الفصل الرابع
ظاهريات الروح
(١٨٠٧م)
كتب هِيجِل «ظاهريات الروح» في عام ١٨٠٦م في يينا، في الوقت الذي كانت فيه جيوش
نابليون تقترب من تلك المدينة … وأتم الكتاب بعد أن كانت معركة يينا قد قرَّرَت مصير
بروسيا وسلَّمَت عرش الرايخ الألماني القديم، ببقاياه المتهالكة، إلى وريث الثورة
الفرنسية … والواقع أن كتاب هِيجِل يشيع فيه الإحساس بأن عهدًا جديدًا في تاريخ العالم
قد بدأ لتوِّه … وهو يمثِّل أول حكمٍ فلسفي أصدَره على التاريخ، ويستخلص نتائجه
النهائية من الثورة الفرنسية، التي أصبحَت الآن نقطة التحوُّل في الطريق التاريخي،
فضلًا عن الطريق الفلسفي، المُوصِل إلى الحقيقة.
ولقد رأى هِيجِل أن نتيجة الثورة الفرنسية ليست تحقيق الحرية، بل هي إقامة طغيانٍ
جديد … وفسَّر مجراها وما ترتَّب عليها، لا على أنه حادثٌ تاريخي عارض، بل على أنه
تطورٌ ضروري … فعملية تحرير الفرد تُسفِر بالضرورة عن الرعب والدمار ما دام القائمون
بها أفرادًا ضد الدولة، لا الدولة ذاتها … إن الدولة وحَدها هي التي يُمكِنها أن تحقِّق
التحرير، وإن لم تكن تستطيع أن تحقِّق حقيقةً كاملة وحريةً كاملة؛ فهاتان الأخيرتان لا
تتحقَّقان إلا في مملكة الروح بمعناها الصحيح؛ أي في الأخلاق والدين والفلسفة، وهي
المملكة التي صادفناها من قبلُ بوصها تحقُّقًا للحرية والحقيقة في «فلسفة الروح» الأولى
عند هِيجِل … غير أن أساس هذا التحقُّق في ذلك المذهب الهِيجِلي الأوَّل كان كفاءة نظام
الدولة، وقد ظل مرتبطًا به ارتباطًا وثيقًا. أمَّا في «ظاهريات الروح» فإن هذا الارتباط
يكاد يضيع تمامًا … فالدولة عندئذٍ لا تعود ذات دلالةٍ شاملة لكل شيء … والحرية والعقل
يصبحان نشاطًا للذهن الخالص، ولا يقتضيان نظامًا اجتماعيًّا وسياسيًّا معيَّنًا يكون
شرطًا ضروريًّا لتحقيقهما، وإنما يتمشَّيان مع الدولة الموجودة بالفعل.
ونستطيع أن نفترض أن تجربة هِيجِل لانهيار الأفكار الليبرالية في تاريخ عصره الخاص
قد
دفعَته إلى أن يلتمس ملجأ في الروح الخالصة. وأنه، من أجل الفلسفة، قد فضَّل التصالح
مع
النظام القائم على التعرُّض للأخطار المخيفة التي يمكِن أن يولِّدها انقلابٌ جديد في
الأوضاع … والواقع أن من الممكِن النظر إلى التوفيق الذي حدث الآن بين المثالية
الفلسفية وبين المجتمع القائم، لا على أنه تغيُّر في مذهب هِيجِل ذاته، بقَدْر ما هو
تغيُّر في معالجته للجدَل وتحديده لوظيفته … ففي الفترات السابقة كان الجدَل موجهًا نحو
المسار الفعلي للتاريخ، لا نحو الناتج النهائي لهذا المسار … وكان الشكل السريع
المقتضَب الذي اتخذته «فلسفة الروح في فترة يينا» مؤديًا إلى الاعتقاد بأن من الممكن
حدوث شيءٍ جديد للروح، وأن تطوُّرها بعيد كل البعد عن أن يكون قد انتهى … وفضلًا عن ذلك
فإن مذهب «يينا» قد عرض الجدَل كما يتمثل في عمليةٍ عينية، هي عملية العمل والتكامل
الاجتماعي … أمَّا في «ظاهريات الروح» فإن الأضداد التي ينطوي عليها هذا البعد العيني
تُسوَّى ويتم التوفيق بينها. «فتحوُّل العالم إلى روح» لا يتخذ هنا معنى أن العالم في
كليته قد أصبح الساحة الملائمة التي ينبغي أن تتحقَّق فيها خطط البشرية، بل يعني أيضًا
أن العالم ذاته يكشف عن تقدُّمٍ مطَّرد نحو الحقيقة المطلَقة، وأنه لا يمكن أن يحدث
للروح شيءٌ جديد، أو أن كل ما يحدث لها يُسهِم بمضي الوقت في تقدُّمها … إن هناك بطبيعة
الحال أمثلةً للإخفاق والارتداد، والتقدُّم لا يحدث في خطٍّ مستقيم، بل يؤدي إليه
التفاعل بين صراعات لا تتوقَّف عند حد … وتظل السلبية، كما سنرى، هي مصدر الحركة
وقوَّتها الدافعة … غير أن كل إخفاقٍ وكل نكسةٍ لها خيرها الخاص وحقيقتها الخاصة … فكل
صراعٍ ينطوي على حله … ويصبح التغيُّر في وجهة نظر هِيجِل واضحًا في اليقين الراسخ الذي
يحدِّد به نهاية المسار … ففي رأيه أن الروح، برغم كل انحرافاتها وهزائمها، وبرغم البؤس
والانحلال، ستبلغ هدفها، أو هي على الأصح قد بلغَته فعلًا، في النظام الاجتماعي السائد
… ويبدو أن السلبية مرحلةٌ مستقرة في نُمو الروح، بدلًا من أن تكون هي القوَّة التي
تحفِّزها إلى السير قدمًا، ويظهر التضاد في الجدَل على أنه لعبةٌ مقصودة، لا صراع حياة
أو موت.
ولقد تصور هِيجِل «ظاهريات الروح» على أنها مدخل إلى مذهبه الفلسفي. غير أنه خلال
تأليفه الفعلي للكتاب عدَّل خطته الأصلية … فحين عرف أنه لن يتمكَّن من نشر بقية مذهبه
في المستقبل القريب، أدمج أجزاءً كبيرةً منه في هذا المدخل. وهذا الإجراء الذي اتبعه
هو، إلى حدٍّ بعيد، سبب تلك الصعاب الجمَّة التي تعترض المرء في هذا الكتاب.
إن الكتاب، بوصفه عملًا تمهيديًّا، يهدف إلى أن ينتقل بالفهم البشري من عالم التجربة
اليومية إلى عالم المعرفة الفلسفية الحقة، وإلى الحقيقة المطلَقة. هذه الحقيقة هي ذاتها
التي سبق أن أثبتَها هِيجِل في مذهب «يينا»، وأعني بها معرفة العالم بوصفه روحًا،
والعملية التي يصبح بها العالم روحًا.
إن العالم في حقيقته ليس على ما يبدو عليه، بل هو على النحو الذي يُفهم به في الفلسفة
… ويبدأ هِيجِل بتجربة الوعي العادي في الحياة اليومية، ويبيِّن أن هذا النوع من
التجربة، شأنه شأن أي نوعٍ آخر، ينطوي على عناصر تقضي على ثقته بقدرته على إدراك
«الواقع»، وتدفع البحث إلى الانتقال إلى طرق في الفهم تزداد عُلوًّا على الدوام. وهكذا
فإن التقدم نحو هذه الأنواع الأعلى هو عمليةٌ داخلية للتجربة، ولا ينتُج بفعلِ عواملَ
خارجية؛ فلو انتبه المرء بدقة إلى نتائج تجربته، لتخلى عن نوع من أنواع المعرفة وانتقل
إلى نوعٍ آخر؛ أي لانتقل من اليقين الحسي إلى الإدراك، ومن الإدراك إلى الفهم، ومن
الفهم إلى اليقين الذاتي حتى يصل إلى حقيقة العقل.
وهكذا فإن «ظاهريات الروح» لهِيجِل تمثِّل التاريخ الباطن للتجربة البشرية. وليست
هذه
بالطبع هي تجربة الإدراك اليومي العادي، بل هي تجربةٌ اهتزَّت ثقتُها بنفسها، ويشيع
فيها الإحساس بأنها لا تملك الحقيقة كاملة … إنها تجربة تسير بالفعل في الطريق الموصل
إلى المعرفة الحقيقية … ولا بد للقارئ الذي يودُّ أن يفهم مختلف أجزاء العمل أن يكون
قد
جرَّب «عنصر الفلسفة»؛ فكلمة «نحن» التي تظهر كثيرًا في الكتاب لا تشير إلى الناس
العاديين، بل إلى الفلاسفة.
والعامل الذي يحدِّد مجرى هذه التجربة هو العلاقة المتغيرة بين الوعي وموضوعاته …
فإذا تمسَّكَت الذات المتفلسفة بموضوعاتها واسترشَدَت بمعانيها، لوجدَت أن الموضوعات
تمُر بتغيُّر يؤدي إلى تبدُّل في صورتها، فضلًا عن علاقتها بالذات؛ ذلك لأنه عندما تبدأ
التجربة، يبدو الموضوع كيانًا ثابتًا، مستقلًّا عن الوعي، ويبدو كلٌّ من الذات والموضوع
غريبًا عن الآخر. على أن تقدُّم المعرفة يبيِّن أن الاثنَين لا يظلان منعزلين، بل يصبح
من الواضح أن الموضوع يكتسب موضوعيته من الذات … «فالواقعي real» الذي يحتفظ به الوعي وسط الصيرورة اللانهائية للإحساسات
والإدراكات، هو كليٌّ لا يمكِن ردُّه إلى عناصرَ موضوعيةٍ مستقلة ومتحرِّرة عن الذات
(ومن أمثلته: الكيف، الشيء، القوة، القوانين). وبعبارةٍ أخرى، فالموضوع الواقعي يتركَّب
بواسطة النشاط (الذهني) للذات … وهذه الأخيرة تكتشف أنها هي ذاتها موجودة «من وراء»
الموضوعات، وأن العالم لا يصبح واقعيًّا إلا بفضل القدرة الفاهمة للوعي.
