(١) الكتابات الفلسفية الأولى
في عام ١٨٠١م بدأ هِيجِل حياته الأكاديمية في يينا، التي كانت عندئذٍ المركز
الفلسفي لألمانيا؛ فقد سبق أن قام فشته بالتدريس فيها حتى عام ١٧٩٩م، وعُين شلنج
أستاذًا في عام ١٧٩٨م. وكان الكتاب الذي تضمَّن فلسفة كَانْت الاجتماعية
والقانونية، وهو: ميتافيزيقا السنن
الأخلاقية Metaphysik der Sitten، قد نُشر في عام ١٧٩٩م، كما أن الثورة الفلسفية التي
أحدثها كَانْت بكتبه الثلاثة في نقد العقل كانت لا تزال تمارس تأثيرًا عظيم الأهمية
في الحياة العقلية. ومن هنا كان من الطبيعي تمامًا أن تكون أولى مقالات هِيجِل
الفلسفية مركَّزة حول تعاليم كَانْت، وفشته، وشلنج، وأن يكون قد صاغ مشكلاته على
أساس التيارات السائدة في مناقشات المثاليين الألمان.
ولقد كان من رأي هِيجِل، كما ذكَرنا من قبلُ، أن الفلسفة تنشأ من المتناقضات
الشاملة التي يغوص فيها وجود الإنسان. وقد أدت هذه المتناقضات إلى تشكيل تاريخ
الفلسفة على نحوٍ أصبح معه تاريخًا للمتناقضات الأساسية، بين «الذهن والمادة،
والنفس والجسم، والإيمان والفهم، والحرية والضرورة»، وفي الفترة القريبة منه اتخذَت
هذه المتناقضات شكل التضاد بين العقل
والحس
Sinnlichkeit، و«الذكاء والطبيعة»، وكان أعم أشكالها هو التضاد بين
«الذاتية والموضوعية».
١ تلك هي نفس التصوُّرات التي تكون أساس «نقد العقل الخالص» عند كَانْت،
وهي التصوُّرات التي أخذ هيجل الآن يعمل على رفع التعارض بينها في تحليله
الجدَلي.
كان أول تصوُّر أعاد هِيجِل تفسيره جدَليًّا هو تصوُّر العقل
reason. ولقد سبق أن أقام كَانْت تمييزًا
أساسيًّا بين العقل Vernunft والفهم Verstand، وجاء هِيجِل فأضفَى على التصورَين معنًى
جديدًا، وجعل منهما نقطةَ بدايةٍ لمنهجه؛ فالتمييز بين الفهم والعقل هو في رأيه نفس
التمييز بين الذهن الشائع common sense والتفكير
التأملي، أو بين الفكر غير الجدَلي والمعرفة الجدَلية … وتؤدي عمليات الفهم إلى نفس
نوع التفكير الذي يسود الحياة اليومية فضلًا عن العلم؛ إذ ينظر فيها إلى العالم على
أنه كثرة من الأشياء المحددة، التي يستقل كلٌّ منها عن الآخر؛ فكل شيء كيانٌ متميز
محدَّد المعالم، يرتبط بهذا الوصف بكياناتٍ أخرى محدَّدة المعالم على نفس النحو …
ومن هذه البدايات تتكون تصوُّرات، كما تتألف من هذه التصوُّرات أحكام، تشير كلها
إلى أشياء منعزلة وإلى العلاقات الثابتة بين هذه الأشياء. وتعمل التحديدات الفردية
على استبعاد بعضها البعض كما لو كانت ذرَّات أو مونادات (ذرَّات روحية)؛ فالواحد
منها ليس هو الآخر، ولا يمكِن أبدًا أن يصبح هو الآخر. صحيح أن الأشياء تتغيَّر،
وكذلك تتغيَّر خواصُّها، ولكنها حين تفعل ذلك، تختفي إحدى الخواص أو التحديدات
وتحلُّ محلها خاصيةٌ أخرى … ويطلق هِيجِل على الكيان الذي هو منفصل ومنعزل على هذا
النحو اسم المتناهي das Endliche.
وإذن فالفهم يدرك عالمًا من الكيانات المتناهية، التي يحكُمها مبدأ الهوية والتضاد opposition؛ فكل شيء فيه يكون في هُوية مع
ذاته، لا مع أي شيءٍ آخر، وهو بفضل هُويته الذاتية مضاد لكل الأشياء الأخرى … صحيحٌ
أن من الممكِن الربط والجمع بينه وبينها في أنحاءٍ شتَّى، ولكنه لا يفقد أبدًا
هُويته، ولا يصبح أبدًا شيئًا غير ذاته … فعندما تتحوَّل ورقة عباد الشمس الحمراء
إلى اللون الأزرق، أو يتحول النهار إلى ليل، يكُف موجودٌ ينتمي إلى هذا الآن والمكان here
and now، عن أن
يكون منتميًا إلى هذا الآن والمكان، ويحلُّ محلَّه شيءٌ آخر … وعندما يصبح الطفل
رجلًا، تحلُّ مجموعة من الخصائص، هي خصائص الرجولة، محلَّ مجموعةٍ أخرى، هي خصائصُ
الطفولة. ويظل الأحمر والأزرق، والنور والظلام، والطفولة والرجولة — تظل هذه كلها
أضدادًا يستحيل الجمع بينها. وهكذا فإن عمليات الفهم تقسِّم العالم إلى أقطاب لا
حصر لها، ويستخدم هِيجِل تعبير الفكر
المنعزل Isolierte Reflection للدلالة على الطريقة التي يكوِّن بها الفهم تصوُّراته
المستقطبة ويربط بينها.
ويرى هِيجِل أن الأصل في ظهور هذا النوع من التفكير وانتشاره هو ظهور مجموعة من
العلاقات المعيَّنة في الحياة البشرية، وسيادة هذه العلاقات.
٢ فالأضداد التي ينطوي عليها «الفكر المنعزل» هي أضداد حقيقية … ولم يصل
التفكير إلى فهم العالَم على أنه نظامٌ ثابت من الأشياء المنعزلة ومن الأضداد
الدائمة إلا بعد أن أصبح العالَم كيانًا فعليًّا منعزلًا عن الحاجات والمطالب
الحقيقية للبشر.
