ولقد اخترنا أن نقتصر في معالجتنا على الاتجاه العام وتنظيم الكل، وعلى المبادئ التي
توجِّه تطوُّر المفاهيم. أمَّا مضمون المفاهيم الخاصة فسوف نُناقِشه عندما نصل إلى
الأقسام المختلفة للمذهب النهائي.
(١) المنطق
يقوم «المنطق» عند هِيجِل بمهمة عرض تركيب الوجود بما هو كذلك؛ أي أعم صور الوجود
… ولقد كان التراث الفلسفي منذ أرسطو يطلق اسم المقولات على التصوُّرات التي تعبِّر
عن هذه الصور الأكثر تعميمًا، كالجوهر، والإيجاب، والسلب، والتحديد، والكَم،
والكيف، والوحدة، والكثرة، وما إلى ذلك … ويُعَد «منطق» هِيجِل أنطولوجيًّا بقَدْر
ما يعالج أمثال هذه المقولات … غير أن «المنطق» عنده يبحث أيضًا في الصور العامة
للفكر؛ أي في الفكرة، والحكم، والقياس، فهو في هذا الصدد «منطق صوري».
ونستطيع أن نفهم سبب هذا اللاتجانس الظاهري في المضمون إذا تذكَّرنا أنَّ
«كَانْت» بدوره قد عالج الأنطولوجيا، إلى جانب المنطق الصوري، في بحثه في «المنطق
الترنسندنتالي»، فبحث مقولات الجوهرية، والعِلِّية، والتأثير المتبادَل، إلى جانب
نظرية الحكم … والواقع أن التمييز التقليدي بين المنطق الصوري والميتافيزيقا العامة
(الأنطولوجيا) هو تمييزٌ لا معنى له بالنسبة إلى المثالية الترنسندنتالية، التي
تنظر إلى صور الوجود على أنها نتائجُ لنشاط الذهن الإنساني، وبذلك تصبح مبادئ الفكر
في الآن نفسه مبادئ لموضوعات الفكر (للظواهر).
ولقد كان هِيجِل بدَورِه يؤمن بوجود وحدة بين الفكر والوجود، ولكن تصوُّره للوحدة
يختلف، كما رأينا من قبلُ، عن تصور كَانْت لها؛ فقد رفض مثالية كَانْت على أساس
أنها تفترض وجود «الأشياء في ذاتها» بمعزل عن «الظواهر»، وتترك هذه «الأشياء» دون
أن يمسَّها الذهن البشري، وبالتالي دون أن يمسَّها العقل … فالفلسفة الكَانْتية قد
خلَّفَت من بعدها هُوةً بين الفكر والوجود، أو بين الذات والموضوع، سعت الفلسفة
الهِيجِلية إلى عبورها. ووسيلة العبور هي القول بتركيبٍ كلي واحد للوجود كله …
فالمفروض أن يُنظر إلى الوجود على أنه عملية يفهم فيها الشيء أو يدرك الحالات
المختلفة لوجوده، ويجذبها إلى وحدة «ذاته»، وهي الوحدة التي تدوم بدرجاتٍ مختلفة،
وبذلك يؤكِّد بقاءه على ما هو عليه طوال كل تغيُّر. وبعبارةٍ أخرى فكل شيء يُوجَد
بوصفه «ذاتًا» … ويؤدي البناء الواحد للحركة، الذي يمتد على هذا النحو خلال ذلك
المجال كله، إلى توحيد العالَمَين الموضوعي والذاتي.
فاذا تذكَّرنا هذه المسألة، كان من السهل أن نفهم سبب التوحيد بين المنطق
والميتافيزيقا في مذهب هيجل … لقد قال الكثيرون إن المنطق يفترض مقدمًا هُوِية
الفكر والوجود — وهي عبارةٌ ليس لها معنًى إلا بقَدْر ما تشير إلى أن حركة حر الفكر
تردِّد حركة الوجود وتُضفي عليها صورتَها الحقيقية … كذلك ذهب البعض إلى أن فلسفة
هيجل تضع المفاهيم في عالمٍ مستقل، وكأنها أشياءُ حقيقية، وتجعلها تجول هنا وهناك
ويتحول بعضها إلى البعض … ولكن ينبغي أن يُقال ردًّا على ذلك إن «منطق». هيجل
يُعالِج أساسًا صور وأنماط الوجود كما يفهمه الفكر … فعندما يناقش هيجل مثلًا
الانتقال من الكم إلى الكيف، أو من «الوجود، إلى «الماهية»، يكون هدفه هو أن يبيِّن
كيف أن الكيانات الكمية، عندما تفهم بالفعل، تتحول إلى كياناتٍ كيفية، وكيف يتحول
وجودٌ عارض إلى وجودٍ ماهوي … إنه يعني أنه يتعامل هنا مع أشياءَ واقعيَّة؛
فالتفاعل وتبادل الحركة بين المفاهيم إنما هو ترديد للعملية العينية للواقع.
ومع ذلك فهناك علاقةٌ أخرى كامنة بين المفهوم والموضوع الذي يؤدي هذا المفهوم إلى
فهمه؛ فالمفهوم الصحيح يجعل طبيعة الموضوع واضحة لنا. وهو يُنبئنا بما يكونه الشيء
في ذاته. ولكن في الوقت الذي تصبح فيه الحقيقة واضحة لنا، يصبح من الواضح أيضًا أن
الأشياء «لا تُوجَد في» حقيقتها … فهذه الإمكانات تحدُّ منها الظروف المتعينة
المحددة التي تُوجَد فيها الأشياء … ولا تبلغ الأشياء حقيقتها إلا إذا سُلبَت
ظروفها المتعينة … ولكن السلب بدوره تعيُّن، يتم عن طريق تحقيق أحوالٍ كانت موجودة
ضمنيًّا من قبلُ. مثال ذلك أن برعم النبات هو السلب المتعين للبذرة، والزهرة هي
السلب المتعين للبرعم … وفي أثناء نمو النبات، وهو «الذات» بالنسبة إلى هذه
العملية، نجده لا يسلك عن معرفة، ولا يحقِّق إمكاناته على أساس قدرته الخاصة على
الفهم، بل هو يمُر بعملية التحقُّق سلبيًّا … ومن جهةٍ أخرى فإن المفهوم الذي
نكوِّنه عن النبات يشتمل على إدراك أن وجود النبات عمليةُ نُمو باطنة، فهذا المفهوم
ينظر إلى البذرة على أنها هي البرعم بالقوة، ويرى البرعم على أنه الزهرة بالقوة …
وهكذا فإن المفهوم، في نظر هِيجِل، يمثِّل الشكل الحقيقي للموضوع؛ لأن المفهوم
يقدِّم إلينا الحقيقة عن تلك العملية التي تكون في العالم الموضوعي عمياءَ عارضة؛
ففي العالم غير العضوي، وعالم النبات، وعالم الحيوان، تختلف الموجودات اختلافًا
أساسيًّا عن مفهوماتها، ولا يتم تجاوز هذا الاختلاف إلا في حالة الذات المفكِّرة،
التي تستطيع تحقيق مفهومها في وجودها … وهكذا يمكِن أن تُرتب مختلف أحوال الوجود أو
أشكاله تبعًا لاختلافها الأساسي عن مفاهيمها.
هذه النتيجة هي مصدر التقسيمات الأساسية «للمنطق» عند هِيجِل؛ فالمنطق يبدأ
بالتصوُّرات التي تدرك الواقع بوصفه كثرةً من الأشياء الموضوعية؛ أي مجرد «وجود»،
مبرَّأ عن أية ذاتية … هذه التصوُّرات ترتبط فيما بينها ارتباطًا كيفيًّا وكميًّا،
ويؤدي تحليل هذه الارتباطات إلى الوصول إلى علاقاتٍ لا يعود من الممكِن تفسيرُها
على أساس كيفياتٍ وكمياتٍ موضوعية، بل تقتضي مبادئ وصورًا للفكر تسلب التصوُّرات
التقليدية للوجود، وتكشفُ لنا عن أن الذات هي جوهرُ الواقع ذاته … ولمَّا كان من
المستحيل فهم البناء كله إلا في شكله الناضج الذي أضفاه عليه هِيجِل في «علم
المنطق»، فإنَّا سنقتصر ها هنا على تقديم وصفٍ موجز للإطار الأساسي.
إن كل موجودٍ جزئي مختلف أساسًا عما كان يمكِن أن يكُونَه لو تحقَّقَت إمكاناته.
والإمكانات معطاة في مفهومه … فالموجود يكون له وجودٌ حق لو أن إمكاناته تحقَّقَت؛
وبالتالي لو كانت هناك هُويةٌ بين وجوده وبين مفهومه … والحق أن الفارق بين الواقع
والإمكان إنما هو نقطة بداية العملية الجدَلية التي تسري على كل تصوُّر في «منطق»
هِيجِل؛ فالأشياء المتناهية «سالبة» — وهذه صفة تستخدم في تعريفها، وهي لا تكون
أبدًا ما يمكن أن تكونه، وما ينبغي أن تكونه … فهي تُوجَد دائمًا في حالة لا تعبِّر
تعبيرًا كاملًا عن إمكاناتها عند تحقُّقها … أي إن ماهية الشيء المتناهي هي «عدم
الاستقرار المطلَق هذا»، وهذا السعي «إلى ألا يكون ما يكونه.»