على أن هذا لا يكون في البداية سوى ترديد لموقف المثالية الترنسندنتالية، أو هو كما
يقول هِيجِل لا يكون حقيقة إلا «بالنسبة إلينا»، نحن الذوات المتفلسفة ولا يصبح بعدُ
حقيقةً متكشِّفة في العالم الموضوعي … ولذا يمضي هِيجِل أبعد من ذلك فيقول: إن على
الوعي الذاتي أن يثبت أنه هو الواقع الصحيح، وعليه بالفعل أن يجعل من العالم تحقُّقًا
حُرًّا له. ويعلن هِيجِل مشيرًا إلى هذه المهمة أن الذات «سلب مطلَق»، ويعني بذلك أن
لها القدرة على إنكار كل وضعٍ معطًى، وعلى أن تجعل منه عملَها الواعي الخاص. وليست هذه
فاعليةً إبستمولوجية، كما أن من المستحيل أن تتم في إطار عملية المعرفة وحدها؛ إذ إن
هذه العملية لا يمكن فصلُها عن الصراع التاريخي بين الإنسان وعالمه، وهو صراع يكون هو
ذاته جزءًا لا يتجزأ من الطريق إلى الحقيقة، ومن الحقيقة ذاتها؛ فلا بد للذات من أن
تجعل العالم عملَها الخاص؛ إذا ما شاءت أن تتعرف على نفسها بوصفها الواقع الوحيد. وبذلك
تصبح عملية المعرفة هي ذاتها مسار التاريخ.
ولقد سبق لنا أن وصلنا إلى هذه النتيجة عند الكلام عن «فلسفة الروح في فترة يينا».
فالوعي الذاتي يمتد إلى صراع الحياة والموت بين الأفراد، ومنذ ذلك الحين، يربط هِيجِل
بين المسار الإبستمولوجي للوعي الذاتي (من اليقين الحسي إلى العقل) وبين المسار
التاريخي للبشر من العبودية إلى الحرية … فأحوال الوعي أو أشكاله
Gestalten١ تبدو في الآن نفسه على صورة حقائقَ تاريخيةٍ موضوعية، وحالات للعالم
Weltzustände. وإذن فالانتقال الدائم من التحليل
الفلسفي إلى التحليل التاريخي — الذي انتقده الكثيرون على أنه خلط، أو تفسيرٌ
ميتافيزيقي تعسُّفي للتاريخ — إنما يُقصد به إجراء عملية تحقيقٍ للطابع التاريخي
للتصوُّرات الفلسفية الأساسية، وبرهنة على هذا الطابع. وكل هذه التصوُّرات تنطوي على
مراحلَ تاريخيةٍ فعلية في تطوُّر البشرية، وتعبِّر عنها … فكل شكل للوعي يظهر في
التقدُّم الباطن للمعرفة، يتبلور بوصفه تعبيرًا عن حياة عصرٍ تاريخي معين … ويستمر هذا
المسار من دولة المدينة عند اليونان، حتى الثورة الفرنسية.
يصف هِيجِل الثورة الفرنسية بأنها إطلاق حرية «هادمة لذاتها» من عقالها. وهي هادمة
لذاتها لأن الوعي الذي كان يسعى فيها إلى تغيير العالم وفقًا لمصالحه الذاتية لم يكن
قد
اهتدى إلى حقيقته بعدُ. وبعبارةٍ أخرى فإن الإنسان لم يكُن قد اكتشَف مصلحته الحقيقية،
ولم يُخضِع نفسه مختارًا لقوانينَ تضمن حريَّته وحرية الكل. وكل ما فعلَته الدولة
الجديدة التي خلقَتها الثورة الفرنسية، كما يقول هِيجِل، هو أنها غيَّرَت الشكل الخارجي
للعالم الموضوعي، فجعلته وسيطًا للذات أو مادةً في يدها، ولكنها لم تحقِّق الحرية
الأساسية للذات.
أمَّا تحقُّق هذه الحرية الأخيرة فيحدُث عند الانتقال من عهد الثورة الفرنسية إلى
عهد
الثقافة الألمانية المثالية … وهكذا ينقل تحقيق الحرية الحقيقية من مستوى التاريخ إلى
العالَم الباطن للذهن … وفي ذلك يقول هِيجِل: «إن الحرية المطلَقة تترك مجال الواقع
الذي تهدم نفسها فيه (أي العصر التاريخي للثورة الفرنسية) وتنتقل إلى مجالٍ آخر، هو
مجال الذهن الواعي بذاته … وهنا ينظر إلى الحرية على أنها تكون صحيحةً بقَدْر ما لا
تكون منتميةً إلى الواقع …»
٢ هذا المجال الجديد كان اكتشافًا لمثالية «كَانْت» الأخلاقية؛ ففي داخله يضع
الفرد المستقل لنفسه واجبًا غير مشروط، هو إطاعة القوانين الكلية التي يفرضها على نفسه
بمحض اختياره وإرادته الحرة … ومع ذلك فإن هِيجِل لم ينظر إلى هذا «المجال» على أنه هو
المقر النهائي للعقل؛ ذلك لأن الصراع الذي نشأ عن توفيق «كَانْت» بين الفردي والكلي،
وهو صراعٌ بين ما يمليه الواجب وبين الرغبة في السعادة، كان يدفع الفرد إلى التماس
الحقيقة في حلولٍ أخرى … وقد تطلع هِيجِل إلى هذه الحلول في الفن والدين، ووجدها أخيرًا
في «المعرفة المطلَقة» للفلسفة الجدَلية … فهنا يتم التغلب على كل تضادٍّ بين الوعي
وموضوعه، وتمتلك الذات العالَم وتعرفه بوصفه حقيقتها الخاصة؛ أي بوصفه عقلًا.
وعلى هذا النحو تؤدي «ظاهريات الروح» إلى المنطق … وهذا الأخير يكشف عن تركيب الكون،
لا في أشكاله المتغيِّرة التي يتخذها بالنسبة إلى المعرفة التي لم تصبح مطلَقة بعدُ،
بل
في ماهيته الحقيقية … فهو يقدِّم «الحقيقة في صورتها الحقَّة».
٣ وكما أن التجربة التي بدأَت بها «ظاهريات الروح» لم تكن التجربة اليومية،
فإن المعرفة التي انتهت إليها لم تكن الفلسفة التقليدية، بل فلسفة استوعبَت حقيقة جميع
الفلسفات السابقة، ومعها كل التجارب التي تراكمَت لدى البشرية خلال صراعها الطويل من
أجل الحرية. إنها فلسفةٌ إنسانية واعية بذاتها، وهي فلسفةٌ ترى نفسها قادرةً على
السيطرة على الناس والأشياء، وتعطي نفسها الحق في تشكيل العالم وفقًا لذلك، فلسفة تنادي
بأرفع المُثُل العليا للمجتمع الحديث ذي النزعة الفردية.
وبعد هذا العرض التمهيدي الموجز للاتجاه العام لكتاب «ظاهريات الروح»، ننتقل الآن
إلى
مناقشة أفكاره الرئيسية بمزيدٍ من التوسع.
•••
تُعَد مقدمة كتاب «ظاهريات الروح» من أعظم المحاولات الفلسفية التي بُذلَت في جميع
العصور؛ فهدفها ليس أقل من إعادة مكانة الفلسفة بوصفها أرفعَ صور المعرفة البشرية،
وبحسبان أنها هي «العلم». وسوف نقتصر هنا على الكلام عن نقاطها الرئيسية.
يبدأ هِيجِل بتحليلٍ نقدي للتيارات الفلسفية عند نهاية القرنِ الثامنَ عشر، وينتقل
إلى عرض تصوُّره للفلسفة والحقيقة الفلسفية؛ فالمصدر الذي ترجع إليه المعرفة هو إدراك
أن الماهية والوجود متميِّزان في مختلف العمليات المعرفية، والموضوعات التي تحصُل عليها
المعرفة في التجربة المباشرة لا تُرضي هذه المعرفة؛ لأنها عرَضيةٌ غير كاملة، ومن هنا
تنتقل المعرفة إلى البحث عن الحقيقة في مفاهيم الموضوعات، مقتنعةً بأن المفهوم الحقيقي
ليس مجرد صورةٍ عقلية ذاتية، بل هو ماهية الأشياء. غير أن هذه لا تعدو أن تكون الخطوة
الأولى للمعرفة، والجهد الأكبر فيها ينصَبُّ على إيضاح وعرض العلاقة بين الماهية
والوجود، بين الحقيقة المحفوظة في المفهوم، والحالة الفعلية التي تُوجَد عليها
الأشياء.
وتختلف العلوم بعضُها عن البعض تبعًا لطريقة ارتباط الموضوعات التي تبحثها هذه العلوم
بحقيقتها (حقيقة هذه الموضوعات)، وتبدو هذه الفكرة محيِّرة للذهن، إلا إذا أخذ المرء
في
اعتباره أن الحقيقة عند هِيجِل تعني نوعًا من الوجود فضلًا عن كونها نوعًا من المعرفة،
وأن العلاقة بين أي موجود وحقيقته هي بالتالي علاقةٌ موضوعية متعلقة بالأشياء ذاتها.
ويضرب هِيجِل لفكرته هذه مثلًا بإيضاح التقابل بين المعرفة الرياضية والمعرفة الفلسفية
… فماهية المثلث القائم الزاوية أو «طبيعته» هي أن أضلاعه تجمعها تلك العلاقة التي تنص
عليها نظرية فيثاغورس، ولكن هذه الحقيقة تقع «خارج المثلث»؛ فالبرهنة على النظرية هي
عملية لا تقوم بها إلا الذات العارفة. «… إن المثلث … يقطع إرْبًا، وتُصنَع من أجزائه
أشكالٌ أخرى يؤدي إليها التركيب أو البناء في المثلث.»