على أن الانعزال والتضاد ليسا هما الوضع النهائي … فمن الواجب ألا يظل العالم
نظامًا معقَّدًا من المتفرِّقات الثابتة … ولا بد للعقل أن يُدرِك الوحدة الكامنة
من وراء الأضداد ويحقِّقها؛ إذ إن مهمَّته هي التوفيق بين الأضداد، و«إدراجها» تحت
وحدةٍ حقيقية، وحين يتم تحقيق مهمة العقل، يكون ذلك في الوقت ذاته استرجاعًا للوحدة
المفقودة في العلاقات الاجتماعية بين الناس.
إن القوة الدافعة للعقل، متميزًا عن الفهم، هي الحاجة إلى «استعادة الكلِّية».
٣ فكيف يتسنَّى تحقيق ذلك؟ يقول هِيجِل: إن ذلك يتحقَّق أوَّلًا عن طريق
القضاء على ذلك الأمان الباطل الذي تقدِّمه إلينا إدراكات الفهم وإجراءاته؛ فنظرة
الرأي المشترك أو الموقف الطبيعي
common sense هي
نظرة تتسم «باللامبالاة»، و«الأمان» أي «بلا مبالاة الأمان».
٤ والرضا عن الحالة الراهنة للواقع وقبول علاقاته الثابتة المحدَّدة تجعل
الناس غير مكترثين بالإمكانات التي لم تتحقَّق بعدُ، والتي لا تكون «معطاة» بنفس
اليقين والثبات الذي تعطَى به موضوعات الحس. إن الرأي المشترك يخلط بين المظهر
العارض للأشياء وبين ماهيتها، ويظل دائبًا على الاعتقاد بأن هناك هُويةً مباشرة بين
الماهية والوجود.
٥
وعلى العكس من ذلك فإن هوية الماهية والوجود لا يمكِن أن تنتج إلا عن الجهد
الدائب الذي يبذله العقل من أجل خلقها … فهي لا تتحقق إلا من خلال ممارسةٍ فعلية
لمعرفة شرطها الأساسي هو التخلي عن الرأي المشترك والفهم البحت، والاستعاضة عنهما
«بالفكر النظري التأملي». ويؤكِّد هِيجِل أن هذا النوع من التفكير هو وحده الذي
يستطيع تجاوز الآليات المشوهة لحالة الوجود السائدة؛ فالتفكير النظري التأملي
يُقارِن الصورة البادية أو المعطاة للأشياء بإمكانات هذه الأشياء ذاتها، وهو إذ
يفعل ذلك يميز ماهيتها من حالة وجودها العارضة. ولا تتحقق هذه النتيجة بعملية حدْسٍ
صوفي، بل بمنهج في المعرفة التصوُّرية، يختبر العملية التي أصبَحَت بفضلها كل صورة
على ما هي عليه. فالفكر النظري التأملي يتصوَّر «العالم الذهني والمادي» لا على أنه
مجموعٌ كلِّي من العلاقات الثابتة المحدَّدة، بل «على أنه صيرورة، وعلى أن وجوده
نتاجٌ وإنتاج.»
٦
أي أن ما يسميه هِيجِل بالفكر النظري التأملي هو في واقع الأمر أول عرضٍ يقدِّمه
للمنهج الجدَلي … وهو يقدِّم تحديدًا واضحًا للعلاقة بين التفكير الجدَلي (العقل)
والفكر الانعكاسي المفرق (الفهم)؛ فالأول ينقد الأضداد الثابتة التي يخلقها الثاني
ويتجاوزها، وهو يهدم «أمان» الرأي المشترك، ويُثبِت أن «ما يعُده الرأي المشترك
يقينيًّا على نحوٍ مباشر ليست له أية حقيقة بالنسبة إلى الفلسفة.»
٧ وإذن فالمعيار الأوَّل للعقل هو فقدان الثقة في سلطة الأمر الواقع …
وفقدان الثقة هذا هو نزعة الشك الحقيقية التي يصفُها هِيجِل بأنها «الشطر الحر» في
كل فلسفةٍ حقَّة.
٨
وعلى ذلك فإن صورة الواقع المعطاة مباشرةً ليست واقعًا نهائيًّا. ولا بد لنا من
أن نُدرِك نسق الأشياء المنعزلة التي يسودها التضاد، والذي تُنتِجه عمليات الفهم،
على ما هو عليه في حقيقته؛ أعني بوصفه صورةً «رديئة» للواقع، وعالمًا من التحدُّد
والعبودية. أمَّا «عالم الحرية»
٩ الذي هو الهدف الباطن للعقل، فلا يمكن بلوغه، كما ظن كَانْت وفشته،
بوضع الذات في مقابل العالَم الموضوعي، وبأن ننسب إلى الشخص المستقل ذاتيًّا كل
الحرية التي يفتقر إليها العالم الخارجي، ونترك هذا الأخير مجالًا للضرورة العمياء.
(وهنا يُهاجِم هِيجِل أسلوبًا هامًّا هو أسلوب «الاتجاه إلى الباطن» أو الانطواء،
الذي تمكَّنَت به الفلسفة والأدب عامة من أن تجعل الحرية قيمةً باطنة تتحقَّق داخل
الروح وحدها)؛ ففي الواقع النهائي لا يُمكِن أن يكونَ هناك انعزالٌ للذات الحرة عن
العالَم الموضوعي، ولا بد من رفع هذا التضاد، ومعه كل الأضداد الأخرى التي خلقَها
الفَهم.
ويُطلِق هِيجِل على الواقع النهائي الذي تُرفع فيه الأضداد اسم «المطلَق». ولم
يكن هِيجِل يستطيع، في هذه المرحلة من تطوُّره الفلسفي، أن يصف هذا المطلَق إلا
بطريقةٍ سلبية … وهكذا يقول عنه إنه الضد الكامل لذلك الواقع الذي يُدرِكه الرأي
المشترك والفهم، فهو «يسلب» واقع الرأي المشترك في كل تفاصيله؛ بحيث لا يكون هناك
أي وجه للتشابه بين الواقع المطلَق وبين العالَم المتناهي.