٢
وإنَّا لنستطيع إدراك الدوافع النقدية التي تكمُن من وراء هذا الفهم حتى في تلك
الصِّيَغ التجريدية «للمنطق»؛ فالجدَل الهِيجِلي يتغلغل فيه اقتناعٌ عميق بأن كل
الأشكال المباشرة للوجود — في الطبيعة والتاريخ — هي أشكالٌ «رديئة» لأنها لا تتيح
للأشياء أن تكُون ما يمكِنها أن تكُونه. أمَّا الوجود الحق فلا يبدأ إلا حين نعترف
بأن الحالة المباشرة سلبية، وعندما تصبح الموجودات «ذوات subjects» وتسعى إلى أن تكيِّف حالتها الخارجية مع إمكاناتها.
وإن الأهمية الكاملة للفكرة التي عرضناها الآن لتكمُن في تأكيدها أن السلبية
عنصرٌ مكوِّن لكل الأشياء المتناهية، وهي اللحظة «الجدَلية الأصيلة»
٣ لها جميعًا؛ فهي «أعمق مصدر لكل نشاط، وللحركة الذاتية الحية والروحية.»
٤ إن السلبية التي يمتلكها كل شيء هي المقدمة الضرورية لحقيقته … إنها
حالة حرمانٍ تدفع الذات إلى البحث عن علاج … ومِن ثَمَّ فإن لها، بهذا الوصف،
طابعًا إيجابيًّا.
إن العملية الجدَلية تستمد قوَّتها المحرِّكة من الضغط الذي يهدف إلى تجاوز
السلبية … والجدَل عملية في عالم تتألف فيه طريقة وجود الناس والأشياء من علاقاتٍ
متناقضة؛ بحيث أن أي مضمونٍ خاص لا يمكِن الكشف عنه إلا عن طريق الانتقال إلى ضده؛
فهذا الأخير جزء لا يتجزأ من الأوَّل، والمضمون الكامل هو المجموع الكلي لجميع
العلاقات المتناقضة المتضمَّنة فيه … ويبدأ الجدَل، منطقيًّا، منذ اللحظة التي يجد
فيها الذهن البشري نفسه عاجزًا عن إدراك شيءٍ ما إدراكًا كافيًا من خلال أشكاله
الكيفية أو الكمية … فتبدو الكيفية أو الكمية المعطاة أو الموجودة بالفعل «سلبًا»
للشيء الذي يملك هذه الكيفية أو الكمية … وعلينا الآن أن نتتبَّع تفسير هِيجِل لهذه
النقطة بشيءٍ من التفصيل.
يبدأ هِيجِل من العالَم كما يراه الإنسان في موقفه الطبيعي common sense. هذا العالَم يتألف من كثرة لا حصر لها من الأشياء
— يسمِّيها هِيجِل «أشياء ما»، لكلٍّ منها صفاته (كيفياته) النوعية المحددة. وتؤدي
الصفات (الكيفيات) التي يمتلكها الشيء إلى تمييزه من الأشياء الأخرى؛ بحيث إننا إذا
شئنا أن نفرِّق بينه وبين سائر الأشياء اكتفينا بتعداد كيفياته؛ فالمنضدة الموجودة
في هذه الحجرة تُستخدم مكتبًا، وهي ذات قشرة من خشب الجوز، وثقيلة، وخشبية … إلخ.
على أن كون الشيء مكتبًا، بُني اللون، خشبيًّا، ثقيلًا … إلخ، لا يعني نفس كونه
منضدة. فالمنضدة ذاتها ليست أيًّا من هذه الكيفيات، ولا هي مجموعها … بل إن
الكيفيات الجزئية هي، في نظر هيجل، سلب للمنضدة بما هي كذلك في الوقت ذاته …
والقضايا التي تحمل فيها كيفيات المنضدة عليها تشهد على هذه الحقيقة … فهذه القضايا
يكون تركيبها المنطقي الشكلي هو «أ هي ب» (أي ليست أ). فالقضية «المنضدة بُنِّية
اللون» تعبِّر أيضًا عن كون المنضدة غير ذاتها. تلك هي الصورة المجردة الأولى التي
تعبِّر عن سلبية الأشياء المتناهية كلها؛ فنفس وجود الشيء يبدو على أنه غير ذاته …
فهو، على حد تعبير هيجل، يُوجَد في تغاير
Anderssein.
على أن محاولة تعريف الشيء من خلال كيفياته لا تنتهي بالسلب، بل هي تمضي خطوةً
أبعد من ذلك؛ فالشيء لا يمكِن أن يُفهَم من خلال كيفياته دون إشارة إلى كيفياتٍ
أخرى تستبعدها بالفعل تلك التي يملكها الشيء … مثال ذلك أن صفة «الخشبي» لا يكون
لها معنًى إلا من خلال علاقاتها بمادةٍ أخرى غير خشبية. ومعنى «البُنِّي» يفترض
معرفة الألوان الأخرى التي هي مُضادَّة له، وهكذا … «إن الكيف يرتبط بعلاقةٍ مع ما
يستبعده؛ ذلك لأنه لا يُوجَد بوصفه مطلَقًا موجودًا لذاته، بل يُوجَد على نحوٍ من
شأنه ألا يكون موجودًا لذاته إلا بقَدْر ما لا تُوجَد فيه (كيفية) أخرى.»
٥ وهكذا فإننا في كل نقطة نصل إلى ما وراء الكيفيات التي ينبغي أن تحدِّد
معالم الشيء وتفرق بينه وبين شيءٍ آخر … وعلى ذلك فإن ثباته ووضوحه الباديَين
يرتدَّان إلى سلسلة لا نهاية لها من «العلاقات».
وهكذا فإن الفصول الأولى في «منطق» هِيجِل تبيِّن أن الذهن البشري عندما يغامر
بمتابعة مفهوماته، يجد نفسه إزاء تفكُّك وتحلُّل لموضوعاته المحدَّدة تحديدًا
واضحًا؛ فهو أوَّلًا يجد أن من المستحيل عليه تمامًا أن يحدِّد هوية أي شيءٍ على
أساس الحالة التي يُوجَد عليها الشيء بالفعل … ويؤدي الجهد الذي يُبذل من أجل الكشف
عن تصوُّر يحدِّد بحقٍّ هُوية الشيء على ما هو عليه، إلى إغراق الذهن في خِضَم من
العلاقات اللانهائية … فمن الواجب أن يُفهم كل شيء في علاقاته بالأشياء الأخرى؛
بحيث تصبح هذه العلاقات هي نفس وجود ذلك الشيء … على أنَّ لا نهائية العلاقات هذه،
التي تبدو كما لو كانت تُؤذِن بإخفاق أية محاولة للوصول إلى طابع الشيء، تصبح في
نظر هِيجِل، على العكس من ذلك تمامًا، أول خطوة في سبيل المعرفة الحقَّة للشيء … أي
إنها هي الخطوة الأولى إذا ما اتُّخذَت على النحو الصحيح.
ويناقش هِيجِل هذه العملية خلال تحليله «للانهائية» … فاللانهائية تتشعَّب إلى
نوعَين؛ اللانهائية «الرديئة»، واللانهائية «الحقة» … أمَّا اللانهائية الرديئة أو
الباطلة فهي الطريق الخطأ إلى الحقيقة … إنها النشاط الذي يُبذل من أجل محاولة
التغلُّب على نقص التعريف عن طريق التوسُّع التدريجي في الكيفيات المترابطة التي
يستتبعها التعريف، أملًا في الوصول إلى نهاية … فالذهن يقتصر على متابعة العلاقات،
كلما لزمتَ واحدة منها، فيضيف علاقة إلى الأخرى في محاولةٍ لا جدوى منها من أجل
استنفاد الموضوع وتحديد معالمه … وتتسم هذه العملية بأن لها أساسًا عقليًّا، ولكن
ذلك لا يكون إلا بقَدْر ما تفترضُ مقدمًا أن ماهية الموضوع مؤلَّفة من علاقاته
بالموضوعات الأخرى … ومع ذلك فإن العلاقات لا يمكِن إدراكها عن طريق «اللانهائية
الزائفة» التي تتألَّف من علاقاتٍ خارجية
مُضافة Und-Beziehungen فحسب، وهي العلاقات التي نربط بواسطتها موضوعًا بالآخر في
موقفنا الطبيعي.
إن من الواجب فهم العلاقات على نحوٍ آخر … فيجب أن يُنظر إليها على أنها تُخلق
بواسطة حركة الموضوع الخاصة. ويجب أن يُفهم الموضوع على أنه هو ذاته الذي يقيم
«ويظهر العلاقة الضرورية بين ذاته وبين ضده.»
٦ وهذا يفترض وجود نوع من التحكُّم لدى الموضوع في تطوره؛ بحيث يمكنه أن
يظل ذاته على الرغم من أن كل مرحلةٍ عينية في وجوده هي «سلب» لذاته، أو «تغايُر».
وبعبارةٍ أخرى فالموضوع ينبغي أن يُفهَم بوصفه «ذاتًا»، في علاقاته
«بتغايره».