٤ ومعنى ذلك أن ضرورة البناء أو التركيب لا تنشأ من طبيعة المثلَّث أو من
مفهومه … «إن عملية البرهان الرياضي لا تنتمي إلى الموضوع، وإنما هي وظيفة تحدُث خارج
المسألة موضوع البحث … فطبيعة المثلث القائم الزاوية لا تنقسم إلى عوامل على النحو
الوارد في التركيب الرياضي اللازم لإثبات القضية المعبِّرة عن العلاقة بين أجزائه، بل
إن عملية إنتاج النتيجة بأَسْرها إنما هي مسألة معرفةٍ تسلك طريقها الخاص في تحقيق هذا
الهدف.»
٥ وبعبارةٍ أخرى فالحقيقة المتعلقة بالموضوعات الرياضية تُوجَد خارجها، في
الذات العارفة … ومِن ثَمَّ فإن هذه الموضوعات هي، بمعنًى أدق، كيانات «خارجية» تفتقر
إلى الحقيقة والماهية.
أمَّا موضوعات الفلسفة فإنها ترتبط بحقيقتها في علاقةٍ داخلية وثيقة. مثال ذلك أن
المبدأ القائل إن «طبيعة الإنسان تقتضي الحرية، وإن الحرية شكل من أشكال العقل» — هذا
المبدأ ليس حقيقةً تفرضها على الإنسان فلسفةٌ اعتباطية، بل إن من الممكن إثبات أنه هو
الهدف الباطن للإنسان، وهو حقيقته الأصيلة. وليس ما يعطينا برهان هذا المبدأ هو عملية
معرفةٍ خارجية، بل هو تاريخ الإنسان ذاته؛ ففي الفلسفة تكون العلاقة بين الموضوع وبين
حقيقته حدثًا فعليًّا
Geschehen. ولنَعُد مرةً أخرى
إلى المثَل الذي أوردناه فنقول إن الإنسان يجد أنه ليس حرًّا، وأنه منفصلٌ عن حقيقته،
يحيا حياةً متخبطةً غير حقيقية، فالحرية شيء ينبغي له أن يكتسبه بالتغلُّب على عبوديته،
وهو يكتسبها بالفعل حين يعرف بمُضي الوقت إمكاناته الحقيقية. إن الحرية تفترض مقدمًا
شروطًا تجعل الحرية الممكنة، وأعني بها السيطرة الواعية العاقلة على العالم … وتلك
نتيجةٌ يتحقق صدقُها في التاريخ المعروف للبشرية؛ فمفهوم الإنسان أو فكرته هو تاريخه
كما تدركه الفلسفة، وعلى ذلك ففي الفلسفة ترتبط الماهية والوجود في علاقةٍ متبادلةٍ
وثيقة، ويكون لعملية إثبات الحقيقة فيها صلة بالموضوع الموجود ذاته؛ فالماهية تنشأ خلال
عملية الوجود، وبالعكس فإن مسار الوجود هو «عودة» إلى الماهية.
٦
إن المعرفة الفلسفية لا تستهدف إلا «الأساسيات» ذات الصلة الوثيقة بمصير الإنسان
ومصير عالمه … والموضوع الوحيد للفلسفة هو العالَم في شكله الحقيقي؛ أي العالم بوصفه
عقلًا … والعقل بدوره لا يشعُر بكيانه كاملًا إلا مع تطوُّر البشرية … وعلى ذلك فإن
الحقيقة الفلسفية تتعلق قطعًا بحياة الإنسان، وهي أعمق غاياته وأهدافه … هذا، في نهاية
المطاف، هو معنى العبارة القائلة إن الحقيقة كامنة أو باطنة في موضوع الفلسفة، فالحقيقة
هنا تصوغ وجود الموضوع ذاته وليست عديمة الاكتراث به، كما هي الحال في الرياضيات، ووجود
الموضوع وجودًا حقيقيًّا هو مسألة حياة (وموت)، والطريق المؤدي إلى الحقيقة ليس عمليةً
معرفية فحسب، بل هو أيضًا عمليةٌ تاريخية.
هذه العلاقة بين الحقيقة والوجود هي التي تميِّز المنهج الفلسفي؛ فالحقيقة الرياضية
يمكن أن تدرك في قضيةٍ واحدة، وتكون هذه القضية صحيحة ونقيضها باطلًا. أمَّا في الفلسفة
فإن الحقيقة عمليةٌ فعلية لا يمكن إدراكُها في قضية … «فليس عنصرها ومضمونها هو
المجرَّد أو غير الواقعي، بل هو الواقعي، وما يقيم ذاته وتكمُن في داخله الحياة، وما
يكمُن الوجود في مفهومه نفسه … إنه العملية التي تخلق لحظاتها خلال مسارها، ونمُر بها
جميعًا، وهذه الحركة بأَسْرها هي التي تكون مضمونه الإيجابي، وحقيقته.»
٧ هذه العملية يستحيل أن تستوعبها قضيةٌ واحدة. مثال ذلك أن القضية «طبيعة
الإنسان هي الحرية في العقل» غير صحيحة لو نُظر إليها في ذاتها؛ فهي تُغفِل كل الوقائع
التي تؤلِّف معنى الحرية والعقل، والتي تتجمَّع في كل النزوع التاريخي نحو الحرية
والعقل. وفضلًا عن ذلك فإن القضية باطلة من حيث إن الحرية والعقل لا يمكن أن يظهرا إلا
بوصفهما نتيجةً للعملية أو المسار التاريخي؛ فقهر العبودية واللامعقولية جزءان لا
يتجزآن من حقيقتها … أي إن البطلان هنا لا يقلُّ ضرورةً وواقعية عن الحقيقة … ولا بد
من
النظر إلى البطلان على أنه «الصورة الخاطئة» للموضوع الفعلي، أو حقيقته؛ أي على أنه هذا
الموضوع في وجوده اللاحقيقي؛ فالباطل هو آخرية الجوهر
otherness والوجه السلبي له،
٨ ولكنه مع ذلك جزء منه، ومن هنا كان جزءًا مكوِّنًا لحقيقته.
والمنهج الجدَلي هو الذي يتمشَّى مع هذا البناء أو التركيب المميز للموضوع الفلسفي،
وهو يحاول أن يرِّدد حركته الفعلية ويتابعها، فالمذهب الفلسفي لا يكون صحيحًا إلا إذا
كان يشمل الحالة السلبية والإيجابية، وإذا كانت تتكرر فيه عملية التحول إلى البطلان ثم
العودة إلى الحقيقة. والجدَل، بوصفه مذهبًا من هذا النوع، هو المنهج الصحيح للفلسفة،
وهو يكشف لنا أن الموضوع الذي يتعامل معه يُوجَد في حالة من «السلبية» ينفضها الموضوع
عن نفسه، بفضل الضغوط التي يمارسها عليه وجوده الخاص، وذلك خلال عملية استعادته
لحقيقته.
وإذن، فإن لم تكن هناك في الفلسفة قضيةٌ واحدة صحيحة بمعزل عن الكل، فبأي معنًى يكون
النسق الكلي صحيحًا؟ إن المنهج الجدَلي يغيِّر معنى القضية ومبناها، ويجعلها شيئًا
مختلفًا تمامًا عن القضية في المنطق التقليدي، فهذا المنطق الأخير، الذي يشير إليه
هِيجِل باسم: منطق الموقف الطبيعي common sense ويعني
بذلك منطق المنهج العلمي التقليدي أيضًا، يعالج القضايا على أنها تتألف من موضوع،
يُستخدَم قاعدةً ثابتة مستقرة، ومحمولٍ يُلحق به. والمحمولات هي الخواص العارضة، أو هي،
بلغة هِيجِل: «تعيينات determinations» لجوهرٍ ثابت
بدرجاتٍ متباينة.
وفي مقابل هذه النظرة إلى القضية، يضع هِيجِل الحكم
التأملي أو النظري
speculative في الفلسفة.
٩ هذا الحكم التأملي ليس له موضوعٌ سلبي ثابت، بل إن موضوعه إيجابي يتطور إلى
محمولاته؛ فالمحمولات هي مختلف أشكال وجود الموضوع، أو لنعبِّر عن ذلك تعبيرًا مختلفًا
إلى حدٍّ ما، فنقول إن ما يحدث هو أن الموضوع «يتراجع» ويتحول إلى المحمول، وهكذا فإن
الحكم التأملي يهزُّ «القاعدة الصلبة» للقضية التقليدية «حتى جذورها»، وموضوعه الوحيد
هو نفس حركة موضوع الحكم هذه.
١٠ مثال ذلك أن القضية القائلة إن الله هو الوجود؛ إذا ما نُظر إليها على أنها
حكمٌ تأملي، لا تعني أن الموضوع، وهو الله، «يمتلك» أو «يحمل» المحمول (الوجود) ضمن
محمولاتٍ أخرى متعددة، بل تعني أن الموضوع، وهو الله، «يتحول» إلى الوجود. و«الوجود»
هنا «ليس محمولًا» بل هو الطبيعة الأساسية لله … فالموضوع؛ أي الله، «يبدو وكأنه لم
يعُد ما كان عليه عندما طُرحَت علينا القضية، أعني موضوعًا ثابتًا» ويبدو أنه أصبح هو
المحمول.
١١ وعلى حين أن الحكم والقضية التقليديَّين ينطويان على تمييزٍ واضح للموضوع
من المحمول، فإن الحكم التأملي يشوِّه ويدِّمر «طبيعة الحكم أو القضية بوجهٍ عام». وهو
يسدِّد إلى المنطق الصوري التقليدي الضربة القاضية؛ إذ يصبح الموضوع هو المحمول دون أن
يصبح في الوقت ذاته في هُوية معه. وتلك عملية لا يمكِن التعبير عنها تعبيرًا وافيًا في
قضية واحدة، «فالقضية كما تظهر هي مجرد شكلٍ فارغ.»
١٢ ومقر الحقيقة ليس القضية، بل هو النسق الدينامي للأحكام التأملية، الذي
ينبغي أن يتجاوز كل حكمٍ فيه كل حكمٍ آخر «ويرفعه»؛ بحيث إن العملية الكاملة هي وحدها
التي تمثِّل الحقيقة.