وعلى حين أن الرأي المشترك والفَهم كانا يُدرِكان كياناتٍ منعزلة يقف كلٌّ منها
في مقابل الآخر، فإن العقل يدرك «هُوية الأضداد». إنه لا يُنتِج الهُوية بعملية ربط
وجمع بين الأضداد، بل يُحوِّرها بحيث لا تعود تُوجَد بوصفها أضدادًا، وإن كان
مضمونها يحتفظ به في شكلٍ أعلى وأكثر «واقعية» من أشكال الوجود. وتمتدُّ عملية
تَوحيدِ الأضداد إلى كل جزء من الواقع، ولا تقف عند حدٍّ إلا بعد أن يكون العقل قد
«نظَّم» الكل بحيث إن «كل جزء لا يُوجَد إلا في علاقته بالكل»، و«لا يكون لكل كيانٍ
فردي معنًى ودلالةٌ إلا في علاقته بالكل».
١٠
إن المجموع الكُلي لتصوُّرات العقل ومعارفه هو وحدَه الذي يمثِّل المطلَق … ومِن
ثَمَّ فإن العقل لا يكون ماثلًا أمامنا على نحوٍ كامل إلا على صورة «تنظيمٍ شامل
للقضايا والحدُوس»؛ أي على صورة «نسق».
١١ وسوف نشرح في الفصل القادم المعنى العيني لهذه الأفكار … وعلى أية حال
فإن هِيجِل يتعمَّد أن يؤكِّد هنا، في كتاباته الفلسفية الأولى، الوظيفة السلبية
للعقل؛ أي تحطيمه لذلك العالَم الثابت الآمن الذي يكوِّنه الرأي المشترك والفهم …
وهو يصف المطلَق بأنه «الليل» و«العدم».
١٢ لإيضاح التضادِّ بينه وبين موضوعات الحياة اليومية المحدَّدة بدقة؛
فالعقل يعني «المحو المطلَق» لعالم الرأي المشترك؛
١٣ ذلك لأن الصراع ضد الرأي المشترك هو، كما رأينا من قبلُ، بدايةُ
التفكير النظري التأملي، وفقدان أمان الحياة اليومية هو أصل الفلسفة.
ويزيد هِيجِل موقفه إيضاحًا في مقال «الإيمان والمعرفة»، الذي يضع فيه استنتاجاته
في مقابل استنتاجات كَانْت في «نقد العقل الخالص»؛ فهو هنا يرفُض رفضًا تامًّا ذلك
المبدأ التجريبي الذي استبقاه كَانْت حين جعل العقل معتمدًا على الموضوعات المعطاة
للتجربة. ويعلن هِيجِل أن العقل عند كَانْت مقتصر على عالم الذهن الباطن، ولا يصبح
له سلطان على «الأشياء في ذاتها». وبعبارةٍ أخرى، فليس العقل، وإنما الفَهم، هو
المهيمن في الفلسفة الكَانْتية.
ومن جهةٍ أخرى، يحرص هِيجِل على أن يذكُر أن كَانْت تَغَّلب بالفعل على هذا
القصور في نقاطٍ متعدِّدة … مثال ذلك أن فكرة «الوحدة التركيبية الأصلية للوعي
الذاتي» تنطوي على اعترافٍ بمبدأ هِيجِل الخاص في الهُوية الأصلية بين الأضداد؛
١٤ إذ إن «الوحدة التركيبية» هي في حقيقتها نشاطٌ ينتج بواسطته التضاد بين
الذات والموضوع ويتم تجاوزه في الوقت ذاته … وإذن ففلسفة كَانْت «تنطوي على الصورة
الصحيحة للفكر» فيما يتصل بهذا التصوُّر، أعني الثلاثي المؤلَّف من الذات الموضوع ومركَّبهما.
١٥
هذا هو الموضع الأوَّل الذي يذهب فيه هِيجِل إلى أن الثلاثي Triplizität هو الصورة الصحيحة للفكر. وهو لا
يتحدث عنه بوصفه إطارًا فارغًا للوضع ونقيضه والمركَّب منهما، بل بوصفه الوحدة
الدينامية للأضداد؛ فهو الصورة الصحيحة للفكر لأنه الصورة الصحيحة لواقعٍ يكون كل
موجودٍ فيه هو الوحدة المركَّبة من أوضاعٍ متضادة.
وقد اعترف المنطق التقليدي بهذه الحقيقة حين عرض شكل الحكم على أنه «ع هو ل». وقد
أشرنا من قبلُ تلميحًا إلى تفسير هِيجِل لهذا الشكل؛ فلكي نعرف ما يكونه الشيء
حقيقة، يتعيَّن علينا أن نتجاوز حالته المعطاة مباشرة (ع هو ع) وأن نتتبَّع العملية
التي يتحول فيها إلى شيء غير ذاته (ل). على أن ع يظل هو ذاته ع خلال العملية التي
يصبح فيها ل … فحقيقته هي تلك العملية الديناميكية الكاملة التي يتحوَّل فيها إلى
شيءٍ آخر ويتوحَّد بها «بالآخر» الذي ينتمي إليه … فالأنموذج الجدَلي يمثِّل عالمًا
تشيع فيه حالة السلب، عالمًا يكون فيه كل شيءٍ مختلفًا عما هو عليه في حقيقته،
ويؤلِّف فيه التضادُّ والتناقض قوانينَ التقدُّم؛ ومِن ثَمَّ فإن الأنموذج الجدَلي
هو «حقيقة» هذا العالم.
(٢) الكتابات السياسية الأولى
تتمثَّل الاهتمامات النقدية للفلسفة الجدَلية بوضوح في الكُتيِّبات السياسية
الهامة التي ألَّفها هِيجِل في هذه الفترة … وتدُل هذه الكتابات على أن الحالة التي
وجدَت فيها الدولة الألمانية نفسها بعد حربها غير الناجحة مع الجمهورية الفرنسية
كان لها تأثيرها المُتغلغِل في كتابات هِيجِل الأولى.