والذات، بوصفها مقولةً أنطولوجية، هي قدرة كيانٍ معيَّن على أن «يكون ذاته في
تغايره» (Bei-sich-selbst-sein im Anderssein) وطريقة الوجود هي وحدها التي يمكِنها أن تدمج السلبي في
الإيجابي؛ فالسلبي والإيجابي لا يعودان متضادَّين عندما تؤدي القوة الدافعة للذات
إلى جعل السلبية جزءًا من وحدة الذات نفسها. ويقول هِيجِل إن الذات تُضفي على
السلبية «توسطًا»، و«ترفعها». وفي هذه العملية لا ينحلُّ الموضوع إلى تحديداته
الكيفية أو الكمِّية المتعددة، بل يظل متماسكًا طوال علاقاته بالموضوعات
الأخرى.
تلك هي طريقة الوجود التي يصفها هِيجِل بأنها هي «اللانهائية الحقة».
٧ فاللانهائية ليست شيئًا يتعدَّى الأشياء المتناهية أو يتجاوزها، وإنما
هي حقيقتها الحقَّة … واللانهائي هو طريقة الوجود التي تتحقَّق فيها كل الإمكانات،
ويصل فيها كل وجودٍ إلى صورته النهائية.
وعلى هذا النحو يتحدَّد هدف «المنطق»؛ فهو من جهة الكشف عن الصورة الحقيقية لمثل
هذا الواقع النهائي، ومن جهةٍ أخرى، بيان الطريقة التي تصل بها التصوُّرات التي
تحاول فهم هذا الواقع إلى الاعتراف بأنه هو الحقيقة المطلَقة … ولقد أعلن هِيجِل في
وصفه للفلسفة الكَانْتية أن مهمة المنطق هي «تطوير» المقولات، لا مجرد «جمعها».
ومثل هذه المحاولة لا يمكِن أن تثمر إلا إذا كان لموضوعات الفكر ترتيبٌ منهجي
منظَّم … هذا الترتيب، كما يقول هِيجِل، يرجع إلى أن كل أحوال الوجود تصل إلى
حقيقتها من خلال الذات الحرة التي تفهمها في صلتها بمعقوليتها الخاصة. ويعكس ترتيب
«المنطق» هذا الفهم المنهجي؛ فهو يبدأ بمقولات التجربة المباشرة، التي لا تُدرِك
إلا أكثر صور الوجود الموضوعي (أي الأشياء المادية) تجريدًا، وهي الكَم، والكَيف،
والقَدْر. وهذه هي الأكثر تجريدًا؛ لأنها تنظر إلى كل موضوعٍ على أنه يتحدد
خارجيًّا بموضوعاتٍ أخرى … وفي هذه الحالة يسود الارتباط البسيط؛ لأن مختلف أحوال
الوجود ترتبط هنا ارتباطًا خارجيًّا بعضها ببعض، ولا يُدرك أي موجود على أن له
علاقةً باطنة بذاته وبالأشياء الأخرى التي يتبادل التأثير معها … مثال ذلك أن
موضوعًا معيَّنًا يُنظر إليه على أنه يكون ذاته في عمليات الجذب والتنافر … هذا، في
نظر هِيجِل، تفسير مجرد وخارجي للموضوعية، ما دامت الوحدة الدينامية للموجود تُعَد
هنا نتاجًا لقوًى طبيعيةٍ عمياء معيَّنة، ليس للموجود ذاته أي سلطان عليها. وهكذا
فإن مقولات الارتباط البسيط أبعد ما تكون عن أي اعترافٍ بالجوهر على أنه
«ذات».
أمَّا المقولات التي يبحثها هِيجِل في القسم الثاني من «المنطق» تحت عنوانٍ عام
هو: الإضافة Verhältnis، فتقترب خطوةً أخرى من هذا
الهدف … ذلك لأن الجوهرية، والعلِّية، والتأثير المتبادل، لا تدل على كياناتٍ
مجرَّدة ناقصة (كما كانت مقولات القسم الأوَّل)، بل على علاقات (إضافات) حقيقية؛
فالجوهر لا يكون على ما هو عليه إلَّا في صلته بأعراضه. وبالمثل، لا تُوجَد العلة
إلا في صلتها بمعلولاتها، ولا يُوجَد جوهران يعتمد كلٌّ منهما على الآخر إلا في
علاقتهما كلٌّ بالآخر. فالارتباط هنا داخليٌّ باطن … ويدُل الجوهر — وهو المقولة
الشاملة في هذه المجموعة — على حركةٍ أقربَ إلى الباطن بكثيرٍ من تلك القوة
العمياء، قوة الجذب والتنافر؛ فلديه قدرةٌ معيَّنة بالنسبة إلى أعراضه ومعلولاته،
وعن طريق قدرته الخاصة يقيم علاقةً بينه وبين الأشياء الأخرى، وبذلك تكون لديه
القدرة على الكشف عن إمكاناته. على أن الجوهر ليست لديه معرفة بهذه الإمكانات؛ ومِن
ثَمَّ فهو لا يملك حرية التحقُّق الذاتي. فالجوهرية تظل معبِّرة عن علاقة بين
الموضوعات، أو بين الأشياء المادية، أو علاقة وجود، كما يقول هِيجِل … ولا بُد لنا،
لكي ندرك العالم في وجوده الحق، من أن ندركه بمقولات الحرية، التي لا تُوجَد إلا في
عالم الذات المفكِّرة؛ فلا بد من حدوث انتقال من علاقة الوجود إلى علاقة
الفكر.
هذه العلاقة الأخيرة تشير إلى تلك التي تقوم بين الجزئي والكلي في التصور،
والحكم، والقياس … وهي في نظر هِيجِل ليست علاقة منطقٍ صوري، بل علاقة أنطولوجية،
وهي العلاقة الحقيقية في الواقع بأَسْره … فجوهر الطبيعة فضلًا عن التاريخ هو كلي
يتكشَّف من خلال الجزئي … إن الكلي هو العملية الطبيعية للجنس، كما تتحقق من خلال
النوع والأفراد … والكلي في التاريخ هو جوهر كل تطوُّر؛ فدولة المدينة اليونانية،
والصناعة الحديثة، والطبقة الاجتماعية، كل هذه الكُليات هي قوًى تاريخيةٌ فعلية لا
يمكن ردُّها إلى مكوِّناتها … بل إن الوقائع والعوامل الفردية، على عكسٍ من ذلك، لا
تكتسب معناها إلا من خلال الكُل الذي تنتمي إليه … فالفرد يتحدَّد، لا بصفاته
الجزئية، بل بصفاته الكُلية، مثل كونه مواطنًا يونانيًّا، أو عاملًا في مصنعٍ حديث،
أو بورجوازيًّا.
ومن جهةٍ أخرى فإن الكلية ليست «علاقة وجود»، ما دام كل وجود — كما رأينا —
متعينًا وجزئيًّا … وهي لا يمكن أن تُفهَم إلا بوصفها «علاقة للفكر»؛ أي نُموًّا
ذاتيًّا لذاتٍ شاملة فاهمة.
ولقد كانت مقولة الكلية تُعامل، في الفلسفة التقليدية، بوصفها جزءًا من المنطق،
فكانت تبحث في نظرية التصوُّر، والحكم، والقياس. أمَّا عند هِيجِل فإن هذه الصور
والعمليات المنطقية تعكس الصور والعمليات الفعلية للواقع وتشتمل عليها … وقد أشرنا
من قبلُ تلميحًا إلى تفسير هِيجِل الأنطولوجي للتصوُّر والحكم … ومن الأمور التي
لها أهميةٌ قصوى في هذا الصدد، معالجتُه للتعريف؛ فالتعريف في التراث المنطقي هو
العلاقة الفكرية التي تدرك الطبيعة الكلية لموضوعٍ ما في تميُّزه الأساسي عن
الموضوعات الأخرى … أمَّا عند هِيجِل فإن التعريف لا يستطيع أن يقوم بذلك إلا لأنه
يردِّد (أو يعكس) العملية الفعلية التي تميَّز بها الموضوع عن الموضوعات الأخرى
التي يرتبط بها. فالتعريف إذن لا بد أن يعبِّر عن الحركة التي يحتفظ فيها الموجود
بهُويَّته عن طريق سلب الشروط (أو الأوضاع) التي يُوجَد عليها … وبالاختصار، فلا
يمكِن أن يعطَى تعريف حقيقي في قضية منعزلة واحدة، بل يجب أن يعرضَ هذا التعريفُ
بالتفصيل التاريخَ الحقيقي للموضوع؛ لأن تاريخه هو وحده الذي يفسِّر حقيقته.
٨ مثال ذلك أن التعريف الحقيقي للنبات ينبغي أن يكشف عن النبات وهو
يكوِّن ذاته عن طريق تحطيم البرعم للبذرة والزهرة للبرعم … وينبغي أن يُنبئَنا كيف
يستمر النبات قائمًا في تفاعله وصراعه مع بيئته … ويطلق هِيجِل على التعريف اسم
«حفظ الذات»، ويفسِّر هذا الاستخدام بقوله: «عند تعريف أشياءَ حية ينبغي أن تستمدَّ
صفاتها من الأسلحة الهجومية والدفاعية التي تحفَظ بها هذه الأشياءُ ذاتَها إزاء
الأشياء الجزئية الأخرى.»