على أن ما يهزُّ المنطق التقليدي والفهم التقليدي للحقيقة «حتى جذورهما» ليس مجرد
أمرٍ تعسفي تصدره الفلسفة، بل هو الاستبصار بالواقع في حركته الدينامية؛ فالمضمون الخاص
بالحكم التأملي هو المسار الموضوعي للواقع في صورته الأساسية، الشاملة، لا في مظهره …
وبهذه المعنى الأساسي يمكن القول إن تحول هِيجِل من المنطق التقليدي إلى المنطق المادي
هو الخطوة الأولى في اتجاه التوحيد بين النظرية والتطبيق العملي. والواقع أن احتجاجه
على «الحقيقة» الشكلية الجامدة للمنطق التقليدي كان احتجاجًا على الفصل بين الحقيقة
وصورها وبين العمليات العينية، واحتجاجًا على الحيلولة بين الحقيقة وبين ممارسة أي
تأثيرٍ موجه مباشر على الواقع.
لقد كانت الفلسفة المثالية في ألمانيا تدافع عن حق النظرية في توجيه التطبيق العملي؛
ذلك لأن الفلسفة المثالية كانت تمثِّل أكثر أنواع الوعي السائد عندئذٍ تقدُّمًا، ولم
يكن لفكرة العالَم الذي تشيع في أرجائه الحرية والعقل من ملجأ أضمن من ذلك الذي كان
يقدِّمه ذلك المجال التجريدي للثقافة. والحق أن من المحال أن يُفهَم التطور اللاحق
للفكر الأوروبي بمعزل عن أصوله المثالية.
إن التحليل الدقيق لكتاب «ظاهريات الروح» يحتاج إلى أكثر من مجلد … على أننا نستطيع
أن نستغني عن هذا التحليل، ما دامت الأجزاء الأخيرة من هذا الكتاب تعالج مشكلاتٍ سبق
أن
أوضحنا معالمها عند مناقشة مذهب «يينا»، وسوف نقتصر في تفسيرنا على الأقسام الافتتاحية،
التي تعرض المنهج الجدَلي بتفصيلٍ كبير، وتحدِّد نمط الكتاب بأَسْره.
١٣
تبدأ المعرفة حين تقضي الفلسفة على تجربة الحياة اليومية، فتحليل هذه التجربة هو
نقطة
البدء في البحث عن الحقيقة. إن موضوع التجربة يُعطى أوَّلًا عن طريق الحواس، ويتخذ شكل
المعرفة الحسية أو اليقين
الحسي
sinnliche Gewissheit. والصفة المميزة لهذا النوع من التجربة هي أن الذات فيه، شأنها
شأن الموضوع، تبدأ على هيئة «هذا فردي» هنا والآن؛ فأنا أرى هذا البيت، هنا في هذا
المكان بعينه وفي هذه اللحظة ذاتها، والبيت يُنظر إليه على أنه «واقعي» ويبدو موجودًا
بذاته. أمَّا «الأنا» الذي يراه فيبدو غير أساسي «ويمكِن أن يكون أو لا يكون»، «ولا
يُعرف الموضوع إلا لأن الموضوع يُوجَد.»
١٤
ولو مضينا قليلًا في التحليل، لوجدنا أن ما يُعرف في هذه التجربة، وما يتمسك به
اليقين الحسي بوصفه ملكًا ثابتًا له وسط صيرورة الانطباعات، ليس الموضوع، وهو البيت بل
هو اﻟ «هنا» و«الآن»؛ فلو أدرتُ رأسي، لاختفَى البيت وبدَا موضوعٌ آخر يمكن أن يختفي
بدوره إذا ما أدرتُ رأسي مرةً أخرى؛ فلكي أظل محتفظًا بالمضمون الفعلي لليقين الحسي،
ولكي أحدِّد معالمه، ينبغي عليَّ أن أشير إلى «هنا» و«الآن» على أنهما العنصران
الوحيدان اللذان يظلان ثابتَين وسط التغيُّر الدائم للمعطيات الموضوعية؛ فما هو اﻟ
«هنا» والآن؟ «هنا» بيت، ولكن «هنا» بالمثل ليست بيتًا، بل شجرة، وشارع، وإنسان، وما
إلى ذلك. و«الآن» نهار، ولكن بعد وقتٍ معيَّن سيصبح «الآن» ليلًا، ثم صباحًا، وما إلى
ذلك. ويظل «الآن» على ما هو عليه طوال اختلافات النهار أو الليل أو الصباح. وفضلًا عن
ذلك فهو ليس «آنًا» إلا لكونه مغايرًا للنهار أو الليل أو أية لحظةٍ أخرى في الزمان؛
فهو يحفظ ذاته عن طريق سلب كل اللحظات الأخرى للزمان … وبعبارةٍ أخرى فإن «الآن» يُوجَد
بوصفه شيئًا سلبيًّا، ووجوده لا وجود. ومثل هذا يصدُق على اﻟ «هنا»؛ فاﻟ «هنا» ليس
البيت ولا الشجرة ولا الشارع، بل هو «ما يكون ويظل عند اختفاء البيت والشجرة وما إلى
ذلك، ويُمكِنه أن يكون أو لا يكون بيتًا أو شجرةً.»
١٥ ومعنى ذلك أن «الآن» و«هنا» شيئان كُليَّان. ويقول هِيجِل إننا نطلق اسم
الكُلي على الكيان «الذي يكون بالسلب ومن خلاله، والذي لا يكون هذا ولا ذاك، والذي يكون
ليس هذا
a not-this، وسيان عنده أن يكون هذا أو
ذاك». وهكذا يثبت تحليل اليقين الحسي حقيقة الكلي، ويكشف في الوقت ذاته عن فكرةٍ فلسفية
هي فكرة الكلية؛ فنفس مضمون الوقائع الملاحَظة يثبت حقيقة الكلي، وهذا الكلي يُوجَد في
نفس عملية ظهور هذه الوقائع، ولا يمكِن التوصُّل إليه في الجزئيات وبواسطتها.
وإذن، فها هي ذي النتيجة الأولى التي نتوصل إليها من التحليل الفلسفي لليقين الحسي:
إن «حقيقة اليقين الحسي، والمضمون الحقيقي للتجربة الحسية»
١٦ ليس الموضوع الجزئي الفردي، بل هو الكلي. وتنطوي هذه النتيجة على شيءٍ أدعى
إلى الاستغراب، فمن الواضح بذاته، في نظر التجربة الحسية، أن الموضوع هو الأساسي، وهو
«الواقعي»، على حين أن الذات غير أساسية، ومعرفتها تتوقف على الموضوع. ولكن يتضح أن
العلاقة الحقيقية هي «عكس ما بدَا لأول وهلة على خطٍّ مستقيم.»
١٧ إذ يتبيَّن أن الكلي هو المضمون الحقيقي للتجربة. ومستقَر الكلي هو الذات
لا الموضوع؛ فالكلي يُوجَد «في تلك المعرفة التي كانت من قبلُ هي العامل غير الأساسي.»
١٨ ذلك لأن الموضوع لا يكون بذاته، بل يكون «لأنني أعرفه». وهكذا يكمن أساس
يقين التجربة الحسية في الذات؛ فهو كما يقول هِيجِل يُستبعد من الموضوع، ويُدفع ثانية
إلى «الأنا».
فإذا مضينا أبعد من ذلك في تحليل التجربة الحسية، لكشَف لنا هذا التحليل عن أن
«الأنا» يمُر بنفس العملية الجدَلية التي يمُر بها الموضوع، ويتكشَّف على أنه شيءٌ كلي؛
ففي البداية يبدو الأنا الفردي «أناي» الخاص، كما لو كان هو النقطة الثابتة الوحيدة في
صيرورة المعطيات الحسية. «إن احتفاظي بالآن واﻟ «هنا» المعيَّنَين، اللذَين نقصدهما،
هو
الذي يحول دون اختفائهما». على أنني أقرِّر أن الوقت نهار، وأنني أرى بيتًا، وأسجِّل
هذه الحقيقة، بينما قد يقرِّر غيري حين يقرؤها فيما بعدُ أن الوقت ليل وأنه يرى شجرة.
«ولكلتا الحقيقتَين نفس الصدق»، كما أن كلًّا منهما تصبح باطلة بتغيُّر الزمان والمكان
… وعلى ذلك فإن الحقيقة لا يمكن أن ترتبط «بأنا» فرديٍّ بعينه … فإذا قلتُ إنني أرى
بيتًا هنا والآن، أعني أن كل شخص يمكِنه أن يحلَّ محلِّي بوصفه ذاتًا تقوم بهذا الإدراك
… فأنا في هذه الحالة أفترض مقدمًا «الأنا من حيث هو كلي، ذلك الأنا الذي ليس إبصاره
هو
إبصار هذه الشجرة أو هذا البيت، بل هو إبصار فحسب». وكما أن «الآن» واﻟ «هنا» هما كليان
في مقابل مضمونهما الفردي، فكذلك نجد «الأنا» كليًّا في مقابل كل أنا فردي.
على أن فكرة الأنا الكلي تصدم الفهم السائد في الموقف الطبيعي، وإن كانت اللغة
اليومية تستخدمها على الدوام … فعندما أقول «أنا» أرى، أو أسمع، وما إلى ذلك، أضع كل
شخصٍ في موضعي، وأستبدل أي أنا آخر بأناي الفردي. «وعندما أقول: أنا، أو: هذا الفرد،
أو
أقول بصورةٍ عامة تمامًا: كل الأنوات، وأقول إن كل واحدٍ هو ما أقول، وكل واحد هو: أنا،
هذا الأنا الفردي».
وهكذا تكتشف التجربة الحسية أن الحقيقة لا تكمُن في موضوعها الجزئي، ولا في الأنا
الفردي؛ فالحقيقة هي محصلة عملية سلبٍ مزدوجة، ألا وهي:
- (١)
سلب «الوجود بذاته»، من الموضوع.
- (٢)
سلب الأنا الفردي بتحويل الحقيقة إلى الأنا الكلي. وهكذا يتم «توسُّط»
الموضوعية مرتَين؛ أي إنها تُشيَّد مرتَين بواسطة الوعي، وتظل منذ هذا
الحين مقيَّدة بالوعي … فنُمو العالم الموضوعي متشابكٌ تشابُكًا تامًّا مع
نُمو الوعي.