إن المتناقضات الشاملة التي يرى هِيجِل أنها تشيع في الفلسفة، تتمثَّل بصورةٍ
عينية في تلك العداوات وذلك التفرُّق الذي يسود بين الدول والمقاطعات الألمانية
المتعدِّدة، وبين كل من هذه والدولة الكبرى (الرايخ). «فالعزلة» التي كشَف عنها
هِيجِل في مقالاته الفلسفية تتمثَّل في أسلوب العناد الذي تحرص به كل مقاطعة، بل كل
فرد تقريبًا، على تحقيق مصالحه الخاصة دون أي اعتبار … وقد أدَّى «فقدان الوحدة»
الناتج عن ذلك إلى جعل السلطة الإمبراطورية عاجزة تمامًا، وترك الرايخ فريسةً سهلة
لأي مُعتدٍ.
«إن ألمانيا لم تعُد دولة … ولو شئنا أن نظل نُسَمِّي ألمانيا دولة، لما أمكن أن
تُوصَف حالة الانحلال الراهنة التي تمُر بها إلا بأنها فوضى، لولا أن الأجزاء
المؤلِّفة لها قد جعلَت من نفسها دولًا … والواقع أن ذكرى رابطةٍ ماضية، لا أية
وحدةٍ فعلية، هي التي تُضفي عليها مظهر الوحدة … وقد تبيَّن لألمانيا، في حربها مع
الجمهورية الفرنسية، أنها لم تعُد دولة … والنتائج الواضحة لهذه الحرب هي فقدان
بعضٍ من أجمل الأراضي الألمانية، وبضعة ملايين من سكانها، ودَين عام (أكبر في
الجنوب منه في الشمال) هو استمرار لآلام الحرب في وقت السلم، ونتيجةٌ أخرى هي أنه
إلى جانب أولئك الذين وقَعوا في قبضة المحتلين والقوانين والعادات الأجنبية ستفقد
ولاياتٌ كثيرة أعظم خير لها، أعني استقلالها، في الصفقة التي ستتم بها المساومة.»
١٦
وينتقل هِيجِل إلى اختبار أساس هذا الانحلال، فيجد أن الدستور الألماني لم يعُد
يتمشَّى مع الحالة الاجتماعية والاقتصادية الفعلية للأمة … فهذا الدستور أثَرٌ من
آثار نظامٍ إقطاعي عابر حلَّ محلَّه منذ عهدٍ بعيدٍ نظامٌ مختلف، هو نظام المجتمع
ذي النزعة الفردية
١٧ … وأن استبقاءَ شكلٍ قديم للدستور في وجه التغيُّر الجذري الذي طرأ على
كل العلاقات الاجتماعية لَيعني الاحتفاظَ بحالةٍ موجودةٍ لمجرد كونها موجودة. ولكن
مثل هذا السلوك مضادٌّ لكل معيارٍ وقاعدةٍ عقلية … فالتنظيم السائد للحياة يتعارض
تعارضًا أساسيًّا مع رغبات المجتمع وحاجاته، وهو قد فقد «كل سلطته وكل هيبته»،
وأصبح «سلبيًّا خالصًا».
١٨
ويواصل هِيجِل كلامه قائلًا إن ما يظل قائمًا «بهذه الطريقة التجريبية البحتة»،
دون «توفيق بينه وبين فكرة العقل» لا يمكن أن يُعَد «حقيقيًّا».
١٩ فلا بد من تحطيم النظام السياسي وتحويله إلى نظامٍ عقليٍّ جديد. ولا
يمكن أن يتم تحوُّلٌ كهذا بلا عنف.
إن واقعية هِيجِل المتطرفة لتتكشَّف من خلال الإطار والمصطلح المثالي الذي
يستخدمه. «ففكرة الضرورة والاستبصار بها أضعف من أن تحفِّز على الفعل … إن الفكرة
والاستبصار يقترنان بقَدْر من انعدام الثقة يتعيَّن معه تبريرهما بالعنف، وعندئذٍ
فقط يخضع لهما الإنسان.»
٢٠ ولا يمكِن تبرير الفكرة بالعنف إلا بقَدْر ما تكون معبِّرة عن قوةٍ
تاريخية فعلية نضجَت في حِضْن النظام القائم … فالفكرة تُناقِض الواقع حين يكون هذا
الأخير قد أصبح مناقضًا لذاته. ويقول هِيجِل إن الفكر لا يمكِنه أن يهاجم الشكل
الاجتماعي القائم بنجاح إلا إذا كان هذا الشكل قد أصبح متناقضًا على نحوٍ صريح مع
«حقيقته» الخاصة؛
٢١ أي بعبارةٍ أخرى إذا لم يستطع أن يفي بمقتضيات مضمونه الخاص … ويرى
هِيجِل أن هذه هي حالة ألمانيا؛ ففيها يمثِّل أنصار النظام الجديد القوى التاريخية
التي نمَت حتى تجاوزَت النظام القديم … أمَّا الدولة، التي ينبغي عليها أن تحافظ
على الصالح المشترك لأفرادها في صورةٍ عقليةٍ ملائمة — إذ إن هذه وحدها هي
«حقيقتها» الممكِنة — فلا تفعل ذلك. ولهذا السبب كان حكام الدولة يتحدَّثون حديثًا
زائفًا حين يدافعون عن موقفهم باسم الصالح العام؛
٢٢ فالواقع أن خصومهم، وليسوا هم، يمثِّلون الصالح العام، وفكرة هؤلاء
الخصوم، أعني فكرة النظام الجديد التي يدافعون عنها، ليست مجرد مثلٍ أعلى، بل هي
تعبيرٌ عن واقع لم يعُد له بقاء في ظل النظام السائد.