٩
في هذه الحالات كلها يدرك الفكر العلاقات الحقيقية للعالم الموضوعي، ويقدِّم
إلينا معرفة بما تكونه الأشياء «في ذاتها» … ويتعيَّن على الفكر أن ينقِّب عن هذه
العلاقات الحقيقية؛ لأن مظهر الأشياء يُخفيها … ولهذا السبب كان الفكر أكثر «حقيقة»
من موضوعاته … وفضلًا عن ذلك فالفكر هو الصفة الوجودية لموجود «يشمل» كل الموضوعات
و«يفهمها»؛ فالعالم الموضوعي يصل إلى صورته الحقة في عالم الذات الحرة، والمنطق
الموضوعي ينتهي إلى المنطق الذاتي … وفي مذهب «يينا»، يعالَج المنطق الذاتي في
القسم الخاص بالميتافيزيقا … ويتولى هذا المنطق عرضَ المقولات والمبادئ التي تفهم
كل موضوعية وتشتمل عليها، بوصفها ميدانَ الذات في نُموها؛ أي ميدان العقل.
وسوف يزداد العرض المقتضَب الذي قدَّمناه ها هنا لأفكار هِيجِل الرئيسية وضوحًا
عندما نناقش نسَق المنطق النهائي … والواقع أن منطق هِيجِل الأوَّل يكشف، منذ ذلك
الوقت المبكِّر، عن محاولة للنفاذ من جدار الجمود الزائف لتصوُّراتنا، وإظهار
المتناقضات الدافعة التي تكمُن في كل أحوال الوجود، وتقتضي طريقةً أعلى في التفكير.
إن «المنطق» لا يعرض إلا الصورة العامة للجدَل، في تطبيقه على الصور العامة للوجود.
أمَّا التطبيقات الأكثر عينية فتظهر في «فلسفة الواقع» عند هِيجِل، ولا سيَّما
فلسفته الاجتماعية … ولن نتحدث ها هنا عن الانتقال الصعب من «المنطق»
و«الميتافيزيقا» إلى «فلسفة الطبيعة» (وهو الانتقال الذي سنناقشه عند الكلام عن
المنطق النهائي)، بل إننا سننتقل مباشرةً إلى «فلسفة الروح» في فترة يينا، وهي التي
تبحث في التحقُّق التاريخي للذات الحرة؛ أي الإنسان.
(٢) فلسفة الروح
لا يبدأ تاريخ العلم الإنساني بالصراع بين الفرد والطبيعة، ما دام الفرد في واقع
الأمر نتاجًا متأخرًا في التاريخ البشري، بل إن الشمول أو الاشتراك Allgemeinheit (بين الإنسان والطبيعة) يأتي أوَّلًا، وإن
كان يأتي في صورةٍ جاهزة، «مباشرة». وهذا الاشتراك لم يصبح بعدُ اشتراكًا عاقلًا،
ولا تكون الحريةُ صفةً من صفاته؛ ومِن ثَمَّ فإنه سرعان ما ينقسم إلى أضدادٍ
متعدِّدة. ويُسَمِّي هِيجِل هذه الوحدة الأصلية في العالم التاريخي باسم «الوعي»،
وبذلك يؤكِّد من جديد أننا دخلنا عالمًا يتسم كل شيءٍ فيه بطابع الذات.
إن أول شكل يتخذه الوعي في التاريخ ليس شكل وعيٍ فردي، بل وعيٌ كلي، ربما كان خير
ما يمثِّله هو وعي جماعةٍ بدائية تندمج فيها كل فرديةٍ داخل المجتمع المشترك؛
فالمشاعر والإحساسات والمفاهيم لا تنتمي في واقع الأمر إلى الفرد، بل يتقاسمها
الكل؛ بحيث إن ما يتحكَّم في الوعي هو العنصر المشترك لا الخاص … ولكن حتى هذه
الوحدة تنطوي على تضاد؛ فالوعي لا يكون على ما هو عليه إلَّا من خلال تضادِّه مع
موضوعاته. على أن من المؤكَّد أن هذه، من حيث هي موضوعات للوعي، هي «موضوعاتٌ
متصوَّرة»، أو موضوعاتٌ لا يمكِن فصلها عن الذات. «فكونها متصوَّرة» هو جزء من
طابعها بوصفها موضوعات. وهكذا فإن كلًّا من طرفَي التضاد، وهما الوعي أو موضوعاته،
له صورة الذاتية، كما هي الحال في كل أنواع التضاد الأخرى في عالم الذهن … فاندماج
العناصر المتضادَّة لا يمكِن إلا أن يكون اندماجًا داخل الذاتية.
ويقول هِيجِل إن عالم الإنسان ينمو في سلسلةٍ من عمليات الاندماج بين الأضداد؛
ففي المرحلة الأولى، تتخذ الذات وموضوعها شكل الوعي وتصوُّراته، وفي المرحلة
الثانية، يظهران بوصفهما الفرد الذي يدخل في نزاع مع الأفراد الآخرين، وفي المرحلة
الأخيرة يظهران بوصفهما الأمة … والمرحلة الأخيرة وحدها هي التي يتم فيها بلوغ
اندماجٍ دائم بين الذات والموضوع … فللأمة موضوعها في ذاتها، وجهدها لا يُوجه إلا
نحو ترديد ذاتها … وتناظر هذه المراحل الثلاث «وسائط» ثلاثة للاندماج، هي: اللغة،
والعمل، والملكية.
|
الذات |
الوسيط |
الموضوع |
١ |
الوعي |
اللغة |
التصوُّرات |
٢ |
الأفراد أو جماعات الأفراد |
العمل |
الطبيعة |
٣ |
الأمة – المجتمع المشترك للأفراد |
الملكية |
الأمة – المجتمع المشترك للأفراد |
إن اللغة هي الوسيط الذي يتم فيه أول اندماج بين الذات والموضوع.
١٠ وهي أيضًا أول عمومية
فعلية
Allgemeinheit بمعنى أنها موضوعية يشارك فيها الأفراد جميعًا … ومن جهةٍ
أخرى فاللغة هي الوسيط الأوَّل للفردانية؛ إذ من خلالها يكتسب الفرد سيطرة على
الموضوعات التي يعرفها ويسمِّيها … ولا يستطيع الإنسان أن يحدِّد مجال نفوذه
ويُبعِد عنه الآخرين إلا حين يعرف عالمه، ويكون واعيًا بحاجاته وقواه، وينقل هذه
المعرفة إلى الآخرين … وهكذا فإن اللغة هي أول أداة تساعد على التملك
appropriation.
وإذن فاللغة تُتيح للفرد أن يتخذ موقفًا واعيًا ضد أقرانه، وأن يؤكِّد حاجاته
ورغباته ضد حاجات الأفراد الآخرين ورغباتهم … فإذا ما أدَّى ذلك إلى تعارضاتٍ أمكن
تكاملها واستيعابها عن طريق العمل، الذي يصبح بدوره القوة الحاسمة في تنمية
الحضارة؛ فعملية العمل هي سبب الأنواع المختلفة للتكامل، وهي التي تتحكَّم في كل
الأشكال التالية للجماعة، المناظِرة لهذه الأنماط … أعني الأسرة، والمجتمع المدني،
والدولة (واللفظان الأخيران لا يظهران في فلسفة هِيجِل إلا فيما بعدُ) … فالعمل
أوَّلًا يوحِّد الأفراد في الأسرة، التي تكتسب لنفسها الموضوعات اللازمة لبقائها،
بوصفها «ملكية عائلية».
١١ على أن الأسرة تجد نفسَها وملكيَّتَها بين أُسرٍ أخرى ذات ملكية …
ويترتب على ذلك صراع لا يكون صراعًا بين الفرد وموضوعات رغبته، بل بين جماعة من
الأفراد (أي أُسْرة) وجماعاتٍ أخرى مشابهة … فالموضوعات قد تَم تملُّكها من قبلُ،
وهي الملكية الفعلية أو الممكِنة للأفراد … والواقع أن جعل الملكية الخاصة نظامًا
اجتماعيًّا يعني، في نظر هِيجِل، أن «الموضوعات» قد أُدمجَت أخيرًا في العالم
الذاتي؛ فالموضوعات لا تعود «أشياءَ ميِّتة»، بل تنتمي في كلِّيتها إلى مجال
التحقُّق الذاتي للذات … لقد كدَح الإنسان من أجل تنظيمها، وبذلك جعلَها جزءًا لا
يتجزأ من شخصيته … وعلى هذا النحو تأخذ الطبيعة مكانها في تاريخ الإنسان، ويصبح
التاريخ في أساسه تاريخًا إنسانيًّا، وتغدو كل الصراعات التاريخية صراعات بين
جماعات من الأفراد ذوي الملكية. وتلك فكرةٌ ذات نتائجَ بعيدة المدى، تؤثِّر تأثيرًا
كاملًا في البناء التالي لعالم الذهن.