على أن الموقف الطبيعي
common sense يأبى مثل هذا
الهدم لحقيقته، ويدَّعي أنه قادر على إيضاح «الآن» واﻟ «هنا» الجزئي اللذَين يعنيهما
بدقة … ويقبل هِيجِل هذا التحدي، فيقول: «لنَرَ إذن كيف يتركَّب «الآن» واﻟ «هنا»
المباشر الذي يعرض علينا.»
١٩ إنني حين أشير إلى «آن» معين، «يكون قد كَفَّ عن الوجود في الوقت الذي
يُشار فيه إليه … «فالآن» الموجود مخالفٌ للآن المشار إليه، ويمكننا أن ندرك أن الآن
هو
هذا بعينه — أعني أن يُوجَد حين لا يعود موجودًا». وهكذا فإن الإشارة إلى «الآن» هي
عملية تتضمن المراحل الآتية:
- (١)
أشير إلى «الآن» وأقرِّر أنه هكذا وعلى هذا النحو … «ومع ذلك فإني أشير
إليه بوصفه شيئًا موجودًا»، وإذ أفعل ذلك، فإني ألغي الحقيقة الأولى
وأقرِّر:
- (٢)
أن «الأنا» كان موجودًا، وأن هذه هي الحقيقة … ولكن ما كان موجودًا، لا
يكون موجودًا … وعلى ذلك:
- (٣)
فإني أُلغِي الحقيقة الثانية، وأنفي نفي «الآن» وأقرِّره مرةً أخرى على
أنه حقيقة … غير أن هذا «الآن»، الذي تُسفِر عنه العملية بأكملها، ليس هو
«الآن» الذي كان يعنيه الموقف الطبيعي في المرة الأولى … إنه لا يكترث
بماضٍ أو حاضر … إنه «الآن» الذي مضى، والآن الذي هو حاضر، وما إلى ذلك،
وهو في ذلك كله نفس «الآن» … أي إنه، بعبارةٍ أخرى، شيءٌ كلي.
وهكذا أثبتَت التجربة الحسية ذاتها أن مضمونها الحقيقي ليس الجزئي بل الكلي … «إن
العملية الجدَلية المتضمَّنة في اليقين الحسي ليست إلا مجرَّد تاريخ مسارها، وتجربتها،
وما اليقين الحسي ذاته إلا هذا التاريخ فحسب.»
٢٠ فالتجربة ذاتها تنتقل إلى شكلٍ أعلى للمعرفة، هدفه هو الكلي، واليقين الحسي
يتحوَّل إلى إدراكٍ حسي.
ويتميز الإدراك الحسي
Wahrnehmung عن اليقين الحسي
بأن «مبدأَه» هو الكلية … فموضوعات الإدراك الحسي أشياء
Dinge والأشياء تظل محتفظة بهُويتها وسط تغيُّرات
«الآن» واﻟ «هنا». مثال ذلك أنني أطلق على هذا الشيء الذي أدركه هنا والآن اسم «الملح»
… وفي هذه الحالة لا أشير إلى كثرة «الآنات» و«الهُنات»
heres التي يتمثَّل بها لي، بل إلى وحدةٍ محدَّدة وسط
تبايُن خواصِّه
Eigenschaften، فأنا أشير إلى
«شيئية» الشيء، وأقول إن الملح أبيض، مكعَّب الشكل، وغير ذلك.
٢١ هذه الخواص في ذاتها كلية، مشتركة بين أشياءَ متعدِّدة … ويبدو أن الشيء
ذاته ليس إلا «المعية البسيطة» لهذه الخواص، وهو «وسيطها» العام. ولكنه أكثر من مجرد
هذه المعيَّة البسيطة … فخواصه ليست اعتباطية يمكِن الاستعاضة عنها بغيرها، بل هي
«تستبعد» الخواصَّ الأخرى و«تنفيها»؛ فإذا كان الملح أبيض مالحًا، فإنه لا يمكن أن يكون
أسود وحُلوًا … وليس الاستبعاد مسألةً اعتباطية متعلقة بالتعريف، بل إن الأمر على عكس
ذلك؛ إذ إن التعريف يتوقف على المعطَيات التي يقدِّمها الشيء ذاته … فالملح هو الذي
يستبعد وينفي خواصَّ معيَّنة تتناقض مع «كونه ملحًا» … وعلى ذلك فليس الشيء «وحدة غير
مكترثة بما تكونه … بل هي وحدةٌ مستبعِدة، طاردة.»
٢٢
وهكذا يبدو الموضوع حتى الآن موضوعًا محدَّد المعالم، يتعيَّن على الإدراك الحسي
أن
يكتفي بقبوله و«يأخذه لنفسه» سلبيًّا … فالإدراك الحسي، كالتجربة الحسية، يستخلص
الحقيقة أوَّلًا من الموضوع … غير أنه، كالتجربة الحسية أيضًا، يكتشف أن الذات نفسها
هي
التي تؤلِّف موضوعية الشيء … ذلك لأن الإدراك الحسي حين يحاول تحديد ما يكونه الشيء في
حقيقته، يغرق في سلسلة من المتناقضات … فالشيء وحدة وكثرة في الوقت ذاته … ولا يمكن
تجنُّب التناقض عن طريق نسبة كلٍّ من هاتَين الصفتَين إلى كلٍّ من عاملَي الإدراك؛ بحيث
تلحق الوحدة بوعي الذات، والكثرة بالموضوع … فهِيجِل يبيِّن أن هذا لا يؤدي إلا إلى
متناقضاتٍ جديدة … كذلك لا يفيدنا أن نفترض أن الشيء هو في واقع الأمر وحدةٌ وأن الكثرة
ناتجة عن علاقته بالأشياء الأخرى.
٢٣ فكل ما تثبته جميع هذه المحاولات التي تُبذل للتخلص من التناقض، هو أن هذا
التناقض لا مفَر منه، وهو يكون مضمون الإدراك الحسي ذاته … إن الشيء هو في ذاته وحدة
واختلاف؛ أي وحدة في اختلاف … ويؤدي تحليل هِيجِل التالي لهذه العلاقات إلى تحديدٍ
جديدٍ للكلية … فالكلي الحقيقي ينطوي على تنوُّع، ويحتفظ في الوقت ذاته بنفسه، بوصفه
وحدة «تستبعد وتطرد» (العناصر الأخرى) في كل الظروف الجزئية … وعلى هذا النحو يتجاوز
تحليل الإدراك الحسي تلك النقطة التي تم الوصول إليها في تحليل التجربة الحسية … فالكلي
الذي يُشار إليه الآن على أنه المضمون الحقيقي للمعرفة، يحمل طابعًا مختلفًا … ذلك لأن
علاقة الشيء بالأشياء الأخرى لا تقتصر الآن على التحكُّم في وحدته، بل إنها تؤسِّسها،
وتصبح هذه العلاقة ذاتها هي قوام شيئيته … مثال ذلك أن الملح لا يكون على ما هو عليه
إلا في علاقته بذوقنا، وبالطعام الذي يُضاف إليه هذا الملح، وبالسكَّر … إلخ. صحيح أن
الملح، من حيث هو شيء، أكثر من مجرد الجمع بين هذه العلاقات، فهو وحدةٌ في ذاتها
ولذاتها، غير أن هذه الوحدة لا تُوجَد إلا في هذه العلاقات، وهي ليست شيئًا «من ورائها»
أو خارجها. إن الشيء يصبح نفسَه من خلال تقابله مع الأشياء الأخرى، وهو كما يقول هِيجِل
وحدة ذاته مع أضدادها، أو الوجود لذاته مع الوجود لغيره.
٢٤ وبعبارةٍ أخرى فإن نفس «جوهر» الشيء ينبغي أن يُستجمع من العلاقة التي
يقيمها هو ذاته مع الأشياء الأخرى. غير أن هذا أمرٌ يتجاوز تحقيقه نطاق قدرة الإدراك
الحسي، فهو عمل الفهم (التصوُّري).
لقد أدَّى تحليل الإدراك الحسي إلى إظهار «الوحدة في التنوع»، أو «الكلي غير
المشروط»، بوصفه الصورة الحقيقية لموضوع المعرفة، وهو غير مشروط لأن وحدة الشيء تؤكِّد
ذاتها على الرغم من كل الشروط المحددة، ومن خلال هذه الشروط … وعندما حاول الإدراك
الحسي الوصول إلى المضمون الحقيقي لموضوعه، تبيَّن أن «الشيء» وحدةٌ تكون ذاتها في كثرة
من العلاقات المتنوِّعة مع الأشياء الأخرى. وهنا يدخل هِيجِل تصوُّر القوة من أجل تفسير
الطريقة التي يتماسك بها الشيء بوصفه وحدةً تتحكَّم في ذاتها، خلال هذه العملية، فيقول
إن جوهر الشيء لا يمكن أن يُفهَم إلا على أنه قوة.
ويضم تصوُّر القوة في ذاته كل العناصر التي كان التحليل الفلسفي حتى الآن يجدها مميزة
للموضوع الحقيقي للمعرفة … فالقوة هي ذاتها علاقة تجمع بين أطرافٍ متميزة، ولكنَّ
كُلًّا منها ليس منفصلًا عن الآخر، وهي ليست عارضة في كل الظروف، بل تتحدد بذاتها بالضرورة.
٢٥ ولن نتبع هنا بالتفصيل مناقشة هِيجِل لهذا التصور، بل سنقتصر على عرض نتائج
هذه المناقشة.
