثر مما تعنيه الحياة، فإنه ينطوي على تأكيدٍ للفكرة القائلة إن وحدة الحياة هي، في نهاية المطاف، من عمل الفهم والنشاط الحر الذي تقوم به الذات، لا من عمل قوةٍ طبيعة عمياء.
وهناك تصوُّرٌ آخر نصادفه في «كتابات الشباب اللاهوتية»، ويستبق بدوره ما سيظهر بعد ذلك بكثيرٍ في منطق هِيجِل؛ ففي شذرة بعنوان الإيمان والمعرفة Glauben und Wissen، يقول هِيجِل: «إن الوحدة والوجود Sein مترادفان، والرابطة «يكون» في كل قضية تعبِّر عن وحدة الموضوع والمحمول؛ أي عن كينونة (أو وجود) a Being١٦ وإن أي تفسيرٍ وافٍ لهذه العبارة ليقتضي مناقشةً مفصَّلة للتطوُّرات الأساسية في الفلسفة الأوروبية منذ أرسطو. أمَّا هنا فحسبنا أن نشير إلى بعض جوانب الأصل الذي نشأَت في ظله هذه الصيغة، والمضمون الذي تنطوي عليه.
إن عبارة هِيجِل تعني أن هناك تمييزًا بين الكينونة (أو الوجود) Sein وبين الكائن أو الموجود Seiendes، أو بين الوجود المتعين والوجود بما هو كذلك … وقد استهل تاريخ الفلسفة الغربية بهذا التمييز نفسه، الذي تم التوصُّل إليه في معرض الإجابة عن السؤال: ما الوجود؟ وهو السؤال الذي كان مدارَ البحثِ في الفلسفة اليونانية منذ بارمنيدس إلى أرسطو؛ فكل موجود حولنا هو موجودٌ متعين؛ حجر، أو أداة، أو بيت، أو حيوان، أو حادث، أو ما إلى ذلك … ولكنا نحمل على كل موجودٍ كهذا أنه يكون هذا أو ذاك؛ أي إننا نحمل عليه الكينونة (أو الوجود). وهذا الوجود الذي نعزوه إليه ليس أي شيءٍ جزئي أو خاص في العالم، بل هو مشتركٌ بين كل الموجودات الجزئية التي يمكِن أن يُنسب إليها. وهذا يدُل على ضرورة أن يكون هناك وجودٌ بما هو كذلك، يختلف عن كل موجودٍ متحدد، وإن كان مع ذلك قابلًا لأن يُنسب إلى كل موجودٍ أيًّا كان؛ بحيث يمكِن أن يُسَمَّى «الواحد» الحقيقي وسط كل تنوُّع الموجودات المحددة … فالوجود بما هو كذلك هو ما تشترك فيه جميع الموجودات الجزئية، وهو أشبه ما يكون بالأساس الذي ترتكز عليه جميعًا. ومن هذه النقطة، كان من السهل نسبيًّا النظر إلى هذا الوجود الأعم من كل ما عداه على أنه «ماهية كل موجود»، و«الجوهر الإلهي»، و«الأكثر حقيقة»، وبالتالي الجمع بين الأنطولوجيا واللاهوت … ولهذا التراث تأثيره الواضح في «منطق» هِيجِل.
ولقد كان أرسطو أول من نظر إلى هذا الوجود بما هو كذلك، الذي يُعزى إلى كل موجودٍ متعين على حدٍّ سواء، لا على أنه كيانٌ ميتافيزيقي مستقل، بل على أنه العملية أو الحركة التي يتشكل بها كل موجودٍ جزئي إلى ما يكونه في حقيقته. وفي رأي أرسطو أن ثمة تمييزًا يسري في عالم الوجود بأكمله، بين الجوهر ousia وبين حالاته وتغيُّراته العَرَضية المتباينة؛ فالوجود الحقيقي، بالمعنى الدقيق، هو الجوهر الذي يُقصد به الشيء الفردي العيني، العضوي وغير العضوي … والشيء الفردي هو الذات أو الجوهر الذي يظل باقيًا طوَال تلك الحركة التي يُوحد فيها ويجمع بين مختلف حالات وجوده ومراحله … وتمثِّل الأحوال المختلفة للوجود طرقًا متباينةً لتوحيد العلاقات المتعارضة؛ فهي تشير إلى طرقٍ مختلفة للاستمرار في البقاء وسط التغيُّر، وللكون والفساد، ولامتلاك خصائص وتحديدات، وما إلى ذلك … وقد أدمج هِيجِل الفكرة الأرسطية الأساسية في فلسفته … «إن الطرق المختلفة للوجود هي توحيداتٌ تامة بدرجاتٍ متفاوتة.»١٧ والوجود يعني التوحيد، والتوحيد يعني الحركة … ويعرِّف أرسطو الحركة بدورها من خلال فكرتَي القوة والفعل؛ فالأنواع المختلفة للحركة تدُل على طرق متباينة في تحقيق الإمكانات الكامنة في ماهية الشيء المتحرك. وقد قوَّم أرسطو الأنواع المختلفة للحركة بحيث يكون النوع الأرفع هو ذلك الذي يتحقق فيه كل إمكان تحقُّقًا كاملًا … فالكائن الذي يتحرك أو يتطور وفقًا لأرفع الأنواع يكون تحقُّقًا energeia خالصًا، مثل هذا الكائن لن يكون له موضوعٌ يحقِّقه خارج ذاته أو غريب عنها، بل يكون هو ذاته على نحوٍ كامل في كل لحظة من لحظات وجوده … ولو وُجِد مثل هذا الكائن، لكان التفكير قوام وجوده بأَسْره … فالذات التي تكون فاعليتها الذاتية تفكيرًا لن يكون لها موضوعٌ مغترب وخارجي؛ إذ إن الفكر يدرك الموضوع ويصل إليه بوصفه فكرًا، والعقل يفهم العقل … إن الوجود الحق هو حركةٌ حقة، وهذه الأخيرة هي فعل التوحُّد الكامل للذات بموضوعها … ومِن ثَمَّ فإن الوجود الحقيقي هو الفكر والعقل.