وبظهور مختلف الوحدات العائلية الحائزة للملكية، يبدأ «صراع من أجل الاعتراف
المتبادل» بحقوق هذه الوحدات … فلما كانت الملكية تُعَد جزءًا أساسيًّا مكوِّنًا
للفردية، فإن الفرد يتعيَّن عليه أن يحافظ على ملكيته ويحميها، حتى يحتفظ بنفسه
فردًا … ويقول هِيجِل إن صراع الحياة والموت الذي يترتَّب على ذلك، لا يمكِن أن يقف
عند حدٍّ إلا إذا اندمج الأفراد المتنازعون في مجتمعٍ أعم هو الأمة Volk.
هذا الانتقال من الأسرة إلى الأمة يناظر، على وجه التقريب، الانتقال من «حالة
الطبيعة»، إلى حالة المجتمع المدني، كما تصوَّرَته النظريات السياسية للقرنِ
الثامنَ عشر … وسوف نشرح تفسير هِيجِل «للصراع من أجل الاعتراف المتبادل» في
مناقشتنا لكتاب «ظاهريات الروح»، الذي يصبح فيه هذا الصراع هو المدخل إلى الحرية …
ونتيجة الصراع من أجل الاعتراف المتبادل هي اندماجٌ حقيقيٌّ أوَّل، يجعل للجماعات
أو الأفراد المتنازعين مصلحةً مشتركة موضوعية. والوعي الذي يحقِّق هذا الاندماج هو
بدوره وعيٌ كلي (هو روح الأمة Volksgeist) ولكن
وحدته لا تعود وحدةً بدائية «مباشرة»، إنما هي نتاج لجهودٍ واعية بذاتها، ترمي إلى
جعل العداوات القائمة تعمل لصالح الكل … ويطلق عليها هِيجِل اسم الوحدة التوسطية vermittelte. وهنا تظهر الدلالة العينية
للفظ التوسُّط؛ فليس نشاط التوسُّط سوى نشاط العمل. وعن طريق هذا العمل، يتغلَّب
الإنسان على الاغتراب بين العالم الموضوعي والعالم الذاتي، ويحوِّل الطبيعة إلى
وسيطٍ ملائم لنموه الذاتي؛ فعندما تشكَّل الموضوعات بواسطة العمل تصبح جزءًا من
الذات التي يمكِنها التعرُّف فيها على حاجاتها ورغبتها الخاصة … وفضلًا عن ذلك، فإن
الإنسان يفقد، بفضل العمل، ذلك الوجود الذري الذي يكون فيه، من حيث هو فرد، مضادًّا
لكل الأفراد الآخرين، ويصبح جزءًا من جماعةٍ عامة … فالفرد، بفضل عمله، يتحول إلى
كُلي؛ إذ إن العمل بطبيعته ذاتها نشاطٌ كلي؛ لأن نتاجه قابلٌ للتبادل بين الأفراد
جميعًا.
ويقدم هِيجِل، في ملاحظاته التالية عن مفهوم العمل، وصفًا فعليًّا لحالة العمل
المميزة للإنتاج السلعي الحديث … بل إنه يقترب من الفكرة الماركسية في العمل الكلي
المجرَّد، وهنا تجد أول مثل يُثبِت أن أفكار هِيجِل الأنطولوجية مشبعة بمضمونٍ
اجتماعي يعبِّر عن نظامٍ معيَّن للمجتمع.
يذكر هِيجِل أن «الفرد يشبع حاجاته بعمله، ولكن لا بالنتاج الخاص بعمله، فلا بد
لهذا الأخير، لكي يلبي حاجاته، من أن يصبح شيئًا غير ما هو عليه.»
١٢ إن الموضوع الجزئي يصبح في عملية العمل موضوعًا كليًّا — أي يصبح سلعة.
كذلك فإن الكلية تحوِّر الذات القائمة بالعمل؛ أي العامل، ونشاطه الفردي … فهو
يُضطَر إلى أن يدع جانبًا ملَكَاته ورغباته الخاصة … فلا شيء يهمُّ في توزيع نتاج
العمل ما عدا «العمل الكلي المجرَّد». «إن عمل كل شخصٍ هو، فيما يتعلق بمضمونه،
كليٌّ شامل بالنسبة إلى حاجات الجميع». ولا تكون للعمل من قيمة إلا بوصفه «نشاطًا
كليًّا» من هذا النوع، فقيمته تتحدَّد «بما يكونه العمل للجميع، لا ما يكونه من أجل الفرد.»
١٣
هذا العمل الكلي المجرَّد يرتبط بالحاجة الفردية العينية عن طريق «علاقات
التبادل» في السوق.
١٤ فبفضل التبادل تُوزَّع نواتج العمل على الأفراد تبعًا لقيمة العمل
المجرَّد؛ ومِن ثَمَّ فإن هِيجِل يطلق على التبادل اسم «العودة إلى العينية»؛
١٥ إذ يتم عن طريقه إشباع الحاجات المادية للناس في المجتمع.
إن من الواضح أن هِيجِل كان يسعى إلى بلوغ فهمٍ دقيق لوظيفة العمل التي يقومُ
فيها بإدماج أوجه النشاط الفردية المتعدِّدة في المجموع الكلي الذي تؤلِّفه علاقات
التبادل … وهو يمسُّ المجال الذي استأنف فيه ماركس فيما بعدُ تحليل المجتمع الحديث
… والواقع أن مفهوم العمل لم يكن ثانويًّا في مذهب هِيجِل، بل هو الفكرة الرئيسية
التي يتصوَّر عن طريقها تطوُّر المجتمع … وقد قام هِيجِل، مدفوعًا بقوة الاستبصار
التي فتَحَت أمامه هذا الأفقَ الجديد، بوصف طريقةَ التكامل السائدة في مجتمعٍ منتج
للسلع، وذلك بعباراتٍ تستبق على نحوٍ واضح نظرة ماركس النقدية.
يؤكِّد هِيجِل مسألتَين؛ خضوع الفرد التام لشيطان العمل المجرَّد، والطابع الأعمى
والفوضوي للمجتمع الذي تسوده علاقات التبادل … فالعمل المجرَّد لا يمكنه أن ينمِّي
ملَكَات الفرد الحقيقية … ذلك لأن «الميكنة»، وهي نفس الوسيلة التي كان ينبغي أن
تحرِّر الإنسان من عناء العمل، تجعله عبدًا لعمله — «وكلما ازداد سيطرةً على عمله،
ازداد هو ذاته فقدانًا لكل حول وقوة» … إن الآلة تقلِّل الحاجة إلى العناء والتعب
بالنسبة إلى الكل فقط، لا بالنسبة إلى الفرد … «وكلما أصبح العمل أكثر «ميكنة»،
قلَّت قيمته، وازداد بالضرورة عناء الفرد.»
١٦ «إن قيمة العمل تنقص بنفس النسبة التي تزداد بها إنتاجية العمل … إذ
تصبح ملَكَات الفرد محدودة إلى أبعد حد، وينحط وعي عامل المصنع إلى أدنى درجات الغباء.»
١٧ وعلى حين أن العمل يتحوَّل على هذا النحو من تحقيقٍ ذاتي للفرد إلى سلب
لذاته، فإن العلاقة بين حاجات الفرد وعمله، وبين حاجات الكل وعملهم، تتخذ شكل
«اعتماد متبادل أعمى، لا يمكن حسابه» … وهكذا فإن تكامل الأفراد المتنازعين بواسطة
العمل المجرد والتبادل يؤدي إلى قيام «نظام هائل من المشاركة والاعتماد المتبادل،
وحياة متحرِّكة لما هو ميت … هذا النظام يتحرَّك هنا وهناك على نحوٍ أوَّلي أعمى،
ويحتاج — شأنه شأن الحيوان المفترس — إلى سيطرةٍ قوية وكبحٍ دائم.»
١٨
والواقع أن لهجةَ هذه الأوصاف وروحَها تشير بطريقةٍ ملحوظة واضحة إلى كتاب «رأس
المال» لكارل ماركس. وليس من المستغرب أن نجد مخطوط هِيجِل يتوقف عند هذه الصورة،
وكأنه أحسَّ بالرعب مما كشف عنه تحليلُه للمجتمع المنتج للسلع … على أننا نجده في
الجملة الأخيرة يضع لنفسه صيغة مخرجٍ ممكن … وهو يعرض ذلك تفصيلًا في «فلسفة الواقع» Realphilosophie (لعام ١٨٠٤-٥م)؛ فالحيوان
المفترس ينبغي كبحُه، ومثل هذه العملية تقتضي تنظيم دولةٍ قوية.