إذا نظرنا إلى جوهر الأشياء على أنه قوة، كُنَّا بذلك نشطر الواقع فعلًا إلى بُعدَين
… فنحن نتجاوز الخواصَّ المدرَكة حسيًّا للأشياء، ونصل إلى شيءٍ يتجاوزها، ويقع من
ورائها، نعرفه بأنه هو «الحقيقي»؛ ذلك لأن القوة ليست كيانًا في عالم الإدراك الحسي،
وهي ليست شيئًا أو كيفية نستطيع أن نشير إليها، كالأبيض أو المكعَّب. بل إننا لا نستطيع
أن ندرك إلا تأثيرها، أو التعبير عنها، ووجودها في نظرنا ينحصر في هذا التعبير عنها؛
فالقوة ليست شيئًا مستقلًّا عن تأثيرها، بل إن وجودها ينحصر كله في هذا الكون والفساد،
فإذا كان جوهر الأشياء هو القوة، لاتضح أن طريقة وجود الأشياء هي طريقة وجود المظهر؛
ذلك لأن الكائن الذي لا يُوجَد إلا من حيث هو زائل أو عابر، والذي هو «في ذاته «وجود
خالص»، هو ما نسميه … بالمظهر
Schein»
٢٦ وللفظ المظهر عند هِيجِل معنًى مزدوج؛ فهو يعني أوَّلًا أن الشيء يُوجَد
على نحوٍ من شأنه أن يكون وجودُه مختلفًا عن ماهيته، وهو يعني ثانيًا أن ما يبدو ليس
مجرد مظهر، بل هو تعبيرٌ عن ماهية لا تُوجَد إلا كمظهر … أي إن المظهر بعبارةٍ أخرى ليس
لاوجودًا، بل هو مظهر الماهية.
ويؤدي كشف الحقيقة القائلة إن القوة هي جوهر الأشياء، إلى إنارة الطريق أمام عملية
المعرفة لكي تنفُذ إلى عالم الماهية … ذلك لأن عالم التجربة الحسية والإدراك الحسي هو
عالم الظاهر … أمَّا عالم الماهية فهو عالم «فوق الحسي»، يتجاوز عالم الظاهر المتغيِّر
الزائل هذا … ويصف هِيجِل هذه الرؤية الأولى للماهية بأنها «أول مظهر للعقل، ومِن ثَمَّ
فهي مظهرٌ ناقص له» — وهو ناقص لأن الوعي لا يزال يجد حقيقته «في صورة موضوعٍ ما»؛ أي
بوصفها شيئًا مقابلًا للذات، فعالم الماهية يظهر بوصفه العالم «الباطن» للأشياء … وهو
يظل «بالنسبة إلى الوعي مجرد تجاوزٍ محض؛ لأن الوعي لا يكون قد وجد ذاته فيه
بعدُ».
غير أن الحقيقة لا يمكن أن تظلَّ إلى الأبد بعيدةَ المنال عن الذات لو شاء الإنسان
أن
يتخلَّص من وجودٍ غير حقيقي في عالمٍ غير حقيقي … ومن هنا فإن التحليل التالي ينتقل إلى
مهمة إثبات أن الذات نفسها تُوجَد من وراء مظهر الأشياء، وأنها تؤلِّف ماهية الأشياء
ذاتها … والواقع أن إصرار هِيجِل على ضرورة التعرُّف على الذات من وراء مظهر الأشياء
إنما هو تعبير عن الرغبة الأساسية لدى المثالية في أن يعمل الإنسان على تحوير العالم
المغترب إلى عالمٍ خاصٍّ به … ومن هنا فإن «ظاهريات الروح» تسلك هذا الطريق نفسه، عن
طريق المزج بين عالم المعرفة وعالم التاريخ، والانتقال من كشف الذات إلى مهمة السيطرة
على الواقع من خلال العمل الواعي بذاته.
ويؤدي تصوُّر القوة إلى الانتقال من الوعي إلى الوعي الذاتي، فإذا تصوَّرنا جوهر
الأشياء على أنه قوة، فإن ثبات العالم الموضوعي يرتد إلى تفاعل بين حركات. غير أن
التصوُّر يعني أكثر من مجرد هذا التفاعل، فالقوة تمارس قدرةً معيَّنة على آثارها، وتظل
على ما هي عليه وسط مظاهرَ متباينة، وبعبارةٍ أخرى فهي تسلك وفقًا «لقانون» كامن؛ بحيث
إن حقيقة القوة، كما يعبِّر عنها هِيجِل، هي «قانون القوة»
das Gesetz der Kraft.
٢٧ فعالم الماهية ليس، كما بدَا لأول وهلة، مجرد تفاعلٍ أعمى بين القوى. وإنما
هو عالَم قوانينَ ثابتة تتحكَّم في صورة العالم المُدرَك حسيًّا … وعلى حين أن كثرة هذه
الصورة تبدو في البداية كما لو كانت تقتضي كثرةً مناظِرة من القوانين، فإن المزيد من
التحليل يبيِّن لنا أن التنوُّع ليس إلا وجهًا ناقصًا للحقيقة، وأن المعرفة؛ إذ تأخذ
على عاتقها توحيدَ القوانين الكثيرة في قانونٍ واحدٍ مهيمنٍ عليها، تنجح في هذه المرحلة
المبكِّرة في استجماع الصورة العامة لهذا القانون … فالمعرفة بالأشياء تكون مندرجة تحت
قانون إذا كانت قد «جمعَت كل لحظات مظهرها وحافظَت عليها» في ماهيتها الباطنة، وكانت
قادرة على المحافظة على هُويتها الأساسية في علاقاتها بالأشياء جميعًا … ومن الواجب أن
تُفهم هوية «الجوهر» هذه، كما أوضحنا من قبلُ، على أنها عملٌ تختص به «ذات» هي في
أساسها عملية «توحيد دائم للأضداد».
٢٨
لقد كشف التحليل السابق عن أن ماهية الأشياء هي القوة، وماهية القوة هي القانون …
على
أن القوة، مندرجة تحت قانون، هي ما يميِّز الذات الواعية بنفسها … ومِن ثَمَّ فإن ماهية
العالم الموضوعي تشير إلى وجود الذات الواعية بنفسها، وتؤدي إليها … فالفهم لا يجد إلا
ذاتَه حين يبحث عن ماهية الأشياء من وراء مظهرها … «من الواضح أنه، من وراء الستار
المزعوم، الذي يُقال إنه يُخفي العالَم الباطن، لا يُوجَد شيءٌ يمكن رؤيتُه ما لم ننتقل
نحن أنفسنا إلى ما وراءه، لكي يمكِننا بذلك أن نرى ما قد يكون هناك من شيءٍ وراءه يمكِن
رؤيته.»
٢٩ فحقيقة الفهم وعيٌ ذاتي … وهكذا ينتهي الفصل الأوَّل من «الظاهريات»، ويبدأ
تاريخ الوعي الذاتي.
وقبل أن نتتبع هذا التاريخ، ينبغي أن نقوم بعملية تقويمٍ للأهمية العامة للفصل
الأوَّل … فمنه يعرف القارئ أنه لا يُوجَد وراء الستار شيءٌ في ذاته مجهول، بل تُوجَد
الذات العارفة … فالوعي الذاتي هو ماهية الأشياء … والشائع أن نقول، في هذا الصدد، إن
هذه هي الخطوة المؤدية من كَانْت إلى هِيجِل؛ أي من المثالية النقدية إلى المثالية
المطلَقة … ولكن الاقتصار على هذا القول ينطوي على إغفالٍ للغرض الذي دفع هِيجِل إلى
القيام بهذا الانتقال.
إن الأقسام الثلاثة الأولى من «الظاهريات» هي نقد للوضعية،
٣٠ والأهم من ذلك أنها نقد لعملية
التشيؤ
reification؛ فلنبدأ بهذه الأخيرة. إن هِيجِل يحاول أن يبيِّن أن الإنسان
لا يستطيع معرفة الحقيقة إلا إذا خرج عن نطاق عالمه المتشيِّئ. ونحن في هذا الصدد
نستعير لفظ «التشيؤ» من النظرية الماركسية، التي يدُل فيها هذا اللفظ على أن العلاقات
بين الناس في العالم الرأسمالي تبدو كأنها علاقات بين أشياء، أو أن ما يبدو في العالم
الاجتماعي على أنه علاقاتٌ بين الأشياء وقوانينُ «طبيعية» تنظِّم حركتها هو في حقيقة
الأمر علاقاتٌ بين بشر وبين قوًى تاريخية … مثال ذلك أن السلعة تتضمَّن في جميع
خواصِّها العلاقات الاجتماعية للعمل، وأن رأس المال هو القدرة على التحكُّم في الناس
…
إلخ … وبفضل هذا الوضع العكسي، أصبح العالم مغتربًا، لا يتعرف فيه الإنسان على ذاته أو
يحقِّقها، بل تطغى عليه الأشياء والقوانين الجامدة.
ولقد اهتدى هِيجِل إلى هذه الحقيقة نفسها في مجال الفلسفة … فالموقف الطبيعي common sense والتفكير العلمي التقليدي ينظران
إلى العالم على أنه مجموعٌ كلي من الأشياء التي تُوجَد بذاتها بدرجاتٍ متفاوتة،
ويلتمسان الحقيقة في موضوعاتٍ يُنظر إليها على أنها مستقلةٌ عن الذات العارفة … وليس
هذا مجرد موقفٍ معرفي، بل هو يماثل في شموله سلوك الناس العملي، وهو يؤدي بهم إلى قبول
الإحساس بأنهم لا يكونون آمنين إلا بمعرفة الوقائع الموضوعية والتصرُّف فيها، وكلما
كانت الفكرة أبعد عن نوازع الذات الحية واهتماماتها وحاجاتها، أصبَحَت بذلك أكثر حقيقة،
وهذا في رأي هِيجِل أقوى تشهيرٍ بالحقيقة … ذلك لأنه لا تُوجَد في نهاية المطاف أية
حقيقةٍ لا تتعلق أساسًا بالذات الحية، ولا تكون هي حقيقة الذات … والعالم يكون عالمًا
مغتربًا غير حقيقي ما دام الإنسان لا يقضي على موضوعيته الجامدة ويتعرف على نفسه وعلى
حياته الخاصة «من وراء» الصورة الثابتة للأشياء والقوانين … وعندما يكتسب الإنسان هذا
الوعي الذاتي آخر الأمر، يكون بذلك قد اهتدى إلى الطريق المُوصل، لا إلى حقيقة ذاته
فحسب، بل إلى حقيقة العالم أيضًا … ومع التعرُّف يأتي السلوك، فهو يحاول أن يضع هذه
الحقيقة موضع التنفيذ ويجعل العالم ما هو عليه أساسًا؛ أي يجعله تحقيقًا لوعي الإنسان
الذاتي.