ولقد اختتم هِيجِل العرض الذي قدَّمه في «موسوعة العلوم الفلسفية» بالفِقرة التي يوِّضح فيها أرسطو، في كتاب «ما بعد الطبيعة»، أن الوجود الحق هو العقل. ولهذا الأمر دلالته، من حيث هو أكثر من مجرد مثلٍ يضربه هِيجِل … ذلك لأن فلسفة هِيجِل هي إلى حدٍّ بعيد إعادة تفسيرٍ لأنطولوجيا أرسطو، بعد تطهيرها من شوائب العقائد الميتافيزيقية الجامدة، وربطها بالمطلب الشامل للعقلانية الحديثة، وأعني به حوَّل العالم إلى وسيط للذات التي تنمو نموًّا حُرًّا، أو جعل العالم، باختصار، حقيقة العقل. والحق أن هِيجِل كان أول من أعاد اكتشاف الطابع الشديد الدينامية لميتافيزيقا أرسطو، التي تنظر إلى كل وجودٍ على أنه عملية وحركة — وهو الطابع الذي ضاع تمامًا في التراث الشكلي اللاحق للمذهب الأرسطي.

فقد واصل هذا التراث فكرة أرسطو القائلة إن العقل هو الوجود الحق، بأن فصل هذا الوجود من بقية العالم … فالعقل الإلهي ليس سببًا للعالم وليس خالقًا له، وهو ليس محرِّكه الأوَّل إلا عن طريق نظامٍ معقَّد من الوسائط، وما العقل البشري إلا نسخةٌ ضعيفة من هذا العقل الإلهي … ومع ذلك فإن حياة العقل هي أعلى حياة وأسمى خير في هذا العالم.

والحق أن هذه النظرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بواقعٍ يعجز عن أن يحقِّق الإمكانات الكامنة في الناس وفي الأشياء تحقيقًا كافيًا؛ بحيث اتخذ المفكِّرون لهذا التحقيق مقرًّا في نوعٍ من النشاط مستقلٍّ تمام الاستقلال عن النقائص السائدة في عالم الواقع؛ أي إن العُلو بعالم الذهن بحيث يصبح هو المجال الوحيد للحرية والعقل، هو أمرٌ مرهون بسيادة الفوضى والعبودية في العالم … ولقد كانت هذه الأوضاع التاريخية لا تزال سائدةً في عصر هِيجِل، فلم تكن الإمكانات الظاهرة متحقِّقة، لا في المجتمع ولا في الطبيعة، ولم يكن الناس ذواتٍ حرة تتحكَّم في حياتها … ولما كانت الأنطولوجيا هي النظرية المتعلقة بأعم أشكال الوجود، وهي بهذا الوصف تعبيرٌ عن استبصار الإنسان بأعمِّ بناءٍ للواقع، فليس للمرء أن يعجَب إذ يجد أن التصوُّرات الأساسية في الأنطولوجيا الأرسطية والهِيجِلية كانت واحدة.

١  كارل بفاف: «تاريخ إقليم فورتمبرج والبيت الحاكم فيه»، شتتجارت ١٨٣٩م، الباب الثالث، القسم الثاني، ص٨٢ وما يليها.
Karl Pffaff: Gesch. des Fürstenchauses und Landes Wirtemberg.
٢  كتابات الشباب اللاهوتية Theologische Jugendschriften، ص٢٧.
٣  المرجع نفسه، ص٢١٢.
٤  المرجع نفسه، ص٢٢٢.
٥  المرجع نفسه، ص٢٢٣.
٦  وثائق عن تطور هِيجِل Dokumente zu Hegels Entwicklung، ص٢٦٨.
٧  المرجع نفسه، ص٢٨٦.
٨  كتابات الشباب اللاهوتية، ص٣٨١-٢.
٩  المرجع نفسه، ص٢٤٤.
١٠  الفارق بين مذهب فشته ومذهب شلنج في المطبوعات الأولى Erste Druckschriften الناشر Georg Lasson، ليبتسج، ١٩١٣م، ص١٤.
١١  المرجع نفسه، ص١٣.
١٢  انظر: فلهلم دلتاي، «تاريخ هِيجِل في شبابه»، في «مجموعة المؤلفات»، ليبتسج، ١٩٢١م، المجلد الرابع، ص١٤٤ وما يليها.
Wilhelm Dilthey: Die Jugendgechichte Hegels, in “Gesammelte Schriften”.
١٣  كتابات الشباب اللاهوتية، ص٣٠٧.
١٤  المرجع نفسه، ٣٠٧.
١٥  ص٣٤٧.
١٦  ص٣٨٣.
١٧  ص٣٨٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