إن كتابات هِيجِل السياسية المبكِّرة تذكِّرنا بأصول النظرية السياسية في المجتمع
الحديث؛ ذلك لأن «هبز» بدوره قد شيَّد الدولة التي دعا إليها في كتاب «اللفياثان»
على أساسٍ من تلك الفوضى التي لا يُمكِن قهرها على أي نحوٍ آخر؛ أي «حرب الكل ضد
الكل»، التي تسود المجتمع الفردي النزعة. على أن الفترة الواقعة بين هبز وهِيجِل هي
الفترة التي أطلقَت فيها الدولة ذات النزعة المطلَقة قوى الرأسمالية الاقتصادية من
عقالها، وكشف فيها الاقتصاد السياسي عن بعض آليَّات عملية العمل الرأسمالي. ولقد
كان هِيجِل قد عكَف على دراسة الاقتصاد السياسي … واستطاع تحليلُه للمجتمع المدني
أن يتغلغلَ في صميم بناء المجتمع الحديث، وكان يمثِّل تحليلًا نقديًّا مفصلًا، على
حين أن «هبز» لجأ إلى البصيرة الحَدْسية … والأهم من ذلك أن هِيجِل اكتشف في قيام
الثورة الفرنسية مبادئ تشير إلى ما وراء الإطار القائم للمجتمع الفردي النزعة …
فأفكار العقل والحرية، ووحدة المصلحة العامة والخاصة، تشير في نظره إلى قيمٍ لا
يمكن التضحية بها من أجل الدولة. لقد كافح هِيجِل طيلةَ حياتِه ليجعل نفسه متمشيًا
مع ضرورة «السيطرة والكبح». وكانت محاولاتُه لحل المشكلة متعددة، أمَّا النصر
النهائي عنده فلم ينعقد لواؤه «للفياثان» (التنين) بل للدولة العاقلة التي يسودها
حكم القانون.
وينتقل الكتاب الثاني من «فلسفة الواقع في فترة يينا» إلى مناقشة الطريقة التي
يتكامل بها المجتمع المدني مع الدولة. ويناقش هِيجِل الشكل السياسي لهذا المجتمع
تحت عنوان «الدستور»؛ فالقانون
Gesetz يحوِّل الكل
المتخبِّط لعلاقات التبادل إلى ذلك الجهاز المنظم بوعي، الذي هو الدولة. وهو هنا
يرسم صورة الفوضى والاضطراب السائدَين في المجتمع المدني بألوانٍ أشدَّ قتامة حتى
من تلك التي رسمَها بها من قبلُ.
«(إن الفرد) يصبح خاضعًا للفوضى والاضطراب الشاملَين للكل … فهناك جموعٌ
غفيرة من الشعب يُكتب عليها أن تعاني العمل في المصانع والورش والمناجم وما
إليها، بكل ما يؤدي إليه ذلك العمل من تبلُّد للذهن وفقدان للصحة وانعدام
الأمان. وقد يحدث فجأةً أن تختفي فروعٌ كاملة للصناعة، كان يرتزق منها جزءٌ
كبير من السكان؛ لأن طريقة الإنتاج تغيَّرَت، أو لأن قيمة منتجاتها انخفضَت
بسبب ظهور اختراعاتٍ جديدة في بلادٍ أخرى، أو لغير ذلك من الأسباب …
وعندئذٍ تصبح كتلٌ بشريةٌ كاملة فريسةً لفقرٍ مدقع. وتزداد حدة التعارض بين
الثروة الهائلة والفقر الشديد، وهو فقر يعجز عن تحسين حالته. وتصبح الثروة
… قوةً مسيطرة. ويحدث تراكمها بالصدفة جزئيًّا، كما يحدث بفضل الطريقة
العامة في التوزيع … ويتحول الاقتناء إلى نظامٍ متعدد الجوانب، يتشعَّب إلى
فروع لا تستطيع المشروعات الصغيرة الحجم أن تربح منها … ويصل التجريد
الأقصى للعمل إلى أكثر أنواع الأعمال فردية، ويستمر في توسيع نطاقه … وتقضي
هذه اللامساواة بين الثروة والفقر، وهذه الحاجة والضرورة، إلى التفكُّك
التام للإرادة، والتمرُّد الداخلي، والكراهية.»
١٩
ولكن هِيجِل يؤكِّد الآن الوجه الإيجابي لهذا الواقع المزري … «إن هذه الضرورة،
التي تعني خطرًا تامًّا على حياة الفرد، هي في الوقت ذاته العامل الذي يحفظ هذه
الحياة؛ فقوة الدولة تتدخل، ولا بد لها من أن تعمل ما من شأنه المحافظة على كل
مجالٍ خاص (للحياة)، وأن تبحث منافذَ جديدة، وتفتح طرقًا جديدة للتجارة في الأقاليم
الأجنبية، وما إلى ذلك …»
٢٠ «فالخطر» الذي يسود في المجتمع ليس مجرد صدفة واتفاق، بل هو نفس
العملية التي يردِّد بها الكل وجوده ووجود كلٍّ من أفراده … وتؤدي علاقات التبادل
الخاصة بالسوق إلى إتاحة ذلك التكامل الضروري الذي لولاه لهلك الأفراد المنعزلون في
غمار الصراع القائم على المنافسة؛ فالصراعات الفظيعة داخل المجتمع المنتِج للسلع
«أفضل» من تلك التي تنشب بين أفراد وجماعات لا يحدُّ منها أي قيد — وهي «أفضل»
لأنها تحدث على مستوًى أعلى للتطور التاريخي، وتنطوي على «اعتراف متبادل» بالحقوق
الفردية … ويعبِّر العقد
Vertrag عن هذا الاعتراف
بوصفه حقيقةً اجتماعية … وينظر هِيجِل إلى العقد على أنه واحدٌ من أسس المجتمع
الحديث، والواقع أن المجتمع عنده هو إطارٌ من التعاقدات بين الأفراد.
٢١ (على أننا سنراه يبذل فيما بعدُ جهدًا كبيرًا لكي يقصر صحة العقود على
مجال المجتمع المدني — أي العلاقات الاقتصادية والاجتماعية — ويستبعد ما تؤديه من
دور في العلاقات بين الدول)؛ فالتأكد من أن العلاقة المعيَّنة أو العمل المعيَّن
مضمون بعقد — ومن أن العقد سيظل ساريًا في جميع الظروف — هو وحده الذي يجعل
العلاقات والأعمال التي تؤدَّى في المجتمع المنتج للسلع معقولةً قابلة للحساب … «إن
كلمتي ينبغي أن تكون موثوقًا بها لا لأسبابٍ أخلاقية»، بل لأن المجتمع يفترض مقدمًا
أن هناك التزاماتٍ متبادلة من جانب أفراده … والظروف التي أقوم فيها بعملي هي ذاتها
الظروف التي يؤدِّيه فيها الغير.
٢٢ فإذا ما أخلفتُ وعدي، كنتُ بذلك أخرِق عقد المجتمع ذاته، ولا أضر شخصًا
بعينه فحسب، بل أضُر المجتمع كله، فأنا أضع نفسي خارج الكل الذي يمكِنه وحده أن
يُوفيَني حقِّي بوصفي فردًا؛ ومِن ثَمَّ فإن «الكل هو جوهر التعاقد»
٢٣ كما يقول هِيجِل … فالعقود لا تنظِّم الأداء الفردي فحسب، وإنما تنظِّم
عمليات الكل … والعَقْد يعامل الفرد على أنه حرٌّ ومتساوٍ، ولكنه في الوقت ذاته لا
ينظر إلى كل فرد في خصوصيته العارضة، بل في «كليته»، من حيث هو جزءٌ متجانس من الكل
… وبطبيعة الحال فإن هذه الهُوية بين الجزئي والكلي لم تتحقق بعدُ … فالمجتمع
المدني، كما أشار هِيجِل من قبلُ، لا يحفظ للفرد قدراته وإمكاناته الحقَّة على
الإطلاق … ومن هنا كان لا بد من أن تقف القوةُ من وراء كل تعاقد؛ بحيث يكون ما يدفع
الفرد إلى التزام عقده هو التهديد باستخدام القوة، لا اعترافه الإرادي بالعقد …
وإذن فالعقد ينطوي على إمكان خرق العقد، وتمرُّد الفرد ضد الكل
٢٤ … وما الجريمة إلا عملية التمرُّد هذه، والعقاب هو الأداة التي يستعيد
بها الكل حقَّه من الفرد المتمرد … ويعبِّر الاعتراف بحكم القانون عن تلك المرحلة
من التكامل والاندماج، التي يكُون المرء فيها على وفاقٍ مع الكل … ويختلف حكم
القانون عن حكم العقود من حيث إنه يعمل حسابًا «لذات الفرد في وجوده، وكذلك في معرفته.»
٢٥ فالفرد يعرف أنه لا يمكن أن يُوجَد إلا بقوة القانون، ليس فقط لأن
القانون يحميه، بل لأنه يرى فيه ممثلًا للصالح المشترك، الذي هو في نهاية المطاف
الضامن الوحيد لنُموِّه وتطوُّره الذاتي … والحقُّ أن التصوُّر الصحيح للقانون هو
الأفراد الأحرار والمستقلون تمامًا، الذين تجمعُهم مع ذلك مصلحةٌ مشتركة … ويكون
الفرد «واثقًا» من أنه يجد «ذاته، وماهيته» في القانون، ومن أن القانون يحفظ
إمكاناته الأساسية ويدعمها.
٢٦
مثل هذه النظرة تفترض مقدمًا دولةً تعبِّر قوانينها فعلًا عن الإرادة الحرة
للأفراد المتجمعين، وكأنهم قد اجتمعوا واستقر رأيهم على أفضل تشريعٍ يحقِّق مصالحهم
المشتركة … وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يستطيع القانون أن يعبِّر بها عن إرادة كل
فرد، وعن «الإرادة العامة» في الوقت ذاته … فإذا وُجد مثل هذا القرار المشترك، كان
القانون هُويةً حقيقية بين الفرد والكل … وهكذا فإن نظرة هِيجِل إلى القانون تفترض
مقدمًا مثل هذا المجتمع … فهو يصف الهدفَ الذي يتعيَّن بلوغه، لا حالةً قائمة
بالفعل.