هذه هي القوة الدافعة التي تتخلَّل الأقسام الأولى من «ظاهريات الروح»؛ فالعمل
الحقيقي يفترض مقدَّمًا المعرفة الحقيقية، وهذه الأخيرة يهدِّدها قبل كل شيءٍ خطرُ
الادِّعاء الوضعي … فالوضعية، وهي فلسفة الموقف الطبيعي، ترتكز على يقين الوقائع … على
أنه، في عالم لا تمثِّل فيه الوقائع على الإطلاق ما يمكِن وما ينبغي أن يكونَه الواقع،
يكون معنى الوضعية، كما يبيِّن هِيجِل، هو التخلي عن الإمكانات الحقيقية للبشر، من أجل
عالمٍ مزيف غريب … فهجوم الوضعي على التصوُّرات الكلية، على أساس أنها لا يمكن أن
تُردَّ إلى وقائعَ ملاحظة، يستبعد من مجال المعرفة كل ما لا يمكن أن يكون واقعة بعدُ
…
وإذ يثبت هِيجِل أن التجربة الحسية والإدراك الحسي، اللذَين تلجأ إليهما الوضعية، لا
ينطويان في ذاتها على الواقعة الجزئية الملاحظة، بل على شيءٍ كلي، فإنه يفنِّد بذلك
الوضعية من داخلها تفنيدًا نهائيًّا. وحين يؤكِّد مرارًا وتكرارًا أن الكلي يعلو على
الجزئي، فإنه يكافح ضد كل رأيٍ يقصر الحقيقة على الجزئي «المعطى»؛ فالكلي أكثر من
الجزئي. وهذا يعني في المجال العيني أن إمكانات البشر والأشياء لا تُستنفد في الصور
والعلاقات المعطاة التي قد يظهرون بها واقعيًّا، وهو يعني أن البشر والأشياء هم كل ما
كانوا عليه، وما هم عليه بالفعل، ولكنهم مع ذلك أكثر من هذا كله … فحين جعل هِيجِل من
الكلي مقرًّا للحقيقة، كان يعبِّر عن اقتناعه بأن أية صورةٍ جزئيةٍ معطاة سواء في
الطبيعة أو في المجتمع، لا تتضمَّن الحقيقة كاملة … وفضلًا عن ذلك فقد كانت هذه وسيلةً
للتنديد بانعزال الناس عن الأشياء، والاعتراف بأن إمكاناتهم لا يمكِن أن يحتفظ بها إلا
بإعادة التكامل بينهما.
وحين عالَج هِيجِل موضوع الوعي الذاتي، استأنف تحليل العلاقة بين الفرد وعالمه، وهو
التحليل الذي بدأه في مذهب
الأخلاق
System der Sittlichkeit وفي «فلسفة الروح في فترة يينا»؛
٣١ فالإنسان قد تعلَّم أن وعيه الذاتي يكمُن من وراء مظهر الأشياء … وهو يشرع
الآن في تحقيق هذه التجربة، وإثبات أنه سيِّد عالمه … وهكذا يجد الوعي الذاتي نفسه في
حالة رغبة
Begierde؛ فالإنسان، وقد تيقَّظ فيه
وعيه الذاتي، يرغب في الموضوعات المحيطة به، ويتملَّكها ويستخدمها … ولكنه خلال ذلك
يشعُر بأن الموضوعات ليست هي الغاية الحقيقية لرغبته، بل إن حاجاته لا يمكِن تحقيقها
إلا بالتجمُّع مع الأفراد الآخرين … ويقول هِيجِل: «إن الوعي الذاتي لا يبلغ حالة الرضا
إلا في وعيٍ ذاتيٍّ آخر.»
٣٢ وهو يفسِّر معنى هذه العبارة التي تبدو غريبةً إلى حدٍّ ما، المناقشة التي
تليها لعلاقة السيد والعبد … ويقوم مفهوم العمل بدَورٍ أساسي في هذه المناقشة التي
يبيِّن فيها هِيجِل أن موضوعات العمل ليست أشياءَ جامدة، بل هي تجسُّداتٌ حية لماهية
الإنسان؛ بحيث إن الإنسان في تعامله مع هذه الموضوعات، إنما يتعامل في واقع الأمر مع
الإنسان.
إن الفرد لا يستطيع أن يكون ما يكونه إلا من خلال فردٍ آخر، ووجوده ذاته ينحصر في
«وجوده من أجل آخر». غير أن العلاقة ليست علاقة تعاونٍ متآلف بين أفرادٍ أحرار بمقدارٍ
متساوٍ، يعملون من أجل الصالح العام في نفس الوقت الذي يسعَون فيه إلى تحقيق مصالحهم
…
بل هي على الأصح «صراع حياة أو موت». ولا سبيل إلى وصول الإنسان إلى الوعي الذاتي؛ أي
معرفة إمكاناته وتحقيقها بحرية، إلا بالمضي في المعركة إلى النهاية … فحقيقة الوعي
الذاتي ليست هي «الأنا»، بل «النحن»، وهي «الأنا الذي هو نحن، والنحن التي هي أنا».
٣٣
ولقد قام ماركس في عام ١٨٤٤م بتعميق المفاهيم الأساسية لنظريته الخاصة عن طريق القيام
بتحليلٍ نقدي «لظاهريات الروح»، لهيجل فوصف «اغتراب»، العمل في ضوء مناقشة هيجل للسيد
والعبد. ولم يکن مارکس قد عرف مراحل فلسفة هيجل السابقة على «الظاهريات»، ومع ذلك فإنه
توصَّل إلى الأثر النقدي لتحليل هيجل، حتى في ذلك الشكل المخفَّف الذي سمح للمشكلات
الاجتماعية أن تظهر به في «ظاهريات الروح». ورأى ماركس أن عظمة هذا العمل تكمُن في أن
هيجل تصوَّر «الخلق الذاتي» للإنسان (أي خلق نظامٍ اجتماعي معقول عن طريق سلوك الإنسان
الحر) على أنه عملية «التشيؤ» و«سلبها»؛ أي إنه بالاختصار توصَّل إلى «طبيعة العمل»،
ونظَر إلى الإنسان على أنه «نتيجة عمله».
٣٤ ويشير ماركس إلى بصيرة هيجل النفَّاذة، التي كشفَت له عن أن السيادة
والعبودية تنتج بالضرورة من علاقاتٍ معيَّنة، هي بدورها علاقات في عالم «متشيِّئ».
وهكذا فإن علاقة السيد بالعبد ليست أزلية ولا طبيعية، بل ترجع جذورها إلى شكلٍ محدَّد
من أشكال العمل، وإلى علاقة الإنسان بنواتج عمله.
والواقع أن تحليل هِيجِل يبدأ «بتجربة»، هي أن العالم الذي يتعيَّن على الوعي الذاتي
أن يثبت نفسه فيه، مشطور إلى مجالَين متصارعَين، في أحدهما يكون الإنسان مقيَّدًا بعمله
بحيث يتحكم هذا العمل في حياته بأَسْرها، وفي الآخر يتملك الإنسان عملَ شخصٍ آخر
ويستحوذ عليه، ويصبح سيِّدًا بفضل نفس حقيقة التملك والاستحواذ هذه … ويصف هِيجِل هذا
الأخير بأنه السيد، والأول بأنه العبد …
٣٥ فالعبد ليس إنسانًا تصادف أن اشتغل بالعمل، بل هو في أساسه عامل، وعمله هو
وجوده … فهو يعمل بأشياء لا تنتمي إليه، بل إلى غيره … وهو لا يستطيع أن يفصل حياته عن
هذه الأشياء، فهي تكون «القيد الذي لا يستطيع أن يُفلِت منه.»
٣٦ وهو واقعٌ وقوعًا تامًّا تحت رحمة ذلك الذي يملك هذه الأشياء … وينبغي أن
يُلاحَظ أن اعتماد الإنسان على الإنسان تبعًا لهذا العرض ليس حالةً شخصية، ولا ترجع
جذوره إلى أحوالٍ شخصية أو طبيعية (أي إلى انحطاط الشخص أو ضعفه أو غير ذلك)، بل هو أمر
«تتوسَّط فيه» الأشياء … وبعبارةٍ أخرى فهو نتيجة علاقة الإنسان بنواتج عمله … فالعمل
يقيِّد العامل بالموضوعات على نحوٍ يجعل وعيه ذاته لا يُوجَد إلا «على شكل الأشياء
وهيئتها» … فهو يصبح شيئًا ينحصر وجوده ذاته في كونه مستخدمًا … أي إن وجود العامل هو
«وجود من أجل آخر».
٣٧
على أن العمل هو في الوقت ذاته الأداة التي تغيِّر من هذه العلاقة … ففعل العامل
لا
يختفي حين تظهر نواتج عمله، بل يحتفظ به فيها … والأشياء التي يشكِّلها العمل ويُضفي
عليها صورتها تملأ العالَم الاجتماعي للإنسان، وتقوم فيه بوظيفة موضوعات العمل … ويتعلم
العامل أن عمله هو الذي يُبقي على هذا العالَم، وهو يرى نفسه ويتعرَّف عليها في الأشياء
المحيطة به … وعندئذٍ يصبح وعيه «متخرجًا»
externalized في عمله، و«ينتقل إلى حالة الدوام». وهكذا فإن الوجود
المستقل يصبح، في نظر الإنسان الذي «يكدح ويخدم»، هو هذا الإنسان ذاته
٣٨ … ولا تعود موضوعاتُ عمله أشياءَ جامدةً تجعله مقيَّدًا بأغلال أناسٍ
آخرين، بل تصبح نواتج لعمله الخاص، وتغدو بهذا الوصف جزءًا لا يتجزأ من وجوده الخاص …
وإذا كان ناتجُ عمله قد تموضَع، فإن ذلك لا يجعل من هذا الناتج «شيئًا غير الوعي الذي
يشكِّل الشيء عن طريق العمل؛ ذلك لأن هذه الصورة ذاتها هي وجوده الذاتي الخالص، الذي
يصبح متحققًا بالفعل فيها.»