والموقف الذي يدافع عنه هِيجِل هو أن النظام القديم ينبغي أن يحلَّ محلَّه
شمولٌ حقيقي Allgemeinheit وهذا اللفظ الأخير
يعني في آنٍ واحد مجتمعًا يتم فيه تكامل كل المصالح الخاصة والفردية في الكل؛ بحيث
إن الكيان العضوي الاجتماعي الناجم يتفق مع الصالح العام (العمومية الاجتماعية)،
كما يعني كلًّا تندمج فيه وتتكامل كل تصوُّرات المعرفة المنعزلة المختلفة على نحوٍ
تستمد معه دلالتها من علاقتها بالكل (الكلِّية). ومن الواضح أن المعنى الثاني هو
الوجه المقابل للأول … فكما أن فكرة التفكُّك في مجال المعرفة تعبِّر عن التفكُّك
القائم في العلاقات الإنسانية في المجتمع، فكذلك يناظر التكامل الفلسفي تكاملًا
اجتماعيًّا وسياسيًّا … وشمول العقل وكلِّيته، التي يمثِّلها المطلَق، هي المقابل
الفلسفي للعمومية الاجتماعية التي تتواجد فيها كل المصالح الخاصة في الكل.
ويرى هِيجِل أن الدولة الحقيقية تجعل من الصالح المشترك أساسًا لنظمها المستقرة،
وتدافع عنها في كل صراعٍ خارجي وداخلي.
٢٣ أمَّا الرايخ الألماني فلا يتسم في رأيه بهذه الصفة:
«إن القُوى والحقوق السياسية ليست مناصبَ عامَّة تنشأ لكي تتفق مع تنظيم
الكل، كما أن أفعال الفرد وواجباته لا تتحدَّد بحاجات الكل … فكل جزءٍ خاص
من النظام السياسي المتدرج، وكل بيتٍ من بيوت الأمراء، وكل مقاطعة، ومدينة،
ومؤسَّسة، وما إلى ذلك؛ أي بالاختصار كل من له على الدولة حقوق أو واجبات،
قد اكتسبها بقدرته الخاصة … أمَّا الدولة فإنها نظرًا إلى ما حدث من تعدٍّ
على سلطتها لم تعُد تستطيع أن تفعل شيئًا سوى أن تؤكِّد أنها قد حُرمَت من
سلطتها …»
٢٤
ويفسِّر هِيجِل انهيار الدولة الألمانية عن طريق التقابل بين النظام الاجتماعي
والنظام الجديد الذي أعقبه، أعني المجتمع الفردي النزعة … كما يفسِّر ظهور النظام
الاجتماعي الأخير من خلال تطوُّر الملكية الخاصة … فالنظام الإقطاعي بمعناه الصحيح
قد أدمج المصالح الخاصة للمقاطعات المختلفة في وحدةٍ مشتركةٍ حقيقية … ولم تكن حرية
الجماعة أو الفرد متعارضة أساسًا مع حرية الكل … أمَّا في العصر الحديث فإن
«ملكية الاستحواذ»
exclusive property «قد
أسفرَت عن عزلٍ تام للحاجات الخاصة بعضها عن البعض.»
٢٥ إن الناس يتحدثون عن شمول الملكية الخاصة كما لو كانت مشتركة بين
المجتمع كله، وبالتالي وحدة يندمج فيها الكل. غير أن هذا الشمول، كما يقول هِيجِل،
ليس إلا وهمًا قانونيًّا مجرَّدًا، وحقيقة الأمر أن الملكية الخاصة تظل «شيئًا
منعزلًا» لا تربطه علاقةٌ بالكل.
٢٦ فالوحدة الوحيدة التي يمكِن تحقيقُها بين أصحاب الملكية هي الوحدة
المصطنعة لنظامٍ قانوني يطبَّق على نحوٍ شامل. غير أن القوانين تقتصر على تثبيت
وتقنين الأوضاع الفوضوية السائدة للملكية الخاصة؛ ومِن ثَمَّ فهي تُحيل الدولة أو
المجتمع إلى مؤسسة تُوجَد من أجل مصالحَ خاصة. «لقد كان الامتلاك موجودًا قبل
القانون، وهو لم ينشأ من القانون. وقد جعل ما سبق تملُّكُه تملُّكًا خاصًّا، حقًّا
قانونيًّا … وعلى ذلك فإن القانون الدستوري الألماني هو في معناه الصحيح قانونٌ
خاص، والحقوق السياسية صور للتملك والحقوق الملكية أضفيَت عليها صبغة شرعية.»
٢٧ والدولة التي تصبح فيها المصالحُ الخاصة المتعارضة مسيطرةً على هذا
النحو في كل الميادين لا يصح أن تُسَمَّى مجتمعًا مشتركًا بالمعنى الصحيح. وفضلًا
عن ذلك يصرِّح هِيجِل بأن «الصراع من أجل استغلال سلطة الدولة في الملكية الخاصة
يؤدي إلى تحلُّل الدولة ويجلب لسلطتها الدمار.»
٢٨
ومع ذلك فإن الدولة، التي تستحوذ عليها المصالح الخاصة، ينبغي أن تتخذ على الأقل
مظهر العمومية الاجتماعية الحقيقية لكي تُخمد أوار الحرب العامة، وتُدافِع بالمثل
عن حقوق الملكية لدى أفرادها جميعًا … وهكذا تصبح هذه العمومية الاجتماعية سلطةً
مستقلة، ترفع فوق مستوى الأفراد … «إن كل فردٍ يريد أن يحيا، بفضل سلطة الدولة،
آمنًا على ما يملك. وتبدو سلطة الدولة في نظره … شيئًا غريبًا يُوجَد خارجه.»