على أن الهُوة الفاصلة بين المثل الأعلى والواقع آخذةٌ في الضيق تدريجيًّا؛ فكلما
ازدادت نظرة هِيجِل إلى التاريخ واقعية، ازداد الحاضر في نظره اقترابًا من عظمة
المثل الأعلى المرتقَب … ولكن أيًّا كانت نتيجة صراع هِيجِل بين المثالية الفلسفية
والواقعية السياسية، فإن فلسفته لا مكان فيها لأية دولة لا تسير وفقًا لحكم
القانون. إنه يستطيع أن يقبل «دولة قوة»، ولكن لا يكون ذلك إلا بقَدْر ما تسودُها
حرية الأفراد وتؤدي قوة الدولة إلى زيادة قوة الأفراد الخاصة.
٢٧
إن الفرد لا يستطيع أن يكون حرًّا إلا بوصفه كائنًا سياسيًّا … وعلى هذا النحو
يُعَد تفكير هِيجِل استكمالًا للنظرة اليونانية الكلاسيكية القائلة: إن دولة
المدينة polis تمثِّل الحقيقة الصادقة للوجود
الإنساني … ومِن ثَمَّ فإن التوحيد النهائي بين الأضداد الاجتماعية لا يتحقَّق
بسيادة القانون، بل بالنظم السياسية التي تجسِّد القانون؛ أي بالدولة بمعناها
الصحيح … فما شكل الحكومة التي تصون هذا التجسُّد على أفضلِ نحو، وتكون بالتالي
أعلى أشكال الوحدة بين الجزء والكل؟
يقدِّم هِيجِل، تمهيدًا للإجابة عن هذا السؤال، عرضًا سريعًا لأصل الدولة،
والأدوار التاريخية لحكم الطغيان، والديمقراطية، والملكية؛ فهو ينبذ نظرية العقد الاجتماعي
٢٨ على أساس أنها تفترض أن «الإرادة العامة» تُمارِس تأثيرها في الأفراد
المنعزلين قبل دخولهم في الدولة … وفي مقابل نظرية العقد الاجتماعي يؤكِّد أن
«الإرادة العامة» لا يمكِن أن تظهر إلا بعد عمليةٍ طويلة تبلغ قمَّتها في التسوية
النهائية للعداوات الاجتماعية … فالإرادة العامة هي نتيجة الدولة وليست أصلها؛
أمَّا أصل الدولة فيرجع إلى «قوة خارجية» تقسر الأفراد رغمًا عن إرادتهم. وعلى ذلك
فإن «كل الدولة مبنية بفضل القوة المجيدة لرجالٍ عظام.»
٢٩ ويضيف هِيجِل إلى ذلك «ولكن ليس بالقوة المادية» … فقد كان في شخصية
المؤسِّسين العظام للدولة شيءٌ من تلك القوة التاريخية التي تُرغِم البشرية على
السير في طريقها الخاص وإحراز التقدم نتيجةً لذلك … وهذه الشخصية تعبِّر عن المعرفة
الأرفع والأخلاق الأسمى للتاريخ، وتحمل في داخلها هذه المعرفةَ وتلك الأخلاق، حتى
لو لم تكن واعيةً بذلك، أو حتى لو كانوا مدفوعين بدوافعَ مختلفة كل الاختلاف … وهنا
يأتي هِيجِل بفكرة هي التي ستظهر فيما بعدُ تحت اسم روح العالم
Weltgeist.
إن أُولى الدول هي دولةُ طغيانٍ بالضرورة … والواقع أن أشكال الدول التي يصفُها
هِيجِل الآن تسير وَفقًا لترتيبٍ تاريخي ومعياري معًا؛ فالطغيان هو الشكل الأقدم
والأدنى، والملكية الوراثية هي الأحدث والأرفع
٣٠ … كذلك فإن المعيار الذي تقوم به الدولة هو ما تُحرِزه من نجاح في
تحقيق اندماجٍ حقيقي للأفراد في الكل … فالطغيان يدمج الأفراد عن طريق إنكارهم …
ولكن لهذا الطغيان نتيجةٌ إيجابية واحدة، هي أنه ينظِّم الأفراد، ويعلِّمهم الطاعة
… ذلك لأن طاعة الشخص للحاكم تمهِّد لإطاعته للقانون … والذي يحدث هو «أن الناس
يتمرَّدون على حكم الطغيان ويقضون عليه لأن الطغيان وضيعٌ ومقيت وما شابه ذلك، ولكن
السبب الحقيقي هو أن الطغيان قد استنفد أغراضه.»
٣١ فالطغيان لا يعود ذا ضرورةٍ تاريخيةٍ بمجرد أن يتم تحقيق النظام … وبعد
ذلك يعقُبه حكم القانون؛ أي الديمقراطية.
إن الديمقراطية تمثِّل هُويةً حقيقية بين الفرد وبين الكل؛ فالحكومة هي والأفراد
جميعًا شيءٌ واحد، وإرادتهم تعبِّر عن مصلحة الكل … إن الفرد يسلك وفقًا لمصلحته
الخاصة، وبهذا الوصف يكون هو «البورجوازي»، ولكنه أيضًا يشغل نفسه بحاجات الكل
ومهامه، وبهذا الوصف يكون هو (المواطن
citoyen).
٣٢
ويضرب هِيجِل للديمقراطية مثلًا بالإشارة إلى دولة المدينة عند اليونان، ففيها
كانت الوحدة بين الإرادة الفردية وبين الإرادة العامة لا تزال عشوائية، وكان على
الفرد أن يستسلم للأغلبية، التي كانت بدورها عارضة … وعلى ذلك فإن مثل هذه
الديمقراطية لم يكن من الممكن أن تمثِّل الوحدة النهائية بين الفرد وبين الكل … إن
«الحرية الرائعة السعيدة عند اليونان لم تكن تدمج الأفراد إلا في وحدة «مباشرة»،
مبنية على الطبيعة والشعور، لا على التنظيم العقلي والأخلاقي الواعي للمجتمع … وكان
على البشرية أن تتقدَّم نحو شكلٍ أعلى للدولة، أعني شكلًا يتحد فيه الفرد اتحادًا
حُرًّا واعيًا مع الآخرين في جماعةٍ مشتركة تعمَل بدورها على حفظ ماهيَّته
الحقَّة.
وفي رأي هِيجِل أن أفضل نظام يحفظ هذه الوحدة هو الملكية الوراثية … فشخص الملك
يمثِّل الكل وقد ارتفع فوق مستوى المصالح الخاصة كلها. ولما كان ملكًا بالميلاد،
فإنه يحكم «بالطبيعة»، إن جاز هذا التعبير، غير متأثِّر بالعداوات الموجودة في
المجتمع … ومن هنا فإنه أكثر «النقط» ثباتًا ودوامًا في حركة الكل
٣٣ … «والرأي العام» هو الرابطة التي تجمع مجالات الحياة وتتحكَّم في
مجراها … فالدولة ليست وحدةً مفروضة، ولا وحدةً طبيعية، بل هي تنظيمٌ عاقل للمجتمع
عن طريق «مستوياتها، المختلفة … إن الفرد، في كل مستوًى، يهتم بنشاطه الخاص، ولكنه
مع ذلك يخدم المجتمع … ولكل مستوًى مكانه الخاص، ووعيه، وأخلاقه، ولكن المستويات
الخاصة تنتهي إلى المستوى الكلي؛ أي إلى موظَّفي الدولة الذين لا يهتمُّون بشيءٍ
سوى الصالح العام … ويُختار الموظَّفون على أساس الانتخاب، «وكل مجال (مدينة، طائفة
حرفية … إلخ) يدير شئونه الخاصة بنفسه.»
٣٤
على أن هناك أسئلةً أهم من هذه التفاصيل، هي: ما الصفات التي تتسم بها الملكية
الوراثية، والتي تبرِّر مكانتها العليا في فلسفة الروح؟ وكيف يحقِّق هذا الشكل من
أشكال الدولة المبادئ التي وجَّهَت بناء هذه الفلسفة؟ لقد كان هِيجِل ينظر إلى
الملكية الوراثية على أنها هي الدولة المسيحية بالمعنى الصحيح، أو بتعبيرٍ أدق، هي
الدولة المسيحية التي ظهَرَت إلى الوجود مع حركة الإصلاح الدينية الألمانية … فهذه
الدولة في نظره هي تجسد لمبدأ الحرية المسيحية، التي تنادي بحرية الضمير الباطن
للإنسان، ومساواته أمام الله … ولقد كان هِيجِل يعتقد أن الحرية الخارجية، التي
يفترض أن الديمقراطية تقيمها وتحميها، لا يكون لها جدوى بدون هذه الحرية الباطنة …
وكانت حركة الإصلاح الديني في رأيه نقطة التحول الكبرى في التاريخ، التي نادت بأن
الفرد لا يكون حرًّا بحق إلا حين يصبح لديه وعيٌ ذاتي باستقلاله الذي لا يمكِن أن
يُنتزع منه
٣٥ … ولقد وضَعَت البروتستانتية دعائم هذا الوعي الذاتي، وبيَّنَت أن
الحرية المسيحية تنطوي في مجال الواقع الاجتماعي، على الخضوع والطاعة للسلطة
الإلهية للدولة. وعلى أية حال، فسوف نعالج هذه المسألة بمزيد من التوسع عندما نصل
إلى «فلسفة القانون (الحق)».