٣٩
ولا تؤدي عملية العمل إلى خلق الوعي الذاتي في العامل وحده، بل تخلُقه في السيد
بدَوره … ذلك لأن أساس تعريف السيادة هو أن السيد يتحكَّم في الأشياء التي يريدها دون
أن يشتغل في سبيلها
٤٠ … وهو يُشبِع هذا النوع من الحاجة عن طريق جعل شخصٍ آخر، غيره هو ذاته،
يعمل، ومتعتُه تتوقف على تحرُّره هو ذاته من العمل؛ فالعامل الذي يتحكم هو فيه، يقدِّم
إليه الموضوعات التي يريدها في صورةٍ مكتملة، جاهزة لكي يستمتع بها، وعلى هذا النحو فإن
العامل يحمي السيد من الاضطرار إلى مواجهة «الوجه السلبي» للأشياء، أعني ذلك الوجه الذي
تصبح فيه أغلالًا تقيِّد الإنسان، ويتلقَّى السيد كل الأشياء على أنها نواتجُ للعمل،
لا
على أنها موضوعاتٌ جامدة، بل على أنها أشياءُ تحمل طابع الذات التي اشتغَلَت من أجل
إنتاجها. وعندما يتعامل السيد مع هذه الأشياء على أنها ملكُه الخاص، فهو في الواقع
يتعامل مع وعيٍ ذاتيٍّ آخر، هو وعي العامل؛ أي الموجود الذي يصل من خلاله إلى إشباع
حاجته … وعلى هذا النحو يجد السيد أنه ليس «موجودًا من أجل ذاته» يتصف بالاستقلال، بل
هو أساسًا يعتمد على وجودٍ آخر؛ أي على جهد ذلك الذي يعمل من أجله.
وإلى هذا الحد كان هِيجِل يعرض علاقة السيد بالعبد بوصفها علاقة يعترف كلٌّ من
طرفَيها بأن ماهيتَه تكمُن في الآخر، ولا يبلغ حقيقتَه إلا من خلال الآخر. وهكذا يختفي
الآن التضاد بين الذات والموضوع، وهو التضادُّ الذي كان يتحكَّم في أشكال الروح التي
وصفَت من قبلُ. فالموضوع، كما يشكِّله العمل البشري ويصقُله، هو في واقع الأمر تعبيرٌ
موضوعي عن ذاتٍ واعية بنفسها. «والشيئية، التي تلقَّت شكلَها وصورتَها بالعمل، ليست
أيَّ جوهر سوى الوعي. وعلى هذا النحو يكون لدينا شكلٌ جديد للوعي الذاتي؛ فلدينا الآن
وعي … يفكِّر، أو هو وعيٌ ذاتيٌّ حُر.»
٤١ ولكن لماذا يسوِّي هِيجِل على هذا النحو المفاجئ بين الوعي الذاتي الحر
وبين الوعي الذي يفكِّر؟ إن هِيجِل ينتقل إلى تعريفٍ للتفكير يُجيب عن هذا السؤال من
خلال المفاهيم الأساسية لفلسفته؛ فهو يقول إن الذات التي تفكِّر ليست هي «الأنا»
المجرد، بل هي الوعي الذي يعرف أنه «جوهر» العالم. أو بعبارةٍ أخرى فالتفكير ينحصر في
معرفة أن العالم الموضوعي هو في حقيقته عالمٌ ذاتي، وأنه هو تموضُع الذات … والذات التي
تفكِّر بحق تفهم العالم على أنه «عالمها». وكل شيء في هذا العالم لا تكون له صورته
الحقة إلا بوصفه موضوعًا «مفهومًا»؛ أي جزءًا لا يتجزأ من تطوُّر وعيٍ ذاتيٍّ حر. ولا
بد أن تتحرَّر الموضوعات التي تؤلِّف عالم الإنسان في مجموعها من «تضادِّها» مع الوعي،
ويجب أن تُستوعَب على النحو الذي يساعد على نمو هذا الوعي.
ويصف هِيجِل التفكير من خلال نوعٍ محدَّد من أنواع الوجود. «ففي التفكير أكون حُرًّا
لأني لستُ آخر، بل أظل ببساطة في اتصالٍ بذاتي فحسب، ويكون الموضوع هو وجودي لذاتي في
وحدة لا تنقسم، وتكون عمليةُ الفهم التي أقوم بها عمليةً تدور داخل ذاتي.»
٤٢ هذا التفسير للحرية يبين أن هِيجِل يربط هذا المفهوم الأساسي بالمبدأ
السائد في شكلٍ معيَّن للمجتمع … فهو يقول إن الحر هو من يظل، في علاقته بالآخرين، مع
نفسه فحسب، ومن يحتفظ بوجوده كأنه ملكه الخاص الذي لا ينازعه عليه أحد … فالحرية
اكتفاءٌ ذاتي، واستقلالٌ عن كل ما هو خارجي، وهي حالة تتملَّك فيها الذات لنفسها كل
خارجية
externality. ويبدو أن مخاوف المجتمع
القائم على المنافسة، ومشاعر القلق التي تنتابه — أعني خوف الفرد من فقدان ذاته، وحرصه
على الاحتفاظ بما يملك وتأمينه — هي الدافع إلى أخذه بفكرة الحرية هذه. وهذا هو ما
أدَّى بهِيجِل إلى أن يعطي المكانة الأولى «لعنصر الفكر».
والحق أنه إذا لم تكن الحرية تنحصر إلا في الاكتفاء الذاتي التام، وإذا كان كل شيء
ليس ملكي كلية، أو ليس ذاتي، يقيِّد حريتي، فعندئذٍ لا يمكن أن تتحقق الحرية إلا في
التفكير … ومِن ثَمَّ ينبغي أن نتوقع أن ينظر هِيجِل إلى الرواقية على أنها الشكل
التاريخي للحرية الواعية بذاتها … فيبدو أن طريقة الحياة الرواقية قد تغلَّبَت على كل
القيود التي تنشأ في الطبيعة والمجتمع … «إن ماهية هذا الوعي هي أن يكون حُرًّا، على
العرش وكذلك في الأصفاد، من خلال كل ألوان الاعتماد التي تلحق بوجوده الفردي …»
٤٣ وهكذا يكون الإنسان حُرًّا لأنه «ينسحب دوامًا من حركة الوجود، ومن الفعل
فضلًا عن الانفعال، إلى الماهوية
essentiality المجردة
للفكر».
على أن هِيجِل ينتقل إلى القول إن هذه ليست هي الحرية الحقيقية، وما هي إلا المقابل
العكسي «لعصر من الخوف والعبودية الشاملة» … وبذلك ينبذ هذا الشكل الزائف للحرية،
ويصحِّح عبارته التي اقتبسناها من قبلُ … «إن الحرية في الفكر لا تتخذ حقيقة لها إلا
من
الفكر الخالص، ولكن هذا يفتقر إلى الامتلاء العيني للحياة؛ ومِن ثَمَّ فهذه لا تعدو أن
تكون فكرة الحرية فحسب، لا الحرية ذاتها.»
٤٤ وتدُل الأقسام التي خصَّصها للرواقية، والتي ظهَرَت فيها هذه العبارات، على
تصارُع العناصر المتعارضة في فلسفته … فهو قد أثبت أن الحرية ترتكز على عنصر الفكر، وهو
الآن يؤكِّد ضرورة التقدُّم من الحرية في الفكر إلى «الحرية الحية». وهو يذكُر أن حرية
الوعي الذاتي واستقلاله ليست بالتالي إلا مرحلةً عابرة في تطوُّر الذهن نحو الحرية
الحقيقية … وهذا البُعد الجديد يتم بلوغه عندما يتخلى الإنسان عن حرية الفكر المجرَّدة،
ويدخل العالم وهو على وعيٍ تام بأن هذا العالم «عالمه». وهكذا فإن «الموقف السلبي
السابق «للوعي الذاتي تجاه الواقع» يتحول إلى موقفٍ إيجابي؛ فلقد كان هذا الوعي حتى
الآن يقصر اهتمامه على استقلاله وحريته الخاصة، وكان يسعى إلى الاحتفاظ بنفسه «لنفسه»،
على حساب العالم أو حقيقته الخاصة …»
٤٥ أمَّا الآن فهو «يكتشف العالم على أنه عالمه الجديد والحقيقي، الذي يصبح ذا
أهمية له بفضل ما يتصف به من دوام. وتتصور الذاتُ العالَم على أنه «حضورها» الخاص
وحقيقتها الخاصة، فهي على ثقة من أنها لن تجد فيه إلا نفسها.»
٤٦
هذا المسار هو مسار التاريخ ذاته؛ فالذات الواعية بنفسها لا تصل إلى هذه الحرية في
صورة «الأنا»، بل في صورة النحن، أعني النحن المجتمعة التي ظهَرَت لأول مرة بوصفها
نتيجةً للصراع بين السيد والعبد. أمَّا الحقيقة التاريخية لهذه النحن «فتتحقَّق فعليَّا
في حياة أمة.»
٤٧
ولقد أوضحنا المسار التالي للذهن في الصفحات الأولى من هذا الفصل. وفي نهاية الطريق،
يبدو أن الفكر الخالص يلتهم الحرية الحية مرةً أخرى؛ فعالم «المعرفة المطلَقة» يعتلي
العرش فوق الصراع التاريخي الذي اختتم عندما صفِّيَت الثورة الفرنسية … وينتصر اليقين
الذاتي للفلسفة التي تضُم العالم وتفهَمه، على الفعل العملي الذي يغيِّر هذا العالم …
وسوف نرى فيما بعدُ إن كان هذا الحل هو الكلمة الأخيرة لهِيجِل في هذا الصدد.
وفي كتاب «علم المنطق» يقدِّم إلينا هِيجِل أسس المعرفة المطلَقة التي عرضَها علينا
كتاب «ظاهريات الروح» بوصفها حقيقة العالَم … وإلى هذا الكتاب سننتقل الآن.