٢٩
وهكذا فإن هِيجِل في هذه الفترة قد سار في نقده لبناء المجتمع الحديث إلى حدِّ
أنه وصل إلى الاستبصار بالطريقة التي تصبح بها الدولة كيانًا مستقلًّا يعلو على
الأفراد … وقد أعاد كتابة مؤلَّفه عن الدستور الألماني مراتٍ متعدِّدة، ولكن الشكل
النهائي الذي اتخذه ينم عن حدوث ضعفٍ ظاهر في اتجاهه النقدي … إذ إن الشكل «الأرفع»
للدولة، الذي يُراد له أن يحلَّ محلَّ الشكل البالي (الذي تمثِّله ألمانيا)، يتخذ
بالتدريج صورة دولةٍ مطلَقة أو دولةٍ قائمة على السلطة … ولا تعدو الإصلاحات التي
يطالب بها هِيجِل أن تكون إنشاء جيشٍ فعَّال للرايخ، ووضع الإمبراطورية تحت قيادةٍ
موحدة، وإخضاع كل الإدارات، وكل الأمور المالية والقانونية، لسلطةٍ مركزية. وينبغي
أن نلاحظ أن فكرة الدولة القوية ذات السلطة المركزية كانت في ذلك الوقت فكرةً
تقدمية، تهدف إلى تحرير القوى الإنتاجية المتوافرة، التي كانت الأشكال الإقطاعية
القائمة تعترض طريقها … وقد أكَّد ماركس بعد ما يقرب من أربعين عامًا من ذلك الحين،
في تاريخه النقدي للدولة الحديثة، أن الدولة المركزية ذات السلطة المطلَقة تمثِّل
تقدُّمًا ملحوظًا بالقياس إلى أشكال الدولة الإقطاعية وشبه الإقطاعية. ومِنْ ثَمَّ
فإن اقتراح إقامة دولةٍ ذات سلطةٍ مطلَقة كهذه ليس في ذاته علامة على ضعف الاتجاه
النقدي عند هِيجِل … بل إننا نُلاحِظ هذا الضعف في النتائج التي يستخلصها هِيجِل من
مفهوم الدولة المطلَقة عنده … وسوف نعرض هذه النتائج بإيجاز.
في المقال الذي كتبه هِيجِل عن الدستور الألماني، يظهر لأول مرة في كتاباته
اتجاهٌ متميزٌ إلى إخضاع الحق للقوة؛ فقد كان هِيجِل حريصًا على أن يحرِّر دولته
ذات السلطة المركزية من أية قيودٍ قد تقف في وجه فعاليتها؛ ومِن ثَمَّ فقد جعل
مصلحة الدولة تعلو على مشروعية الحق … وتظهر هذه الحقيقة بوضوحٍ في ملاحظات هِيجِل
عن السياسة الخارجية لدولته المثلى:
إن الحق، كما يقول هِيجِل، ينتمي إلى «صالح الدولة»، الذي تحدِّده للدولة وتمنَحه
لها عقود مع دولٍ أخرى.
٣٠ وفي خلال عملية إعادة التشكيل المستمرة بلا انقطاع، لا بد أن يتعارض
صالح دولة، إن عاجلًا أو آجلًا، مع صالح دولةٍ أخرى. عندئذٍ يقف حقٌّ في مواجهة
حقٍّ آخر … وحينئذٍ لا بد للحرب، «أو أي شيء غيرها»، أن تقرِّر، لا إن كان هذا الحق
صحيحًا وعادلًا؛ «إذ إن كلا الجانبين له حقٌّ صحيح، بل أن تقرر أي حق هو ينبغي له
أن يستسلم للآخر.»
٣١ وسوف نصادف هذا الرأي نفسه، معروضًا بتوسعٍ كبير، في «فلسفة الحق
(القانون)».
وهناك نتيجةٌ أخرى تُستخلَص من فكرة دولة القانون، هي وضع تفسيرٍ جديد للحرية …
فهِيجِل يحتفظ بالفكرة الأساسية القائلة إن الحرية النهائية للفرد لن تتناقض مع
الحرية النهائية للكل، بل إنها لن تتحقَّق إلا داخل الكل ومن خلاله … وكان هِيجِل
قد أكَّد هذه النقطة بقوة في مقاله عن الفَرق بين مذهبَي فشته وشلنج، الذي قال فيه
إن المجتمع الذي يتمشَّى مع معيار العقل ينبغي تصوُّره، «لا على أنه قيدٌ على حرية
الفرد الحقيقية، بل على أنه توسيع لها … وأرفع المجتمعات هو أرفع الحريات، في سلطته
وفي ممارسته لها.»
٣٢ ومع ذلك فإن هِيجِل يذكر، في دراسته للدستور الألماني، أن «العناد الذي
يتسم به الطبع الألماني لم يسمح للأفراد بأن يضحُّوا بمصالحهم الخاصة من أجل
المجتمع، أو بأن يتَّحِدوا في صالحٍ مشترك، ويجدوا حريَّتَهم في الخضوع الكامل
للسلطة العليا للدولة.»
٣٣
هنا يطغى ذلك العنصر الجديد، عنصر التضحية والخضوع، على الفكرة الأسبق عهدًا،
القائلة إن صالح الفرد يُحتفظ به احتفاظًا تامًّا في الكل … وهنا نجد أن هِيجِل،
كما سنرى فيما بعدُ، قد خطا الخطوة الأولى المؤدية إلى التوحيد بين الحرية وبين
الضرورة، أو الخضوع للضرورة، في مذهبه النهائي.
(٣) مذهب الأخلاق
في ذلك الوقت نفسه تقريبًا، كتب هِيجِل المسوَّدة الأولى لذلك الجزء من مذهبه،
المُسَمَّى بفلسفة الروح … هذه المسوَّدة، التي تُسمَّى بمذهب الأخلاق System der Sittlichkeit من أصعب الكتابات
في الفلسفة الألمانية. وسوف نقدِّم عرضًا موجزًا لبنائها العام، ونقصُر التفسير على
تلك الأجزاء التي تكشِف عن الاتجاهات الهامة في فلسفة هِيجِل.
إن مذهب الأخلاق، شأنه شأن كل المسوَّدات الأخرى «لفلسفة الروح»، يبحث في تطور
الثقافة culture، التي يقصد بها الكل الشامل
لأوجه نشاط الإنسان الواعية الهادفة في المجتمع … والثقافة تنتمي إلى مجال الروح …
فأي نظامٍ اجتماعي أو سياسي، أو عملٍ فني، أو عقيدة، أو مذهبٍ فلسفي، كل هذه تُوجَد
وتُمارِس تأثيرَها بوصفها جزءًا لا يتجزأ من وجود الإنسان، وبوصفها نواتجَ لذاتٍ
عاقلة تظل تحيا فيها … وهي بوصفها نواتجَ تؤلِّف عالمًا موضوعيًّا، وفي الوقت ذاته
فهي ذاتية، يخلقُها البشر … فهي تمثِّل الوحدة الممكِنة بين الذات والموضوع.