على أن هناك سؤالًا لم نُجب عنه بعدُ، يؤثِّر في البناء الكامل لمذهب هِيجِل …
فالعالم التاريخي، بقدر ما يشيِّده وينظِّمه ويشكِّله النشاط الواعي للذوات
المفكِّرة، هو عالمٌ روحي … ولكن الروح لا تتحقَّق تحققًا كاملًا، ولا تُوجَد في
شكلها الصحيح، إلا حين تمارس نشاطها الحقيقي؛ أي في الفن والدين والفلسفة. وعلى ذلك
فإن مجالات الثقافة هذه هي الحقيقة الواقعة في صورتها النهائية، وهي عالم الحقيقة
القصوى … وهذا بعينه هو ما كان هِيجِل مقتنعًا به … فالذهن الخالص لا يحيا إلا في
الفن، والدين، والفلسفة. ولهذه المجالات الثلاثة كلها مضمونٌ واحد بأشكالٍ مختلفة …
فالفن يدرك الحقيقة بالحَدْس وحده، على صورةٍ ملموسة، وبالتالي محدودة. والدين
يدركها متحرِّرة من مثل هذا التحدُّد، ولكن بوصفها «تأكيدًا» وإيمانًا فحسب.
والفلسفة تفهمُها عن طريق المعرفة، وتحوزُها بوصفها ملكًا خاصًّا لها … ومن جهةٍ
أخرى فإن مجالات الثقافة هذه لا تُوجَد إلا في التطور التاريخي للبشرية، والدولة هي
المرحلة الأخيرة لهذا التطور. وإذن، فما العلاقة بين الدولة ومجال الروح المطلَقة؟
هل تمتد سلطة الدولة بحيث تسري على الفن، والدين، والفلسفة، أو أن الفن والدين
والفلسفة يحدُّون من هذه السلطة؟
تلك مشكلة طالما ناقشها الباحثون، فأشاروا إلى أن موقف هِيجِل قد مر بتغيراتٍ
متعددة، وأنه كان في البداية ميالًا إلى رفع الدولة فوق مستوى المجالات الثقافية،
ثم نسَّق بينها وبين هذه المجالات، بل أخضعَها لها، وبعد ذلك عاد إلى موقفه الأصلي،
وهو سيطرة الدولة … والواقع أن هناك متناقضاتٍ واضحة في عبارات هِيجِل المتعلقة
بهذه المسألة حتى في داخل الفترة الفلسفية الواحدة … ففي الجزء الثاني من «فلسفة
الواقع في فترة يينا»، يعلن أن الروح المطلَقة «هي في البداية روح أمةٍ بوجهٍ عام،
ومع ذلك فعلى الروح أن تحرِّر نفسها من هذه الحياة.»
٣٦ وهو يقول فضلًا عن ذلك إن الفن والدين والفلسفة يجعلون «الروح المطلَقة
الحرة … تنتج عالمًا مختلفًا، عالمًا تتخذ فيه شكلها الحقيقي، ويتحقَّق فيه عملُها،
وتصل فيه الروح إلى معاينة ما ينتمي إليها على أنه ينتمي إليها.»
٣٧ وعلى عكس هذه العبارات، يقول هِيجِل في مناقشته للعلاقة بين الدين
والدولة إن «الحكومة تقف فوق كل شيء؛ فهي الروح التي تعرف ذاتَها بوصفها الماهية
والحقيقة الكلية.»
٣٨ وفضلًا عن ذلك، فهو يُسَمِّي الدولة «حقيقة مملكة السماء … إن الدولة
هي روح الواقع الحقيقي، وكل ما يظهر في إطار الدولة ينبغي أن يكون متمشيًا معها.»
٣٩ تلك متناقضاتٌ لا يُمكِن أن يتضح معناها وحلها المُمكِن إلا بفَهم
الدَّور الأساسي للتاريخ في مذهب هِيجِل. وسوف نُحاول ها هنا أن نقدِّم إيضاحًا
مبدئيًّا لهذا الدور.
لقد كشف مذهب هيجل الأول بالفعل عن السمات البارزة لفلسفته، لا سيما تأكيدها
لأهمية الوجود الكلى بوصفه الوجود الحقيقي … وقد أوضحنا في مقدمة هذا الكتاب الجذور
التاريخية والاجتماعية لهذه النزعة الكلية، مبيِّنين أن أساسها هو الافتقاد إلى
نوعٍ من الروح الجماعية المشتركة في المجتمع ذي النزعة الفردية. وقد ظل هيجل مخلصًا
لتراث القرنِ الثامنَ عشر، وأدمَج مُثُله العليا في صميم بناء فلسفته، فأكَّد أن
«الكلي بحق، هو الروح المشتركة التي تحفظ مطالب الأفراد وتحقِّقها. والحق أن في وسع
المرء أن يفسِّر جدَله بأنه هو المحاولة الفلسفية التي تهدف إلى التوفيق بين مُثُله
العليا وبين واقعٍ اجتماعيٍّ مُعادٍ لها … وقد أدرك هيجل ما ينبغي أن يولِّده
النظام السائد في المجتمع من موجاتٍ هائلة تدفعه إلى الأمام — أعني نُمو الإنتاج
المادي فضلًا عن الثقافي، والقضاء على علاقات القوة العقيمة التي كانت تعوق تقدُّم
البشرية، وتحرير الفرد حتى يُمكِنه أن يصبح فاعلًا حرًّا يتحكم بنفسه في حياته.
وعندما ذكر هيجل أن كل «وحدةٍ مباشرة» (لا تنطوي على تضادٍّ بين الأجزاء المكوِّنة
لها) هي، فيما يتعلق بإمكانات التطوُّر البشري، أدنى مرتبة من الوحدة التي يُفضي
إليها التكامل بين الأضداد الواقعية، كان يفكِّر في مجتمع عصره الخاص. فالتوفيق بين
الفردي والكلي بدَا مستحيلًا بدون الكشف الكامل لهذه الأضداد التي تدفع أشكال
الحياة السائدة إلى النقطة التي تصبح فيها هذه الأشكال متناقضة مع مضمونها تناقضًا
صريحًا. وتلك هي العملية التي وصفَها هيجل في الصورة التي رسمَها للمجتمع
الحديث.
إن الأوضاع الفعلية للمجتمع الحديث هي أقوى أمثلة الجدَل في التاريخ … فليس ثمَّة
شك في أن هذه الأوضاع، مهما بدت أوضاعًا لها مبرِّراتها في ضوء الضرورة الاقتصادية،
تتناقض مع المثل الأعلى للحرية … وتكمُن أعلى إمكانات البشر في الوحدة العاقلة بين
أفرادٍ أحرار؛ أي في الكلي، لا في جزئياتٍ ثابتة … وليس في وسع الفرد أن يأمل في
تحقيق ذاته إلا إذا كان عُضوًا حُرًّا في مجتمعٍ مشتركٍ حقيقي.
ولقد كان السعي الدائم وراء هذه الروح الجماعية المشتركة، وسط الرعب المتسلط الذي
يبعثه المجتمع الفوضوي، هو الدافع الكامن وراء تأكيد هِيجِل للارتباط الباطن بين
الحقيقة والكلية … وكان في ذهنه تحقيق هذا المسعى عندما وصف الكلية الحقة بأنها
غاية العملية الديالكتيكية وبأنها الحقيقة النهائية … وكثيرًا ما كان يحدث أن يتكشف
المضمون الاجتماعي العيني لتصوُّر الكلية من خلال صيغته الفلسفية، وتظهر بوضوحٍ
صورة تجمع الأفراد الأحرار الذين توحِّد بينهم مصلحةٌ مشتركة … ولنقتبس فيما يلي
الفقرة المشهورة من كتاب «علم الجمال»:
«إن الاستقلال الحقيقي لا يكون إلا في الوحدة وفي التداخُل المتبادل بين
الفردية والكلية … فالكلي يكتسب وجوده العيني من الفرد، وذاتية الفردي
والجزئي تكتشف في الكلي ذلك الأساسَ الراسخ وذلك الشكل الأكثر أصالة
لحقيقته …
وفي «الدولة» المثلى تكون الفردية الجزئية هي ذاتها التي يتعيَّن عليها
أن تظل في انسجامٍ دائم مع الكلية الجوهرية، وبقَدْر ما تكون حرية الذاتية
واستقلالها مرتبطة بالمثل الأعلى، يتعيَّن على الشروط والعلاقات التي تكون
بيئة العالم ألا تكون لها موضوعية أساسية بمعزل عن الذات والفرد.»
٤٠
والواقع أن «فلسفة الروح»، بل ومذهب هِيجِل بأكمله، إنما هما تصوير للعملية التي
«يصبح بها الفردي كليًّا»، ويتم بواسطتها «إقامة الكلية».