ويكشف تطوُّر الثقافة عن مراحلَ متميِّزة تدُل على المستويات المختلفة للعلاقة
بين الإنسان وعالمه؛ أي على الطرق المختلفة لفَهم العالم والسيطرة عليه، وتكييفه
تبعًا لحاجات الإنسان وإمكاناته … وينظر هِيجِل إلى العمليةِ ذاتِها على أنها
عمليةٌ أنطولوجية، فضلًا عن كونها تاريخية، فهي تطورٌ تاريخي فعلي، بالإضافة إلى
كونها تقدُّمًا تدريجيًّا نحو أشكال أعلى وأصدق للوجود … على أن العملية
الأنطولوجية تكتسب، خلال التطوُّر التدريجي لفلسفة هِيجِل، أهميةً متزايدة بالقياس
إلى العملية التاريخية، إلى أن يأتي وقتٌ تنفصل فيه، إلى حدٍّ بعيد، عن جذورها
التاريخية الأصلية.
أمَّا الإطار العام الذي يسير فيه هذا التطوُّر فهو على النحو الآتي: المرحلة
الأولى علاقةٌ مباشرة بين الفرد المنعزل والموضوعات المعطاة … فالفرد يدرك موضوعات
بيئته بوصفها أشياء يحتاج إليها أو يرغبها، وهو يستخدمها في إشباع رغباته،
ويستهلكها و«يُفْنيها» بوصفها أطعمةً ومشروباتٍ وما إلى ذلك.
٣٤ ثم تصل العملية الثقافية إلى مرحلةٍ أعلى عندما يقوم العمل البشري
بتشكيل العالم الموضوعي وتنظيمه، فلا يقتصر على إفناء الأشياء، بل يحتفظ بها بوصفها
وسائلَ دائمةً لاستمرار الحياة … هذه المرحلة تفترض تجمُّعًا واعيًا للأفراد الذين
نظَّموا نشاطهم على مستوًى واحد من تقسيم العمل؛ بحيث يكون هناك إنتاجٌ مستمرٌّ
يحلُّ محلَّ ما استُهلِك … تلك هي الخطوة الأولى نحو الاشتراك في الحياة
الاجتماعية، ونحو الشمول في مجال المعرفة … فبقَدْر ما يرتبط الأفراد معًا على أساس
أن لهم صالحًا مشتركًا، تؤثِّر الأفكار التي يشتركون في الأخذ بها في مفاهيمهم
ورغباتهم، وتوجِّهها، ومِن ثَمَّ فإنهم يقتربون من شمول العقل.
وتختلف أشكال التجمُّع أو الارتباط باختلاف درجات التكامل التي يتمُّ بلوغها فيها
… وتكون وسيلة التكامل في البداية هي الأسرة، ثم النظم الاجتماعية للعمل والملكية
والقانون، وأخيرًا الدولة.
ولن نتناول هنا بالبحث المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية العينية التي يملأ بها
هِيجِل هذا الإطار، ما دمنا سنُصادِفها مرةً أخرى في مسوَّدات فترة «يينا» التي
وضعَها «لفلسفة الروح». وكل ما نودُّ أن نقولَ هنا هو أن نؤكِّد أن هِيجِل يصف
مختلف النُّظم والعلاقات الاجتماعية بأنها نسَقٌ من القوى المتناقضة، التي تنبثق من
شكل العمل الاجتماعي … فشكل العمل هذا يحوِّر المجهود الخاص للعامل، وهو المجهود
الذي يقوم به لإشباع حاجاته الخاصة، إلى «عمل عام»، يؤدي إلى إنتاج سلعٍ للسوق.
٣٥ ويطلق هِيجِل على هذا العمل الأخير اسم العمل «المجرَّد والكمِّي»،
ويذكُر أنه هو علَّة اللامساواة بين الناس وبين الثروات … وليس في وسع المجتمع أن
يتغلَّب على التعارُضَات الناشئة عن هذه اللامساواة؛ ومِن ثَمَّ فإن من واجب «نظام
الحكومة» أن يركِّز جهوده على هذه المهمة … ويعرض هِيجِل هنا ثلاثة نُظمٍ مختلفة
للحكومة، يمثِّل كلٌّ منها تقدُّمًا بالنسبة إلى الآخر في تحقيق هذه المهمة … وهذه
النُّظُم ترتبط ارتباطًا وثيقًا ببناء المجتمع الذي تحكُمه.
إن الصورة العامة للمجتمع هي تلك التي يصبح فيها «نسَق الحاجات» «نسقًا من
الاعتماد المادي المتبادل» … فعمل الفرد لا يمكِنه أن يضمنَ تحقيقَ حاجاته. «وهناك
قوةٌ غريبة عن الفرد، لا سلطان له عليها»، هي التي تحدِّد إن كانت حاجاته ستُلبَّى
أم لا. وقيمة نتاج العمل «مستقلة عن الفرد، ومعرَّضة لتغيُّر دائم.»
٣٦ ونظام الحكومة هو ذاته من هذا النوع الفوضوي … فما يحكُم ليس إلا
«المجموع الأعمى اللاواعي للحاجات وطرق إشباعها.»
٣٧
إن المجتمع لا بد له من أن يسيطر على «مصيره اللاواعي الأعمى». غير أن هذه
السيطرة تظل ناقصةً ما دامت الفوضى العامة في المصالح سائدة … فالغِنَى المُفرِط
يسير جنبًا إلى جنبٍ مع الفقرِ المُفرِط، والعمل الكمِّي البحت يدفع الإنسان إلى
«حالة من البربرية المتطرفة»، ولا سيَّما ذلك الجزء من السكان «الخاضع للعمل الآلي
في المصانع.»
٣٨
وتقوم المرحلة التالية في الحكم، التي يصفها بأنها «نسق أو نظام للعدالة»، بإيجاد
توازن بين المتناقضات والعداوات القائمة، ولكنها لا تفعل ذلك إلا من خلال علاقات
الملكية السائدة … فهنا ترتكز الحكومة على ممارسة العدل، ولكنها تطبِّق القانون
«دون أية مراعاة للعلاقة التي تربط بين الشيء وبين حاجات أي فردٍ بعينه.»
٣٩
وهكذا فإن من المستحيل أن يتحقَّق مبدأ الحرية، أعني المبدأ القائل إن «المحكومين
يصبحون هي ذاتهم الحاكمين»، تحقيقًا تامًّا لأن الحكومة لا تستطيع التخلُّص من
المُنازَعات القائمة بين المصالح الخاصة. وعلى ذلك فإن الحرية لا تظهر إلا في
«المحاكم، وفي مناقشة القضايا والحكم عليها.»
٤٠
أمَّا النظام الثالث للحكومة فإن هِيجِل لا يكاد يذكُر عنه شيئًا في هذه المجموعة
من كتاباته، ومع ذلك فإن مما له دلالته البالغة أن المفهوم الرئيسي في مناقشته هو
مفهوم النظام والانضباط
Zucht «إن النظام العظيم
يعبَّر عنه في الأخلاق العامة … وفي التدريب على الحرب، وفي اختيار القيمة الحقيقية
للفرد في الحرب.»
٤١
وهكذا فإن البحث عن الوحدة الاجتماعية الحقيقية ينتهي إلى مجتمعٍ يحكمه أشد أنواع
النظام صرامة، ويتحكَّم فيه الاستعداد الحربي … والوحدة الحقيقية بين الفرد وبين
الصالح العام، التي طالَب بها هِيجِل بوصفها الهدفَ الوحيدَ للدولة، قد أدَّت إلى
دولةٍ تسلُّطية تعمل على قمع العداوات المتزايدة في المجتمع ذي النزعة الفردية.
والواقع أن مناقشة هِيجِل لمختلف مراحل الحكم إنما هي وصفٌ عيني للتطور من نظامٍ
سياسي ليبرالي إلى نظامٍ تسلُّطي، وهو وصفٌ ينطوي على نقدٍ ضمنيٍّ للمجتمع ذي
النزعة الليبرالية؛ إذ إن مؤدَّى تحليل هِيجِل هو أن المجتمع الليبرالي تتولَّد عنه
بالضرورة دولةٌ تسلُّطية. وقد طبَّق هِيجِل هذا النقد على ميدان الاقتصاد السياسي
في مقاله عن القانون الطبيعي،
٤٢ وهو المقال الذي كتبه، على الأرجح، بعد عرضه الموجَز لنسَق الأخلاق
بوقتٍ قصير.
فهِيجِل يختبر النظام التقليدي للاقتصاد السياسي، ويجد أنه صياغةٌ تبريرية
للمبادئ التي تحكُم النظام الاجتماعي القائم. وهو يذكُر هنا أيضًا أن طابع هذا
النظام سلبي في أساسه؛ إذ إن نفس طبيعة البناء الاقتصادي تحول دون قيام صالحٍ مشترك
حقيقي … ومهمة الدولة، أو أي تنظيمٍ سياسي سليم، هي أن تعمل ما من شأنه ألا تؤدِّي
المتناقضات الكامنة في البناء الاقتصادي إلى تحطيم النظام كله … فلا بد للدولة أن
تضطلع بمهمة كبحِ جماحِ العملية الاجتماعية والاقتصادية الفوضوية.
إن هِيجِل يهاجم نظرية القانون الطبيعي لأنها، على حد قوله، تبرِّر كل الاتجاهات
الخطرة التي تهدف إلى إخضاع الدولة للمصالح المتعارضة للمجتمع ذي النزعة الفردية.
مثال ذلك أن نظرية العقد الاجتماعي لا تدرك أن الصالح العام يستحيل أن يُستمَد من
إرادة أفرادٍ متنافسين ومتنازعين. وفضلًا عن ذلك فإن القانون الطبيعي يرتكز على
نظرةٍ ميتافيزيقية بحتة إلى الإنسان … فالإنسان، كما يبدو في نظرية القانون
الطبيعي، هو كائنٌ مجرد، يصبح فيما بعدُ مزوَّدًا بمجموعةٍ اعتباطية من الخصائص.
ويتغيَّر اختيار هذه الخصائص تبعًا للاتجاه الذي ترمي النظرية الخاصة إلى تبريره
والدفاع عنه. وفضلًا عن ذلك فإنه مما يؤكد الوظيفة التبريرية لفكرة القانون الطبيعي
أنها لا تعمل حسابًا لمعظم الصفات التي تميِّز وجود الإنسان في المجتمع الحديث
(كالعلاقات العينية للملكية الخاصة، والأحوال السائدة للعمل، وما إلى ذلك).
وإذن فالمسوَّدة الأولى لفلسفة هِيجِل الاجتماعية قد نادت فعلًا بالفكرة التي
تكمُن من وراء مذهبه كله، وهي أن النظام الاجتماعي الموجود، المبني على نظام العمل
الكمِّي المجرد، وعلى تكامل الحاجات عن طريق تبادل السلع، عاجزٌ عن تأكيد وإقامة
مجتمعٍ مشترك عاقل … فهذا النظام يظل في أساسه نظامًا من الفوضوية واللامعقولية،
تحكُمه آلياتٌ اقتصاديةٌ عمياء، وهو يظل نظامًا من العداوات التي تتكرَّر دومًا،
والتي لا يكون كل تقدُّم فيها سوى توحيدٍ مؤقَّت للأضداد. وهكذا فإن مطالبة هِيجِل
بدولةٍ قويةٍ مستقلة كانت مستمَدَّة من استبصاره بالمتناقضات التي لا يمكن التوفيق
بينها في المجتمع الحديث … ولقد كان هِيجِل أوَّل من توصَّل إلى هذا الاستبصار في
ألمانيا … وكان تبريرُه للدولة القوية قائمًا على أساس أنها مكملٌ ضروري للتركيب
الذي يدبُّ فيه التعارض، والذي يتسم به المجتمع ذو النزعة الفردية، الذي كان يقوم
بتحليله.